-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 66 - الأربعاء 8/10/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل السادس والستون


تم النشر الأربعاء 

8/10/2025

 السر الأعظم.. 


مشفى بقنا.. ١٩٩٣.. 

كانت في طريقها للسراي لا تعرف كيف تم اقتيادها إلى هذه الدار المقبضة.. وتكبيل يديها للخلف وقدميها بأقدام ذاك المقعد الخشبي الذي وجدت نفسها ملتصقة به بهذا الشكل ما أن استعادت وعيها قليلا.. لتدرك ما أن رفعت ناظريها قليلا أنها سقطت بين يدي نصير.. شهقت في صدمة.. وما استطاعت أن تنطق حرفا.. ليبادرها هو بابتسامة صفراء متشفية، قبل أن ينطق في هوادة: ايه! كنتي فاكرة إنك هربتي مني! .. 

نطقت أنس الوجود أخيرا ما أن استجمعت ثباتها: أنا مهربتش، أنت اللي هربت يا جبان.. ولسه هربان وهتفضل هربان طول عمرك.. عشان اللي زيك مجرد فيران آخرهم يستخبوا جوه الجحور وميستقوش إلا على اللي أضعف منهم.. بس أنا مش ضعيفة يا نصير.. وأنت لما اخترتني نشنت غلط.. 

قهقه نصير هاتفا في سخرية: غلط ايه وصح ايه!.. عمر ما كنتي انتي المقصودة.. إنتي كنتي مجرد لعبة ليا.. كنت هطولها وهرميها.. بس بما اني مطلتش وانتي لسه بكر.. يبقى نستفيد منك بقى في حاجة أفيد.. 

سألت أنس في توجس وهي تراه يتحرك هنا وهناك يرسم خطوط عجيبة ورموز أعجب على الأرض التي تحاوط موضع مقعدها: أنت بتعمل ايه!.. 

لم يعرها نصير اهتماما، كان تركيزه الأكبر على تلك الهمهمات التي يتلوها كأنها تعويذة ما يردد حروفها في نبرة جمدت الدم بعروقها.. ما جعل أنس الوجود تصرخ في ذعر حقيقي مستغيثة: حبيب!.. 

كانت صرخة من أعماق روحها، طالبة النجدة.. لكن نصير نظر إليها وزعق متهكما: البيت متحاوط لو صرختي من هنا لبكرة محدش هيسمعك.. وبعدين انتي بتنادي على حبيب! متقلقيش جاي جاي.. هيجي لنا برجليه ومش هيخرج من هنا عليها.. أصل هو الموعود.. والمطلوب في الحكاية دي كلها.. راجل يكون دمه رسلاني امتداد لسعد رسلان.. وبما إن الشهامة بتجري في دمه هيجي لحد هنا عشان ينقذك.. إنتي مجرد طعم مش أكتر..

صرخت أنس الوجود باكية وهي تنادي باسم حبيب، وذاك المجنون نصير قد بدأ من جديد في تلاوة تعاويذه ورسم طلاسمه على الأرض.. حتى تناهى لمسامعه صوت باب الدار بالاسفل يُغلق بقوة .. فتأكد أن الموعود قد وصل.. 

ما دفع أنس الوجود لتصرخ هذه المرة لا رغبة في استدعاء حبيب لإنقاذها بل رغبة في تحذيره بأن يخرج من الدار الملعونة زاعقة في قوة ونبرة باكية: حبيب.. متدخلش.. خليك بره.. حبيب.. 

صرخت باسمه للمرة الأخيرة لعله يعِ مقصدها قبل أن تفقد وعيها بلا سبب ظاهر.. لكنها استعادته اللحظة منتفضة من كابوسها المرعب والذي عاشته حيا منذ ساعات قبل أن تجد نفسها ممددة على فراش نظيف داخل المشفى.. انتفضت جوارها امها التي اخذتها سنة من نوم.. مندفعة نحوها تسألها في لهفة: أنس!.. أخيرا فوقتي.. الحمد لله إنك بخير!.. 

همست أنس الوجود تسأل في لهفة: حبيب بخير!.. 

هو كويس!.. 

أكدت برلنتي مطمئنة: أيوه بخير.. في الاوضة اللي جنبك على طول.. شوية إصابات بسيطة.. وهيقوم منها بالسلامة.. 

هزت أنس رأسها في تفهم.. ولم تعقب بحرف..تاركة أمها تعود لمقعدها في انتظار العودة لغفوتها مجددا.. 

