رواية جديدة أرهقته حر با لتوتا محمود - الفصل 21 - 1 - الأثنين 27/1/2025
رواية أرهقته حربًا الجزء الثاني من رواية عشق بعد وهم كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية أرهقته حر با الجزء الثاني من رواية عشق بعد وهم
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة توتا محمود
الفصل الواحد والعشرون
1
تم النشر بتاريخ الأثنين
27/1/2025
يا نوح، يا من في حضنك السلام،
يا ملاذ القلب حين يغشاه الظلام.
بين يديك العالم يغفو بلا خوف،
وفي قربك، يتبدد كل الآلام.
أنتَ الثقل الذي يسكن أكتافى،
وأنت الراحة التي تحيي أعماقى.
وجهك النائم حكاية أمان،
وحبك، يا نوح، أبعد من الزمان.
فلتبقى النور الذي يضيء ليالي،
والحضن الذي يداوي جراحى.
❈-❈-❈
تأملت سقف الغرفة بعينيها الشاردتين، وكأنها تحاول سبر أغوار التفاصيل البسيطة فيه، تلك الشقوق الدقيقة التي رسمت خريطة غير منتظمة، وكأنها انعكاس لعقلها المزدحم بالأفكار ، كانت تفكر، بل تغوص في بحر من التساؤلات حول تلك العائلة التي حيّرتها حد التناقض «عائلة النويري».
بدت تلك العائلة وكأنها لغزٌ مغلق، متقلب المزاج، في أحيانٍ كثيرة شعرت أنهم أشبه بالماء الصافي، عذبون، نقيّون، يفيضون طيبة.
وفي أحيانٍ أخرى، كانوا أقرب إلى النار المستعرة، نار لا تترك وراءها سوى الرماد، تحرق كل شيء، بلا استثناء. هذا التناقض أصابها بارتباك عميق؛ كيف يمكن لكائنٍ واحد أن يكون النقيضين في ذات الوقت؟
زوجها،«نوح»، كان النقطة الثابتة في هذا اللغز،«نوح» لم يُظهر لها سوى خيرًا، كان وجهه كمرآة صافية تعكس طيبته وجوهره النقي.
لم تجد في تعامله ما يدعوها للشك أو الريبة، بل كان دائمًا سندًا لها، ابتسامته، هدوءه، وحتى غضبه كان يبدو مبررًا ومفهومًا.
ومع ذلك، حين تلتفت إلى باقي أفراد العائلة، لم تستطع تجاهل ذلك البريق الخفي في أعينهم، ذلك البريق الذي يُذكّرها بسطح بحر هادئ يخفي تحته تيارات جارفة.
هي لم ترَ يومًا منهم ما يثير ذعرها أو يوقظ بداخلها الشكوك بشكل مباشر، لكن حين اقترب أحد الأعداء منهم، حين لمس ذلك الرجل، «أيان»، حدود العائلة، ظهر الوجه الآخر.
كان الوجه الذي لم تكن تريد تصديقه، لكنه كان موجودًا بكل وضوح، رأته في نظراتهم، في كلماتهم المقتضبة التي كانت تنضح بالوعيد، وفي هدوئهم الظاهري الذي كان يخفي عاصفة من الغضب المكبوت.
كانت عائلة النويري أشبه بآلة دقيقة، تعمل بتناغم مهيب حين تتعرض للخطر. لم يكن هناك مجال للتردد أو الرحمة.
شاهدت ذلك بنفسها، كيف أنهم يحوّلون صمتهم إلى سلاح قاتل، وكيف أن انتقامهم لا يأتي بصخبٍ أو اندفاع، بل يأتي هادئًا، قاتلًا، وكأنه قدرٌ محتوم لا فرار منه.
جلست في مكانها دون حراك، تستعيد المشاهد التي مرت أمامها كأشرطة سينمائية.
كيف «أيان» ظن في البداية أنه يستطيع المساس بهم، وكيف لم يدرك أن اقترابه من فردٍ واحد منهم يعني أن النار ستلتهمه بالكامل.
«عائلة النويري» لم تكن مجرد أفراد، بل كانت كيانًا واحدًا، جسدًا واحدًا، إذا أُصيب طرف منه انتفضت كل خلاياه لتمزق من تجرأ على المساس بها.
ما كان يحيرها أكثر هو كيف يمكن لهذه العائلة أن تجمع بين هذه التناقضات بمهارة مذهلة، الطيبة الحقيقية التي رأتها في أعينهم حين يكونون في سلام، والحقد الذي لا يرحم حين يمسون بخطر.
وكأنهم يتقنون فنون الحياة بكل أبعادها؛ يزرعون الحقول بأيديهم في وقت السلم، ويشعلونها نارًا في وجه أعدائهم إذا اقتضى الأمر.
النور الخافت في الغرفة ارتعش قليلًا بفعل نسمة هواء مرت من النافذة، وكأن الغرفة نفسها تشاركها التفكير.
ظلت تحدق في السقف، وكأنها تنتظر منه إجابة لأسئلتها الكثيرة، لكنها لم تكن بحاجة للإجابة الآن، كانت تعلم أن الحياة ستكشف لها، يومًا بعد يوم، المزيد عن هذه العائلة، وأن لغزهم لن يُحل بسهولة، تمامًا كما لا تُحل أسرار النيران التي تحرق بلا هوادة ثم تختفي لتترك رمادًا يحمل عبق القوة والتحدي.
أغمضت عينيها ببطء، وكأنها بذلك تحاول أن تهرب من كل الأفكار الثقيلة التي ملأت رأسها ، كان الظلام خلف جفونها أشبه بمأوى مؤقت، ملاذ صغير بعيد عن صخب الواقع. همست لنفسها، بصوت لم يتجاوز حدود قلبها
ـ يا رب.
لكن الدعاء الذي تبع تلك الكلمة كان ثقيلًا، يحمل خوفًا دفينًا يلتف حول قلبها كالأشواك.
ـ يا رب أيان يبعد عن عيلة النويري .
ترددت الكلمات في عقلها وكأنها ترجو السماء أن تستجيب قبل أن يشتعل الحريق.
كانت تعلم أن ما تتمناه ليس مجرد طلب بسيط، بل هو أشبه برجاء النجاة من عاصفة لا ترحم.
أيان لم يكن يدرك بعد ماذا يعني أن يقترب من عائلة النويري.
لم يكن يدرك أن تلك العائلة ليست كأي عائلة أخرى، بل هي أشبه بغابة كثيفة، جذورها ممتدة عميقًا في الأرض، وفروعها متشابكة بحذر، تحمي بعضها البعض بلا تردد، وتتحول إلى أشواك قاتلة حين يقترب أحدهم منها.
كانت تعرفهم جيدًا،«عائلة النويري» لم تكن فقط أفرادًا يجمعهم الدم، بل كانوا كيانًا واحدًا، قوة متماسكة لا تعرف الرحمة حين يتعلق الأمر بحماية أحدهم.
أدركت ذلك منذ زمن بعيد، حين رأتهم بعينها كيف يتحولون إلى عاصفة مدمرة إذا شعروا بالخطر.
بدا «أيان» في ذهنها كرجل يسير نحو هاوية، وهو لا يرى شيئًا سوى الطريق السهل أمامه، جاهلًا بما ينتظره في الظلام.
فتحركت شفتيها بصمت مرة أخرى:
ـ يا رب
كان صوتها داخليًا، لكنه ممتلئ بالرجاء، وكأنها تحاول أن ترسم صورة مختلفة للمستقبل.
لم يكن خوفها على «أيان» وحده، بل كان خوفها أيضًا مما قد يتحول إليه أفراد العائلة إذا اضطروا للدفاع عن أنفسهم.
لم تكن تريد أن تراهم وهم يتغيرون، وهم يُظهرون ذلك الجانب الذي بالكاد تعرفه عنهم.
الطيبة التي عرفتهم بها كانت أغلى ما فيهم، لكنها كانت تعرف أن تلك الطيبة ليست بلا حدود.
جلست في مكانها، تنقل بصرها بين تفاصيل الغرفة، كأنها تحاول التشبث بأي شيء مادي يمكنه أن يصرف انتباهها عن مخاوفها.
الضوء الخافت المنبعث من المصباح الصغير في الزاوية كان بالكاد يكسر الظلام، بينما الهواء الثقيل في الغرفة بدا وكأنه يحمل أسرارًا لا تريد أن تنكشف.
حتى الصمت كان يشاركها التفكير، وكأنه ينذرها أن شيئًا ما على وشك الحدوث.
كان الخوف يضغط على صدرها «عائلة النويري» لم تكن تقبل بالتهديد، حتى لو كان خفيًا.
ربما ظن«أيان» أن اقترابه مجرد خطوة عادية، لكن بالنسبة لهم، كان ذلك تعديًا على الخطوط الحمراء التي لم يسمحوا لأحد بعبورها.
رأت كيف تتحول نظراتهم، كيف يترجم صمتهم إلى قرارات، وكيف يصبح غضبهم باردًا وقاطعًا كحد السكين.
كانوا أشبه بذئاب لا تهجم إلا حين يقترب أحد من منطقتهم، وحين يفعل، لا يتركوه إلا بعد أن يتأكدوا أنه لن يعود أبدًا.
أغمضت عينيها مرة أخرى، هذه المرة بحركة أبطأ، كأنها تحاول أن تبعد عن ذهنها كل الصور القاتمة التي راحت تتسلل إليه.
تنفست بعمق، محاولة أن تجد في الهواء حولها شيئًا من الطمأنينة.
لكنها لم تجد سوى القلق، قلقًا متجذرًا في قلبها، يجعلها تتمنى من أعماقها أن ينتهي كل شيء قبل أن يبدأ.
ـ يا رب أيان يفهم العيلة دى ويبعد ، ويبعد المشاكل عن العيلة النويرى يارب .
كانت الكلمات هذه المرة أشبه بدعاء أخير، رجاءً صادقًا من قلب امرأة تعرف تمامًا ما يعنيه أن يكون السلام هشًا، وأن تتحول الطمأنينة إلى صراع بلا نهاية.