رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل الأخير - السبت 17/10/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل التاسع والستون
والأخير
تم النشر السبت
17/10/2025
أهازيج المحبةوالأنس..
الرسلانية ١٩٩٣..
على الرغم من ذاك الضجيج والصخب الدائر بحديقة السراي وما خارج أسوارها تمهيداً لعقد القران خلال ثلاث ليالِ.. إلا أن صوت أم كلثوم الذي شق جدران حجرة جدته قد وصل موضعه تحت التعريشة وهو الذي قرر الاستراحة قليلا بعيدا عن العمال والعمل الدائر هنا وهناك..
بعيد عنك حياتي عذاب..
متبعدنيش بعيد عنك..
مليش غير الدموع أصحاب..
معاها بعيش بعيد عنك..
ذاك كان نداء أم كلثوم المغموس بالشجن ووصف لحالة جدته منذ غاب الجد بهجت عن زيارتها الصباحية منذ عدة أيام.. كان يدرك حبيب دون حاجة للكلام أو البوح ما يحمله قلب جدته صفية من تقدير ومحبة للجد بهجت.. وكم كان ظهوره في حياتها له كبير الأثر على حالتها الصحية والنفسية على حد سواء..
لا أحد يعلم اين اختفى الجد بهجت.. فلم يظهر منذ عدة أيام.. كان قد ألمح أنه في سبيله للقاء عمل هام.. وذاك كان مطمئنا إلى حد كبير أنه بخير.. لكنه لم يخبر أحدا بطبيعة الحال عن مكان أو موعد اللقاء.. أو حتى متى يعود!..
يحزنه أن تفقد جدته ضحكاتها الرنانة التي كانت تصدح في وجود الجد بهجت وكذا ألق عينيها التي لطالما سكنها بريق الدموع.. حين كان يقص إحدى قصصه الطريفة والغريبة عليها.. يحزنه حقا فقدانها الأنس في حضرة الجد بهجت.. وهو الذي أدرك حين عثر على أنس الوجود ورُزق حبها..
كم يظل الإنسان لاجيء دون أنيس لوحشة روحه.. وتائه دون ذراعي حبيب تكون هي المرسى.. ومشرد على قارعة الأيام.. دون أحضان دافئة تكون هي الوطن والمستقر.. بعد عناء الرحلة وطول المسير..
حاول هو والخالة برلنتي حتى أنس الوجود ومنيرة على الرغم من انشغالهما تحضيرا للزفاف إخراجها من حالة السكون والعزلة التي عادت لها من جديد.. لكن أبدا لم يفلح أي منهم فيما كان طبيعيا وسلسا مع الجد بهجت..
قرر حبيب ترك كوب الشاي الذي ما أنهى نصفه مندفعا ليكمل الإشراف على ما تبقى من تحضيرات لكنه توقف متعجبا ثم مبتهجا ما أن تنبه لصوت شبل يرحب بأحدهم في حفاوة..
هرول نحو مدخل السراي فإذا به بهجت وقد عاد للظهور مجددا، لكنه وللعجب لم يكن وحيدا.. بل كان يطبق بكفه على كف امرأة جميلة.. أو بالادق كانت جميلة بشبابها قبل أن يمر الزمان على ملامحها الصبوح ليحيلها لتلك الملامح الشاحبة التائهة النظرة.. من هذه!.. هل هي زوجته!.. لا.. الجدة صفية أخبرته أن زوجته رحلت عن دنيانا منذ ما يزيد عن العشر سنوات.. إذن من هذه!..
لم يكن هناك من وقت للتخمينات، فقد هلل حبيب في فرحة لمرأى بهجت هاتفا: حمدالله بالسلامة يا چدي.. اتوحشناك!..
هتف بهجت في مودة: يا ولد يا بكاش.. هو أنا لحقت أغيب عليكم!..
قهقه حبيب مؤكدا: اتعودنا عليك وعلى وچودك بينا كل طلعة صبح.. وكمان كنا مستنظرينك تحضر الفرح.. لهو مين اللي هيبجى وكيل العرايس غيرك يا چدي!..
توقف بهجت متطلعا نحو حبيب في إكبار، هاتفا بصوت متحشرج تأثرا: حقيقي!.. أنا هبقى وكيل منيرة وأنس الوجود!..
أكد حبيب في ثقة: معلوم.. هو مين كبيرهم دلوجت غيرك يا چدي..
ربت بهجت على كتف حبيب في امتنان، ثم هتف مشيرا للداخل: ستك صفية في اوضتها طبعا!..
أكد حبيب بإيماءة من رأسه، مشيرا بطرف خفي نحو ضيفته التي كانت تقف بلا حول ولا قوة تتطلع حولها في تيه وشرود، متسائلا: مين الهانم يا چدي!.
هم بهجت بالرد، إلا أن الضيفة همست وهي تشير للسراي موجهة حديثها لبهجت في عتب رقيق، وبعربية مهزوزة الأحرف قليلا: فين بابا وماما يا بهجت!.. وحشوني كتير..
ربت بهجت على ظاهر كفها الذي يضمه لكفه مطمئنا إياها: حالا.. تعالي معايا..
