رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 10 - 3 - الجمعة 17/1/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل العاشر
3
تم النشر الجمعة
17/1/2025
القاهرة ١٩١٦..
تعجب رستم حين وجد زوجته وأخته قادمتين من الخارج لبهو القصر، فسأل مستفسرا: إيه اللي حصل! إيه إسكندرية مكنتش ع الهوا يا هانم ولا ايه!..
ابتسمت ألفت مؤكدة: بالعكس، اسكندرية كانت لطيفة جدا، لكن انس أصرت ع الرجوع، وأنا مقدرتش أرفض لها طلب..
هم رستم بالحديث، إلا أن أحد الخدم قدم ليخبره أن سعد بيه في الصالون بانتظاره.. ما دفع أنس الوجود لتضطرب مهرولة نحو الدرج وألفت في عقبها.. كانت زيارة سعد محيرة لرستم، فقد قلت زياراته بعد رفض طلب الزواج إلى الحد الذي ظن أن سعد لن يطأ هذا القصر مجددا.. استشعر أن الأمر ليس اعتياديا فتوجه مسرعا نحو الصالون.. لينهض سعد مجيبا تحية رستم الذي قابله بالبشر كعادته، لائما في عتب: ايه الغيبة دي كلها يا سعد بيه! رحت الرسلانية وقلت مش راجع المحروسة تاني ولا ايه!..
أكد سعد باسما: وهو أنا أجدر برضك يا رستم باشا!.. بس الظروف فالرسلانية مش تمام، والأرض حالها ميسرش، وفوج ده كله، اتجرت فاتحة أختي وبچهز لفرحها..
هتف رستم في نبرة فرحة: مبارك يا سعد بيه، إحنا اكيد معزومين ع الفرح!..
هتف سعد مؤكدا: اومال يا باشا، معلوم.. هو في كلام تاني، ده الفرح مش هيكمل إلا بتشريف چنابك..
هتف رستم مازحا: جواز أختكم، ومن بعده جوازكم سعد بيه..
هتف سعد في جرأة: إن مكنش مطلبي لوصل الهانم أختكم اترفض، كان هيبجى الفرح فرحين يا باشا..
هتف رستم مستفسرا على استحياء: أنت ما زال لك رغبة في الزواج بأختنا سعد بيه!..
هتف سعد بلهفة، وقد لاحت له بيارق أمل في كلمات رستم: ومليش رغبة فالدنيا إلا الجبول يا باشا، وأها.. أني بطلب يدها من چنابك للمرة الثانية، وهطلبها التالتة والرابعة وما همل الطلب، إلا لما ربنا يأذن وتكون من نصيبي..
تنهد رستم معترفا: سعد بيه، أنا أقوم ب فعل لا أعرف ما هي تبعاته.. فعل أحمق قد يكلفني علاقتي بوالدنا، لكن.. حرصي على مصلحة أنس أختنا.. وثقتي في إنك الشخص الذي يستحقها، أنا أعلن موافقتي على زواجك من أنس على بركة الله..
هتف سعد مذهولا، محاولا أن لا يفقد وقاره، وهو يرد على ما سمعه لتوه من رستم: أنت موافج يا باشا!..
هتف رستم باسما: وهل في مزاح في أمور الزواج سعد بيه!. بالتأكيد موافق، وربنا يرحمنا من غضب كاظم باشا..
اندفع سعد ممسكا بكف رستم، شادا عليها في امتنان، هاتفا في فرحة غامرة: هكون عند حسن ظنك وهحط الهانم في عيوني.. واللي تطلبه كله مچاب..
أكد رستم في راحة: أنا عارف إنك محل ثقة سعد بيه وإلا ما كنت غامرت بعلاقتي بوالدي، وكل اللي بطلبه منك، هو الحفاظ على أنس تحت حمايتك ورعايتك.. أنس تستحق السعادة، واتمنى تلاقيها في بيتك سعد بيه..
لم يدرك سعد حرفا مما قيل بعد أن نال القبول أخيرا، كان يجلس على مقعد من اشواك حتى ينهي مقابلته مع رستم باشا، ليندفع للخارج يحاول أن يضبط مساره حتى لا يتخلى عن وقاره ورزانة خطواته المعتادة، وهو يغادر القصر عيناه معلقة بشرفتها، ويالفرحة قلبه حين وجدها بانتظاره!. تسمر موضعه وقد أدرك أن خبر موافقة رستم باشا على طلبه الزواج منها قد وصلها، وإلا ما كانت تنتظره هناك، تجرأت وشوحت منديلها الحريري ليطير صوب موضعه، فالتقطه سعد في لهفة قبل أن يسقط أرضا، جمعه في عجالة دافعا به داخل صديريته بالقرب من قلبه، ملقيا نظرة أخيرة على محياها الصبوح، قبل أن يندفع لداخل عربته راحلا، عيناه لا تبرح موضعها بالشرفة حتى غاب، ومنديلها الحريري مستقرا حيث استقرت صاحبته، بحشا الفؤاد..