❈-❈-❈

مشفي بقنا ١٩٩٣..

لا يعرف كيف ظهر زفراني أمام ناظريه من قلب اللهب بهذا الشكل ومن خلف ذاك الباب الذي كان قد صار جمرة من نار مستعرة.. ليس الباب وحده.. بل كانت الغرفة كلها قد أضحت كتلة من جحيم إلا ذاك الركن الذي أنزوى فيه مع أنس الوجود يضمها لأضلعه في ذعر حقيقي على مصيرهما المجهول في قلب ذاك الأتون المشتعل.. لسانه لم يسكن لحظة واحدة عن تكرار بعض الأدعية وآيات من القرآن.. وأنس الوجود تبكي بين ذراعيه في فزع حقيقي وهو يحاول تهدئتها.. وعلى الرغم من محاولاته القفز من النافذة للخارج وليكون ما يكون بعدها.. إلا أن النافذة كانت تبدو مصمتة ترى منها ما هو بالخارج لكن ليس لك القدرة على فتحها والنفاذ منها خارجا وكأنها بنيت من حجر مصمت لا خارج له.. حتى ظهر زفراني.. سمع حبيب صوته كأنه يتحدى النيران في عناد حقيقي صارخا فيها.. مش هسيبك تاخدي مني الحبايب تاني.. مش هسيبك.. 

كان دخوله بهذه الطريقة وكأنه المفتاح لما أغلق.. دخل زفراني وبدأ في الصراخ ببعض الكلمات التي لم يتدبرها حبيب في البداية لكنه سمعه أخيرا يقول.. يا نار كوني برد وسلام.. كيف ما كنتي لابراهيم.. يا نار كوني برد وسلام.. يا نار لا تطيعي أمر اللئام..

لتتغير كل المعادلة في لحظة مع دخول زفراني المباغت ودعواته الحثيثة.. لتتفرج النافذة فجأة مفتوحة على مصراعيها دافعة بجسد حبيب وأنس الوجود للخارج.. ليظل زفراني بالداخل.. ويصرخ حبيب مناديا باسمه لعله يلحق بهما بعيدا عن النيران لكن حبيب فتح عينيه فوجد نفسه فوق فراش المشفى صارخا من وجع ما قد احتل جانب صدره الأيمن وقد اندفع نحوا سراج مطمئنا: اهدا يا حبيب.. عدت على خير.. متتحركش عشان ضلعك المكسور.. ده ملوش چبيرة.. لازما تفضل مرتاح كده لحد ما يلتئم.. 

سأل حبيب وهو يزدرد ريقه: أنس الوجود!.. زفراني!.. 

أكد سراج وهو يربت على كتفه في هوادة: الأستاذة بخير .. في الاوضة اللي چارك.. وزفراني.. الله يرحمه.. هو والمدعوج نصير.. 

سأل حبيب بصوت متأثر وجعا: راح!.. انا لله وانا إليه راجعون.. دفنتوه!.. 

أكد سراج متأثرا بدوره: لاه.. لسه الچثامين ف المشرحة.. أنت عارف فيه اچراءات في المواضيع دي.. 

هز حبيب رأسه متفهما، وبدأ يحكي وكأنه يهزي: لولا دخلته كنت أني وأنس ف خبر كان.. ومعرفش كيف أصلا ده حصل!.. 

همس سراج متسائلا بدوره: الحكاية كلها غريبة يا حبيب.. ليه أنت دخلت الدار وأني مجدرتش.. 

همس حبيب مستطردا: أني لما دخلت ولجيت نصير جدامي محستش بحالي إلا وأني حدفه ناحية السلم اللي خده ونزل .. ودخلت لچل ما ألحج أنس .. لكن الباب تجول متروس ب ميت ترباس.. مع إن مكنش في حاچة وراه.. وفچأة سمعت لك صوت الشيخ معتوج.. معرفش چاني منين وكيف.. بيزعج فيا ويجول.. اذكر الله يا حبيب .. اذكر الله يا ولدي.. لحالك مش هتجدر.. 

هتف سراج متعجبا: سبحان الله.. ده الشيخ معتوج كان واجف چاري.. وجال كده بالحرف كنه واعيلك.. وجعد.. 

قاطع حبيب سراج خامسا: وجعد يردد آيات من القرآن كنه بيجريني كيف ما كنت ف الكُتاب تحت يده.. يجول وأني أكرر وراه.. لحد ما انزاح الباب شوية وجدرت أدخل ألحج أنس.. بس النار بدأت تولع.. نار چاية من برا الدار.. كور نار بتترمي تدخل من الشباك اللي إحنا مجدرينش نطل منه.. 

