رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 5 - 5 الجمعة 20/12/2024
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الخامس
5
تم النشر الجمعة
20/12/2024
ارتفعت قهقهات شبل من جديد، وهو يصطحب الدكتور سرور للبوابة، وعاد حبيب لمكان جلوسها ليجدها تضحك غير قادرة على حبس ضحكاتها، ما دفعه ليضحك بدوره، مؤكدا: معلش الداكتور سرور عِشري حبتين..
هزت رأسها متفهمة، وشرعت في النهوض، لكن حبيب هتف بها: استني ابعت للبت نبيهة تاچي توصلك لأوضتك..
أكدت أنس وقد نهضت بالفعل: مفيش داعي، أنا بقيت تمام، وبعدين دي كلها طلعة السلم وأبقى في اوضتي، حرام تصحيها وهي بقالها كام يوم تعبانة في الفرح وتحضيراته..
تنبه لتلك النبرة المتعاطفة في صوتها، وقد حلت محل نبرة الأنا والمصلحة التي لم يسمع غيرها منذ قدمت إلى هنا، فقد كان همها الأوحد هو الحصول على مبتغاها، والرحيل دون مراعاة لظروف أو اعتبارات.. هز رأسه متفهما، مفسحا لها المجال لتسير في هوادة حتى وصلت الدرج وبدأت في صعوده.. زعق شيل من الخارج باسمه، فتركها وخرج لملاقاته لدقيقة قبل أن يعود ليجدها وقد غابت بالأعلى، تردد قليلا قبل أن يصعد خلفها لكنه فعل، ليجدها تهم بغلق باب حجرتها التي وصلتها لتوها، ما دفعه ليهتف مستوقفا إياها: يا أستاذة!
لم يتقدم إلا خطوة، ومد كفه على أقصى امتداد لها، غاضا طرفه وهو يستطرد مفسرا: ده العلاچ اللي كتبه الداكتور وچابه شبل، ومكتوب على كل علبة عدد المرات ف اليوم، والچرعة بالمظبوط.. بالشفا..
مدت كفها متناولة كيس العلاج، شاكرة في نبرة ساهمة، ليندفع هو مهرولا هابطا الدرج، قبل أن تغلق باب غرفتها..
تركت كيس العلاج جانبا، وتحركت في بطء نحو النافذة، لتجده يسير في هوادة نحو تعريشته وشبل في أعقابه، والذي انحنى صوب براد الشاي ملقيا ما بداخله بطول ذراعه، معدا دورة جديدة من المشروب المفضل على الإطلاق..
جاءها صوت شادية يتهادى من حجرة الجدة، متسائلة في صوت شجي: ميكنش ده اللي اسمه الهوى!..
اضطربت وعاودها ذاك الشعور المباغت الذي يبرز كالعنقاء من بين رماد الفكر، ساريا بخفة بين دواخلها ما دفعها لتغلق النافذة في إحكام، وكأنها تغلق منافذ الفكر التي فُتحت على مصراعيها ببالها، وقد أكدت أن ما جاءت لأجله سينتهي غدا في تمام الخامسة، ويذهب كلّ لحال سبيله.. وتعود لحياتها الطبيعية، بلا أي خواطر مرهقة، أو تفسيرات لا وجود لها، تعود لحياة المنطق والمعقول التي اعتادتها، بعيدا عن نجع الافتراضات والأحاجي هذا.. والذي أرهق روحها غموضا..
❈-❈-❈
مدت كفها نحو سلسلة المفاتيح ونظارتها الشمسية لتجذبهما من فوق الطاولة القريبة من باب الشقة، والتي في الواقع لم تكن شقة بالمعنى المتعارف عليه، هي كما أخبرها البواب الذي يجلس أمام الفيلا من سنوات، مجرد استراحة جانبية للضيوف ملحقة بالفيلا، وقد أصبحت مستقرها منذ ذاك اليوم الذي وجدت نفسها تحت وصاية هذا الرجل..
تطلعت لنفسها بالمرآة، وتساءلت مع ابتسامة شجية، أين هذه الشابة النضرة مكتملة الأنوثة، من تلك الفتاة الصغيرة النحيلة، المذعورة حد الموت، والتي قدمت لهذا المكان، بلا مقدمات..
عدلت هاجر من أحمر الشفاه الذي خرج عن مساره وقد أدركت أن ارتجاف كفها هو السبب، فما أن تتذكر كيف كانت وكيف أصبحت وتتداعى لفكرها ذكريات ماضيها الذي عانت فيه الأمرين، حتى تدرك أن رحمة المولى كانت سابقة لتنتشلها سريعا من خضم العذابات التي كانت تعيش فيه، لمكان أرحب وأكثر أمنا في ظل نصير، الذي لم تكن لتعلم، كيف كان مصير أيامها، إن لم يكن ظهر فيها!
