رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 67 - السبت 11/10/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل السابع والستون
تم النشر السبت
11/10/2025
ـ بشائر الفرح..
الرسلانية ١٩٩٣..
ذاك النهار الصبوح.. المحمل بنسائم الفرح.. كان لابد له من إفطار شهي.. حاول حبيب أن ينهض من موضعه لتحضير طاجن الفول الذي يجيد صنعه باحترافية كبيرة.. داعيا الجميع لتذوقه وخاصة أن بهجت لم يصل بعد للسراي.. لكنه ما زال يتألم قليلا مع أي مجهود فقرر النداء على شبل لمساعدته.. والذي حضر في عجالة ملبيا.. ليأمره حبيب بإحضار بعض الأغراض من المطبخ.. فهتف شبل مناديا نبيهة لتحضر المطلوب ليبادره حبيب مفسرا: يا سلام على النباهة! طب ما كنت نادمت عليها أنا يا فكيك!.. نبيهة مش هنا.. بعتها لبيت عروسة الداكتور سرور لچل ما تساعد في تحضيرات الفرح..
هز شبل رأسه متفهما، ودخل يحضر ما طُلب منه.. وجاء ليجلس قرب الركوة التي أشعلها بكل سلاسة متبعا أوامر حبيب خطوة بخطوة.. ليسأله حبيب بغتة: بجولك يا شبل! أهو أني بسألك لآخر مرة.. لك غرض ف البت نبيهة!..
تنبه شبل متطلعا لحبيب الذي استشعر أنه جذب انتباهه، فاستطرد مفسرا: أصلك چالي لها عريس.. هو مش من هنا.. من نچع بعيد عننا.. معرفش وعيلها فين.. ولما عرف إنها يتيمة ومجطوعة من سجرة جاللي وطلب يدها..
همس شبل بنبرة متوجسة: وهي جالت ايه!.. وافجت!..
رد حبيب متخابثا: وأنت ايه اللي يفرج معاك.. وافجت ولا رفضت دلوجت.. أني حديتي دوغري.. أنت لك غرض.. جول.. ملكش.. يبجى تروح لصاحب نصيبها.. هو إحنا هنخللوها چارنا..
هتف شبل متعللا: بس هي ولو تجص لسانها هبابة و..
قاطعه حبيب معترضا: بجولك ايه! أنت مليكش ف الطيب نصيب.. هتجعد تفصف وأصلها ومأصلهاش.. عاچبة غيرك.. وهيچيب لها دار لحالها ودهب.. ويستتها.. خليك أنت جول مش عارف ايه!..
صمت حبيب ولم يزد حرفا.. وكذلك شبل.. الذي أخذ ينفذ أوامر حبيب لصنع الطعام بآلية.. وباله شاردا في عالم آخر..
وصل بهجت في وقته بالدقيقة.. ليجد صفية تنتظره في موضعها الثابت كل يوم على شرفة السراي الأمامية.. لم ينتبه بهجت لوجود حبيب في التعريشة بينما أدرك حبيب وجوده من أمر واحد فقط.. ضحكة جدته صفية التي ما سمع رنينها بهذا الشكل الصاخب إلا بعد حضور العم بهجت.. أو بالادق توصيفا الجد بهجت فهو أكبر من جدته صفية بحوالي خمسة سنوات أو ربما أقل قليلا.. كان سمع حبيب لضحكات جدته صفية مصدرا فرح وسرور فكم حاول مرارا إخراجها من عزلتها وإسعاد قلبها الذي عانى على طول عمرها الكثير من الأحزان والصدمات حتى باتت ضحكتها شحيحة وصمتها غالب على سمت حياتها ودموعها وفيرة بلا اكتناز.. تنقدها الحزن ثمنا لتعبر عن وجعها الذي يأكل روحها..