زم سراج ما بين حاجبيه متعجبا: النار چت من برا.. كيف ده!.. 

أكد حبيب: ايوه.. كان في نار جايدة في الدور التحتاني مطرح ما نصير اترمى ساعة العركة بينا.. لكن النار اللي طالت مطرحي أني وأنس كانت چاية من برا.. 

سأل سراج متعجبا: الغريب هنا.. كيف زفراني طلع لكم فوج والسلم كله مكسور!.. وكيف دخل الدار جدامنا.. ومحدش غيره من بعد دخولك وجفلة الباب.. جدر يعتبها!.. 

همس حبيب مؤكدا في تسليم: زفراني من بعد موت أهل بيته وهو له أحوال عچيبة.. لما سألت الشيخ معتوج عن حاچات شفته بيعملها أو بيجولها . وكنت استعچب لها.. جالي في ناس ربنا اختصها باللي مش لغيرها.. وفي حاچات خارچ حدود العجل والمنطق.. موچودة وعلمها عنده.. نشوفها ونسلم بأمر الله ونسكت.. ولله في خلقه شؤون.. 

همس سراج متنهدا: والله صدج.. أنا شفت بعيني اللي لو حد كان حكاه لجلت عليه مچنون أو ضارب حاچة.. 

طرقات على الباب أوقفت رد حبيب، ليظهر أحد العساكر مؤكدا: محتاچينك ضروري يا سراچ بيه.. 

أمر سراج في حزم: طب روح وأنا چاي وراك.. 

هتف حبيب في مودة: روح يا سراچ.. عطلناك عن شغلك.. وأنت مرتاحتش.. كنت بترمح وراي من هنا لهنا.. لحد ما ختمت باللي ختمت به ده.. 

أكد سراج وهو يربت على كتف حبيب: ختمت بكل خير.. الحمد لله إنك أنت والأستاذة كويسين.. طبعا الكل كان هنا وعايزين يفضلوا في المستشفى.. بس الساعة كانت داخلة ع الفچر.. جلت لهم يرتاحوا بعد ما اطمنوا عليلكم.. وراچعين لك كمان ساعة مع طلعة النهار.. ف إلحج نام لك شوية.. 

ابتسم حبيب وهو يهز رأسه متفهما، قبل أن يلق سراج التحية مغادرا.. ليغمض حبيب عينيه مستسلما لأثر النعاس مجددا.. 

لا يعرف كم غاب عن دنيا الواقع.. من أثر العقاقير والمسكنات لتخفيف الألم الناتج عن ضلعه المكسور وبعض الخدوش والحروق الطفيفة هنا وهناك بجسده.. لكنه استشعر وجود شخص ما بالغرفة، ما حثه على فتح عينيه في تثاقل ليستطلع من جاء للبقاء بصحبته بعد مغادرة سراج.. لكنه لم يتبين أي شخص في مجال رؤيته القاصرة وهو مستلق على ظهره لا يقو على الحركة بسلاسة ما دفعه ليرفع رأسه قليلا عن وسادته فأدرك وجودها.. كاد أن يشهق صدمة وهو يبصرها اللحظة تجلس على مقعد ملتصقا بالفراش وتسند رأسها على ذراعيها المتشابكتين على حافته وقد راحت في نوم عميق.. 

عاد ملقيا برأسه في بطء على الوسادة متطلعا لسقف الغرفة في تيه وقد أربكه حضورها كليا.. كان لها من التأثير على قلبه ما لم يكن لبشر.. وتذكر قول الشيخ معتوق عن النساء وسحرهن وكيف يذهبن بعقل الرجل الراجح.. وأخبره عن قصة عشقه لزوجته خديچة وكيف أنه لم يبصر حسنها يوما لكن الله عوضه عن إدراك كل معاني الحسن والجمال في صوتها الذي كان بالنسبة له هو واحة الأمان الوحيدة في هذا العالم المعتم الذي كُتب عليه المكوث في ظلمته حتى النهاية.. 

قاوم كثيرا ذاك الدافع القوي الذي يحثه على رفع رأسه والتطلع لمحياها مجددا.. لكنه لم يستطع إلا الاستجابة لرغبة قلبه ورفع رأسه بالفعل متمعنا في ذاك الحسن الصافي الذي تقطر به قسمات وجهها الصبوحة على الرغم من خدش بسيط زين الجبهة الوضاءة وآخر أضاف المزيد من الحسن الطفولي وهو يطل على أحد خديها.. 

