-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 4 - 4 - الجمعة 13/12/2024

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الرابع

4

تم النشر الجمعة

13/12/2024


أطلقت الخادمة واحدة من تلك الزغاريد الرنانة ما أن شاهدت المزين يفتح باب القاعة، التي كان العريس قد استقر بها لإصلاح هندامه، وضبط مظهره قبل الإسراع نحو بيت العروس لعقد القران.. 

هتف المزين في فخر: حاچة آخر ألاجه يا سي عزت! تليج بواد عمدتنا على حج ربنا.. 

نهض عزت  من موضعه على كرسي الحلاقة العالي نسبيا، والذي اختاره من بين كراسي القاعة ليفي بالغرض، وسار نحو المرآة التي كانت قد تركها مسندة على أحد الآرائك، ووقف يتطلع لمحياه في خيلاء، ماسحا بباطن كفه على رأسه التي قصر المزين شعره قليلا، وكذلك ذقنه الحليقة التي أصبحت أنعم كثيرا عن ذي قبل، مد كفه نحو زجاجة العطر ونثر منها ببزخ على كتفيه وصدره، ثم أخيرا صب بعضها على إحدى كفيه وبدأ في دعك الكفين معا قبل أن يطبطب برفق على جانبي صدغيه، ليشعر بانتشاء يخالطه بعض الألم الطفيف الذي جعل أهة خافتة تخرج من بين شفتيه، هاتفا في استحسان للمزين: تسلم يدك يا صابر.. 

هتف صابر في انتظار أجرته وما قد يزيد عليها إكراما لهذه الليلة المباركة: ربنا يتمم لك على خير يا سيد العرسان.. 

مد عزت كفه لداخل سيالة جلبابه وأخرج ما بداخلها من مال ودفع به لكف صابر، الذي تمنع قليلا مدعيا إن ذاك واجبه وإنه ما كان راغبا في أي مال بالمقابل، يكفيه سعادته في يوم مفترج كهذا، لكنه ما لبث أن أدرك كم المبلغ الموضوع بكفه ومدى عظمه، فصرخ في بهجة عارمة: ألف مبروك يا عزت بيه، ربنا يسعد أيامك ويچعلها چوازة العمر يا رب، وما يحرمنا من كرم چنابك يا رب.. 

لم يرد عزت على هذه المجاملات الكاذبة التي تصل لحد التملق، والتي اعتادها من الجميع حوله طوال حياته منذ أن كان طفلا لا يعي، وحتى أصبح رجلا مدرك لهدف تلك الكلمات المعسولة والغرض من إغراقه بها، فما عاد يلتفت لها على الرغم من سحرها وتغذيتها لشيء ما داخل نفسه.. 

تطلع من جديد للمرآة ملوحا لصابر الذي جمع عدته سريعا، دافعا بها لداخل تلك الحقيبة الصغيرة التي يحملها ما أن يخرج لحلاقة شخصية مرموقة خارج محله المتواضع، الكائن بقلب الباحة الوسطى التي تعد مقرا رئيسيا لسوق النجع، الذي يجتمع فيه القاصي والداني ممن يحمل أي غرض لبيعه أو جاء لشراء بعض حاجياته، والذي يجمع ناس النجع والنجوع المجاورة في يوم الثلاثاء من كل أسبوع.. 

رحل صابر المزين وهو يمطره بالمزيد من كلمات المديح والثناء مع المباركات، مغلقا باب القاعة خلفه تاركا عزت بمفرده لا يصدق أن ما بقى إلا عدة ساعات حتى تصبح حب العمر زوجته وشريكة سنواته القادمة، منيرة.. إنه في انتظار الليلة التي تكون معه تحت سقف غرفة واحدة، حتى يضم كل حلم حلمه منذ وقعت عيناه على محياها، ليكمل روعة تلك الأحلام وتصير واقعا ملموسا.. 

انتفض من خواطره على صوت إنفراج الباب في شدة، ودخول أمه الصاروخي هاتفة في حنق: أنت لساتك باجي ع الچوازة الغبرة دي! 

هتف عزت وهو يزفر في حنق: وااه ياما، ما بجيناه الحديت ده، النهاردة الكتاب.. خلصنا.. 

زعقت سنية أمه في غضب: لاه ما خلصناشي، وأنت وأبوك اللي عايم على عومك، ولسه مطاطي لولاد رسلان ومنسيش أصله، له معاي موال مهبب لو البت دي دخلت الدار.. 

هتف عزت غاضبا: ياما حرام عليكي، النهاردة فرحتي الكبيرة، ده بدل ما تجوليلي مبروك، چاية تنكدي عليا في ليلة زي دي، ده ولدك عريس! هي دي فرحتك بولدك الوحداني.. 

دخلت أخته الصغرى مجيدة، صديقة حبيبته منيرة المقربة ومرسالهما، متطلعة نحو أمها في أسى، هاتفة في محاولة لتهدئة أمهما: أيوه ياما، برضك عزت حبيبك واد عمدة الرسلانية، منفرحش بيه ويبجى الفرحة في دارنا أكبر فرحة عرفتها الرسلانية كلها من يوم ما جامت.. أنتي عاچبك الدار الساكت ده، والكتاب باجي له كام ساعة! حريم النچع يجولوا إيه!..

صرخت سنية في غضب هادر: يجولوا اللي يجولوه، هو من ميتا شوية الحريم دول يفرجوا مع سنية ولا تحطهم ف دماغها، ولو واحدة فيهم فكرت بس تچيب سيرتي على طرف لسانها، هي عارفة إني هجطعهولها.. 

ضاق عزت بذاك الحوار المتكرر، وهذه المعركة التي ما تبدأ حتى تأخذ ساعات حتى تهدأ وتعود الأمور لسابق عهدها.. ثم تعود لتشتعل من جديد، ما أن يجد في تطور هذه العلاقة جديد.. ما دفعه لينفض جلبابه في حسرة مندفعا لخارج القاعة، موفرا على نفسه صداع الرأس الذي قد يعتريه من ندب أمه ورفضها، الذي لم يستطع أي من أخته أو أبيه في إثنائها عنه ولو قليلا.. موفرا طاقته لما هو قادم.. فالساعات القادمة تحمل له الفرح الذي انتظره طويلا، وهو لن يدع مخلوق يعكر عليه صفو باله الليلة.. 

تنبهت مجيدة لمغادرة أخيها، فقد رمقها بنظرات تحمل الكثير من الحزن، جعلها تهتف بأمها في حسرة على حاله: إيه في يا حچة سنية! مالها منيرة بس! ما هي بت زي الجمر، وحسب ونسب، مين في الرسلانية كلها تليج بعزت ولدك كدها.. 

هتفت سنية في غل دفين: أي بت، هو يشاور على أي بت مهما كانت بت مين ولا من فين وأني أچبهاله طايعة مرمية تحت رچليه.. واچوزهاله لو يحب.. إلا دي.. 

تنهدت مجيدة في عجز حقيقي، وهمست بلا وعي: لساتك ياما!.. لسه اللي ف الجلب ف الجلب.. ومجدراش تنسي وتسامحي!

انتفضت سنية كمن لدغته عقربة، متطلعة صوب بنتها في صدمة، هاتفة في صوت جهوري: ايه جصدك من الخبل اللي بتجوليه ده! 

اضطربت مجيدة وهي ترى وجه أمها الذي انقلبت سحنته، وصارت عيناها بلون الدم حنقا، ما دفعها للتهدئة هاتفة بأحرف متقطعة: لاه، مجصدش حاچة، بس يعني.. أني بجول ننسى اللي فات، منيرة ملهاش ذنب ف.. 

قاطعتها سنية وهي تقترب منها، متسائلة بنبرة تحذيرية: ملهاشي ذنب ف ايه!.. 

أشارت مجيدة في محاولة لإنهاء الحوار الذي قد يدفع بهما لطريق لا رجعة منه، مؤكدة في نبرة مضطربة: مفيش ياما، متخديش ف بالك، أني رايحة أشوف يكون عزت لازمه حاچة.. 

همت مجيدة بالهرب من أمام أمها، في محاولة لتجنب آثار ثورتها البادية على محياها، وخاصة بعد كلماتها الأخيرة التي ما توقعت أن يكون لها هذا الأثر المرعب عليها، لكن سنية استوقفتها في حزم: استني عندك!..