رفع حبيب رأسه نحو نافذة الأحباب مبتسما.. وقد انتهى شبل من تحضير وجبته المفضلة.. ووجبتها.. ليتها كانت هنا ليطعهما إياها.. لكنها بالقاهرة.. سافرت نساء الدار أنس الوجود وأمها برلنتي وكذا منيرة لابتياع جهاز العرس.. تركن السراي وسافرن منذ عدة أيام.. وتركت قلبه يعان فراقها.. يتصبر بمكالمة هاتفية سريعة إذا ما جاد وقتها المكتظ بالكثير من الخطط لإنهاء مشرواتها تحضيرا للزفاف..
وضع شبل الطعام أمام بهجت وصفية.. ليعاجلهما حبيب مؤكدا: دوج كده يا چد.. وجول لي رأيك..
مد بهجت يده لتناول القضمة الأولى في حرص لسخونة الوعاء الفخاري الذي يتصاعد منه الأبخرة.. ليهتف في استحسان: ايه الجمال ده! حلو أوي بجد.. لا أنا كده هشبط وهثبت الطبق ده على فطاري يوميا..
هتف حبيب باسما: يا سلام.. غالي والطلب رخيص..
رن جرس الهاتف فانتفض حبيب مندفعا للداخل ليرد.. ما دفع صفية للابتسام مؤكدة في تخابث: تلاجيها أنس الوچود!.. شايف نفضته ع التلفون.. وعامل لي فيها تجيل وراسي..
قهقه بهجت هامسا: ربنا يتمم لهم على خير.. ويهديكي عليا يا صفية..
تطلعت صفية نحوه في لوم، ليصمت بهجت ولم يستطرد في ملامته.. فقد كان في انتظار ردها على طلبه.. لكنها لم تشأ أن تناقش الموضوع مجددا..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٣..
انتهى وقت الدوام.. فخرجت هي في سرعة مغادرة.. كانت تستشعر منه تباعدا خلال الفترة الماضية وخاصة بعد انتهاء مشكلة أنس الوجود وذاك المدعو نصير الراوي.. ما دفعها لتأخذ عدة خطوات للخلف ولا تضع نفسها في موقف يقل من كرامتها أو يشعرها لو كذبا أنها تفرض نفسها أو وجودها داخل حيز حياته.. عليه أن يقرر ما يريد قبل أن يورطها معه في حكاية غير محمودة العواقب..
اندفعت تشير لأقرب سيارة أجرة مرت.. لكنه استوقفها مناديا: آنسة مريم!.. ممكن لحظة!..
لم تتطلع نحوه مجيبة وهي تبحث بعينيها عن سيارة أجرة آخرى غير تلك التي تجاهلت إشارتها للتوقف: خير يا أستاذ ممدوح!.. في أي ملاحظات ف الشغل!..
أكد ممدوح في عجالة: لا خالص.. أنا بس كنت عايز أعرف إنتي واخدة جنب مني ليه!.. هو أنا ضايقتك في حاجة!..
هتفت مريم وهي تجز على أسنانها.. متطلعة نحوه في حنق: أنا برضو اللي واخدة جنب! وحضرتك واخد ايه!.. واخد فاوول ولا افوسيد!.. ما أنت واخد ف نفسك وساكت ومحدش كلمك..
ابتسم ممدوح مؤكدا: ايوه.. أصل خايف أكون يعني بفرض نفسي عليكي.. و..
قاطعته مريم في سخط: بذمتك يا شيخ.. ده شكل واحدة حد يقدر يفرض نفسه عليها!.
اتسعت ابتسامة ممدوح مؤكدا: الصراحة.. الصراحة يعني.. لأ..
زمت مريم ما بين حاجبيها في حنق، هاتفة في اعتراض: ايه هو اللي لأ.. أنا بس ال..
قاطعها ممدوح مؤكدا في نبرة مهتزة: ايوه إنتي بس.. إنتي بس اللي خلتني أحبها..
ساد الصمت لبرهة.. قبل أن تستجمع مريم ثباتها الذي بعثره اعترافه، هاتفة في نبرة مرتعشة: ايه خلتني دي.. هو حب تحت تهديد السلاح ولا ايه!..