سار بهجت بخطاه الوئيدة نحو الدرج ساحبا الضيفة خلفه وحبيب في أثرهما لداخل السراي.. توقفا أمام باب حجرة صفية لبرهة حتى تأذن لهما بالدخول.. ليدفع بهجت الباب في هوادة.. متخطيا الاعتاب..
تطلعت صفية للقادم وما أن أدركت ظهور بهجت حتى أشرق وجهها بضياء من سعادة وبشر، وهي تأذن له بالدخول في لهفة: بهچت!.. اتفضل أدخل.. حمدالله بالسلامة..
هتف بهجت موضحا: أنا مش هتفضل لوحدي.. معايا حد عزيز عليكي.. كان نفسك تشوفيه من زمان..
تعجبت صفية: حد عزيز! يتفضل.. طالما معاك يبجى مچايب الخير..
دخل بهجت الغرفة بصحبة رفيقته، التي ما أن هلت قبالة صفية حتى نهضت في تثاقل تقترب منهما في خطوات وئيدة، وما أن مدت كفها تتلمس ملامح الضيفة التي وقفت صامتة بأعين متسائلة مبهمة النظرة، حتى همست في شك: وداد!.. أعقب ذلك صرخة ثقة، وهي تهتف في ذهول جاذبة أختها لصدرها، تضمها بين ذراعيها: وداد!.. أنا صفية يا وداد!.. أني أختك يا حبيبتي.. اتوحشتك يا حبة عيني.. كنتي فين!.. مالك!..
كان حبيب يقف على الباب لا يصدق أن من كانت بصحبة جده بهجت هذه، هي جدته وداد.. صغيرة ومدللة آل رسلان.. والاكثر شبها بعد أنس الوجود بالجدة الكبرى البرنسيسة أنس الوجود كاظم أوغلو.. أين ذهب ذاك الجمال!.. ولم بهتت ملامحها ونُزعت سمات جمالها بهذه القسوة!..
لم تحرك وداد ساكنا لهذه الحفاوة التي استقبلتها بها أختها.. عينيها كانت ترتكز على نقطة ما خلف صفية، تركتها وسارت نحوها في ثبات.. حتى توقفت قبالة صورة فوتوغرافية حملتها بين كفيها من موضعها على الطاولة الملاصقة للفراش.. اطالت النظر فيها.. وصفية لا تعلم ما يجري.. ما دفع بهجت ليقترب منها مطمئنا: هفهمك كل حاجة يا صفية.. اطمني.. الحمد لله إنها بخير..
هزت صفية رأسها في عدم اقتناع، وعيناها ما تزال مركزة على موضع وداد التي هتفت أخيرا من بعد صمت، وكأنها تستحلب الذكريات المشوشة بعقلها، مشيرة لمن هم بالصورة الفوتوغرافية: بابا وماما.. وصفية.. هم فين!..
أشارت صفية لنفسها بصوت متحشرج: أنا صفية يا عين أختك.. أنا صفية يا وداد، مش عرفاني!
اقتربت وداد وهي ما تزال تمسك بالصورة تجيل بناظرها ما بينها وبين صفية التي تقف أمامها وكأنها تنتظر حكما بالبراءة في جريمة لم ترتكبها، حتى هتفت وداد أخيرا في هوادة وكأنها اقتنعت أخيرا بصدق ادعاء صفية، ملقية نفسها على صدرها باكية في وداعة، هامسة باسمها: صفية!.. رحتي فين وفتيني!..
طوقت صفية أختها الصغرى بذراعيها في شوق هاتفة في شهقة وجع: لا عشت ولا كنت يا خيتي.. مش هفوتك أبدا.. أبدا يا وداد..
متوجهة بحديثها نحو بهجت متسائلة: وداد ايه فيها يا بهچت جوللي!..
أشار بهجت لها بأنه سيفعل.. لكن ما أن تهدأ وداد وتطمئن للمكان والناس.. وقد كان فما مرت ساعة حتى وكانت وداد تنام في وداعة طفل رضيع بقلب فراش صفية التي ظلت تحتضنها حتى راحت في سبات عميق..
تسللت صفية في هوادة نحو الخارج للبحث عن بهجت، كان ينتظرها ببهو السراي يشرب كوبا من الشاي صنعه حبيب محاولا فهم حالة الجدة وداد.. والتي سألت عنها صفية لتوها، وهي تجلس قبالة بهجت مأخوذة مما يحدث: ايه فيها وداد!.. كنها اتبدلت يا بهچت!..
هز بهجت رأسه مؤكدا قولها، مفسرا في هوادة: اللي شافته مكنش قليل يا صفية.. وده عملها اضطراب وتشوش في الذاكرة اللي بيقولوا عليه ألزهايمر..
هتفت صفية في تعجب: ايه ده!.. ليه!.. ايه چرا لها!..