دون سابق إنذار.. وبلا مقدمات.. فتحت أنس الوجود عينيها وكأنها استشعرت على الرغم من استغراقها في النوم أنها مراقبة ما دفعها للاستيقاظ لتجد تلك العيون الفحمية تتطلع نحوها بهذا الهيام المسربل بالتيه.. حتى أنه تنبه متأخرا ليقظتها.. فعاد ليتمدد مجددا في محاولة منه لتجاهل إدراكها بما كان يفعله اللحظة.. لكنها لم تتجاهل بل نهضت واقفة تتطلع إليه من عليائها هامسة وابتسامة أنثوية خبيثة ترتسم على شفتيها الشهيتين على الرغم من بعض الشحوب الذي طال الوجه بعد ما جرى: حمدا لله بالسلامة.. 

أكد في اضطراب: الله يسلمك.. إنتي تمام!.. 

اتسعت ابتسامتها فطاش صوابه وهي تقر بنبرة مرحة: أنا بخير.. ما أنا وقعت بقى مستريحة.. الرك على اللي خد الوقعة كلها.. وكسر له ضلع.. 

همس في تيه: فداكي يا بت خالتي.. ضلع ولا حتى عشرة.. أفديكي برجبتي.. 

شاكسته أنس الوجود: ايه ده!.. ده أنت مستبيع بقى!.. 

همس معترفا: وأني هستبيع لمين أعز منك.. وبعدين يروح ضلع وياچي ضلع.. مفيش أغلى من ضلعك اللي كان تايه عنك.. ورچع لمطرحه من بعد غياب.. 

همست أنس بلا وعي في تيه: هاااا.. 

أكد حبيب ونصف ابتسامة ترتسم على جانب فمه: مفيش خروچ م السرايا لحالك بعد كده!.. وعيتي عدم سمعانك الكلام وصلنا ل ايه!.. 

زمت أنس الوجود ما بين حاجبيها في اعتراض صامت، ما دفع ابتسامته لتتسع وهو يرى ردة فعلها الطفولية مفسرا: ايوه.. مفيش خروچ إلا وحد معاكي.. هو في أميرة تخرچ من غير حراسها.. لهو إنتي نسيتي إنتي مين!.. إنتي حفيدة البرنسيسة وسعد باشا رسلان.. 

اتسعت ابتسامة أنس الوجود.. وتبدل عبوسها فورا وهي تهمس في سعادة: أميرة!.. أنا!.. 

همس حبيب في نبرة ثابتة تقطر حنوا ونظراته معلقة بنظراتها: أُنس الوچود!.. 

همست تجيبه شاردة: هااا..

أعترف وعينيه تحمل نظرات من عشق لم يعد هناك من مجال لستره: أني عاشج.. عاشج أنس جلبي ف وچودك.. تتچوزيني!.. 

تاهت أنس الوجود وهي تقرأ الصدق بعمق عينيه وأخيرا ابتعدت في بطء عن موضعها المطل عليه.. تستجمع ثباتها الذي بعثره اعترافه الأروع على الاطلاق.. وتلعثم لسانها وهي لا تقدر على النطق بحرف ردا على سؤاله.. وما أن همت بالإجابة حتى طرق الباب ودخل بهجت دافعا كرسي صفية التي هتفت في تهليل ما أن اطمأنت أن حبيب وأنس الوجود بخير أمام ناظريها وأخذ لسانها يلهج بالدعاء والحمد وبصحبتهما منيرة وكذا برلنتي التي استيقظت مدركة أن أنس الوجود ليست بالغرفة فخرجت لتجد العائلة بأسرها داخل حجرة حبيب.. الذي كان بعالم آخر.. نظراته كلها تتبع حركات أنس الوجود كزهرة دوار شمس تعلق ناظريها بأشعة شمس وهاجة.. وكانت هي مدركة لحصار نظراته التي اربكتها لكنها وفي غفلة بعيد عن أعين الجمع بالغرفة.. اومأت برأسها في تأكيد.. فكانت الإجابة لسؤاله كافية وافية.. اتسعت لها ابتسامته التي أنارت وجهه الرجولي..

 ❈-❈-❈

القاهرة ١٩٩٣..