هتف ممدوح وقد استعاد بدوره بعض من شجاعته: بحبك.. بس كده.. لا في قبلها ولا بعدها..
همست مريم في طفولية ووجه باسم: طيب..
هتف ممدوح متعجبا: طيب ايه حرام عليكي.. قولي اي حاجة.. يعني لسانك أطول منك وجيتي عند دي وتقولي طيب..
هتفت مريم في اضطراب: ماشي..
همس ممدوح مشاكسا: والله ما حد ماشي إلا أنا.. هتف مريم تستوقفه: ايوه.. ما هو.. يعني.. أنا موافقة..
هتف ممدوح مشاكسا من جديد: موافقة على ايه.. هو أنا بعزمك على الغدا..
هتفت مريم تشاكسه بدورها: موافقة تحبني وكده..
قهقه ممدوح متعجبا: صحيح! طب وحضرتك مش معانا ف الحكاية دي ولا هتقعدي تتفرجي..
هتفت مريم في أحرف متلعثمة: يووه ما خلاص بقى.. بحبك.. حلو كده..
هتف ممدوح يمازحها حين أدرك اضطرابها: أنا قلت امشي.. أصل حاسس اني جايلك كده ف وقت مش مناسب.. و..
هتفت مريم تقاطعه في فرحة: والله بحبك..
اندفع ممدوح مؤكدا: أنا هروح أكلم أخوكي.. و..
هتف سائق السيارة الأجرة التي توقفت منذ برهة بالقرب من موضع مريم في نزق: ها يا أبلة!.. جاية!.. ولا ناوية تكملي وصلة الخناق دي ف الشارع!..
هتفت مريم للسائق: جاية..
وتطلعت لممدوح معاتبة: شايف جبت لنا الكلام..
هم ممدوح بالابتعاد مودعا تاركا إياها تركب السيارة.. إلا إنها جذبته معها لداخل التاكسي متسائلة: أنت مش قلت رايح أكلم أخوكي!.. رجلي على رجلك..
أمسك ممدوح ضحكاته هامسا: كان في واحدة عاملة مكسوفة من دقيقتين.. راحت فين حضرتك!..
أكدت مريم ضاحكة: لا ده كان من دقيقتين بقى.. احنا ولاد اللحظة.. وعصفور ف اليد خيرا من عشرة على بلكونة الجيران..
تعجب ممدوح باسما: طب حتى أجيب ماما!..
أكدت مريم في سلاسة: ماما الخير والبركة طبعا.. بس جبها معاك المرة الجاية نكون نضفنا الشقة وجبنالكم جاتوه..
قهقه ممدوح على تصرفات مريم التي كانت تتطلع نحوه في سعادة وكأنها حازت جائزة كبرى.. وتساءل في فرحة.. هل يجعلنا الحب حقا بهذا القدر من السعادة عندما يأتي من الشخص المناسب!..
❈-❈-❈
فرنسا ١٩٩٣..
صرخت راشيل وهي تدفع باب حجرة مكتب مارك في جنون: أخبرتك أن ما تفعله عبث، قلت لي اطمئني.. وهذا ما جنيته بعد تصديق وعودك..
انتفض مارك مندفعا يغلق باب مكتبه المنفرج على مصراعيه، عائدا إلى كتلة الفتنة المجسدة قبالة ناظريه في محاولة لتهدئة ثورتها: أقسم أن الأمور كانت تسير على ما يرام.. وأن نصير الراوي رجلي هناك كان على علاقة قوية بأهل الرسلانية وكان على وشك النجاح في مخططه لولا..
قاطعته راشيل في نبرة حادة: لولا ماذا!.. لولا ظهور جاك في الصورة أليس كذلك!.. لقد اوهمتني حين طلبت التخلص منه أنه ضعيف ومريض ولا حيلة له.. وها هو الآن من يفسد علينا خطتنا.. فماذا أنت فاعل!.. لا شيء.. يالحظي التعس! الرجل الوحيد الذي أحببت وعلى استعداد للزواج منه غير قادر على تنفيذ رغبة بسيطة لي كهدية زواج..
