رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 4 - 3 - الجمعة 13/12/2024
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الرابع
3
تم النشر الجمعة
13/12/2024
أاتخذت المسار لخارج السراي بعيدا عن الممر المفضي للباب الرئيسي والمكتظ بكل ذاهب وآيب، واتخذت طريقا كان خاليا تقريبا من المارة.. على ما يبدو أن النجع بكل قاطنيه هناك بداخل السراي وقد جندهم كبيرها لخدمتهم، والعمل على تحقيق رغباته، وحمل مسؤولياته عن كاهليه في ليلة مكتظة بالمهام الجسام كهذه الليلة المباركة.. ليلة عقد قرآن أخت كبيرهم!..
ابتسمت ساخرة وحاولت أن تحيد بفكرها عن ذاك الرجل، الذي أربكها تفسير نواياه وسبر أغوار نفسه.. وجالت بناظريها في إعجاب لذاك الطريق المشجر الذي تزينه أشجار الصفصاف والجميز والتوت على جانبيه، واستشعرت اللحظة أنها إحدى بطلات الأفلام السينمائية القديمة، والتي تقضي عطلتها في عزبة والدها الباشا، وضل بها الطريق حين قررت السير وحيدة في درب ما مجهول، اتسعت ابتسامتها لخواطرها الساذجة، حتى أن الابتسامة تحولت لضحكة عالية، ارتفع رنينها الذي انقطع سريعا متحولا لشهقة كبرى كادت أن تتحول لصرخة عالية حين ظهر ذاك المجذوب المدعو زفراني من بين أحد الأشجار كما العمود الذي نبت قبالتها فجأة..
وضعت كفها على صدرها فزعة، وتقهقرت خطوتين للخلف في رهبة، وعينيها تجول بكل المطارح حولها في محاولة لإيجاد نجدة إذا ما حاول هذا المعتوه إصابتها بسوء.. عاشت دقيقتين من رعب مصفى وهو يتفرس فيها ويحفظ ملامح وجهها عن ظهر قلب.. وأخيرا نطق بإحدى أحاجيه التي لم تجد لها تفسيرا كالعادة..
مش كل السكوت من دهب..
أصل المحبة .. العتب..
بس المحبة منين تاچي!
والجلب محمل من ظنونه.. العچب..
كرر زفراني انشودته مجددا، متطلعا صوب أُنس وكأنما يأمرها بالتركيز حتى تدرك ما يقصد، حاولت.. هي لا تنكر، لكن ما وعت أبدا ما كان مقصده.. كلمات منسوجة باحترافية أنكرتها على مجذوب يجوب الأرض تائها عن إدراك موضع قدمه.. كلماته ذكرتها بكلمات الشيخ معتوق، إمام الجامع، نفس الغموض وعدم ادرك المقصود، أما من أحد لا يتحدث بالالغاز والاحاجي في هذا النجع العجيب!؟..
أخيرا، قرر زفراني في لحظة تعقل كما ظنتها هي تجاهل وجودها، كأنها لا تقف متصلبة أمامه تشحذ قواها الذهنية لفهم احاجيه، وتتأهب بكل طاقتها الجسدية لدفعه عنها والركض مبتعدة إذا ما حانت لحظة فورة الجنون وقرر مهاجمتها.. لكنه عوضا عن كل توقعاتها سار مارا بمحازاتها مكررا في تتابع محموم أبيات أنشودته الغامضة المعاني، طارقا على صفيحته النحاسية بعصاه مجفلا إياها، ما دفعها لتهرول مبتعدة في الاتجاه المعاكس، حتى وصلت لهذه الدار التي برزت على أطراف هذا الطريق العجيب، همت بتخطيها مكملة مسيرها لكن ذاك الصوت الذي ناداها في حماس استوقفها، كان صوت سالم الذي خرج مهللا، اسرع نحوها في حبور متسائلا: كيفك يا.. اجول مين! كيفك يا ضيفة حبيب بيه!
تبدل مزاجها وارتفعت ضحكتها لخفة ظل سالم، الذي انتشى في سعادة مشيرا في ترحيب: اتفضلي، خطوة عزيزة، دي دارنا..
هزت أنس رأسها في امتنان: تقدر تقولي يا أنس.. ومتشكرة ع الدعوة، مرة تانية إن شاء الله..
خرجت في هذه اللحظة امرأة ثلاثينية تصرخ على سالم على عتبات الدار، لكنها ابتلعت لسانها ما أن رأته يقف مع تلك الغريبة التي لا تدرك من تكون، وكذا لإشارة سالم لها محتجا حتى لا تقل من قدره أمام الغرباء، مشيرا نحوها معرفا وهو يخاطب أمه: الأستاذة ضيفة حبيب بيه، چاية تحضر الكتاب..
هللت المرأة في مودة حقيقية: يا مرحب، اتفضلي يا أستاذة بيتك ومطرحك، ضيوف حبيب بيه نشيلهم ع الراس.. اتفضلي والله ما انتي كسفاني..
لم تستطع أنس أمام هذه الحفاوة الرفض، فتقدمت وسالم في أعقابها يسير في سعادة أن هذه الجميلة ستحل بداره المتواضعة..