أحاطت القوات الشرطية بفيلا نصير الراوي بعد أن تأكد لهم مصرعه حرقا داخل ذاك البيت المهجور بنجع الرسلانية.. وبعد الكثير من التحقيقات.. تأكد لها اضطلاعه في العديد من الجرائم.. وكانت كل ورقة ومستند في بيته دليلا على أفعاله الإجرامية التي كان يتستر خلف صفته كرجل أعمال لإخفائها.. تنبه الضباط صديق جمال المتابع للقضية الخاصة بنصير.. وهو يخرج الأوراق من خزينة سرية لورقة ما.. أمعن النظر فيها للحظة قبل أن يدفع بها في هدوء لجيب سترته.. وما أن وصل مكتبه حتى دفع أحد الجنود لاستدعاء جمال على الفور.. والذي كان علم بتفاصيل ما جرى لنصير وفيلته.. 

اندفع جمال لداخل مكتب صديقه، متسائلا في قلق: خير ! في حاجة جديدة!.. 

هز الزميل رأسه في تأكيد ولم ينطق حرفا، بل دفع الورقة التي أخرجها من جيبه ليد جمال، أمرا إياه بالجلوس على اقرب مقعد.. جلس جمال في هوادة يفض الورقة المطوية في حذر.. متطلعا لمحتواها في تعجب انقلب لصدمة.. وهو يقرأ كل هذه التفاصيل دفعة واحدة.. 

همس الزميل مفسرا: أنا كان ممكن اسيب الورقة دي مكانها وتدخل في سير التحقيق.. لكن كان لازم أعرفك الأول.. أنت ناوي على ايه بعد اللي عرفته ده!.. خد بالك.. الموضوع ده لو أتعرف ممكن يأثر على شغلك جامد.. لأن الوضع دلوقت اختلف تماما.. 

هز جمال رأسه متفهما، همس أخيرا في نبرة شاردة: مش عارف أشكرك إزاي!. ده هيبقى جميل في رقبتي.. لأني مش ناوي اتخلى عن هاجر مهما حصل.. هي ذنبها ايه في اللي كان ده كله.. 

وافقه زميله مؤكدا: عندك حق.. وبعدين مش هقولك أظهر حقيقتها عشان فلوس ولا ميراث.. لأن كدا أو كدا أموال نصير الراوي كلها هتتصادر.. 

أكد جمال: حتى لو هتاخد الملايين دي كلها من وراه.. مش هقدر اجازف بصدمة هاجر لما تعرف كل الحقايق دي.. نصير المجرم ده الل مشتبه فيه فجريمة قتل .. يبقى أبوها وكمان دخل أمها مستشفى الأمراض العقلية لحد ما ماتت.. ورماها لواحد غريب عنها يربيها.. وهي طول السنين دي معاه ومتعرفش إنها عايشة مع أبوها.. اللي بيعاملها كواحدة مشفق عليها ورباها.. إزاي ممكن أقول كل ده لهاجر! مستحيل.. حتى لو هتاخد ملايين.. مش عايزها.. أنا عايزها هي.. هاجر بنت عم صلاح الاستروجي.. وبس.. 

ربت زميل جمال على كتفه مواسيا.. مؤكدا في هوادة: يبقى الحمد لله إني أنا اللي لقيت شهادة الميلاد دي.. وكويس إن ملهاش تأثير على مسار التحقيقات.. عشان تتصرف فيها بالشكل اللي يناسب خطيبتك.. 

أكد جمال وهو ينهض مودعا: ده جميل عمري ما هنساهولك.. 

❈-❈-❈

المشفى بقنا.. ١٩٩٣..

جلس سراج جوار فراش حبيب، الذي بدأ يتماثل للشفاء قليلا.. متململا.. وقد استشعر حبيب ان سراج قد جاء من أجل هدف معين ليس فقط زيارته الاعتيادية التي لم يغفلها إلا مرات قليلة لظروف العمل لا أكثر.. ما دفع حبيب ليتطلع لسراج باسما في سخرية: ايه في!.. ليه الجلع ده كله! تاكل يا حبيب.. تشرب يا حبيب.. طب عصير يا حبيب.. اعدل لك المخدة ورا ضهرك يا حبيب.. ايه!. بجالك نص ساعة بتدور كيف النحلة حواليا.. ما تجول اللي أنت عاوزه دغري.. يا واد عمتي.. 

تشجع سراج مطالبا: أني عايز بت خالي.. 

شاكسه حبيب مدعيا الحنق: عايزها كيف يعني!.. 

أكد سراج في عجالة: عايز اتجدم أطلب يدها.. 