أكد مارك في لهفة: لا.. لن اخزلك ثانية.. وكل طلباتك مجابة.. فلن ادعك حزينة أبدا.. وكل ما ترغبين في الحصول عليه سيكون طوع بنانك..
تطلعت راشيل نحو مارك بأعين دامعة تؤكد على قولها أنها محبة.. عاشقة.. راغبة في الارتباط به برباط مقدس أبدي.. ثم دنت منه هامسة في نبرة تقطر دلالا: كل ما أريد مارك!..
هز مارك رأسه موافقا، ما دفع راشيل لتطوقه بذراعيها في محبة مصطنعة.. وقد وقعت وثيقة حقيرة آخرى من مجمل أعمالها..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
دخلت نبيهة السراي متجهة نحو حجرتها الكائنة بآخر الحديقة بالقرب من المدخل الخارجي للمطبخ المفضي لغرفة الخبيز.. فتنبه لوصولها شبل الخفير، الذي كان بعيدا عن البوابة.. فاندفع صوبها يستوقفها مناديا: بت يا نبيهة!..
توقفت نبيهة متطلعة نحوه في حنق: بس متجولش بت، وبعدين عايز ايه يا شبل حاكم أني جسمي كله حالل عليا من الهدة مع ست مچيدة عروسة الداكتور سرور شوية وبين الست نچية عروسة سي مدثر.. كلهم بجو ستات وأني اللي جاعدة كيف زعزوعة الجصب كده..
هتف شبل متعجبا: لهو حبيب بيه مجلكيش ع العريس اللي اتجدم لك!..
انتفضت نبيهة في سعادة متسائلة: والنبي صح!.. مين ده!.
هتف شبل حانقا: ومالك فرحانة كده! ما تركزي يا بت.. ده حتى مش من الرسلانية.. حبيب بيه جالي من نچع بعيد سوية.. أني معرفش انطس ف نواضره وعچبتيه كيف!..
هتفت نبيهة حانقة: والنبي ما حد منصاب ف نواضره إلا أنت يا غفير الغبرة.. ده راچل بيفهم وكله نظر.. هيلاچي ف حلاوتي فين!.
هتف شبل ساخرا: ايوه.. أصلك لسه مچربش لسانك اللي متلفحة به ده.. الله يكون ف عونه..
تطلعت نبيهة نحو شبل في ضيق، ليباردها متسائلا: بس جوليلي.. هتوافجي صح تبعدي عننا.. جصدي يعني بعيد عن الرسلانية والسرايا والست الكبيرة.. والبت سعادة بتي.. دي هتاخد على خاطرها بالجوي.. أصلك بتحبك.. معرفش على ايه..
هتفت نبيهة ساخرة: ايوه.. أني معرفاش دي بتك كيف.. هتجطع بيا..
هتف شبل متعجبا: ايه! هو إنتي وافجتي!..
هتفت نبيهة متعجبة: وارفضه ليه!.. طالما حبيب بيه جال عليه راچل زين.. يبجى ع البركة..
زمجر شبل في حنق، واندفع مبتعدا في عجالة ما أثار تعجب نبيهة لتصرفه..
بينما كانت صفية تتابع ما يجري من شرفة السراي مبتسمة في سعادة.. تنبه بهجت لموضع تركيزها.. متسائلا: مالك مركزة معاهم كده ليه!
ابتسمت صفية مفسرة: عشان الحكاية شكلها هتنجح..
زم بهجت ما بين شفتيه، لتستطرد صفية في هوادة: أصل إحنا عايزين نچوز شبل للبت نچية.. رحت أني وحبيب ألفنا حكاية كده إن في عريس من بعيد چاي رايدها يمكن يتحرك البعيد ويطلبها..
قهوه بهجت: خطة يعني عشان تحسسوه إنها هتضيع منه ليلحق بقى!..