جلست أنس على أحد الآرائك، والتي كانت نظيفة ومرتبة على الرغم من قِدمها، كما المعظم من أثاث الردهة الذي يبدو عليه القدم..
اندفعت المرأة تضع براد الشاي على موقد صغير ذي عين واحدة من الكيروسين، لتؤكد كمن ينفي عنه تهمة ما: أني كنت رايحة حلاً للسرايا عشان أساعد الحريم، ربنا يچعلها ليلة هنا وسعد على صحابها يا رب..
لم تعلق أنس على كلماتها إلا بهزة من رأسها، لتستطرد أم سالم: الست منيرة ست البنات، وتستاهل سيد الرجالة، ومين ف البلد يوافجها إلا عزت بيه واد عمدتنا السيد أبو زكيبة... ربنا يكمل فرحتهم على خير..
مدت كفها نحو أنس بكوب الشاي الذي أكملت إعداده، تناولته أنس ممتنة: شكرا يا..
ردت أم سالم في عجالة: محسوبتك نچية يا أستاذة، هو انتي من زملات الست منيرة ف المعهد!؟..
لم ترد أنس لبرهة، هل عليها إعلان حقيقة أمرها ومن تكون لكل من هب ودب! قررت أن توافقها تصورها، وأن لا تعلن عن حقيقة أصلها، مؤكدة على صدق توقع نجية بهزة رأس وهي تتشاغل بارتشاف بعض من كوب الشاي، الذي أعلنت عن استحسانها له، رغبة في تغيير مجرى الحديث لإتجاه آخر، متسائلة: وجوزك بقى مع الرجالة في السرايا برضو!؟..
تنهدت نجية تنهيدة طويلة في حسرة، مؤكدة بصوت نبراته تحمل أسى جلي: لاه، چوزي مسافر بره مصر من سنين، خمس سنين لا شفته ولا ولده شافه، وكل ما نجول له ميتا تاچي! يجول السنة دي وتمر السنة ونستنوا ومايجيش، ويرچع يجول چاي ويِخلف.. أهو خمس سنين على دي الحال، لا عتب باب داره، ولا نضر ولده وهو بيكبر جدام عينه..
لاح الدمع بعيني نجية على بعاد زوجها الغير مبرر، وشعرت أنس بوجيعتها فربتت على كتفها متعاطفة، مؤكدة في محاولة لمواساتها: الغايب حجته معاه، ربنا عالم بظروفه، وأكيد انتوا وحشينه زي ما هو واحشكم..
هزت نجية رأسها في إيجاب: معلوم يا أستاذة، معلوم..
واتسعت ابتسامتها على الرغم من الدموع التي سالت بالفعل على وجنتيها، والتي عملت على ازاحتها بظاهر كفها في عجالة، مؤكدة في نبرة عاتبة لنفسها: اليوم يوم فرح، ملوش لازمة البكا والحِزن، متواخذنيش يا أستاذة، بس والله جلبي انفتح لك لله ف لله..
ابتسمت أنس في مودة رابتة على كتف نجية، واضعة كوب الشاي الذي أنهت نصفه تقريبا، مؤكدة في محاولة لجبر خاطر نجية: من القلب للقلب رسول يا أم سالم، ربنا يبارك لك فيه..
وعلى ذكر سالم، الذي اختفى منذ دخلت دارهم وما عاد إلا اللحظة، حاملا بعض من أعواد القصب وعدة كيزان من الذرة، هاتفا بنبرة تحمل نضجا لا يتوافق مع سنوات عمره: الچودة بالموچود يا أستاذة، هشويلك كيزان الدرة وهتدوجي الشهد..
وتحلي بعيدان الجصب..
هتفت نجية في ولدها مذعورة: چبت منين الحاچات دي يا واد!
أكد سالم في هدوء: من عند ربنا..
هتفت نجية في نبرة تحذيرية: اوعاك تكون..
قاطعها سالم مؤكدا في مرح: والله العظيم خدتهم بعلم صحابهم، أروح امضيهم عشان تصدجي!!
قهقهت أنس على أقواله، بينما ارتسمت ابتسامة صافية على شفتي أمه، هاتفة في حرج موجهة حديثها لأنس: والله مغلبني ومطلع عيني، ربنا يهديه..
ربتت أنس على كتفها داعمة: ربنا يخليهولك، أقوم أنا بقى عشان اتأخرت..
نهضت نجية مقترحة: طب ما نرچعوا ع السرايا سوا!
وافقت أنس على اقتراحها، وانتظرتها حتى تضع عليها بردتها، ليسأل سالم في حسرة: طب الدرة والجصب!؟
أكدت أنس باسمة: أنا بقبل الهدايا، بعد ما تهدى دوشة الفرح جبهملي ع السرايا، تمام كده!
وافق سالم في سعادة، ليخرجوا من الدار جميعا، لكن تلك العيون المتربصة التي كانت تتعقبها منذ وصولها لدار سالم، والتي كانت في انتظار خروجها وحيدة منه بلا رفقة، تقهقرت مبتعدة حين أدركت أنها لا تسير بمفردها كما كانت تتمنى وترغب..