شرح بهجت موضحا: وداد عاشت حياتها مع فاضل على أحسن ما يكون.. عاشوا حياة جميلة مع بعض.. وطبعا انتي عارفة إن فاضل كان له ابن من زوجة سابقة قبل وداد.. اول ما فاضل اتوفى بدأ يعمل مشاكل كتير معاها على الميراث والكلام ده.. مع إن كل حاجة كانت محسومة ومحسوبة بس الولد ده للأسف وعلى الرغم من إن وداد كانت بتعامله كويس كأنه ابنها لكن واضح إن نيته كانت غير كده.. وخد باله إن وجود وداد لوحدها وصدمة فراق فاضل أثر على جوانب من الذاكرة فبقت تنسى وهو استغل ده وقدر يقنعها بدخول دار مسنين ويبيع البيت.. بيت وداد بأوراق رسمية يعني مش حقه.. بس هو استغل حالتها الصحية المش مظبوطة وخد البيت وحطها في دار المسنين اللي اهتموا لحد ما بالحالة عشان متدهورش.. طبعا أنا لما سألتك عن وداد وجبتيلي آخر جواب كان بينكم بمعارفي واتصالاتي قدرت اوصل لكل الحقايق اللي حكتهالك دي..
همست صفية في حزن: يا حبيبتي ياختي.. كل ده چرا لها يا بهچت وأني مش دريانة!.
همس بهجت معاتبا: متلوميش نفسك يا صفية.. يغني كنتي هتعملي ايه!.. الموضوع مكنش سهل عشان أعرف اوصلهم واقنعهم إنها تسافر معايا طبعا مع دفع مبالغ محترمة عشان خايفين من المساءلة القانونية لو حد اكتشف اختفاءها.. بس الدكاترة قالوا لي كويس إنها تبقى وسط ناس بتحبها وتفتكر معاهم ذكريات حلوة ويقدروا كمان بكلامهم معاها ينشطوا ذاكرتها.. وتبدأ تفتكر بعض الأمور زي ما افتكرتك من الصور يا صفية..
أكدت صفية في لهفة: أني مش هسبها أبدا.. هخليني على طول چنبها.. المهم تبجى بخير..
أكد بهجت في وداعة: هتبقى بخير طول ما هي تحت رعايتك يا صفية..
همست صفية في نبرة ممتنة: والله ما عارفة اجولك ايه يا بهچت!.. ولا اتشكر لك كيف! مش بس على وداد.. لكن على كل حاچة مديت يدك فيها وما لجينا من وراها إلا كل خير وسعادة.. ربنا يخليك ليا..
هتف بهجت مازحا: قال صحيح كنتي بتعدي الأيام ف بعادي.. ومنتظرة رجوعي بفارغ الصبر!..
همت صفية بالإجابة وقد زمت ما بين حاجبيها عبوسا، لينفجر بهجت ضاحكا، هاتفا يقاطع اعتراضاتها: قولي ايوه.. مرة بس.. مرة قولي إني وحشتك ولو حتى بالكدب..
همست صفية باسمة في حياء ابنة الثامنة عشرة: بس هو مكنش كدب يا بهچت..
تطلع بهجت نحوها في ذهول، لتستطرد صفية مؤكدة: ايوه مكنش كدب.. اتوحشتك مجدرش أنكر.. بعدك الأيام اللي فاتت دي خلاني أعرف إن معدش ينفع يا بهچت..
هتف بهجت مضطربا: معدش ينفع ايه يا صفية!.. حرام عليكي.. ده أنا قلت إنك..
قاطعته صفية باسمة: ايوه معدش ينفع تعيش بعيد عن السرايا دي.. ولا بعيد عن أحفادك.. ولا عني..
هتف بهجت في فرحة عارمة: صحيح يا صفية!.. إنتي متأكدة!.. يعني إنتي موافقة!..
هزت صفية رأسها في إيجاب.. وبهجت من شدة فرحته بموافقتها ما عاد يرغب بشيء آخر بدنياه..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
وكأنما عادت الأيام الخوالي بكل بهائها ورونقها الراقي.. تزينت الرسلانية وكل درب فيها بالزينات والرايات واللمبات الملونة.. فلم يكن اليوم يوما عاديا.. بل يوم استنائي في أيام الرسلانية التي كانت تمر باعتياد ورتابة دون جديد يستحق الذكر..
زفافين لا زفاف واحد.. وكأن سراي رسلان لا تقبل بالفرح إلا مضاعفا كما كان الحزن في لياليها مضاعفا..
كانت (الحرجة) كما تسمى تلك الساحة الكبرى بقلب الرسلانية عامرة بكل فرد فيها وقد جاء للمشاركة في نحر البهائم وتوزيعها وطهيها في السراي استعداد للوليمة الكبيرة التي ستقام مساءً بعد عقد القران..
لم تكن الرسلانية وحدها التي لبست رداء الفرح هذه الليلة.. بل جارتها التي طال زمان بعادهما وانفصالهما.. عرابة آل الحفني.. لم يكن الأمر هناك بأقل منه حماسا وتجهيزا.. فقد كانت فرحة صبري الحفناوي لا توصف وهو يأمر الشباب هنا وهناك فيما يخص تجهيزات عرس ولده الوحيد.. وخاصة بعد أن عمل على إصلاح الدار وتجهيزها بكل ما يلزم من وسائل الراحة والرفاهية التي عدمتها لسنوات طوال.. ولتصبح موضعا يليق بمقام ولده حضرة الضابط وعروسه الرسلانية ابنة العز .. شبيهة عمتها.. حبيبة الروح.. التي كان يتمنى منذ سنوات طويلة خلت لو فرش لها الطريق من بوابة سراي الرسلانية حتى دارهم هذا بالزهور والحناء وماء الورد.. لكن قدر الله كان نافذا.. والنصيب كان له رأيا مغايرا تماما.. لكنه يفعل الليلة ما تمنى لعروسه عوضا بعروس ولده.. وأصبح الطريق من مخرج الرسلانية حتى مدخل العرابة مزينا وبراقا لاستقبال العروس وموكبها المهيب..