هزت صفية رأسها مؤكدة، ليهتف بهجت وقد تبدلت نبرته تماما: يا بخته.. لقي اللي يقوله إلحق بدل ما تضيع منه.. حتى ولو العريس وهمي.. مش زي ما حصل معايا.. يا ريتني لقيت اللي يقولي إلحق صفية هتضيع من إيدك.. كنت ساعتها قلبت الدنيا عشان تبقي ليا..
دمعت عينى صفية، ليستطرد بهجت في محبة متسائلا: صفية!.. أنا مخدتش رد على طلبي لحد دلوقت..
همست صفية في تردد: بهچت!.. الحكاية دي مش هينفع.. أني ست كبيرة.. هيجولوا عليا ايه.. غارت من عيال عيالها وجالت تتچوز في السن ده.. هبجى معيرة الخلج يا بهچت.. إحنا هنا في الصعيد مش في أوروبا..
هتف بهجت معترضا: وهم اللي في الصعيد مبيتجوزوش! ايه.. ضد شرع ربنا!..
أكدت صفية متنهدة: لاه.. بيتچوزو.. راچل كبير ماتت مرته وعياله متچوزين.. بيتچوز عشان يچيب واحدة تاخد بحسه وتخدمه.. لكن الست غير.. ميتا ما راح چوزها.. تجعد لعيالها وعيالهم.. وما تفكر ف چواز وإلا تتعير هي وعيالها..
هتف بهجت في اعتراض: بس ده ظلم.. هي مش إنسان ولها تختار حياتها..
هزت صفية رأسها في حزن مؤكدة: عوايد يا بهچت.. اتربينا وكبرنا عليها وخلاص.. ادينا عايشين..
تنهد بهجت: طب حتى نكتب الكتاب ومش هعيش معاكي هنا ف السرايا.. هاجي لك من الفجر اتونس بيكي وبالولاد.. وامشي آخر النهار.. ابات بره..
تعجبت صفية: طب وليه چواز من أصله بجى!.. أنت وراك ايه يا بهچت!..
تنهد بهجت معترفا: صفية.. اسمعيني كويس.. اللي هقولهولك ده محدش يعرفه غيرك..
تنبهت بقسمات وجه مضطربة، فقد كانت على يقين أن ما سينطق به بهجت لهو شيء بالغ الأهمية، ليستطرد بهجت في لهجة حاول أن تكون أكثر رسمية: أنا عيان يا صفية.. أنا لسه عيان مخفتش زي ما فهمتي.. مرضي عايز متابعة مستمرة ومكنش المفروض اسيب المستشفى.. لكن أول ما وصلني اللي بيعمله مارك والحية إليه..ودية اللي ممشياه وازاي ده هيضرك.. مقدرتش اقعد ساكت ومعملش اللي أقدر عليه لحمايتك.. حتى ولو كان اللي فاضل لي شهور ف حياتي ..
شهقت صفية في صدمة، ليكمل بهجت بنفس النبرة: الدكاترة قالوا لي كده.. ممكن شهرين أو خمسة أو بكتيره سنة.. النتيجة واحدة.. بس عايز أقولك إني من ساعة ما حطيت رجلي هنا ف الرسلانية وشفتك من تاني.. وحسيت إني رجعت بهجت القديم اللي لسه سايب قلبه مع صفية بنت عمته.. شفت احفادك وحسيت أنهم أحفادي اللي ربنا مكرمنيش بهم.. حسيت إن العمر مرحش هدر زي ما كنت بقول لنفسي من أسابيع.. وإن العمر بقى له معنى.. وكل يوم بقى غالي وله قيمة لأن بقى في حياتي صفية.. اللي كل أيامي الجاية زي ما يكون طولها.. عايزها معاها.. ولما تيجي لحظة الوداع تبقى هي آخر حد أغمض عيني على صورته..