ظبطت هندامها، واندفعت للخارج، فاليوم يوم عطلة من العمل بصحبته، وسوف تقوم ببعض المشتريات أولا ثم تتجه لزيارة برلنت للوقوف على آخر مستجدات الوضع مع أُنس وسفرها للصعيد الذي لم يكن في الحسبان..
أدارت العربة، وتنبه البواب لصوت نفيرها، ما جعله يضغط على ذر ما لفتح البوابة الحديدية للفيلا، لتخرج السيارة في هدوء..
كان هو في شرفة حجرته، وعلى الرغم من أن اليوم يوم عطلة، إلا أنه استيقظ في موعده المعتاد، ليجد نفسه وحيدا بلا رفقة كعادته، حتى تلك الصغيرة التي غادرت لتوها، والتي ترافقه كظله في كل أوقاته تقريبا، رحلت لبعض شؤونها.. وليكن، فقد اعتاد الوحدة واعتادته.. وما عادت تشكل له عبئا أو وجعا.. شعر أنه شاخ داخليا قبل أوانه، فهو ما زال شابا بمقياس العمر وسنونه، ما تخطى الأربعين من عمره بعد، لكن ذاك الحزن الكامن بين ضلوعه، والذي يعشش هناك منذ زمن بعيد، جعله يستشعر أنه تخطى السبعين منذ دهور، وأن روحه شابت قبل أن يمس الشيب مفرقه..
مد كفه نحو فنجال قهوته الصباحية المرّة، وارتشف منه في هوادة، تاركا باله يشرد في الأفق قبالته، تأخذه الذكرى لماض ولى بلا رجعة، لكنه لم يخرج من طيات أحداثه بعد..
❈-❈-❈
وقف حبيب قبالة ذاك الصف المتراص من الصور الفوتوغرافية الموزعة هنا وهناك على الحائط، متطلعا نحوها في وجوم، ربما كان يلوم أصحابها على أمر ما، أو ربما تحسرا على أنه يقف حيا مثقال بالمهام قبالة صورهم، وقد كان يتمنى لو كان مجرد صورة معلقة على جدار تؤكد أنه أنهى مهمته وقد غادر بلا أثقال من هول ما يحمل على كتفيه من تبعات تركها هؤلاء، وورثها هو بالتبعية.. تطلع لصورة سعد رسلان التي تزين الواجهة، مادا كفه يزيح عنها غبارا وهميا، وقد ابتسم لصاحبها على الرغم من كل حسراته، لتهتف جدته صفية من خلفه: محدش فالرسلانية خد منه هيبته وشكله كيفك يا حبيب.. كني نضراه جصاد عيني دلوجت..
استدار حبيب متطلعا لجدته، التي جاءت على كرسيها المدولب من الخارج، حيث كانت تجلس بالشرفة تعرض قدميها لشعاع الشمس في العصاري ربما يعمل ذلك على سحب تلك الرطوبة التي تسكن عظام قدميها، وهي تتناول كوب من الشاي بعد غذائها الدسم، مستطردة في محبة: صدج من جال، اللي خلف مماتش، وعوض الحبايب، بيصبر ع الفرجة.. ربنا يلحجنا بحبايبنا على خير..
انحنى حبيب ملثما هامة صفية في ود، هامسا في حنو: ربنا يطولنا فعمرك يا ستي، والله إحنا ما نسوى حاچة من غير بركة وچودك بينا..
ربتت صفية على كتفه دامعة العينين، تتطلع نحو صور الأحباب قبالة ناظريها، وتسرح مع الذكرى متنهدة، ما دفع حبيب ليهتف مناديا: يا بت يا نبيهة! أنتي يا بت!
جاءت نبيهة مهرولة، ليأمرها حبيب مشيرا نحو بعض الأركان: يا بت أني مش جايل لك نضفي الأركان دي من الهلوس اللي مسك فيها!
هتفت نبيهة مبرطمة حنقا: ما هو إحنا منضفين السرايا فوجاني تحتاني فالعيد الكبير، هي صورة!
قهقهت صفية على أقوالها، بينما هتف حبيب فيها زاعقا: روحي هاتي الزعافة، ونضفي الهلوس اللي ملا السجف ده، همي..
اندفعت نبيهة تنفذ في عجالة وهي تبرطم مشوحة كعادتها، ما دفع كل من صفية وحبيب للضحك على أفعالها التي اعتاداها، لتهتف صفية متسائلة في نبرة تحولت لنبرة جادة: أنت برضك هتنفذ اللي فدماغك!
هتف حبيب مؤكدا: وصية أمي هنفذها يا ستي ولو على رجبتي..
همست صفية متعاطفة: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها يا حبيبي.. الحمل مش ناجص تجايل يا ولدي، وهو شَديد بكفاية..
همس حبيب متنهدا: على الله التساهيل يا ستي..