انتصف النهار ووصل الضيوف من القاهرة.. جمال وهاجر بصحبة ممدوح ومريم ودرية.. وفتحت غرف السراي التي كانت مغلقة منذ زمن بعيد لتستقبل كل الأحباب من جديد.. عادت الشمس تتسلل لأركانها.. والهواء النقي ينتشر في أرجائها..
وكأنما استعادت السراي عصرها الذهبي.. عصر سعد باشا رسلان وزوجته البرنسيسة أنس الوجود.
لم تتوقف أهازيج الفرحة وأغاني الفرح منذ الصباح الباكر.. حين خرجت العروستان منيرة وأنس الوجود حيث ستتم تجهيزات الزينة بصالون التجميل .. لتشيعهما نبيهة بوابل من الزغاريد والرقص وأغاني الفرحة المعتادة في مثل هذه المناسبات.. لتبدأ نبيهة بزعامة كل النسوة اللاتي بدأن في الحضور لتجهيز الطعام والحلوى للمحتفلين مساءً.. وبدأت في الطبل والغناء ترقص في كل دائرة من دوائر النسوة المعاملات بجد في تحضير الأطعمة والمأكولات.. ساء ذلك شبل لسبب غير مفهوم.. فناداها من بين النساء على استحياء، تقدمت نحوه متسائلة في عدم اكتراث: ايه في يا شبل!.. مش فاضيين!..
هتف شبل حانقا: مش فاضيين ل ايه!.. للرجص وهو الوسط.. ما تخفي شوية يا بت.. عيب كده..
تطلعت نبيهة في تعجب نحوه، هاتفة في لا مبالاة: وأنت ايه دخلك أنت!.. ما ارجص كيف ما يعچبني.. لهو أنت ابويا ولا اخويا.. عشان تجولي بلاش.. ولا تكون چوزي ولك حكم عليا.. وأني معرفش!..
هتف شبل في غيظ: بجولك ايه يا بت.. انتي تسمعي الكلام من سكات. خفي رجص ومسخرة.. أني بجولك اهو.. احسن وعهد الله.. اكسر راسك..
هتفت نبيهة حانقة: راس مين دي اللي تكسرها!.. لهي بصلة.. لا بجولك ايه يا شبل أنت.. أنت مليكش ت..
هتف شبل معترفا: لاه ليا ونص.. أني هطلب يدك من حبيب بيه.. أني رايدك ومش راح افوتك تروحي من يدي..
بحلقت نبيهة في صدمة نحو شبل الذي تطلع نحوها بابتسامة عريضة لم تكن من طبعه ظهورها على ذاك الوجه الخشن الملامح، هاتفة بعد أن استعادت السيطرة على أعصابها المبعثرة: جول والنعمة.. هتخطبني يا شبل!.. هنتچوز!..
لم تنتظر رده من الأساس، بل اندفعت صوب دائرة النسوة الأقرب تتقافز في فرحة وتتحنجل في نشوة صارخة في النساء بعزمها: زغرتي يا مرا منك لها.. ده باين الفرحين هيبجو تلاتة.. والله وچاكي عدلك يا نبيهة وهتتكبي ف كادر المتچوزين يا بت.. زغرتوا يا نسوان..
تطلع شبل لجنون نبيهة لا يصدق أفعالها لكنه وعلى الرغم من ذلك كان منتشيا.. لا يذكر أنه شعر بهذه الفرحة التي تغمر دواخله منذ سنوات طوال..
لكنه وعلى الرغم من ذلك مد كفه نحو تلك المجنونة جاذبا إياها معاتبا: أني مش جلت بلاها رجص.. كده بجي رجص وچنان..
قهقهت نبيهة ضاربة إياه على كتفه في دلال: ايه في يا شبل!.. فرحانة..
سأل شبل في فرحة مكافئة: يعني إنتي موافجة يا بت!..
اومأت نبيهة برأسها في إيجاب، ليستطرد شبل متسائلا: طب والعربس اللي چاي!..
أكدت نبيهة في عجالة: منيش ريداه.. أني ريداك أنت..
انتفخت اوداج شبل في سعادة منقطعة النظر، وما أن هم بتركها تعود للنسوة، إلا وأكد في نبرة صارمة: بس بلاها رجص يا بت..
استعطفته نبيهة بنظرة بريئة: هرجص بالراحة.. شالله يخليك.. هاااا.. وافج بجى عشان ادعيلك.. ربنا ينفخ في صورتك من شبل تبجى سبع..
قهقه شبل على مزاحها، موافقا.. تاركا إياها تمارس طقوس سعادتها البريئة عائدا للبوابة ومساعدا في تحضيرات الرجال.. تعلو البسمات وجهه لأفعال نبيهة وسط النسوة كلما تحين الفرص للقرب من موضع تجمع النساء حتى يبصرها من موضعه قبل أن يعاود تنفيذ ما وُكل إليه من أعمال..
