رواية جديدة بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) لعفاف شريف - الفصل 18 - 1 - السبت 18/1/2025
قراءة رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر
رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض)
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة عفاف شريف
الفصل الثامن عشر
1
تم النشر السبت
18/1/2025
أيا صدمةَ القدر، ماذا تريدي
في الصمتِ ترتعشُ الملامح،
وأحملُ وجعي على أكتافي الثقيلة.
لا صوتَ يواسي صدى ارتجافي،
ولا يدٌ تُمسكُ بي في تلك اللحظة الهزيلة.
أحاول أن أجدني،
لكنني أضعتُ الطريق.
كأن روحي تبخرت،
وتلاشت في عتمة العميق.
هل يمكن أن يولد من الحطامِ سلام؟
أم أنني سأبقى سجينة الألم؟
كل ما أريده الآن،
هو أن تهدأ أجنحة هذا الارتجاف
❈-❈-❈
دلفَ للمستشفى يسيرُ بسرعةٍ وتعجل، خلفه حور تحمل الصغيرةَ الغافيةَ بين ذراعيها، بعد أن أصرّت وبشدة أن تذهبَ معه.
حاولَ معها أن تعودَ هي للمنزل، أو حتى إلى منزل والديها، لكنها رفضت وبشدة.
نهرها، لكنها لم تهتم.
لن تتركه أبدًا في تلك اللحظة.
فليوبخها لاحقًا، لكنها لن تسمحَ له أن يُبعدَها وهو في أمسِّ الحاجةِ إليها.
تلك مهمتُها أن تظلَّ بجانبه، تسانده وتساعده.
هي بحاجةٍ أن تكونَ بجانبه، ولن تُنكرَ أيضًا خوفها مما حدث مع تميم.
تخافُ ولا تفهمُ ما حدث.
تلك المرةُ الأولى التي يتعرضُ أحدُ أفرادِ الأسرةِ لمثلِ تلك الأمور، ورعبُها عليه يجعلها تريدُ التمسكَ به.
هي لن تُخاطرَ به أبدًا... أبدًا.
ضمّت الصغيرةَ أكثر وهي تُسرعُ خطواتها خلفه، وما إن وصلوا للطابق المنشود حتى بَطُؤت خطواته وهو يرى والده يقفُ هناك في نهايةِ الممر، يستندُ على زجاجِ إحدى الغرف.
وهن متعبٌ ومرهق، يستندُ بجسدِه على الحائطِ غير قادرٍ على الوقوف.
كان زاد فوق عمره عمرًا، والتعبُ قد بلغ أشدّه.
بَطُؤَت خطواتُها هي الأخرى حتى توقفت تمامًا وهي ترى حسامَ يركضُ نحو والده، الذي ما إن استمع إلى صوته حتى تحرك هو الآخر بسرعةٍ رغم وَهنِه، وحسامُ يُلقي بنفسه بين أحضانه، والآخرُ يضمه باشتياقٍ، سعيدًا أنه حضر أخيرًا.
دمعت عيناها وهي تراقبُهم بشفقة.
لطالما كانت علاقةُ عائلةِ حسامَ ببعضهم ذات طابعٍ مميزٍ وفريدٍ لا تراه كل يوم، تحديدًا مميزةً بالنسبة لها.
كانت دافئةً، مريحةً، داعمين لبعضهم البعض مهما حدث.
يلتفون مسرعين، تراهم في علاقةٍ تمنّت أن تحظى هي بها يومًا ما مع عائلتها، تمنّت أن يُحاوطَ الدفء قلوبهم.
تنهدت، وعادت الابتسامةُ لوجهها وهي تراه يلتفتُ ينظرُ لها، يمدُّ يدَه يدعوها للاقتراب.
وما إن اقتربت حتى قبّلها حماها من جبهتها، قائلًا بهدوءٍ وترحيب، وهو يُقبّلُ يدَ الصغيرةِ النائمة بحنانٍ وحبٍّ فطري:
ـ "حمدًلله على السلامةِ يا حور.
ـ نوّرتِ يا حبيبتي."
أهدته ابتسامةً سعيدةً وهي تربتُ على يده مواسيةً إياه، قبل أن يقولَ بحزمٍ لحسام:
ـ "إزاي تجيبها هنا يا حسام؟
ـ يلا روحها وبعدين تعالِ.
ـ أو ارتاح إنت كمان.
ـ شكلك مرهق، إنتو يدوب من المطار على هنا يا ابني."
