رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش - الفصل 6 - 2 - الجمعة 27/12/2024
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل السادس
2
تم النشر الجمعة
27/12/2024
هتف رستم باشا مؤكدا: كانت فكرة موفقة يا سعد بيه، حقيقي ارتحت جدا على جو الرسلانية..
هتف سعد في سعادة: الرسلانية نورت يا رستم باشا، والزيارة كانت ناجصة الهانم حرمكم..
أكد رستم: النوبة الجاية إن شاء الله.. ولا أنت مش ناوي تعزمنا تاني!
هتف سعد معترضا في صدمة: ده برضك كلام يا رستم بيه! دي الرسلانية كلها باللي فيها ملك چنابك في أي وجت..
ساد الصمت، ليسأل سعد متوجسا: ويا رب تكون الهانم الصغيرة مرتاحة معانا!
أجاب رستم باسما: أنس الوجود! دي سعيدة جدا، تجربة مختلفة، وارتاحت جدا للهانم أختك، واضح إنكم أصحاب كرم وأصول عالية سعد بيه!
هتف سعد ممتنا: ربنا يعز أصلك يا رستم باشا، من بعض ما عندكم..
أكد رستم: أنا قررت هنتحرك على القاهرة بكرة الصبح بإذن الله.. وأنا بلغت أنس الوجود عشان تجهز أمورها..
هتف سعد معترضا: بدري كده يا باشا! ما تاخدوا لكم معانا أسبوع كمان!
قهقه رستم مؤكدا: الهانم هتزعل لو سمعتك بتقول كده لأني سبتها لوحدها الفترة دي كلها، هم آه تلات أيام لكن كفاية، وكمان المصالح ف المحروسة مش بتستنى.. أنت فاهم ومقدر أكيد!
أكد سعد: طبعا يا باشا، الله يكون فالعون، وبعدين منجدرش على زعل الهانم حرمكم مننا.. وأني شوية كده وهحصلكم..
هتف رستم: حد يسيب الهدوء والجمال ده كله يا سعد، ويبقى معظم الوقت فالمحروسة!
برر سعد: هعمل ايه يا باشا، الاشغال عايزة كده، وأهو شوية هناك بتابع مصالحي وشوية هنا..
أكد رستم: أنت لازم يكون لك بيت هناك يا سعد، عشان لما تنزل فترات تبقى قاعد مرتاح..
أكد سعد: أچرت بيت من بابه يا باشا، بس بفكر اشتري واحد..
هز رستم رأسه موافقا: شد حيلك، بيت فالمحروسة حاجة كويسة، أفضل من النزول في اللوكاندات.. أفضل كتير..
هز سعد رأسه موافقا، واستأذن ناهضا حين قدم أحد خفرائه مؤكدا عليه التواجد بالداخل ملبيا دعوة حريم الدار..
دخل سعد الدار متنحنا، فإذا بتوحيد تجذبه من كفه بشكل ما اعتاده منها، متنحية جانبا تخبره في اضطراب: إلحج يا سعد، الهانم مش لجينها!
هتف محتدا: هانم مين اللي مش لجينها!؟.. چرى إيه يا توحيد! إيه الچنان ده!
هتفت توحيد ممسكة دموعها: والله زي ما بجولك كده يا سعد، جلبنا عليها الدار فوجاني تحتاني ملهاش حس ولا أثر، ونازك اللي معاها دي خاربة الدنيا چوه وبتجول لازما تبلغ الباشا وهو يتصرف..
سأل سعد وقد ظهر اضطرابه حين أدرك أن الأمر حقيقي، والمصاب جلل: وده كان من ميتا!
هتفت توحيد وقد بدأت دموعها تنساب هلعا: من ياجي ساعة، فتشنا عليها الدنيا جوه الدار وبره فالچنينة.. ولا لها وچود..
هز سعد رأسه متفهما يحاول أن يبدو رابط الجأش على الرغم من القلق الذي عربد بكل ركن داخله، واندفع للخارج يخبر الباشا، الذي انفعل متعجبا لما يحدث، لكن سعد أكد أنه لن يترك أثرا حتى عودة الهانم..
حشد سعد خفره وعبيده ناشرا إياهم بقلب النجع وأطرافه باحثا عن الهانم، التي اختفت في غفلة من مرافقتها، التي لم تتوقف عن البكاء كما أكدت توحيد، متهمة نفسها بالاهمال في خدمتها..
انقلبت نجع الرسلانية رأسا على عقب، حتى أن أهله جميعهم ما أن رأوا خفر وعبيد سعد رسلان منتشرين بهذا الشكل المهيب، إلا واندفعوا لداخل دورهم خشية التعرض لبطشهم، فقد أدركوا أن أمر عظيم ما يجري، وهو ما دفع سعد للخروج هائجا بفرسه بهذا الشكل المثير للرهبة وكل هؤلاء الخدم في أعقابه..
ساعات مرت، ولا أثر للهانم بأي موضع.. كاد سعد أن يحرق النجع بمن فيه لإيجاد طرف خيط يوصله لموضعها، انحرف فرسه بلا وعي منه ناحية البر المقابل لأرض البركة المتطرفة هناك، والتي لم يكن معتادا لمخلوق أن تطأ قدماه أرضها، سار بمحازاة النهر عيناه على مجراه الهادىء في مثل هذا الوقت من العام، والذي كان ينساب بسلاسة جاعلا ما على سطح الماء مرئيا بلا أي منغصات، دقات قلبه تتسارع وعقله يقلب في الخواطر السيئة واحدا تلو الآخر، لعل ولعل.. حتى سقط ناظره على جسد متكوم هناك فوق تلك التبة لأرض البركة.. دفع فرسه ليعبر النهر في سرعة على قدر استطاعته حتى وصل لذاك الموقع فترجل عن فرسه مسرعا صاعدا التلة نحو ذاك الجسد المتكوم الفاقد الوعي، هاتفا في ذعر: يا هانم! أنس هانم!
جذب جسدها بين ذراعيه فسقط رأسها على صدره، بدأ في ضرب خدها في خفة في محاولة لإفاقتها، لتفتح عينيها بعد برهة متطلعة نحوه بنظرة منكسرة أذابت ما تبقى من أعصابه، وخلخلت قلبه بين دعائم صدره وهي تهمس باسمه: سعد بيه! المجذوب كان لاحقني، دفعني للصعود هنا.. أنا..
هتف سعد متعاطفا: ولا يهمك يا هانم، المهم إنك بخير..
ابتعد قليلا عنها ما أن رفعت رأسها عن صدره، حاولت النهوض وهي تتكيء على ذراعه، لكن صدرت عنها أهة خلعت فؤاده من موضعه وهي تسقط من جديد متألمة لوجع ما بقدمها..
انتفض سعد مستفسرا في ذعر: ايه في!
أكدت أنس بأعين دامعة: واضح إن في مشكلة في قدمي، أشعر بألم شديد فيها..
أكد سعد: ألف سلامة..
خلع عنه عباءته، دافعا بها لتحيطها مدثرا إياها، هامسا في نبرة مترددة: اسمحي لي يا هانم!
لم تعي ما كان يقصد، إلا حين وجدت نفسها مرفوعة عن الأرض بين ذراعيه، شهقت في رقة، ولم تنطق حرفا حياءً، سار بها في ثبات حتى هبط بها التلة في سلاسة تعجبت لها، بحث شرقا وغربا بناظريه عن فرسه الذي شرد على غير عادته ولم يجده موضعه وكأنه فص ملح وذاب، فما كان أمامه من سبيل إلا حملها وعبور ذاك الجسر حتى الوصول للدرب الذي يفضي لدار الرسلانية.. وقد كان، كانت الرسلانية لحظتها أشبه بأرض للأشباح خلت من قاطنيها، بعد أن أغلق كل فرد فيها باب داره على نفسه وأهله، فسارا في دروبها وحيدين ما عكر صفوهما إنسان، حتى خدمه وعبيده ما أن رأوه قادما حاملا البرنسيسة، ما تجرأ أحدهم على الاقتراب، بل توقفوا على جانبي الطريق في سكون منكسي الرؤوس، كان هو شامخا يحملها بين ذراعيه في بساطة وكأنه يحمل ريشة بلا وزن، يسير للمرة الأولى بدروب النجع بلا عصاه الابنوسية أو عباءته التي أحاطها بها، والتي جمعت هي أطرافها تتستر خلفها خجلى، وعيونها تحيد عن الطريق الخالي قبالتهما لترتفع في نظرات ساهمة صوب تفاصيل وجه ذاك الرجل، الذي يحملها اللحظة بكل ذاك الحنو.. وما حاد ناظره نحوها ولو لمرة.. هامت في تلك النظرات الثاقبة النظرة التي تتسلط على الطريق أمامهما مرغمة كل الخدم والعبيد على خفض رؤوسهم أرضا حتى لا تجرحها نظراتهم.. خطوط ذقنه الحليقة الحادة تنبأ عن صرامة وحزم، وعطره المصاحب لأنفاسها اللحظة، يؤكد على رجولة مفعمة بالقوة تنضح حماية وأمان..
وصلا لعتبات الدار، فاندفعت توحيد ونازك نحو سعد ما أن رأوه قادما حاملا أنس الوجود، ليأمرهما في حزم: افسحوا الطريج لحد ما أوصل الهانم لأوضتها..
ثم أمر مصباح الذي كان أول المندفعين نحوه حين هلّ على الدار، والذي تركه في خدمة رستم باشا حتى عودته: هم بالداكتور يا مصباح يطمنا على الهانم..
أومأ مصباح برأسه في طاعة، واندفع ينفذ في سرعة أوامر سيده، بينما اندفع سعد معتليا درج المضيفة ومنه لحجرتها، دفعت توحيد التي كانت تسبقه متلهفة باب الغرفة سريعا ليدخل سعد واضعا أنس الوجود على طرف فراشها في رقة، مبتعدا في عجالة، منكسا ناظريه مؤكدا: شيعنا للداكتور ياچي حلاً، عشان رچلك يا هانم..
همست أنس الوجود وهي ما تزال مأخوذة بحضوره: لا داعي يا سعد بيه، أكيد بسيطة..
هز رأسه مؤكدا، وهو يستأذن قائلا في عجالة: حتى ولو بسيطة يا هانم، صحتك تهمنا، وأهو برضك نطمن على چنابك.. عن إذنك هطمن الباشا..
ما أن هم بالخروج من الغرفة، حتى اندفع رستم لداخلها مهرولا على غير عادته، هاتفا في ضيق ليس من شيمه: برضو كده يا أنس! كنتي فين وقلقتينا عليكي يا هانم!
هتف سعد مهدئا الباشا، لا يرغب في تأنيبه لها مشفقا على حالها: حصل خير يا باشا، تعب الهانم راحة، المهم نطمنوا عليها.. أني رايح اچيب الداكتور..
دخل رستم يجلس بالقرب منها متعجبا من أفعالها، مؤنبا إياها على خطواتها الغير محسوبة العواقب كعادتها، لم تعبء لتأنيب أخيها ونظراتها سارحة خلف موضع رحيل سعد، ما تزال غارقة بتأثير لحظات من سحر عاشتها بين ذراعيه..
عاد سعد بالطبيب، الذي أقر بضرورة الراحة لأكثر من أسبوع دون أي إجهاد لقدمها حتى تتعافى، ما دفع الباشا لابقائها بالرسلانية والعودة للمحروسة وحيدا، تاركا إياها تنعم بصحبة توحيد وكرم ضيافة سعد.. حتى يتم لها الشفاء التام..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٠..
كانت أنس تدرك بل كانت متيقنة حين نطق عزت يمين طلاق منيرة، أن الصمت الذي ساد لحظتها لم يكن ليمر مرور الكرام، وصدق حدسها وهي تبصر حبيب يخرج سلاحه من جيب جلبابه ودوى هدير تلك الرصاصة التي انطلقت كرد فعل لما حدث، فهي سمعة أخته الوحيدة التي لطخها الوحل بعد طلاقها الشائن بهذا الشكل المخجل، وما كان ليقف ساكنا بلا حراك أمام جبروت عزت وتسلطه بهذا الشكل المخزي، ما دفعها لتهرول بكل طاقة جسدها صارخة في اعتراض نحو كف حبيب دافعة إياها لتحيد فوهة سلاحه عن مسارها الطبيعي منحرفة للأعلى ضاربة سعف تلك النخلة البعيدة ليسقط بعض من سعفها الممزق أرضا..
توقف عزت كالصنم على الرغم من فعلة حبيب وهو يرى رد فعل منيرة ولم يحرك ساكنا، فقد ظلت صامدة تتطلع له في صدمة حقيقية، جاحظة العينين صدمة بعد أن نطق يمين الطلاق، تقف متخشبة موضعها كأن ما يحدث لا يخصها، وأخيرا جاء انهيارها عند استيعاب عقلها ما يجري، فسقطت بين النساء اللاتي تعالت صرختهن لوقوع منيرة بين أذرعهن، كان حبيب في طريقه نحو عزت لاحقا به قبل هروبه ليقتص منه، لكنه توقف فجأة مغيرا وجهته، واندفع صوب موضع سقوط أخته التي انهار حلم عمرها في لحظة بلا سبب منطقي واحد..
زعق حبيب أمرا شبل في حزم: أرمي الواطي ده بره السرايا، لو شفت خلجته جدامي هفرغ فيه طبنچتي..
حمل حبيب أخته منيرة بين ذراعيه، مهرولا نحو حجرتها بأعلى الدرج، صارخا في نبيهة لترسل في طلب الدكتور سرور، بينما تجمعت النساء في أحد الأركان ولم يتبعن حبيب بأمر من أنس التي تعجبن وجودها، مستهجنات قدرتها على الأمر والنهي في دار ليست دارها على حسب علمهن، تنبهت أنس لظهور الجدة صفية على كرسيها المدولب من داخل حجرتها لتستطلع ما يحدث في قلق، متسائلة في اضطراب: ايه في يا ولاد، ايه صوت ضرب النار ده!
لم ترد أي من النساء، ما حث أنس على الاقتراب منها في خطوات مترددة، رابتة على كفها المتغضن في حنو، هامسة في نبرة مطمئنة: متقلقيش، ده لزوم الفرح، كله هيبقى تمام..