رواية جديدة لحن محرم لهاجر التركي - اقتباس - الخميس 9/1/2025
قراءة رواية لحن محرم كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية لحن محرم
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة هاجر التركي
اقتباس
تم النشر الخميس
9/1/2025
اقتباس
تم النشر الخميس
9/1/2025
في سِكون الأجواء، حيثُ اِستقّرت الأرضْ على هدوء مُطلق، كَانت الشمس تُلامس الأُفق بحذرٍ، تنثرُ أشعتها الأُولى كخِيوط ذهبية خافتة تمتد عبر زجاج النوافذ. الهواء بدا ساكنًا، لا صوت سوى همسات الطبيعة الخافتة كأنها تتنفس بخفوت.
ارتفع صوت معدني خافت، بالكاد يُسمَع، كان صوت المقبض يدور ببطء،يد خفية أدارت المقبض، ترويضًا لهذا الباب، انفتح الباب بهدوء، كأن صاحبتهُ تخشى أن توقظ الأثاث النائم في قلب صالون شقتها.. الحافة السُفلية للباب سَحبت نفسها بتؤدة عَبر الأرضية، كأنها تُحيّي ذرات الغبار التي تكومت في صمت، تُثيرها برفق، فتطفو في الهواء كأنها ذرات حياة تنتظر بداية جديدة. الضوء الذي أفسح له الباب مجالًا بدا أكثر جرأة الآن، تسلل بخطوات حذرة للداخل
لامست أطراف أصابعها الأرضية الباردة أسفل قدميها، خارج حدود شقتها، رفعت قدميها بتذمرٍ ترجعُ خطوتين إلي الخلفِ مرة أُخري تحديدًا بداخل عتبة شقتها ذات الأرضية المُحاطة كُليًا بسجاد دافئ يمتصُ برودة الجو.... زفرت بحُنقٍ تبحث عن خُفها لترتديه، أرتدته علي أستعجالٍ، من ثُمَ عاودت الخروج بهدوء وكسلٍ وما زالت آثار النُعاس مُلتصقة بعينيها، بحركة آلية روتينية، دفعت سلة المُهملات بقدميها لكي تُفتح، من ثُمَ القت بكيس القُمامة الأسود الذي بينَ يديها بإهمال.....
قشعريرة قصيرة سرت في كامل جسدها بفعلِ برودة الجو علي عكس الدفء التي كانت تنعمُ بهِ بداخل شقتها، وخاصةً لأنها ترتدي منامة حريرية قصيرة بالكاد تُغطي نصفِ جسدها... شعرت للحظة بذلك الثُقل الخَفي الذي يلامسها، كأنما هناك أعين تلتهم تفاصيلها دون استئذان. رفعت عينيها ببطء، وكأنها تسير على خيط رفيع من الشك، حتى التقت بعينيه. كانت نظراته ثابتة، مليئة بشيء غامض بين الانبهار والافتتان، وكأنما وجد نفسه أمام لوحة تفوق توقعاته. لم يحاول أن يداري تلك الشرارة التي اشتعلت في عينيه، بل تركها تنطق بما يعجز لسانه عن قوله....
وتلقائيًا لاحظت كيف أنحدرت عينيهِ، تلك النظرة المزدوجة بين الوقاحة غير المقصودة والانبهار العفوي الذي أوقعهُ في مأزق التحديق غير المبرر، نحو خطوطٍ واضحة ارتسمت على القماش الخفيف لمنامتها. تلك الحدود التي لا تُخفي شيئًا من أنوثتها الطاغية، لكنها في الوقت نفسه لم تسعَ لإبرازها بشكل متكلف. كانت كلّ التفاصيل تشي بإطلالة غير مُتعمدة، طبيعية كالصباح نفسه، لكنها قد تسببت بالفعل في قلب يومهِ رأسًا على عقب. وكأن هذه اللحظة هي بداية يومه الحقيقي، وإن كانت لها، فهي اللحظة التي قضت على مزاجها منذ اللحظة الأولى.
حاول أن يستجمع ما تبقى من رُكام هيبتهِ، فتململ قليلاً في وقفته، ليعدل من نظارتهِ الطبيّة، التي ربما كانت وسيلته للتظاهر بشيءٍ من التماسك. ابتسامة واهية، متوترة، امتدت على شفتيه كأنها محاولة بائسة لإخفاء ارتباكه:
_"صباح الخير يا آنسة رنوة".
خرجت كلماتهِ بترددٍ واضح، لكن عينيه فضحتا إعجابه الذي حاول طمسه دون جدوى. كان في نظرتهِ ارتباك رجلٍ شعر فجأة بأنه في غير مكانه، كأن هذا اللقاء غير المتكافئ جعله يقف أمام مرآة تعكس نقصًا لم يدركه من قبل.
"رنوة"، من جهتها، لم تكن لتدع الموقف يمر دون أن تضع لمستها الخاصة عليه. التفتت برأسها ببطء مُتقن، وكأن هذا البطء هو منحة صغيرة تمنحه فرصة للتعافي من وقع المفاجأة. كانت نظرتها، التي تثبتت عليه للحظات، أشبه بعدسة تُقيمه في ثوانٍ معدودة. عيناها لم تظهرا أي تردد أو اضطراب، بل كانتا ممتلئتين باليقين. يقين امرأة تعي تمامًا مكانها في هذا المشهد، تعرف أنها المحور، وأنه مجرد مُشاهد يقف في الخلفية يحاول أن يلتقط شيئًا من برِيقها المُشع.
