-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 4 - 2 - الجمعة 13/12/2024

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش



الفصل الرابع

2


تم النشر الجمعة

13/12/2024


الرسلانية ١٩١٥..

هتف الخواجه نعيم وهو يصفق مستأذنا: يا ساتر.. 

سمح له وهدان بدخول مجلسه الذي كان يقف على أعتابه، كان وهدان يعلم أن ذاك اليه‍*ودي النتن يضبط حضوره على ميعاد الطعام لينل حظه، وما كان يعبء بذلك، وكان على حق، فما أن دخل نعيم القاعة حتى جلس على طبلية الطعام الموضوعة بقلبها دونما استئذان، مادا كفه نحو اللحم الذي نهش قطعة دسمة منه في شره، كأنه لم يتناول لحم منذ قرون، تجاهله وهدان تاركا إياه يغوص في طبق اللحم والطبيخ، مركزا على طعامه حتى إذا ما فرغ من ملء بطنه وهم بالكلام بادره وهدان مخرسا: بجولك إيه يا خواچه! .. إذا كنت چاي تاكل، فأدينا أكلناك، لكن هتعاود حديت عن أرض البركة ونشتروها وبلا أزرج، شد رحالك وفارجني.. 

هتف نعيم في محاولة لاستمالة وهدان من جديد: وهو أنا يرضيني زعلك! غار واد رسلان وأرضه وناسه كلهم، ده أنا كنت جاي عشان أقولك ولا تضايق، هو اللي هيدينا الأرض برضاه وخطره.. 

نجح ذاك اللئيم في جذب انتباه وهدان، وما أن أدرك ذلك بعيونه الضيقة الخبيثة النظرة، حتى استطرد في هوادة: إحنا لما روحناله كنا عارفين كويس أوي إن سعد مش بالساهل يفرط في شبر من أرضه، وأهي محاولة وراحت لحالها.. لكن الكلمتين اللي قالهم في الآخر دول هم اللي كدروني على حق، أصل كلامه وتلقيحه على الحرانية ميصحش يعني.. و.. 

صمت نعيم ما أن أدرك أن الدماء فارت في عروق وهدان ما أن تذكر كلمات سعد المهينة، وأنه قد أصاب الهدف المرجو، وعلى الرغم من صحة مزاعم سعد عن أصل الأسرة الكريمة التي لم تكن سوى بعض من الحلب، ومجموعة من الرحالة من أرض لأرض، في معظمهم كانوا من النساء والأطفال.. اختلطوا وتزوجوا ثم هبطوا على أرض الرسلانية منذ زمن رسلان الكبير.. الذي أعطاهم تلك الأرض المتطرفة الكائنة على أطراف الرسلانية والقريبة من الجبل الغربي لتكون مستقر لمضاربهم وخيامهم، إلا أن كلماته قد نكأت جرح الأصل الوضيع، الذي يحاول كل حراني مداواته منذ زمن بعيد ولم يفلح.. 

منذ ذلك اليوم، الذي وهب فيه جد سعد الرسلاني الكبير أولئك الوضعاء هذه الأرض، والتي احتالوا بالمسكنة والمذلة حتى تعاطف معهم للم أعراض نسائهم عن الحرام كما أدعوا، وهذه الأرض هي أرض الحرانية التي توارثوها أبا عن جد.. وقد ترك نساؤهم كار الغواية والرقص في الموالد كغوازي، والدلالة على البيوت، واللف والدوران لبيع أثواب النساء والكحل والحناء والعطور للصبايا، مع ما يتضمنها من قراءة الودع ونقل أخبار البيوت من هنا وهناك، واستقرت كل واحدة منهن في بيت لها بعد أن عمل رجالهم بالزراعة، وارتاحوا لحياة الاستقرار.. كما عمل بعضهم بعد أن استقر له الحال وجمع المال من مصادر غير معلومة على شراء الأراضي على أطراف الرسلانية من نجوع مجاورة لتوسيع رقعة أرضهم المزعومة.. لكن لم يجروء أحدهم على شراء شبر واحد من أرض الرسلانية، وما تجاسر مخلوق على ما جاء به وهدان وطلبه شراء أرض من رسلاني، وخاصة أرض البركة التي يقال عليها الكثير ولا أحد يعلم حقيقة ما يشاع عنها.. 

كان نعيم يجلس متفرسا في ملامح وهدان، التي انقلبت لملامح شيطانية، كان يعلم تماما علم رجل متمرس بالنفس البشرية، أن ذاك الصراع القائم بين نفس وهدان الوضيعة التي تركن للدعة واللامبالاة عند تلقي الإهانة كما أعتاد أسلافه من الغجر، وبين تلك النعرة الكاذبة التي تحركه نحو اعتلاء كرسي الزعامة والسطوة، مناطحا سعد رسلان ولد الحسب والأصل الرفيع، لابد له من أن ينتصر فيه تلك النعرة الكاذبة بالهيمنة الوهمية، وما يؤكد ظنه الذي يرقى اللحظة لمرحلة اليقين، تلك الملامح المتجسدة قبالة ناظريه وكأنه يبصر بأم رأسه أبليس ذاته في أوج مجده.. حينها ابتسم في رضا عن مهاراته التي لم يفقدها، منتظرا الرد الأخير والذي كان يتوقعه، وقد جاء كما كانت رغبته.. حين هتف وهدان في نبرة قادمة من قلب الجحيم ذاته: كيف واد الحرام ده ياچي بخطره ويعطينا أرضه! كيف ده يكون! 