أمسك حسامُ يدَه يربت عليها قائلًا بتأكيدٍ ورفق:
ـ "أنا جيت ومش هَمشي، ما تشيلش همّي."
وتابعَ بضيقٍ ناظرًا إلى حور:
ـ "وبالنسبة لحور، فللأسف مش راضية ومصرة تفضل هنا."
وتابعَ بقلقٍ وترقب:
ـ "تميم يا بابا... حصل له إيه؟
ـ إيه اللي حصل؟ ووضعه إيه دلوقتي؟
ـ طمّني بالله عليك.
ـ أنا حاسس إني مش فاهم حاجة."
طالعة مدحت بملامحَ متعبةٍ ومرهقة، قبل أن يزفرَ بعمقٍ شاعرًا بالألمِ لا يُفارقه.
وهو يحكي له سريعًا ما توصّل له، وتابع قائلًا:
اللي فهمته إنه في راجل لَقاه على الطريق غرقان في دمه.
وأول ما شافه وقع.
ومن رحمة ربنا إنه كان ابن حلال وأنقذه وجابه على المستشفى، وهناك هم لحقوه.
ده من ستر ورحمة ربنا بينا بس.
وقتها لما فضلت أرن عليه، قالوا لي، بس من غير تفاصيل.
ولما وصلت لقيت أحمد هناك.
وعرفت إنه عرف هو كمان.
وأصريت أنقله هنا.
شدد حسام على خصلاته بغضبٍ شديدٍ وهو يردفُ بعصبيةٍ وغضبٍ أعمى: عرفوا مين عمل كده؟
هزّ مدحت رأسه نافيًا، قائلًا بضيق:
الشرطة مش هتقدر تعرف اللي حصل غير لما تميم يفوق إن شاء الله.
المنطقة اللي كان فيها عند المقابر، وهناك فعليًا مفيش ناس، ولا كاميرات، ولا أي حاجة خالص.
ولولا ستر ربنا إن الشخص ده عدّى من هناك، كان زمانه..."
وامتنع عن المتابعة وهو يستغفرُ ربه، ويسمح بيده سريعًا دمعةً أبى أن يحررها.
اقترب منه حسامُ يضمه إلى صدره بألمٍ وضيق، قائلًا برفق:
وحّد الله.
تميم هيكون كويس.
أنا واثق.
ربنا مش هيخذلنا أبدًا يا بابا.
صدقني ربنا كريم أوي.
وزي ما بعت له حد في الوقت المناسب، هيقوم بالسلامة وسطنا، أنا متأكد."
قالها وهو يطالعُ حور التي تبكي بصمتٍ متأثرةً بما يحدث.
هزّ مدحت رأسه داعيًا من قلبه، وهو يقول بتساؤل:
حد من إخواتك عرف اللي حصل؟
نظر حسام إلى ساعته قائلًا بتأكيد:
محدش عرف غير ملك.
أنا لسه هبلغ الكل دلوقتي.
أنا بس قولت أعرف أنس اللي حصل، عشان يقدر يسيطر على ملك.
إنت عارف وضعها، مش هتستحمل اللي حصل أبدًا."
هزّ مدحت رأسه بحزنٍ على صغيرته الأخرى، قبل أن يتابعَ حسام قائلًا لوالده:
تعال إنت بس يا حبيبي اقعد.
ـوشّك أصفر أوي.
أومأ له مدحت بتعبٍ حقيقي، مستسلمًا ليد ولده مُجلسًا إياه براحةٍ على أحد المقاعد، ومشيرًا لحور أن تجلسَ بجانبه.
خلع سترته مدثرًا الصغيرةَ شمس خوفًا عليها من أن تبرد، وهو يربت على وجنتيها، ماسحًا دموعها، سائلًا إياها بهمسٍ للمرة الخامسة تقريبًا:
يا حور، اسمعي الكلام بقى.
هخلّي حد من الحرس يروحك إنتي وشمس.
أنا مش حابب قعدتك هنا.
إنتي شايفة الوضع، وكمان شمس نايمة على رجلك ومحتاجة تنام براحة أكثر.
هزت رأسها نافيةً بإصرارٍ، وهي تقول بتأكيد:
مش همشي يا حسام.
أنا هفضل هنا، جنبك وجنب عمو."
هزّ رأسه مستاءً بشدة.
لا يريدها أن تظل هكذا هنا، تحتاج هي والصغيرة للراحة.
لكن لم يُنكر بداخله أنه سعيد.
هو بحاجةٍ إليها، بحاجة أن تظل بجانبه.