هم حبيب بالرد، لكن الباب انفرج ودخلت منيرة في سرعة وما أن همت بالحديث حتى تنبهت لوجود سراج فقررت العودة أدراجها لغرفة أنس.. لكن حبيب استوقفها أمرا: تعالي خدي هنا هو دخول الحمام كيف خروچه.. 

تقدمت منيرة لداخل الغرفة في اضطراب متسائلة: خير يا حبيب!.. عايز حاچة!.. 

ابتسم حبيب مشيرا لسراج الذي كان يقف يحاول السيطرة على احراجه: أني تمام.. معيزش.. بس حضرة الظابط عايز.. يا ستي واد عمتك طالب يدك.. جولتي ايه!.. 

زاد اضطراب منيرة، ولم تحر جوابا.. ليهتف حبيب مشاكسا: مفيش نصيب باين كده يا حضرة الظابط وشكلها مش موافجة.. 

هتفت منيرة في عجالة غير محسوبة: لاه.. مين جال!.. اجصد يعني.. اللي تشوفه يا حبيب.. 

اتسعت ابتسامة حبيب مؤكدا: طب لو على اللي أني شايفه.. يبجى نجول مبروك.. 

اندفعت منيرة في خجل نحو الخارج، مبتعدة عن نظرات سراج الفرحة وقهقهات حبيب الفاضحة.. تتجه نحو غرفة أنس الوجود حتى تعلمها بالخبر السعيد.. ليهتف سراج مؤكدا: أول ما ربنا يتم شفاك على خير وترچع السرايا هاجي أنا والحچ صبري ونطلبوا يدها رسمي.. خلي الفرح يبجى فرحين.. 

ابتسم حبيب مؤكدا: على بركة الله.. تشرفوا..

توقف سراج لبرهة لا يعلم ما عليه فعله، ما دفع حبيب ليهتف مازحا: خلاص.. خلصت الحدوتة.. لا تاكل يا حبيب ولا تشرب.. خدت مصلحتك من حبيب.. وجمت بالمهمة.. روح شوف شغلك بجى..

ابتسم سراج مستأذنا في عجالة.. وما أن غادر غرفة حبيب حتى طرق باب غرفة أنس الوجود.. لتطل أنس الوجود من خلف الباب الموارب الذي تختفي خلفه منيرة في خجل ودقات قلبها تتضاعف في وجل، متسائلة في مزاح: خير يا حضرة الظابط!.. 

سأل سراج في أحرف متلعثمة: بطمن عليكم تكونوا محتاچين حاچة.. 

ردت أنس باسمة: كلك ذوق يا سراج بيه.. بس يمكن منيرة تكون عاوزة حاجة.. استنى أما اسألها.. 

دفعت أنس الوجود بمنيرة لتكون في مواجهة سراج، الذي انشرحت أساريره ما أن وعى لوجود منيرة قبالة ناظريه، ليسأل من جديد: مش محتاچين حاچة يا منيرة!.. 

اضطربت منيرة خجلا فقد كانت المرة الأولى التي يناديها باسمها مجردا، وردت في أحرف متقطعة وابتسامة مهتزة على شفتيها، ورأس منكس بعض الشيء خجلا: عايزة سلامتك يا.. سراچ.. 

همس سراج في هوادة: تسلمي وتعيشي.. 

طال الصمت وسراج يتطلع لمنيرة بنظرة يتبعها بنظرات عدة يطلقها عشوائية حوله، حتى هتف في اضطراب وهو يدعك خلف رأسه في حرج: طب أنا لازما أمشي.. إنتي مش مروحة.. ولا إنتي لسه چاية.. ولا ايه!

اتسعت ابتسامة منيرة، وأجابت أسئلته المضطربة: آه أنا هنا من بدري.. وهمشي دلوجت.. 

هتف سراج في فرحة طفل أخبروه أن العيد قد هل فجأة: طب ياللاه هوصلك.. 

هزت منيرة رأسها في طاعة.. واستأذنت ورافقته لخارج المشفى.. لتندفع أنس الوجود لغرفة حبيب.. طرقت الباب ودخلت.. فأشرقت الشمس بعد المغيب.. اقتربت في هوادة وجلست على المقعد الذي كان يحتله سراج سابقا، مخرجة بعض العلب المعدنية التي جهزت منيرة بهم الطعام باسمة وهي تطالبه في مشاكسة: هتاكل كويس مش زي كل يوم.. ولا أنت عجبتك القعدة هنا!.. 

ابتسم مشاكسا بدوره: شكلها عچبتك إنتي.. طب أنا جاعد عشان لازما اجعد بأمر الدكاترة.. إنتي بجى جاعدة ليه!.. وانتي بجيتي تمام.. 