همس نعيم في نبرة مهادنة تقطر شرا، مشيرا صوب وهدان مطالبا في نبرة الناصح الأمين: قرب هنا، وأنا أقول لك هنجيبه إزاي على ملا وشه وهو اللي هيعطينا أرضه برضاه كمان، بس فتح مخك معايا وتعمل اللي هقولك عليه بالحرف، وأنا اخليك تجيب حقك من حبة عينه.. 

اقترب وهدان، وجلس بالقرب من الخواجه نعيم مسلما له أذنيه ومجامع عقله، حتى يملأهما بما شاء.. معيدا تقليب الحطب الذي كان يظن الناظر إليه أنه قد خبت جزوته، فيعيد استعار النار التي كانت ضامرة تحت رماد الزمن، لتضرم مجددا... 

❈-❈-❈


الرسلانية ١٩٩٠..

كان ذاك الصباح مختلفا عما عداه من الصباحات القليلة التي عاشتها في هذا النجع منذ قدومها، فقد كان المعتاد الاستيقاظ على رائحة المخبوزات البيتية المخلوطة برائحة الطبيعة البكر، والهواء العليل القادم من ناحية ذاك الجبل البعيد، حاملا نسائم من براءة لم تدنس من قبل مخلوق.. لكن هذا الصباح اتتها من خلف نافذة حجرتها روائح مقبضة لسخونة دماء أثرت على مزاجها، نهضت متطلعة في حذر نحو الخارج، فقد كان الفناء الخلفي للسراي يعج بالأشخاص المنهمكين في أشغالهم، أصواتهم تعلو فوق بعضها ما بين أمر وطلب، كان ذاك البراح خلية نحل فعلية يختلط فيها الحابل بالنابل، البشر مع البهائم التي كانت أصواتها تخالط اصوات النداءات المتلاحقة هنا وهناك في اعتراض على المذبحة الجماعية الدائرة بالأسفل.. وتعجبت.. هل مجرد عقد قرآن يحتاج إلى كل هذا القدر من اللحم، وكل هذه الاستعدادات المبالغ فيها!؟.. وقع ناظرها على محياه.. لم تتعرف عليه منذ الوهلة الأولى.. كان مختلفا كليا عن ذاك الذي يسير في هوادة كأن الأرض ما جُعلت لمخلوق قبله ولا ملكها سواه، وكأنما حاز شطر الغرور وشطر آخر من عزة وآنفة، خليط كفيل تماما بخلق شخصية رجل يحمل قدر لا يستهان به من السطوة والعنجهية المتضخمة، لكنه على العكس من ذلك، وجدته متباسطا مع الكثيرين ويحمل داخل صدره قدرا وافرا من الرحمة والحنو، رأته يصبغهما على بعض من حوله في وفرة، كأخيه الضرير وجدته العجوز وأخته العروس المرتقبة وكذا شيخه العاجز.. ربما مع الغرباء له شأن آخر! هكذا أقرت في نفسها وهي ما تزال واقفة خلف زجاج نافذتها تتابع ما يحدث، وعيناها تستقر ما بين برهة وآخرى على ذاك الذي رفع أطراف جلبابه، رابطا إياها حول خصره، ممسكا سكين يسمي الله عاليا قبل أن ينحر أحد الخراف، الذي أخذ في الانتفاض لافظا أنفاسه الأخيرة، قبل أن يتناوله رجل آخر نافخا في موضع ما بقدمه، ليبدأ الخروف في الانتفاخ ويشرع الرجال في الطرق على بطنه ببعض العصي، ثم العمل على تخليصه من فروته الضخمة، والإسراع في تقطيعه لتستلمه النساء مسرعات في تحضير ما لذ وطاب من أطعمة .. 

عافت نفسها الطعام بعد كل ما رأت، فقد كان الفضول أكبر من شعورها المتنامي بالغثيان، الذي دفعها للانصراف عن النافذة مكتفية بما شاهدته حتى الآن، وقد قررت الابتعاد عن جو السراي المرتبك، والخروج باحثة عن هواء نقي لا يحمل رائحة الدم.. 

تسللت في هدوء لخارج المندرة، في غفلة من الرجال وصخبهم، وما كانت في حاجة للوصول إلى البوابة الرئيسية من الأساس، ما يضطرها لمقابلة شبل حارسها، بل تحركت صوب باب خلفي اكتشف وجوده حين كانت تسير وحيدة في محاولة لقضاء الوقت بلا احتكاك مع السراي وأصحابها، متجنبة الالتقاء بتلك العجوز التي كان لقائها بها عجائبيا، وخلق في نفسها شعورا غريبا ما كان لها تفسيرا نحوه، وما استطاعت إعطاء مسمى لذاك الاحساس الخاطف الذي تملك قلبها حين احتضنتها عنوة، حتى هذه اللحظة، لذا فضلت عدم تكرار تجربة ذاك اللقاء مجددا..

 الصفحة التالية