هلت المغارب ولم ينقطع الطبل والمزمار من أجواء الرسلانية.. ليظهر حبيب قادما من حجرته في كامل هندامه.. لتعلو زغاريد النسوة من هنا وهناك احتفاء بالعريس الأول بهذه الليلة الميمونة..
ليطل بهجت من حجرته التي تم تجهيزها لأجله هاتفا في سعادة وهو يربت على كتف حبيب في مودة متطلعا لجلبابه الأنيق وعباءته الثمينة وعمامته الناصعة البياض: ايه يا ولد الشياكة دي.. فارس بصحيح.. هااا.. ايه الترتيب دلوقت!..
ابتسم حبيب موضحا: هنستنو وصول منيرة.. وعريسها وأبوه عشان نعجدو عليهم هنا.. وياخدها ويروحو ع العرابة يكملوا فرحتهم وسط اهله هناك.. ونشوفو إحنا حالنا بجى يا چدي..
قهقه بهجت في سعادة، وما أن هم بالحديث إلا وعلت الهتافات والتبريكات من كل حدب وصوب معلنة وصول سراج وأبيه وبعض من الأقارب والأصدقاء.. ثم في أعقابهم وصل الشيخ معتوق لترتفع الزغاريد مجددا.. وأخيرا كان مسك الختام وصول العروس في عربة الجد بهجت الفارهة التي أصر أن تكون تحت تصرف العروستين في الذهاب والآياب من السراي لصالون التجميل والعودة..
اندفع حبيب يستقبل أخته في فرحة مصاحبا لها وسط الزغاريد والرقص إلى داخل السراي متسائلا في تعجب: هي انس مچتش معاكي ليه!..
أكدت منيرة باسمة: كان لسه قدامها شوية فقالت لي روحي إنتي وابعت لها العربية تجبها..
هز حبيب رأسه متفهما، تاركا أخته داخل السراي لتستقبلها النساء اللائي اجتمعن في بهو السراي الواسع.. متحلقات حول موضع جلوس الجدة صفية وجوارها كانت وداد التي جذبت أنظار الجميع واخذن في التهامس عن حكايتها وكيفية عودتها ومدى التصاقها بصفية كطفلتها.. وجوارهما ظهرت برلنتي في كامل زينتها وأناقتها.. لتنهض صفية في سعادة تستقبل العروس الأولى الليلة.. تضعها لتجلس في صدر المجلس والطبل والمزمار يصدح هنا وهناك مع ضرب الدفوف..
لم يمر أكثر من نصف الساعة حتى علت الزغاريد المدوية وطارت الأعيرة النارية في سماء الرسلانية متتابعة دلالة الفرحة باتمام عقد القران..
دقائق وقرر العريس وأهله النهوض للحاق بالفرح المنتظر بالعرابة.. نهض حبيب مؤكدا على أعتاب السراي أن العريس راغبا في اصطحاب عروسه.. ارتفعت المباركات والسلامات والقبلات لتوديع العروس.. ضمت الجدة صفية منيرة في محبة غامرة، هامسة لها: ألف مبروك يا بتي.. تعيشي وتتهني في محبته وخيره.. وحطيها حلجة ف ودانك.. حضننا مفتوح لك ولعيالك.. ودينا يا منيرة مهما بعدتي وغربتك الدنيا..
ضمتها منيرة في محبة خالصة، هامسة بصوت متحشرج: حاضر يا ستي.. ربنا ما يحرمني منكم..
دفعتها صفية بعيدا عن أحضانها في رفق مودعة، ليتسلمها حبيب متطلعا نحوها في محبة اخ أكبر تولى تربية صغيرته حتى صارت عروسا حسناء يوصلها الليلة لبيت عريسها، لم ينطق حرفا لكن نظرته كانت أبلغ من أي كلام.. لثم جبين منيرة في ود قبل أن يصحبها للخارج نحو موضع انتظار سراج الذي سلمه حبيب قيادة أخته هاتفا في نبرة متحشرجة: منيرة أمانة يا سراچ..
همس سراج في ثقة وهو يتسلم كف منيرة مؤكدا: برجبتي.. معززة مكرمة يا واد خالي..
اصطحب سراج بصحبة منيرة والزغاريد والطبل والمزمار يحوطهما حتى باب سيارته التي كانت بانتظاره بالخارج ليسير موكب العروس في فرحة صاخبة نحو الدرب المفضي لمدخل عرابة آل الحفني..
لحظات وجاء شبل مهرولا صوب حبيب مؤكدا: عربية العروسة وصلت يا حبيب بيه على مدخل الرسلانية..
اومأ حبيب متفهما.. مندفعا نحو فرسه الذي اعتلاه بقفزة محترفة مهرولا نحو مدخل الرسلانية ليستقبل عربة العروس وموكبها بصحبة فرقة متكاملة من الطبل والمزمار.. لتبدأ فقرة استقبالها ما أن ظهرت العربة قادمة نحو الطريق المؤدي في آخره لبوابة السراي..