أجابت أنس وهي ترفع ملعقة من الحساء صوب فمه: عشان مش هدخل السرايا إلا معاك.. رجلي على رجلك.. تحرم عليا السرايا وأنت مش فيها.. 

تطلع حبيب نحوها في وجل.. لا يصدق أنهما بالأمس القريب كادت أن تكون نهايتهما على يد الحقير نصير.. واليوم يجاهد للشفاء متعجلا حتى يخرج معافى ليرتبط بها العمر بطوله.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩٣.. 

وصل بهجت في موعده الصباحي المعتاد ليجد صفية في مقعدها بالشرفة في انتظاره لتناول الإفطار معا مثل كل يوم، مؤكدا وهو يجلس قبالتها بابتسامة عريضة: حمد الله بسلامة حبيب.. اهو رجع من المستشفى.. عايزين نجوز العيال دي ونفرح بهم.. 

همست صفية متضرعة: قول يا رب.. تعبناك معانا يا بهچت.. كنت چاي ترتاح مش.. 

هتف بهجت مقاطعا: أنا مرتحتش إلا هنا يا صفية.. تعب ايه بس.. التعب الحقيقي هو تعب الوحدة ف الغربة.. أنا محستش إني عايش وعلى قيد الحياة إلا هنا وسطكم يا بت عمتي.. 

تنبه بهجت لألبوم من الصور موضوع جانبا.. فهتف في سعادة وهو يمد كفه لتناوله: ايه ده! عندك ألبوم صور للغاليين ومش قايلة يا صفية.. 

فتح الألبوم في هوادة متطلعا لصور أحباب مضوا منذ سنوات بعيدة، مشيراً في شك لصورة ما: دي صورة وداد مش كده!.. كانت أكتر حد شبيه بعمتي أنس الوجود.. هي فين صحيح!.. 

همست صفية في وجع: أنا حكيت لك إنها اتچوزت من فاضل.. هو يوناني مسلم سافرت معاه وكانت بتنزل كل فترة على هنا.. حتى بعد موت ماما.. ومن بعدها فضل.. كانت بتاچي كل ما الشوج يچيبها.. وبعدين الزيارات بجت تبعد أكتر واكتر واكتفينا بالچوابات.. لكن من عشر سنين ويمكن اكتر شوية.. الاتصال مبقاش والجوابات كمان اتقطعت خالص وكنت هتجنن أعرف حصل ايه.. ولما بعت لها كذا چواب رچعوا محدش استدل عليها.. كيف ده! مش عارفة!.. 

هز بهجت رأسه متفهما، أمرا صفية في لطف: طب ياللاه.. قومي كده اتمشي بالراحة زي ما الدكتور قال.. وجيبيلي آخر جواب هي بعتته.. اكيد لسه محتفظة به! 

أكدت صفية وهي تجاهد لتنهض في بطء: ايوه.. كل چواباتها عندي.. هچيبه حاضر.. 

سارت صفية أولى خطواتها نحو حجرتها ليطالعها حبيب قادما يسير في تأنِ.. وأنس الوجود تجاوره.. لتسألهما صفية باسمة: على فين يا عرسان!.. ده إحنا هنفطروا.. 

أكد حبيب باسما: هنحصلكم بس هنتمشى شوية حوالين السرايا.. ونرچع على طول.. 

هتفت صفية وقد وصلت لعتبة باب حجرتها: خلوا بالكم على بعض.. وسلموا على چدكم بهچت وانتوا خارچين..

نفذا في سرعة على قدر استطاعة حبيب على السير.. وخرجا من السراي نحو الطريق الترابي.. لتسأل أنس الوجود في نبرة قلقة: مش كنت ترتاح لك شوية.. احسن المشي يتعبك.. 

أكد حبيب وهو يسير في هوادة واضعا كفه فوق موضع ضلعه المكسور: تعبت من الرجدة.. والأرض وحشتني.. والمشي وياكي.. 

ابتسمت أنس الوجود في حياء ولم تعقب، ليهمس حبيب متطلعا حوله، متنهدا: الله يرحمك يا زفراني.. كني واعيله فكل مكان.. ومتخيل إني سامع صوته بيجولي.. 

أفتح بيبان الجلب للعشج ع الآخر..

وجول للحزن والكرب جوم اتاخر..

يا محلى الحبيب..

وهو بعشجه متفاخر..

ده أنا فجلبي لخلي غرام..