وجودها بحد ذاته يُريح قلبه المتعب ويعطيه القوة.
وهو بحاجة أن يكون قويًا لتَمرَّ تلك المحنة بسلام.
ستمرُّ برحمةِ الله بكل تأكيد.
❈-❈-❈
أخذ نفسًا عميقًا وهو يلتفت، يخطو ببطء بخطوات ثقيلة نحو ما لا يريد أن يري، وكأن كل خطوة تزداد ثقلًا على صدره، كأنه يسير على جمر لا يتحمله.
في بداية الأمر كان مقررًا أنه لا يريد أن يرى تميم بتلك الهيئة.
كيف له أن يراه؟
تميم شقيقه القوي، ذاك السند الذي لا يميل.
كيف؟
كيف له أن يراه بفراش المستشفى؟
لكنه لم يقدر، لم يقدر أبدًا على أن يكون أمامه ولا يراه.
يريد أن يراه ليطمئن قلبه.
وقف أخيرًا أمام الزجاج، بعيون غائمة غائرة.
عندما يتعلق الموضوع بأحبته، تتلاشى قواه.
تتلاشى أفكاره وآماله.
كل شيء يتلاشى، ولا شيء يظل سوى الخوف.
الخوف من القادم، الخوف من كل شيء، وكل لحظة، يظل بها تميم بتلك الغرفة.
رفع يده بتوتر شديد يمسح وجهه، شاعرًا بالهواء ينسحب من حوله.
وبكل ثانية يتطلع به فيخفض عيناه، لا يريد أن يراه بهذا الوضع.
كيف له أن يتحمل؟
كيف له؟
تنهد بقلب مثقل بالكثير، وهو يشعر بيد توضع على كتفه.
التفت ينظر خلفه، وهو يرى أحمد يربت على كتفه مواسيًا إياه.
نقل نظره لأخيه مرة أخرى، ولسانه لا يكف عن الدعاء.
وقلب يشاركه الرهبة والرعب، قلب يخشى، قلب لا يريد سوى أن يفتح عيناه.
قلب لا يريد سوى أن يراه بخير، وحينها، سيحاسب الجميع.
ولن يتهاون أبدًا.
❈-❈-❈
«مشاعر الحب لا يوجد ما هو أجمل منها،
جميلة بل رائعة،
كزهرة بديعة الجمال وسط صحراء جرداء،
نبتت في مكان لا تنتمي له.
وحبها هكذا،
أحبت من لا يستحق،
أحبت ذكرًا،
ذكر لا يليق أن يحصل على لقب "رجل" حتى،
ذكر تمنت لو تحرق صفحته من كتابها،
ولتبدأ من جديد.
فبدونه تصبح الحياة أسهل.
هي امرأة قوية،
ستسقط،
ستبكي قليلاً،
وربما ستتألم،
لكن ليس لأجله أبدًا،
بل لأجل مشاعرها المهدرة
وقلبها المتألم.
يمكن أن تقول بكل صدق
إن حبها له يومًا ما
لم يكن سوى مرض،
مرض خبيث لن يزول إلا باستئصاله
ونزعه من حياتها.
حينها ستحيا
كما تمنت،
ستحيا قوية أبية، لأجلها وصغارها.»
انتهت من أداء صلاتها وهي تجلس بهدوء،
تسبح محاولة أن تخرج نفسها من هالة الغضب والخوف التي تحيطها منذ علمت ما حدث.
تميم مختفي،
ما زال مختفي،
تلك وحدها أخبار تجعلها خائفة،
لكن واثقة أنه بخير،
سيعود،
وحينها ستأخذه في أحضانها
وتضمه وتزيح عنه كل ما يؤلم قلبه.
نظرت حولها بشرود للمنزل المقلوب رأسًا على عقب،
لا يظل مرتبًا أكثر من خمس وعشرون دقيقة،
هذا إن أكملهم حتى.
حركت رأسها بيأس،
لا أمل مع هؤلاء.
مسحت وجهها وهي تفكر،
نام الصغار
واحد تلو الآخر،
يستيقظ أحدهم في المنتصف،
فتظل معه حتى ينام، ويظلوا هكذا يتبادلون الدوريات فيما بينهم،
هذا ينام، تلك تستيقظ،
وتظل هي تدور حولهم وحول نفسها،
إلى ما لا نهاية،
دائرة مغلقة،
لن تخرج منها تقريبًا سوى يوم زفافهم.
ضحكت بسخرية،
لا، حتى حينها لن تخرج.