❈-❈-❈
الإسكندرية ١٩٩٠..
تطلعت أنس في رضا لمنيرة، وهي ترى حالتها تتبدل تدريجيا من سيئة عند وصولها وخاصة أثر ذاك الحادث في بداية وصولهما إلى جيدة.. فعلى ما يبدو أن هواء البحر له عامل كبير في إخراجها من حالتها، فقد كانت ترفض الخروج في أوقات كثيرة وكانت معظم جلساتها أمام الشاليه، تتطلع للبحر بالساعات دون ملل، وكأنها ألقت أحزانها وأوجاعها بين أمواجه لتعود لحالتها الطبيعية إلى حد كبير، ولم تكن الساعة استثناءا، فقد كانت تجلس في هدوء تتدثر بذاك الشال الصوفي وهي شاردة هناك بالأفق البعيد، لتهمس أنس في مودة: باين عليكي حبيتي البحر يا منيرة!..
أكدت منيرة باسمة: هو يتحب مع إنه يخوف.. ويريحك مع إنه ميطمنش..
هتفت أنس مازحة: إيه ده وبقينا نقول أشعار.. وكلام كبير أهو!
ابتسمت منيرة مؤكدة: لا كلام كبير ولا حاچة، البحر ده عامل زي بني ادمين كتير، اللي ظاهر منه حاچة، واللي فچوفه حاچة تانية..
تنبهت أنس أن منيرة تقصد عزت بكلماتها، فما رغبت في إثارة أي كلام عنه، فقد جاءت إلى هنا من أجل نسيان ما جرى من هذا العزت، أو حتى على أقل تقدير التخلص من أثره السيء على نفسها، فهذا الأمر القاسي على نفس اي امرأة، لا يُنسى مهما حيت، لكن على الأقل العمل على تخفيف وجعه عن روحها قليلا، واستعادة بعض من ثباتها النفسي..
همت أنس بالنهوض لصنع مشروب ساخن، إلا أن منيرة استوقفتها ترجو في نبرة مضطربة: بجولك ايه يا أُنس!.. أني عايزة ارچع الشال ده لصاحبه..
هتفت أنس متعجبة: هو ده مش بتاعك!
أكدت منيرة باسمة: لاه، ده رچالي..
هتفت أنس في اضطراب لا تعلم لمَ شملها: عارفة، بس كنت فكراه يخص حبيب بيه!..
هزت منيرة رأسها نفيا: لاه، ده بتاع الظابط اللي لحجني يوم عركة المحطة..
هتفت أنس: آه سراج بيه الحفناوي.. طب مفيش مشكلة كويس إن نمرة تليفونه معايا، هجرب ارن عليه ونوديهوله النهاردة قبل ما نسافر..
هزت منيرة رأسها موافقة على اقتراح أنس، التي اندفعت تُخرج رقم هاتف سراج من حقيبتها، أدارت قرص الهاتف بالرقم في هدوء بانتظار الرد، لكن أحدا لم يرفع السماعة على الجانب الآخر، كررت المحاولة مرة آخرى بلا طائل، ما جعلها تهتف: شكله مش موجود، بصي هجرب تاني لحد قبل ما نسافر وأشوف، ولو مردش نفوت ع القسم قبل ما نسافر على طول نسيهوله مع صاحبه اللي هناك، صح كده!
هزت منيرة رأسها موافقة، مع ابتسامة رضا، وبلا وعي شدت طرفي الشال الصوفي حول جسدها ليبعث فيها دفء عجيب، دفء ما وجدته من نسيج شالها الفاخر الذي احضرته معها من أجل هذه الأجواء، لكنها ما أخرجته من جوف حقيبتها، واكتفت بشاله ودفئه، غير مدركة أن الأمر أكثر تعقيدا من الفارق في الدفء المنبعث من كليهما، بل تخطاه لما هو أعمق..
رنين الهاتف الذي علا اللحظة أعاد أنس للداخل لترد في عجالة مازحة معتقدة أنها هاجر، لكن تفاجأت حين كان المتصل نصير الراوي: مساء الخير يا آنسة أنس!.. واضح إن اسكندرية لها أثر كويس عليكي..
اضطربت الأحرف على شفتي أنس، مؤكدة حين استجمعت ثباتها: الحمد لله يا نصير بيه، الفضل لحضرتك..
أكد في رزانة: مفيش أي أفضال إطلاقا، وده مكانكم في أي وقت..