بكت صفية في حرقة، ليستطرد بهجت بنبرة متحشرجة تأثرا لبكائها: أنا عارف إن مختار كان له مكانة كبيرة في قلبك.. ومش ممكن حد يزاحمه فيها.. ده كان ابن عمتك واتربى معاكي.. وحبك بجد.. وكان عشرة عمرك وأبو أولادك.. سنين مع بعض ع الحلوة والمرة.. لحد ما راح شهيد وانتي ف عز شبابك.. طب بهجت ما يستاهلش منك كام شهر يا صفية!.. مبستاهلش إن أمنيته الأخيرة تتحقق قبل ما يروح للأبد..
بكت صفية وبكت.. هامسة في نبرة حانية: تستاهل الخير كله يا بهچت.. تستاهل اللي أحسن من صفية وخرفها وعچزها ومشاكلها.. تستاهل تعيش مبسوط ومرتاح..
أكد بهجت باسما بأعين دامعة: أنا عمري ما كنت مبسوط ومرتاح زي ما بقيت هنا.. عايز أقولك إن الدكاترة مستغربين إن حالتي فيها تحسن هم مستغربينه.. محدش فيهم يعرف إني كل يوم باخد جرعة العلاج الحقيقي لما أشوفك يا صفية.. لما ابقى وسطكم عايش تفاصيل حياتكم.. مشارك في فرحكم وحزنكم.. مشارك ف كل مشاكلكم وحلها.. أنا معاكي لقيت الحياة.. ايوه الحياة اللي طول عمري نفسي أعيشها بكل تفاصيلها.. مع الناس اللي نفسي اعاشرهم.. ومش بس كده يا صفية..
أنا تعبت كتير.. عملت ثروة مهولة وامبراطورية اقتصادية كبيرة.. دفعت تمنها سنين عمري اللي راح كلها.. هسيب ده كله ل مارك والبت اللي معاه دي!.. لأ.. إنتي واحفادك أولى بكل مليم من ثروتي.. لأني عارف إن اللي زي حبيب ده معاه الفلوس هتروح ف المكان الصح .. ف كل خير ومصلحة.. وساعتها هلاقي ناس تفتكرني وتدعيلي بالرحمة يا صفية.. عرفتي ليه يا صفية عايز اتجوزك!.. مترديش دلوقت.. خدي وقتك.. أنا ممكن أكتب الثروة لكي أو لحبيب بيع وشرا من بكرة لكن لو مارك واللي معاه خدوا خبر هيبقى انتي وهو في خطر.. لكن أما تيجي مفاجأة كميراث بعد وفاتي.. إنتي هتاخدي حقك كزوجة وخاصة إن الميراث هيبقى بالقانون بتاعهم.. يعني ضامن إن معظم الثروة هتكون من نصيبك.. شقى العمر يروح للي يستاهله يا صفية.. فهماني!..
هزت صفية رأسها متفهمة.. ودموعها تنساب في هدوء.. وبهجت ينهض مغادرا..
❈-❈-❈
القاهرة ١٩٩٣..
تساءلت مريم في مرح وهي تلقي التحية على منيرة وأنس الوجود: إنتي بقى انس الوجود! أخيرا شفتك!.. أنا عايزة أقولك كنا عاملين مركز عمليات طواريء على رأي جمال أخويا.. عشان نناقش مشكلة أنس الوجود.. اللي أنا كنت فكراها من اسمها ف الأول.. ست عجوزة..
قهقه الجميع.. لتؤكد أنس الوجود باسمة: ايوه.. عندك حق.. اسمي ده طول عمري عاملي مشكلة.. ده اسم قديم.. اسم جدة أمي.. تخيلي بقى!..
أكدت والدة جمال في محبة: وماله!.. هو في زي الاسماء القديمة حلوة وكلها بركة..
هتفت مريم مشاكسة: ايوه ما انتي لازم تقولي كده.. يااااا فتحية..
قهقهت أم جمال مشاكسة ابنتها: اهو انتي بالذات غلطت إني سميتك مريم.. كان لازما اسمع كلام ابوكي وهو عايز يسميكي على اسم أمه.. بخاطرهم..