لا له أول ولا آخر.. لا له أول ولا آخر.. 

رفعت أنس الوجود ناظرها نحو حبيب وهو يكرر كلمات زفراني ودمعت عيناها، ليستطرد حبيب متطلعا للأفق: كان واعي للي في جلبي وجاريه.. وكان كل ما يشوفنا ماشيين مع بعض يضحك بفرحة عچيبة.. كان عاشج بيحب الحب.. بس العشج جسي على جلبه ودوجه علجم الفراج.. 

همست أنس الوجود في رقة: يا ترى عرفت امتى باللي فقلبك وعرفه زفراني قبلك وقبلي!.. 

ابتسم حبيب في شجن هامسا وقد ألقى نظرة خاطفة نحو محياها قبل أن يحيد ناظره عنها: معرفش ميتا بالخصوص.. اصلك دي مش حاچة لها بداية لچل ما تعرفي بدأت كيف.. دي موقف ورا موقف وشعور مع شعور.. فچأة.. لجيتني مش هاممني إلا إنتي .. راحتك.. وامانك.. وسعادتك.. حتى ولو بعيد عني.. وعرفت بعد كل اللي چرا.. كنتي تجصدي إيه بالچواب ده.. اللي مفهمتش منه ساعتها جصدك إيه.. عرفت.. إن يوم ما جلبي شاور عليكي.. كان يوم عيد.. وعرفت كيف كنتي هتسددي الدين الجديم .. لما جالي زفراني إنها اختارت طريجها.. اتاريه نفس الطريج اللي كان اختياري.. اخترناه سوا.. طريج العشج يا أستاذة.. 

سال دمع أنس الوجود في رقة.. وارتسمت على شفتيها ابتسامة رضا، وهي تهمس في نبرة مهادنة: مش كفاية عليك كده مشي النهاردة.. نرجع بقى!.. 

هز حبيب رأسه موافقا واتخذ الطريق الأقرب للسراي وصوت مذياع المقهى القريب إلى حد ما.. يصدح بصوت نجاة الرقيق في عذوبة:

حبيبي.. آه من حبيبي.. عليه أحلى ابتسامة..

لما بتضحك عيونه.. بقول ياللاه السلامة.. 

شاكسها حبيب قبيل وصولهما بوابة السراي: على فكرة نچاة بتغنيلي.. اهي بتجول.. حبيب عليه أحلى ابتسامة.. 

هتفت أنس تتصنع الحنق: يا سلام.. هي بتقول حبيبي.. حبيبها هي.. مجبتش سيرتك على فكرة.. 

همس حبيب مؤكدا: وأني مش عايز حد يچيب سيرتي غيرك..

تطلعت أنس الوجود صوب حبيب في عشق.. وأخيرا اندفعت ناحية بوابة السراي تهرول في خجل نحو الداخل.. ليلحق بها حبيب يسير في خطوات وئيدة لداخل السراي فاستوقفه شبل مناديا: يا حبيب بيه!..

توقف حبيب ليبادره شبل مادا ذراعه بمظروف أصفر باهت مغلف بمظروف آخر شفاف، مفسرا: الناس اللي كانت فبيت الرسلانية الجديم أيام الزلزال الله لا يعيدها.. بعد ما ظبطوا حالهم نضفوا البيت عشان يجفلوه ويبلغوك.. لكن أنت كنت فالمستشفى ربنا ما يرچعها أيام.. وجالوا لي أوصل الظرف ده ليدك أمانة يا بيه.. أول ما ترچع.. هم لجوا الظرف د.. سهي عليا اچيبهولك من ساعة ما رچعت بالسلامة.. سامحني يا بيه.. 

هز حبيب رأسه متفهما وسار نحو التعريشة حاملا الظرف الذي فضه في حرص.. وهو يستشعر أن سرا ما على وشك الظهور وانكشاف اللثام عنه.. 

صارت الأوراق المطوية بين ذراعيه وبدأ يقرأ ويقرأ في لهفة.. وأخيرا.. تنهد مغلقا المظروف الذي ضم الأوراق مجددا.. ليقف متطلعا نحو السراي في إكبار وفخر.. هامسا بنبرة تحمل إصرار الكون.. كأنه يجيب على سؤال لم يُسأل.. ولا يمكن نفرط أبدا.. أبدا.. 

وسالت دمعة وحيدة تجري على خده.. وهو ما يزل يقف في شموخ يتطلع للسراي بنظرات فاضت قداسة ومهابة.. 

يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة