-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 5 - 4 الجمعة 20/12/2024

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش

 

الفصل الخامس

4

تم النشر الجمعة

20/12/2024

❈-❈-❈

ألقى التحية وسأل مستفسرا: خير يا أستاذة، إيه اللي موجفك هنا لحالك الساعة دي! 

ردت في هدوء: أنا كنت بتكلم مع.. 

تطلعت نحو موضع منيرة فإذا بها قد غادرتها مسرعة نحو الداخل من الباب الخلفي للسراي، تاركة إياها وحيدة معه، ما جعلها تقطع استرسالها في الكلام، مؤكدة: كنت بتمشى شوية.. عندي صداع.. 

همس حافظا ناظره عن التطلع نحوها، يثبته أرضا لموضع ما: معلش، السرايا النهار بطوله طبل وزمر وانتي مش متعودة ع الدوشة دي، بس عوايدنا عاد يا أستاذة.. ربنا يزيد أيام الفرح.. 

أمنت في هدوء: أمين.. 

أشار نحو ركن ما لم تفطن له من قبل.. وهتف داعيا: اتفضلي.. اشربي لك كباية شاي صَعيدي، هدفيكي وتضيع أچدعها صداع.. 

هاتف ما داخلها يدفعها لقبول دعوته اللطيفة، وهاتف آخر ينازعه مؤكدا عليها أن ترفض الدعوة متراجعة صوب غرفتها، وبلا وعي وجدت أن هاتف القبول كان هو الأقدر في التأثير عليها، فوجدت نفسها تسير خلفه صوب تعريشة صغيرة أسفل شجرة الكافور التي كان أصلها وجذورها بالخارج، كائنة بالقرب من الجسر، ومال جذعها قليلا وامتدت اذرعها شرقا وغربا متخطية سور السراي، صانعة ذاك المجلس المحاط بالدفء الذي تجوب بناظريها في أركانه اللحظة.. جلست على أحد الآرائك في تحفظ.. فقد أقنعت نفسها أنها ما جاءت إلى هنا وقبلت دعوته إلا لتحدد معه موعد نهائي لا رجعة فيه، مهما كانت الظروف التي يتحجج بها لتنهي الأمر، وتنل ما جاءت لأجله والعودة لحياتها الطبيعية قبل أن تطأ قدماها هذه البلاد، مغلقة بذلك باب الماضي وكل ما كان به من أحداث، تعلم بها أو تجهلها على حد سواء.. لا فرق سوى حصولها على مبتغاها.. 

توجه في هدوء صوب ركوة النار التي كانت على طرف التعريشة، وبدأ في إشعال النار في بعض حطبها الجاف، حاملا إبريق الشاي الذي اختفى لونه متحولا للأسود المتفحم نتيجة تعرضه للنيران الثائرة من جزوات الحطب التي بدأت تشب في أعماقها النيران، وضع فيه القليل من الماء ليغسل ما بقى بداخله من شاي كان معد مسبقا، واضعا ماء جديد لتحضير غيره، تاركا الأبريق ليغلي على النار في هدوء.. قاطفا بعض من عناقد عنب من التعريشة القريبة نسبيا من موضعهما، غسلها جيدا من طلمبة ماء كانت في أطراف الحديقة بالقرب من غرفة الخبيز، قبل أن يقدم الطبق الشهي واضعا إياه على طاولة قصيرة مقربه لموضع جلوسها، مطالبا في مودة: كلي يا أستاذة، ده شفا.. العنباية دي غرستها يد سعد رسلان بذات نفسه أيام الشوج والغربة، وكل ما نجولوا ماتت، ترچع تطرح أكتر م الأول، دوجي.. 

اطاعت ومدت يدها نحو عنقود صغير حملته بباطن كفها وبدأت في تذوق أولى ثماره، فكانت كما وصف بالضبط، حلاوتها عجيبة كأنها الشهد، جربت مرة ومرة، ومع كل ثمرة صغيرة تمر على فمها تزداد يقينا بما اعتقدته مجرد ادعاء لرجل يعشق كل ما يمت بصلة لأرضه وجذوره.. 

بدأ الماء يصدر صوتا صاخبا بالأبريق، ما دفعه لينهض متوجها نحوه وعلى وجهه ابتسامة غامضة وهو يدرك أنها تقيس مدى صدقه الذي لم تعترف به إلا فعلا، حين استمرت في تناول العنبات من عنقودها واحدة تلو الآخرى في صمت متلذذة، ذاك الصمت الذي قطعه متسائلا: كام ملعجة سكر يا أستاذة! 

تنبهت لسؤاله، فأجابت: معلقة واحدة.. 

نفذ في هدوء، وحمل صينية الشاي المعدنية، وعليها كوبين من الشاي، وضع الصينية حاملة أحد الكويين أمامها على الأريكة التي تجلس عليها جوار طبق العنب الذي حمله من الطاولة للأريكة كذلك ليكون أقرب لكفها، بينما حمل كوبه بين كفيه ليجلس على الأريكة المجاورة، مرتشفا شايه في هدوء، وقد شملهما الصمت إلا من صوت هامس لشدو عبدالوهاب القادم من غرفة جدته البعيدة نسبيا عن موضعهما: 

كيفَ يشكو من الظمأ من له هذه العيون..

جفنه، علم الغزل.. ومن العلم ما قتل..

قُل لمن، لامَ في الهوى.. هكذا الحسن قد أمرْ..

إن عشقنا فعذرُنا أنّ في وجهنا نظر.. 

كان السكوت هو سيد الموقف، فقد شمل مجلسهما حتى قطعه هو في هدوء، وقد أنهى كوب شايه الذي ما زال ساخنا بين كفيها، مؤكدا وهو يميل قليلا مسندا مرفقيه إلى ركبتيه قائلا: بكرة بالمشيئة يا أستاذة، هنجعدوا وكل واحد يعرف خلاصه، ويعرف اللي ليه واللي عليه بحج ربنا، ع الساعة خامسة المغرب، هتلاجيني في المندرة مستتظرك بكل المطلوب.. ويبجى كده أنى وفيت بوعدي.. تمام! 

هزت أنس رأسها في إيجاب، وقد وضعت كوبها الذي لم تنهي نصفه تقريبا فوق الصينية جوارها، قائلة في هدوء: تمام يا حبيب بيه، يبقى ميعادنا الساعة خامسة بإذن الله.. 

ونهضت مستأذنة للعودة لغرفتها: عن إذن حضرتك، وشكرا ع الشاي.. 

ابتسم في أريحية متسائلا: والعنب! 

ارتسمت على وجهها ابتسامة مماثلة: والعنب.. 

سارت خطوات، فسألها بشكل فجائي: أخبار الصداع! 

توقفت لبرهة وقد استدارت لمواجهته تسأل متعجبة: صداع إيه! 

قهقه ولم يرد.. فتذكرت كذبتها التي ردت بها عند اكتشافه وجودها وحيدة.. ما دفعها بدلا من أن ترد أن تسرع الخطى مبتعدة في ارتباك.. فتلك القهقهات الصادحة في ذاك الهدوء الساكن، زعزعت شيء ما مستقر الدعائم داخلها.. تلك القهقهات التي سكنت بغتة وتحولت لشهقة ذعر عندما صرخت هي في ألم وهي تسقط أرضا متوجعة.. 

انتفض مندفعا صوبها في فزع، متسائلا وهو يراها تميل نحو قدمها ممسكة: إيه في يا أستاذة! 

مال بدوره من موضعه نحو موضع ألمها، وصوت أنينها يؤكد على معاناتها، ليبصر شظية من سعف نخلة جافة قد غرست في لحم قدمها بشكل عميق وبدأ النزف.. 

هتف مشيرا لها: مدي رچلك يا استاذة، خليني أوعى للچرح.. 

اطاعت في حرص، تضم مئزرها حول جسدها في هوادة، ما دفع شال أمها ليسقط أرضا عن كتفيها، مالت قليلا مشيرة نحو موضع الألم، مؤكدة في صوت مهتز النبرة: في حاجة انغرست في رجلي.. 

تطلع لموضع انغراس السعفة المدببة سالخة لحم إصبع قدمها الأكبر، متعمقة للداخل، ما دفع حبيب لينهض صارخا: يا شبل! أنت يا واد! 

ظهر شبل مندفعا صوب موضع وجودهما، متعجبا من وجود الأستاذة ملقاة أرضا بهذا الشكل، لكن حبيب دفعه مبعدا إياه عن موضعها، أمرا: إرمح چيب الداكتور سرور لو كان فين، متچايش إلا ويدك فيده.. هِم.. 

اندفع شبل منفذا أوامر سيده في عجالة، ليعود حبيب إلى موضعها منحنيا نحوها، مطالبا في نبرة حانية، وهو يقدم لها ساعده لتستند عليه: ألف سلامة، اتسندي بس عشان نجوم ندخل چوه المندرة، والداكتور چاي مسافة السكة.. 

ترددت لبرهة، إلا أنها استجابت واضعة كفيها على ساعده متشبثة به حتى نهضت، فانزاح شال أمها عن كتفيها كليا ليصبح قرب موضع قدمها المصابة، ويظهر شعرها المنسدل على ظهرها حرا طليقا كما وعاه البارحة صباحا وهي ساهمة بشرفتها.. 

تُرك الشال أرضا، وهي تستند عليه متخذة ذراعه متكأ تسير بقدم عرجاء جريحة وخطوات مترنحة صوب باب المندرة الموارب والذي دفعه بقدمه فانفرج، سارا في تؤدة حتى وصلا للأريكة بمنتصف المجلس، فتركت ساعده جالسة وقد تناثرت خصلات شعرها شرقا وغربا، مبعثرة ثباته لشرق الأرض ومغربها، ما دفعه ليهتف متحججا للهرب من التواجد بالقرب منها: أما أشوف الداكتور إتأخر ليه! 

هرول لخارج المندرة، وتوقف لبرهة على أعتابها يلملم شتات نفسه، فأبصر بالأرض شالها الذي كان حصنه الأمن من ذاك الشتات، والذي كان يخفي تحته ذاك الثائر المربك لدواخله، والسالب لوقاره، انحنى نحوه ملتقطا إياه، نفضه عدة مرات حتى يخلصه مما علق به من حشائش أو أتربة، عائدا به لمجلسها، ليجدها جمعت جدائل شعرها في عشوائية خلف ظهرها، ما جعله بلا وعي يضع الشال على رأسها، فصدرت منها شهقة خفيفة، رافعة طرف لحظها صوب ذاك الذي كان يقف خلفها، رفع كفيه سريعا مبتعدا عن مجال تلك النظرات المذعورة كغزال سقط في شرك، وهمست هي: متشكرة، أنا كنت لسه بقول راح فين..

أجلّى حبيب صوته المتحشرج، مفسرا: كان واجع بره مطرح ما وجعتي.. 

علا صوت شبل بالخارج، ما أكد على وصول الطبيب، خرج حبيب لاستقباله على أعتاب المندرة مرحبا، وقد سبقه للداخل شارحا الحالة، دخل الطبيب مرحبا بأنس في بشاشة جالسا بالقرب: يا مرحب بالمريضة، حطي رچلك هنا الله يسترك عشان أجدر أشوف كويس، أحسن النظر بعافية حبتين، وشبل جومني من أحلاها نومة فأني مش شايف جدامي.. 

نفذت أنس في حرص، وهي ترفع قدمها المصاب على الطاولة المنخفضة قليلا، واستطرد الطبيب مازحا: طبج الرز بلبن اللي راح عليا، واللي كنت باكله مع الملايكة ده في رجبتك يا حبيب بيه، ولا نجول في رجبة المريضة! 

اتسعت ابتسامتها لأقول الدكتور سرور، والذي كان يعدل من وضع منظاره المقعر العدسات فوق أنفه كل ثانيتين، وقد هتف بعد فحص جرحها: لا ده حاچة بسيطة يا حبيب بيه.. 

أخذ يعبث في محتويات حقيبته الصغيرة الحجم التي كانت بالقرب منه، مصدرا بعض الضجة لأصوات بعض الأدوات التي تصادمت مع بعضها بالداخل حتى عثر على الأدوات المطلوبة، وبدأ في التعامل مع جرحها في احترافية ودقة تعجبت أن تخرج من ذاك الطبيب، الذي كان أشبه في مظهره الخارجي بحلاق الصحة قديما، فقد جاء بالفعل من فراشه رأسا إلى هنا، حتى أنه لم يبدل جلباب نومه بقميص وبنطال مناسب، أخرج الشوكة المنغرسة في يسر مع بعض الألم الذي حاولت قدر استطاعتها كتمه، ثم طهر الجرح ووضع الشاش الطبي، وانهى المهمة بسلاسة.. رافعا كفه وكأنما أنجز عملا لم يأت به أحد قبله، هاتفا في نبرة صوته الكرتونية، التي تدفعك للضحك رغما عنك: أهااا، مفيشي لا أسرع ولا أحلى ولا أچمل من كده.. 

هتف حبيب ممسكا ضحكاته: ايوه اومال ايه! متشكرين جوي يا كابتن لطيف، اجصد سرور.. 

قهقه سرور في سعادة فطرية، وكأنما كان له بحق نصيب ورزق من اسمه(سرور).. 

كان لقبه بالنجع كله (كابتن لطيف) ذاك المعلق الرياضي الأشهر في مرحلة السبعينيات والثمانينات، وقد نال دكتور سرور لقبه ذاك بسبب جلوسه كل جمعة على أطراف ذاك الجرن البعيد الذي يتخذه عيال النجع ملعبا لكرة القدم، ويبدأ في التعليق على المباراة الدائرة بطريقة تجعل اللاعبين أنفسهم يتركوا الكرة ساقطين أرضا من فرط الضحك، فتتحول المباراة لفاصل من الكوميديا والمرح.. 

غادر الطبيب المندرة وحبيب بأعقابه يودعه لخارجها، وقد تناهى لمسامعها مزاحه مع شبل: ما تيچي يا شبل تصلح غلطتك بعد ما صحتني وتهشتكني شوية لحد ما أنام! أصل أني يتيم،  وناجص حنان.. 

قهقه شبل على أقوال الدكتور سرور، فتراقصت جدران السراي، ما دفع سرور ليصرخ مدعيا الزعر: الأكسجين يا واكل ناسك! هنموت كلنا مخنوجين يا فجري، شفطت اكسجين النچع كله..


الصفحة التالية