أطلقت آهًا خافتة متعبة،
وهي تحرك رأسها يمينًا ويسارًا.
من رحمة الله بها في هذا اليوم،
وفي تلك اللحظة من اللحظات النادرة للغاية،
نام الجميع.
وكم كانت بحاجة حقًا أن تصلي بهدوء شديد،
أن تقف بين يدي الله،
تبكي وتشكو،
تدعو بقلب مثقل بالكثير والكثير.
تريد أن تظل هكذا تصلي وتصلي
حتى يرتاح قلبها المتعب،
حتى تجد السكينة التي تنشدها.
مالت بجسدها حتى نامت على سجادة الصلاة بهدوء وراحة.
هنا ملجأها وأمانها.
مسحت على المصلاة الناعمة وهي تريح رأسها،
مغمضة عينيها،
سامحة لنفسها
بقليل من الهدوء والراحة،
قليل من السكون،
حتى غفت تمامًا.
غفت في أكثر الأماكن راحة لها.
غفت وبداخلها دعاء أن يريح الله قلبها
❈-❈-❈
صوت مزعج اخترق نومتها الهادئة،
لتفزعها وتوقظها،
تفتح عينيها بقلق، تنظر حولها بعدم فهم وتشوش.
نظرت بتشوش وعيون غائرة وشحوب خفيف،
وهي تعتدل تفرك وجهها بإرهاق شديد.
اعتدلت حتى جلست، مراقبة الواقف أمامها،
يلتقط بضع مقرمشات للصغار،
يلقيهم في فمه، يناظرها ببرود هادئ.
حسنًا كالعادة،
يخوض معها حربًا باردة،
حربًا غبية يعشقها هو،
يستفزها
ليخرج أسوأ ما فيها.
ناظرها بابتسامة
بعثت بداخلها نيران.
اشتعلت عيناها
حتى كادت أن تحرقه حيًا من شدة غضبها وغيظها.
أخذت نفسًا عميقًا
قبل أن تقف، تطوي المصلاة،
تضعها على ذراع المقعد،
وبهدوء شديد ينافي جنونها الحالي.
كانت تتوجه ببطئ نحو غرفة التوأمين.
وضعت القرآن بصوت أعلى قليلاً من الطبيعي
دون أن يفزعهم،
واقتربت تقبل الصغيرتين واحدة تلو الأخرى.
واتجهت تفعل المثل نحو الصغيرين عز وتميم.
أغلقت الباب،
والتفتت تناظره بعين تحمل الكثير من المشاعر:
استياء، احتقار، غضب، حزن.
قبل أن تقول بتأكيد حازم غير قابل للجدال:
"أنا مسافرة مصر
دلوقتي على أول طيارة."
لم تغفل عن اتساع عيني رامي،
يليه احمرار طفيف غزا وجهه نتيجة لغضب نما في تلك اللحظة،
وصدره يعلو ويهبط دليلاً أنها أوصلته إلى مرحلة الانفجار.
حسنا يستحق
قبل أن تتابع قائلة بتعب: تميم أخويا
بيمر بمشكلة،
وأنا لازم أكون جنبه.
وهكون.
وإذا حابب تمنعني،
حاول.
ووقتها رد فعلي مش هيعجبك أبدًا.
صدقني يا رامي، أنا عملت كثير أوي عشانك.
كثير أوي أكثر مما تتخيل.
بس زي ما عملت عشانك،
أقدر دلوقتي
أعمل ضدك.
برقت عيناه بذهول من حديثها،
وقبل أن يقترب منها ويصيح بغضب،
رفعت يديها بحزم وحسم:
"عندك،
صوتك ميعلاش.
ولادنا،
تو تو، قصدي
ولادي نيمين.
وأنا مش هسمحلك تفزعهم بسبب صوتك وزعيقك اللي ملوش لازمة.
أنا خدت القرار لوحدي عشان ملقتش جوزي جنبي لما كنت محتاجاه.
لما احتجته، ملقتهوش.
ولما فضلت أرن عليه اليوم كله،
قرر يتجاهل أني ممكن أكون في مصيبة
أو حد من ولادي حصله حاجة.
وتابعت بابتسامة مريرة: حبيت أقولك يا رامي،
إنك لا تستحق أن تكون أب.
يمكن مش أول مرة أقولهالك،
بس بجد أنت بتحب تثبتلي كل يوم
أني صح،
وأني كنت بعافر في لعبة خسرانة.
والتفتت تدلف الغرفة حيث صغارها،
شاعرة بالمرارة،
مرارة كونها أخطأت الاختيار.