قهقه الجميع لتهتف مريم مازحة: لا.. إلا بخاطرهم.. ده أنا كنت خدت على خاطري العمر كله.. تسلمي يا غالية.. جميلك على راسي.. وبعدين ماله فتحية!.. كله مزيكا كده..
هتفت فتحية مازحة: ايوه.. أحبك وانتي مؤدبة يا مريومتي.. والله يكون في عونه..
هتفت أنس الوجود باسمة: إحنا فرحنا أوي لما عرفنا من ممدوح إنه خطب مريم.. حقيقي والله عرف ينقي..
هتفت مريم مازحة: بصي.. أنا قلبي اتفتح لك كده من ساعة ما شفتك لله في لله.. شايفين الناس اللي بتفهم..
استطردت أنس الوجود مشيرة لهاجر: وجمال بيه ابن حلال حقيقي تعب معانا كتير ولولا تعبه مكنتش خلصنا من المشكلة الكبيرة اللي كنا فيها..
ربتت فتحية على كتف أنس الوجود في تعاطف: الحمد لله يا بنتي.. ده ربنا نجاكم..
استطردت أنس الوجود: الحمد لله.. والحمد لله إن ربنا كرمه بهاجر.. ربنا يتمم لهم على خير..
أكدت فتحية وهي تتطلع نحو منيرة: ايوه اللهم بارك.. هاجر دي هدية.. متتخيرش عن خطيبة سراج.. منيرة مش كده!..
هتفت فتحية مازحة: ده يا نهار كهارب على رأي جمال..
قهقه الكل، لتستطرد فتحية مؤكدة: سراج ده ابني.. متربي مع جمال من أيام إعدادي مع بعض.. وطلعوا ثانوي والكلية مع بعض.. دول صحبية طويلة وعشرة عمر.. وام سراج الله يرحمها كانت حبيبتي كان هادية كده زيك يا بنتي.. وريحها خفيفة..
همست منيرة في حياء: تسلمي يا طنط.. وأم سراچ تبجى عمتي سعاد الله يرحمها..
هتفت فتحية متعجبة: بجد!.. مكنتش أعرف.. وأنا اللي قلت فيها منك.. سبحان الله.. أهو سراج ده جبت له عرايس ياما.. كان يتهرب.. اتاريه حاطط عينه ع القمر.. وربنا رزقه بيكي..
ابتسمت منيرة شاكرة مجاملتها، لتهتف أنس الوجود: طب إحنا لازم نستأذن بقى.. عشان عندنا مشاوير كتير.. قبل ما نرجع البلد.. عشان في فرحين ف الرسلانية لازم نحضرهم.. أنا قلت أعرف منيرة ب هاجر ومريم..
هتفت فتحية في معزة: شرفتي يا حبيبتي.. وأول ما تبقوا هنا ف القاهرة تعالوا على طول.. أنا من ساعة ما جابوني معاهم من اسكندرية وأنا مقطوعة كده مليش حد..
هتفت أنس مازحة: جوزيهم بسرعة بقى يا طنط وانتي مش هتلاحقي على عيالهم..
قهقهت فتحية مؤكدة: أيوه صدقتي يا بنتي..
ربنا يسعدكم كلكم.. نشوف عوضكم عن قريب..
هتفت مريم بصوت جهوري في لهفة: آميييين..
لترتفع أصوات الضحكات على أفعالها المجنونة..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
كانت التجهيزات تسير على قدم وساق.. استعداد للعرس الميمون وعقد القران ما أن تهل مغارب اليوم.. الذبائح التي تنحر في تلك الباحة الواسعة القريبة من دار النجدية.. والتي تزف عريسين من أفضل شبابها.. سرور ومدثر.. فكان الفرح مضاعفا كما كانت الذبائح والخيرات مضاعفة.. وزاد عليها ما أرسله حبيب من ذبائح مجاملة ومحبة لصديقيه..