تطلعت أنس الوجود من نافذة سيارتها لتجد حبيب في انتظارها فوق فرسه وسط هذه الصخب الجميل الذي جاءها وكأنه همس من بعيد وهي مأخوذة كليا بذاك الرجل الذي يتمايل على فرسه أمام سيارتها أشبه بالفرسان من زمن العشق.. رجلها.. أجمل أقدارها.. وصاحب أيامها ولياليها منذ الليلة وكل ليلة قادمة في عمرهما المشترك..
وصلت السيارة أخيرا قبالة بوابة السراي ليكون الجد بهجت في استقبال العروس وموكبها..
انتظر ترجلها في هوادة واصطحبها للداخل لتستقبلها النساء داخل السراي.. لتبدأ مراسم عقد القران ما أن ترجل حبيب من على صهوة فرسه مندفعا نحو السراي..
جلس حبيب قبالة بهجت يتوسط مجلسهما الشيخ معتوق، ليمازح بهجت حببب هاتفا: ايه رأيك يا شيخ معتوق!.. الولد حبيب ده يليق ببنتنا أنس الوجود!. نجوزهاله يعني، ولا نفكر شوية!..
قهقه الشيخ معتوق وهم بالحديث مدافعا عن حبيب إلا أنه هتف مشاكسا: يا چدي! سلم واستلم.. تكتب كتابي على أنس.. أكتب كتابك على ستي صفية.. كده بجى خالصين..
قهقه الشيخ معتوق وكذا بهجت الذي هتف في امتعاض مصطنع: ده أنت طلعت مش سهل يا حبيب.. وأنا اللي فاكرك طيب!..
أكد حبيب مشاكسا من جديد: والله طيب وابن حلال بس إلا ف دي.. تطير فيها رجاب.. ده أني ما صدجت..
اتسعت ابتسامة بهجت ومد كفه نحو حبيب محتضنا كفه الذي مده في عزم، ليضعا معا يد الشيخ معتوق فوق اكفهما المتعانقة، ليهتف في سعادة: على بركة الله..
انتهت الصيغة الأولى.. وعقد القران ليتم حبيب عقد قران جدته وبهجت مباشرة.. لترتفع الزغاريد مجددا وتدوي الطلقات النارية في سماء الرسلانية الصافية.. فرحا وابتهاجا.. وتبدأ مراسم الفرح..
وتمد الطبالي وتوزع صواني الطعام والحلوى داخل السراي وخارجها على طول الطريق وعرضه.. ليأكل غني الرسلانية وفقيرها على حد سواء..
امتلأت البطون وعاود الفرح نشر أهازيجه بكل تفاصيلها خارج السراي وداخلها..
بدأت وصلة التحطيب ما بين حبيب وكل أصحابه مدثر وسرور وشباب الرسلانية كلها.. حتى أن بهجت نفسه رغب في المشاركة متحديا حبيب الذي خسر أمامه متقبلا ليهلل الجميع في سعادة..
قفز حبيب فوق فرسه وبدأ في التمايل على إيقاع المزمار.. طلب بهجت الرقص فوق الفرس بدوره.. ليترجل حبيب من على فرسه ليقوم بهجت بهذه التجربة الفريدة.. لكن ما أن هم بالصعود للفرس حتى انطلقت تلك الرصاصة من موضع ليس بالقريب من سطح أحد الدور التي تجاور السراي..
لترتفع أهة قوية شقت صخب الفرح الذي تحول في لحظة لفوضى حين سقط بهجت بين ذراعي شبل الخفير..
كانت لحظات من رعب أسود.. حين ظن الجميع أن الرصاصة التي أصيب مطلقها بفعل عدد من الحراس الذين كان الجد بهجت قد وضعهم على بعض الأسطح وسطح السراي بالأخص دون أن يُعلم أحدا حتى لا يثير القلق وسط أجواء الفرح.. قد أصابت بهجت بالفعل وخاصة حين سقط من على صهوة الفرس الذي كان في سبيله لاعتلائه.. لكن الحقيقة أن الرصاصة أصابت شبل الخفير.. الذي تنبه بقدرة اكتسبها منذ زمن أن هناك خطر قادم على وشك الوقوع.. ما دفعه ليلتصق ببهجت حين قرر الصعود لصهوة الفرس كما وصاه حبيب.. بألا يترك جده بهجت يغيب عن ناظريه لبرهة.. وأن يظل ملاصقا له كجلده.. اندفع الجميع نحو جسد بهجت الذي كان محميا بجسد شبل الضخم مطوقا إياه متوجعا.. ظهر سرور من بين الجمع نحو شبل وبهجت.. ليمد حبيب يده نحو بهجت يساعده على النهوض مطمئنا أنه بخبر بينما فحص سرور جرح شبل مؤكدا أنه جرح سطحي مجرد خدش بالذراع..
نهض شبل مع سرور نحو غرفته قرب البوابة لمعالجة جرحه.. وتأكد حبيب أن الأمور على ما يرام.. ليأمر الجميع بمعاودة الاحتفال.. وكأن شيئا لم يكن..
اندفعت نبيهة نحو غرفة شبل في نفس اللحظة التي أنهى فيها سرور عمله وغادر.. لتهتف نبيهة في صدمة مولولة: أنت بخير يا شبل!.. يا شندلتي على چرا لك يا سبعي..
هتف شبل يخرسها: ايه يا بت.. هو أني مت.. ما أني بخير جدامك اهااا.. ده خربوش..