ساد الصمت لبرهة، ليستطرد هو عندما وجدها صامتة: ارجو إن الرحلة تكون موفقة، والانسة منيرة بقت كويسة دلوقت!.
أكدت أنس في كلمات مقتضبة: الحمد لله، أحسن كتير.. وألف شكر لكرم ضيافتك يا نصير بيه، مفتاح الشاليه هيكون مع هاجر النهاردة بإذن الله..
هتف نصير معترضا: ومستعجلة ليه!..
همست أنس: معلش ورايا التزامات كتير لازم أرجع عشانها..
سأل في فضول لم يكن من صفاته: ويا ترى الالتزامات دي فالقاهرة، ولا ف الصعيد عند قريبتك!..
لم تجبه، فقد شعرت أنه يتدخل فيما لا يعنيه، وأن فضوله زاد فيما يخص أمورها، وهذا غير مقبول، استشعر هو ما بداخلها، ليهتف معتذرا: أنا مقصدش طبعا التدخل في أي من أمورك، كانت مجرد دردشة عادية، مرة تانية بقولك إن الشاليه اعتبريه بتاعك، ووقت ما تحبي اتفضلي.. سلام..
همست أنس في نبرة رسمية: مع السلامة..
وضعت أنس السماعة منهية الاتصال، معاودة الاتصال بسراج مجددا، لكن لا إجابة..
أعادت هي ومنيرة الشاليه على حالته الأولى، قبل أن يحزما أمتعتهن مغادرات، وانطلقا نحو القسم، سألت أنس الصول مجاهد عن سراج وصاحبه، فأقر: سراج بيه اتنقل من يومين، وجمال بيه مش هنا في معاينة..
سألت أنس: طب متعرفش جمال بيه هيرجع امتا!..
هز مجاهد رأسه نافيا، ما جعل أنس تنظر لمنيرة في خيبة أمل، فلم ترغب منيرة في ترك الشال إلا لصاحبه، أو حتى لجمال صاحبه المقرب على أقل تقدير، فقررت أخذه معها، تتدثر به في طريق العودة وهي تجلس على مقعد القطار، لعلها في يوم تعود ومعها أمانته، لتردها ليد صاحبها.. إذا ما كتب القدر لقاءها مجددا..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٠..
كان صوت زفراني الذي جاءهم من خلف أسوار السراي هو الذي هدأ انفعالهما، بعد أن اعتقدا أن شخص ما قد تسمع حديثهما الشائك حول مدثر ومشاعره نحو نجية أم سالم، أكد حبيب في هوادة متنهدا: ده زفراني كيف عادته، بيدخل من مطرح ما هو رايد وجت ما تطج فدماغه.. الحمد لله إنه محدش غيره هو اللي كان بره، دي تروح فيها رجاب يا مدثر..
لم ينطق مدثر، فما كان هناك من كلام يقال، وقد زعق زفراني بكل ما يعتمل في نفسه، بل في نفس كل عاشق، أحب واخلص، ولم ينل من عشقه سوى الدموع:
ميتا تطيب يا الوچع.. يا اللي ساكن بين ضلوعي..
چرحى صعيب يا زمن.. والأصعب چريانها دموعي..
ليلة بعد ليلة زاير ..ما ف نوبة خلفت ميعادك ..
تغيب .. تعاود يا الوچع ...كن الجُليب زادك..
ارحمنى ليلة يا شوج وروح شوفلك غيري ..
دنا جلبي داب كن الشچا، موصوفله خط سيري..
هتف مدثر متأثرا: كن حد مسلط زفراني يصب فوج الوجيعة المِلح الحي.. بكفاياك يا فجري!..
هتف حبيب مستدعيا زفراني الذي هرول لداخل السراي دون أن يوقفه شبل، فقد أعتاد على هذه الهجمات التي مهما اعترض عليها، يغفرها له حبيب بيه ولا يلومه، ليصل لموضع مدثر وحبيب، الذي اجلس زفراني واضعا أمامه صحن من طعام قد أمر نبيهة بتحضيره لأجله، فقد كان على علم أن زفراني لا محالة مارا من هنا، فترك الصحن جانبا وها هو يقدمه له في مودة، تاركا إياه يتناوله في هدوء، لكن ما كان لزفراني أن يصمت، وقد كان الكلام حرفته والأحرف هي ترجمان المستور المخبأ بلوح الصدور، فقد رفع رأسه لبرهة نحو مدثر، وتطلع مليا بلا إفصاح، معاودا النظر لصحن طعامه الذي أوشك على النفاد، وقد أتى على معظم ما به من طيب الطعام، حتى إذا ما فرغ تماما، رفع رأسه نحو حبيب مترنما في كلمات متقطعة: الأميرة راحت بعيد.. ركبت وابور الحديد..
الأميرة راحت فين!.. بعدت ليه عن نور العين!..