كانت الطبول والمزامير لا تكف عن الضرب منذ ساعات الصباح الأولى.. وحتى وصل العريسان بهيئتهما المهندمة للدار مع وصول الشيخ معتوق بصحبة حبيب.. الذي كانت عيناه تدور بحثا عنها.. تراها لم تحضر بعد، وتأخرت بهن العربة التي أرسلها الجد بهجت لاحضارهن من القاهرة!.. كان قلقا فقد غادر السراي ليحضر الشيخ معتوق بصحبته لعقد القران قبل أن يطمئن قلبه على وصلهن سالمات ويملي عينيه من محياها الذي اشتقاه كثيرا..
ظل على حاله.. حتى كاد أن ينتفض موضعه حين لمح طيفها بصحبة منيرة.. مرتا في عجالة لداخل دار سرور الملاصقة لدار جده.. حيث تقبع العروستان في انتظار عقد القران..
تنهد في راحة.. وقد اطمأن أنهن بخير.. عُقد القران عريس تلو الآخر.. وارتفعت الزغاريد وبدأت الأطعمة توزع في بزخ وزيادة.. حتى إذا ما انتهت فقرة الطعام.. بدأ الاحتفال الحق.. حتى منتصف الليل.. ليستأذن كل من سرور ومدثر في اصطحاب عروسه لعشهما السعيد.. وينفض السامر..
عاد الجميع لداره وانتظر حبيب بتعريشته.. كان يعلم أنها لابد اتية.. يدفعها الشوق لملاقاته.. نفس الشوق الذي يدفعه لانتظارها بهذه الثقة في مجيئها..
هلت قادمة أخيرا.. مع نغمات جرامفون جدتهما صفية.. وام كلثوم وصوتها الساحر وهي تشدو.. الليل وسماه ونجومه وقمره.. قمره وسهره.. وأنت وأنا.. يا حبيبي أنا.. يا حياتي أنا..
همس ما أن أصبحت قبالته: حمدالله بالسلامة..
همست بدورها في خجل: الله يسلمك..
أكد حبيب في عشق: اتوحشتك..
تطلعت نحوه في نظرات تفيض محبة، كانت رد كافيا على كلماته، ليهتف مؤكدا: مفيش سفر تاني خلاص.. چبتو محلات مصر كلها..
اتسعت ابتسامة أنس الوجود مشاكسة: يعني.. مش بالظبط.. باقي كام محل كده..
ارتفعت قهقهاته.. التي قطعها هتاف محمود أخيه القادم من نافذة حجرته التي تطل على التعريشة بشكل جانبي.. مناديا حبيب في ذعر: يا حبيب.. يا حبيب!..
اندفع حبيب نحو موضع النافذة ملبيا: ايه في يا محمود!..
هتف محمود في قلق: سالم يا حبيب.. سالم كان نايم چاري من بدري.. جمت أشرب ملجتهوش..
أكد حبيب: هيروح فين يعني!.. تلاجيه هنا ولا هنا.. ما أنت واعي لسالم وشجاوته..
أكد محمود مفسرا: لاه.. نادمت عليه.. مردش عليا..
تطلع حبيب نحو أنس الوجود في قلق.. وقد بدأ يستشعر الخطر، لتهمس أنس الوجود مقترحة: تعالى ندور عليه جوه السرايا.. ولو ملقينهوش ن..
قاطعها حبيب مؤكدا: اطلعي إنتي دوري عليه مع منيرة لو مكنتش نامت.. وأني مش هستنى.. هاخد زفراني وكذا خفير معاي.. ونطلعو ندورو عليه.. الواد امه مسيباه معانا أمانة.. نجولها ايه!..
هزت أنس الوجود رأسها متفهمة، مندفعة تنفذ أوامره لعلها تجده بالسراي قابعا في ركن ما يلعب أحد ألاعيبه.. تاركة حبيب يهرول صوب موضع زفراني على بوابة السراي.. أمرا إياه ليتبعه في عجالة بحثا عن سالم ابن نجية..
يتبع...