هتفت نبيهة تطمئن: يعني أنت كويس صح!..
أكد شبل: ايوه.. أني زي الفل..
ظهر بهجت على أعتاب الغرفة فانتفض كلاهما لحضوره احتراما، ليهتف بهجت في امتنان: متشكر لوجودك يا شبل.. أنت غفير ممتاز.. لك مكافأة كبيرة مني على شطارتك.. وكمان.. هعينك الحارس الخصوصي بتاعي بمرتب محترم.. إيه رأيك!..
ساد الصمت لبرهة وشبل لا يصدق ما يجري، حتى هتف في عجالة: ده كرم كبير منك يا بيه.. ربنا يعزك ويطول لنا ف عمرك..
هتف بهجت باسما: وكمان لك هدية جواز.. مش البنت نبيهة العروسة برضو!..
أكدت نبيهة في عجالة: ايوه يا بيه.. أني العروسة..
زغرها شبل لتصمت ولا تكثر من الحديث لتبتلع لسانها بالفعل مع ضحكات بهجت على أفعالها.. قبل أن ينصرف تاركا اياهما..
ليهتف شبل متسائلا في تخابث: بس إنتي خفتي عليا صحيح يا بت!..
أكدت نبيهة في لهفة: يا لهوي.. ده أني جلبي كان هيوجف لما جالو إنك انصبت..
انفرجت اسارير شبل في سعادة، لتهتف نبيهة في عجالة: ايوه اومال ايه!.. هو كل يوم الواحدة هتلاجي لها عريس..
شعر شبل بالصدمة لاعترافها، فهتف فيها بكل هدوء: نبيهة!.. غوري من جدامي بدل ما أفرغ فيكي رصاص سلاحي..
هتفت نبيهة مازحة: ايه.. متبجاش حمجي كده.. أني كنت بضحك معاك.. هااا.. جولي بجى هتچيب لي ايه في چهازي.. أني عايزة اوضة نوم مدهبة.. وبياض الاوضة يبجى بمبا مسخس.. اديني بجولك اهو..
هتف شبل في حنق: ده أني اللي هسخس منك يا بعيدة.. جومي.. ولا اجوم أني..
اندفع شبل لخارج الغرفة لتندفع نبيهة خلفه تناديه مستعطفة: طب خلاص.. ارچع ارتاح.. وبلاها بمبا مسخس.. نخليها بمبا بس.. يا سبعي.. ارچع بس ونتفاهم.. تجاهلا شبل هاربا بين الرجال وهو يضحك على أفعالها بينما اندفعت هي نحو السراي تنضم لتجمع النساء..
❈-❈-❈
عرابة آل الحفني ١٩٩٣..
أمر صبري ولده باصطحاب عروسه وترك ما بقى من مراسم احتفال.. نهض سراج مصطحبا منيرة نحو سيارته محاطين بالمزيد من الزغاريد وطرقات الدفوف والكثير من التهاني والتبريكات حتى صعدا السيارة راحلين..
دخلا الفندق مع الكثير من المباركات.. دق جرس الاستقبال وسراج ينهي بعض المعاملات ليخبره موظف الاستقبال أن الوالد يطمئن على سلامة وصولهما.. رد سراج مؤكدا أنها بخير قبل أن يصطحب عروسه لجناحهما الوردي..
دخلت منيرة واغلق سراج الباب واضعا الحقائب جانبا.. هاتفا في محاولة لترطيب الأجواء قليلا خاصة وأنها كانت تبكي في هوادة طوال الطريق للفندق: بابا كان بيطمن إننا وصلنا للفندق بخير.. أنا مش عارف هو اصر ليه اننا نقضي أول كام يوم هنا مش ف العرابة..
اقترب في خطوات ثابتة، متوقفا قبالتها: يمكن كان فاكر ان ده اريح لك!..
همست منيرة باسمة في اضطراب: ربنا يخليه.. عمي صبري كله زوج.. وكل اللي بيعمله الجصد منه يريحنا..
دنا سراج منها متطلعا بعمق عينيها: وأنا امتى هرتاح يا منيرة!..
اضطربت منيرة وهمت بالابتعاد، لكن سراج أمسك بذراعها مانعا إياها من الابتعاد، هامسا في نبرة محبة: متبعديش يا منيرة.. أنا مصدجت جربنا.. منيرة!.. بحبك..
تسمرت نظرات منيرة على قسمات وجه سراج التي كانت تنضح صدقا، مستطردا في وجل: ايوه بحبك.. يمكن من أول مرة اطلعتيلي فيها بعيونك دي وأني بلحجك من الحرامي ف إسكندرية.. فاكرة!..
هزت منيرة رأسها مؤكدة وهي مأخوذة كليا باعترافه، ليستكمل سراج في ثبات: خدتي جلبي مني وأنا مش دريان.. عشان تدور الأيام وألجى روحي ف بلدكم.. مرة بلحج حبيب من رصاصة غدر.. ومرة اصحى بعد إصابة شديدة من مطاريد الچبل عشان أشوف طيفك وانتي بتحطيلي الشال اللي سبته معاكي.. طيفك كان ملازمني وملاحجني فين ما أروح.. حاسس إني هشوفك تاني.. فين وازاي معرفش.. لحد ما عرفت إنك أخت حبيب.. كنت بمر مرة ورا مرة چنب السرايا اجول يمكن تعدي ولا تخرچ ولا حتى ألمح طيفها من شباك اوضتها.. عشت أيام وليالي اجول هشوفك ميتا.. وكل ما اجول اتجدم لحبيب اطلب يدك.. تحصل حاچة.. لحد ما ربنا أذن.. وبجينا لبعض.. وبعد ده كله عايزة تبعدي تروحي على فين..