تطلع نحو ساعة الحائط القيمة التي أشارت لقرب الخامسة ما دفعه لينحني من جديد نحو رأس جدته مقبلا في حنو، قبل أن يتركها متوجها صوب المندرة في انتظار مقابلة أنس كما وعدها البارحة، جلس خلف مكتبه مخرجا مفتاح ضخم من عمق جيب جلبابه، دافعا به داخل موضعه بواجهة خزانة معدنية ضخمة كانت تتستر خلف رف كبير من كتب قديمة باللغة العربية والفرنسية وآخرى باللغة العثمانية القديمة التي تساوي وحدها ثروة لقدرها التاريخي.. أدار المفتاح عدة دورات وجذب الباب المعدني بشدة ليطاوعه، كاشفا عن باطن الخزينة المكون من رفين رُصت عليهما الكثير من الملفات والأوراق.. وبعض الأموال التي حصلها من بيع المحصول الذي كاد أن يُلتهم بحريق الشونة، والتي صرف معظمها بالفعل في تجهيز زفاف منيرة أخته، وهذه الوريقات هي ما تبقى منها.. أخرج بعضها لتحقيق عدة التزامات لما تبقى من أيام حتى يوم الزفاف واضعا إياهم في جيبه، سقطت نظراته على سلاحه المرخص لبرهة، قبل أن ترتفع عنه نحو صوت الخطوات الثقيلة القادمة من الدرج، لم يكن أحد سواها، جرح قدمها البارحة عطل حركتها قليلا لكنها هبطت الدرج وأصبحت حركتها أكثر طبيعية لحد كبير، ألقت التحية، فغض البصر عنها، رادا تحيتها مشيرا صوب أحد المقاعد على الجانب الآخر من المكتب، مد كفه لداخل الخزينة مخرجا ملفين من الأوراق، مؤكدا: هنا كل اللي يخص أرض الرسلانية من ساعة ما بجت في يدي، والملف ده ل..
قاطعته أنس الوجود مؤكدة: يكفيني أعرف من يوم ما حضرتك مسكتها، مش مهتمة أعرف تاريخ الأرض وكانت مع مين وراحت فين، أنا كل اللي عايزة أعرفه هي أد إيه وليا فيها أد ايه.. وبس..
هز حبيب رأسه متفهما ولم يعقب، وما أن بدأت هي في فتح الملف الذي تناولته لحصر كل شبر في أرض الرسلانية حتى علا صوت صخب بالخارج، وكأن الأمر ينذر بحدوث معركة ما، شعرت بانقباض ما بصدرها لم تعرف له سببا، وخاصة حين ارتفع الصوت حد الصراخ والسباب، ما دفع حبيب بلا وعي لتناول سلاحه من داخل الخزينة دافعا بابها في عجالة مغلقا إياه، مهرولا للخارج..
ما تمالكت أنس حالها حين لمحته يضع سلاحه بجيب جلبابه قبل أن يندفع لاستطلاع ما يحدث، ونهضت خلفه بلا وعي وقد نسيت تماما جرح قدمها، تسابق خطواتها حتى تلحق به، لتشاهد مشهدا ما توقعت يوما أن تراه..
كان عزت بن العمدة وعريس منيرة، يقف على باب السراي مترنحا وعلى ما يبدو أن ذاك الصراخ كان لشجاره مع شبل الذي رأي حالته وما وافق على مروره داخل السراي وهو بهذه الحالة، يصرخ ويسب بشكل عجيب، يبدو غير متزن نوعا ما.. هتف حبيب لشبل بتركه ليدخل على أي حال، ليندفع عزت واقفا في قلب الحديقة صارخا في ثورة لا يعلم سببها: بجولك إيه يا حبيب يا رسلان، أني شكلي أضحك عليا فالچوازة دي، نفضوها وكل واحد يروح لحاله..
كانت منيرة العروس قد جاءت من الداخل مع بعض النساء اللائي جذبهن الصراخ قرب البوابة، ووقفن على أعتاب الباب الداخلي للسراي يستكشفن ما يحدث، وشهقن في صدمة لكلمات عزت، الذي استطرد في صوت زاعق: أني ميشرفنيش نسبكم العرة ده، أختك منيرة طالج..
صرخت بعض النسوة، وكذا أنس التي كانت في حالة صدمة مدوية، فهي التي شهدت وحدها كيف كان ذاك الذي يصرخ بفك عروة الزواج بهذه السهولة وعلى أعين الأشهاد.. مدلها في حب منيرة البارحة.. لم يحدث هذا!
وقعت عيناها على حبيب الذي كانت الصدمة تشمله بدوره، لكنه تمالك نفسه سريعا وجمع شتاتها، جاذبا سلاحه من جيب جلبابه، موجها فوهته صوب عزت، صارخا في صوت هادر: وأنت ملكش عندي إلا ده، يترد عليك به يا عويل..
وانطلقت الرصاصة في اتجاه عزت، لتصرخ منيرة صرخة مدوية في صدمة.. وقد علت المزيد من الصرخات..
يتبع...