توقفت مجيدة وقلبها يدق في قلق، فحال أمها يبعث على الخوف، تحركت سنية حتى توقفت أمام ابنتها، متطلعة لعينيها مباشرة، هامسة وابتسامة حاقدة ترتسم على شفتيها: اوعاكي تكوني مفكرة إنك لما عملتيلي فيها مرسال المحبة بين اخوكي وست الحسن بت الرسلانية، إن ده هيخلي أخوها اللي شايف حاله فوج الكل، يبص ف خلجتك، ولاه يعبرك بنظرة حتى!.  

شهقت مجيدة في صدمة لتصريح أمها، متطلعة صوبها في وجع حقيقي لتعريتها روحها بهذا الشكل القاسي، لتستطرد سنية بلا رحمة: فوجي يا بت العمدة، حبيب رسلان ولا إنتي فباله، ولا شايفك من أساسه.. فوجي.. 

ساد الصمت لبرهة، وأخيرا هرولت مجيدة لخارج القاعة مبتعدة عن محيا أمها ، وقد شعرت أن خنجرا مسموما غُرز حتى نصله بمنتصف صدرها.. وما عاد لها القدرة على التقاط أنفاسها.. 

وصلت لغرفتها لا تعرف كيف كان لها القدرة على ذلك.. بعد هذا التصريح الجارح من أمها، لتسقط أخيرا بأحضان فراشها شاهقة تبكي في وجع حقيقي شمل روحها.. 

❈-❈-❈

تركت كل من نجية وولدها سالم ليدخلا للسراي من بوابتها الأصلية، متعللة أنها ما اكتفت من المسير وحيدة، ولرغبتها في الابتعاد عن رائحة الذبائح الغير معتادة لها، وكذا الصخب الذي يشمل كل جوانب السراي استعداد لعقد القران بعد عدة ساعات.. 

اتخذت الطريق المعاكس، ذاك الطريق الترابي الضيق مارة بالجسر دون أن تعبره، لتصل لبوابة طينية في ركن جانبي متصلة بسور السراي الخلفي، تنبهت لأصوات بالداخل ما جعل الفضول يتآكلها لإدراك ما يحدث خلف هذه البوابة، مدت رأسها قليلا وراعها ما رأت.. 

كان زفراني يزمجر غاضبا، وحبيب يحاول إقناعه في هوادة بخلع ملابسه والجلوس في طشت نحاسي ضخم للاغتسال، كان الاستحمام بالنسبة لزفراني ضرب من عذاب، ما دفعه ليهتف محتجا: لاه، مية سخنة لاه، هنزل فالترعة، زفراني معيزش يتسبح..

حاول حبيب إقناعه في هدوء: زفراني لازما يتسبح، لجل ما يبجى نضيف، بص.. لو اتبعت كلامي واتسبحت، راح اوصيهم فالكتاب تجعد على طبلية لحالك، ويحطوا لك كل اللي نفسك فيه.. 

هتف زفراني في لهفة: فيه زفر! 

قهقه رجب السايس مؤكدا: وهو عشية هيبجى فيه إلا الزفر يا فچعان، ده أنت هتغرج ف الفتيت يا واكل ناسك.. 

لم يكذب زفراني خبرا، دافعا عنه جلبابه القذر، واضعا صفيحته النحاسية ومسبحاته بحرص في أحد أركان الزريبة، بعد أن نال وعد حبيب بالكثبر من قطع اللحم التي يشتهي، جالسا بوسط الطشت في وداعة طفل مطيع، تاركا حبيب يصب عليه الماء الدافىء، بعد أن عادل ذاك الكوز الساخن الذي تناوله من صفيحة معدنية تغلي على كانون بالقرب من موضعهم، ببعض الماء الفاتر، صابا إياه بهوادة على جسد زفراني الذي تململ قليلا في ضجر، لكن الوعد بقطع اللحم جعله يركن إلى الثبات نوعا ما، وحبيب يدعك جسد زفراني بليفة مليئة بالصابون العطر..

               

الصفحة التالية