طوقها سراج بين ذراعيه، لتشهق منيرة في خجل، ليضمها سراج لصدره هامسا: مكانك هنا يا منيرة.. بين درعاتي.. اوعي تبعدي تاني.. أبدا..
تطلعت منيرة نحو سراج في تيه وجل، لا تقدر على الافصاح عن مكنونات قلبها تجاهه، فقد عُقد لسانها من روعة اعترافاته، لكنها استكانت بين ذراعيه في وداعة، مدركة أخيرا أنها وجدت ضالة قلبها.. وواحة أمانها..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٣..
ارتفعت الزغاريد معلنة رغبة العريس في اصطحابه عروسه لعشهما السعيد.. فقد أوشك الليل على الانتصاف تقريبا.. دخل حبيب لقلب السراي.. يسبقه بهجت في سعادة بالغة.. مادا كفه نحو أنس الوجود التي وضعت كفها بكف جدها في اضطراب لتنهض بصحبته مع ارتفاع وتيرة الزغاريد تسير حيث ينتظر حبيب على مطلع الدرج المفضي للطابق العلوي.. ليضع بهجت يد أنس الوجود المرتجفة اضطرابا بكف حبيب الممدودة شوقا.. حتى إذا ما احتضن كفها.. دنا منها حاملا إياها بغتة.. لتشهق أنس الوجود في حياء بينما ارتفعت قهقهات بهجت مستحسنة وكذا زغاريد صفية مصحوبة بدموع برلنتي وربتات يد درية صديقتها.. مع هتاف جمال وهاجر الذين عادا لتوهما من توديع منيرة وسراج.. وكذا ممدوح ومريم التي زادت من وتيرة زغاريدها الرفيعة الصوت الأشبه بسرينة النجدة.. التي أثارت ضحكات النساء لتدعي مريم كذبا أنها زغرودة اسكندراني خاصة لا تجيدها إلا الصفوة..
وصل حبيب حاملا عروسه لحجرتهما التي كانت يوما ما جناح جده الأكبر سعد باشا وزوجته البرنسيسة.. التي كان بابها منفرجا على مصراعيه..
دخل حبيب وعروسه بين ذراعيه وما أن أصبح بقلب الغرفة، أنزل أنس الوجود في رقة معاودا التوجه نحو الباب ليغلقه بالاقفال في إحكام..
همست أنس الوجود باسمة: ليه بتقفل الباب جامد كده، أنت ناوي تحبسنا هنا العمر كله ولا ايه!..
عاد حبيب في خطوات ثابتة نحو موضع أنس الوجود التي اخفضت نظراتها خجلا أمام نظراته المتفرسة في قسمات وجهها البهي، ليرفع حبيب ذقتها بطرف أصابعه متطلعا لعمق عينيها هامسا: العيون دي ليا تار بايت معاهم..
اضطربت نظرات أنس الوجود لا تعي ما يقصد وهي هائمة بعمق عينيه الفحمية النظرة، ليستطرد موضحا في نبرة تقطر وجدا: ياما سهرتتي ليالي وهي معنداني.. تروح صاحبتها وتغيب.. وتفضل هي جصاد عيني كنها موصوفالي..
همست أنس الوجود في وجل: حبيب!..
همس حبيب بدوره، وهو يدنو منها في شوق، مادا كفيه محتضنا خصرها في تملك: جولي يا اللي دوبتي حبيب..
همست أنس الوجود وألق الدمع يترقرق بعينيها العاشقتين لطلته، معترفة بكل صدق: بحبك..
أحكم حبيب كفيه حول خصرها، مدنيها لأضلعه، هامسا في عشق فاضح: واااه يا خلج.. يا تطمينة الجلب الراچف ورعشة الجلب العشمان.. والله ف بعادك ما انحسب العمر باليوم والساعة .. ده انحسب برجفة كل وچع طال روحي.. أني عاشج يا أنس.. عشجت راحة روحي فجربك.. دوجيني من شهد محبتك.. متحرمنيش أبدا من أنس جلبي ف وچودك..
ضمها أكثر، حتى زرعت قلبها جوار قلبه، ليهنأ أخيرا بقرب الحبيب الذي زاد الشوق حد اللامعقول لوصاله..
ومع ذاك السكون الذي بدأ يسدل استاره بعد أن انفض السامر بالأسفل.. تلاقت أرواحهما بعد طول شتات.. وعلى صوت جرامفون الجدة صفية والجد بهجت.. صدح صوت أم كلثوم في سعادة..
أنت عمري.. اللي ابتدا بنورك صباحه..
فتكاملت أهازيج المحبة وترانيم الأنس..
يتبع..
الخاتمة الثلاثاء بإذن الله تعالى..