ردت عليه بنبرة هادئة، واثقة، كأنها تُلقي عليه سلامًا بروتوكوليًا لا أكثر:
_" صباح النُور يا أستاذ....".
لم تمنحه رفاهية أن يتذوق اعترافها باسمه. نبرتها، مع ذلك، لم تكن حادة، بل مُتقنة الاتزان، تنضح بغرورٍ ناعم لم يُثقل المشهد. لم يكن غرورًا فجًا أو صلفًا، بل كان ذلك النوع الذي ينبع من كبرياء أُنثي تُدرك مدى تأثيرها على الآخرين. لم تكن بحاجة إلى أن تثبت شيئًا، لأنه كان واضحًا تمامًا من خلال نظرتها ونبرة حديثها. شفتيها انحنتا بخفة في زاويتهما، ما بين شبه ابتسامة لا يمكن تسميتها وديّة، لكنها لم تكن عدائية أيضًا. كانت ابتسامة أُنثي تعي جيدًا أن إعجابه بها هو أمر مُعتاد، مألوف، لا يثير فيها أدنى دهشة.
أما هو، حمحمَ للمرة الثانية، وكأن محاولاته للخروج من فخ ارتباكه قد باءت بالفشل مرة أخرى. شعر بحرارة طفيفة تسللت إلى وجنتيه، بالرغم من برودة الجو الصباحية. رفع يده سريعًا إلى عُقدة عُنقهِ ، يُعدلها دون حاجة حقيقية، محاولاً تبديد شعوره بالضيق الذي بدأ يخنقه:
_" هشام... معقول جيران بقالنا سنة وناسية أسمي؟".
كانت كلماته تحمل مزيجًا من الإحراج واللوم اللطيف، لكنها لم تستطع أن تُخفي تلك النغمة الخفيفة من الحرج، وكأن شعوره بالتهميش أمامها لم يترك له فرصة للرد بشكل أكثر تماسكًا.
غبي يُذّكرها بأنها تحتمل حماقتهُ مُنذ سنة، كم هو عملاً عظيمً حقًا، تستحقُ تقديرًا كبيرًا عليهِ.... التقطت شرارة الإعجاب في عينيه التي لم تحد عنها، لم تبدِ أي ارتباك. على العكس، استقرت على الوقوف بثبات، ظهرها مستقيم وذقنها مرتفع قليلًا، وكأنها أرادت أن تمنحه درسًا غير منطوق في كيفية التصرف أمامها.
كانت ملامحها تُشبه لوحة فنية تتلاعب بألوان متضاربة، مزيج من الجدية التي لا يمكن تجاهلها واللامبالاة المصطنعة التي تُجيد إظهارها دون أي جهد. بدا وكأنها تتقمص دورًا مُحترفًا في مسرحية تعرف جميع خطوطها وتُتقن أداءها دون خطأ. نظراتها المُحدقة فيه كانت طويلة بما يكفي لجعله يشعر وكأنه تحت عدسة فاحصة، نظرة لم تكن عابرة، بل أقرب إلى إعادة تقييم دقيقة لكل شيء فيه، وكأنها تعيد ترتيب معطياته أمامها.
ظلّت عيناها تستكشفه بصمت، تدور بين ملامحه المتوترة وحركاته الصغيرة المُحرجة، وكأنها تنتظر اللحظة المناسبة لتُطلق كلمتها. وأخيرًا، جاء ردها، باسمة الثغر، لكن ابتسامتها لم تكن تُشبه تلك الابتسامات العفوية الصادقة. كانت أكثر اتقانًا مما يجب، مصطنعة بدرجة تكفي لإشعاره بأنها اختارت بعناية الطريقة التي تُظهر بها استهزاءً مبطناً، وكأنها تُخبره ضمنيًا أنه يستحق هذه المعاملة المحددة.
_"آه، أستاذ هشام، بعتذر جدًا، الفترة دي بقيت بنسي حاجات كتيرة..."
كلماتها خرجت ببطء، وكأنها كانت تزن كل حرف منها قبل أن تُطلقه، تُظهر اعتذارها في البداية، لكن بنبرة خافتة، كأنها تُمارس لعبة لغوية تُتقنها جيدًا. لم يكن من الصعب تمييز الإيقاع الساخر الذي يختبئ تحت السطح، تلك الموسيقى الخفية التي ترافق كلماتها وتجعلها تبدو كضربة ناعمة لكنها موجعة.
ثم، وبحركة خفيفة، ارتفعت زاوية ابتسامتها، لتتسع بشكل متعمد حتى بلغت حدود السُماجة، وكأنها تُضيف لمسة أخيرة تُبرز رسالتها الخفية التي كانت واضحة كالشمس، رسالة تواريها خلف كلماتها وكأنها لم تقلها:
_"خصوصًا الحاجات اللي مُش مُهمة بالنسبة ليا".
كان صوتها أشبه بسهم موجه بدقة، لا يترك مجالًا للشك في نواياها، لكنها مع ذلك أبقت عليه مغلفًا بابتسامة متكلفة، تزيد من وقع كلمتها بدلاً من أن تُخففه. وما إن أنهت جملتها، حتى أغلقت سلة القُمامة بحركة سريعة وقويّة، لم تكن مجرد حركة عادية. الصوت الذي أصدره الغطاء حين ارتطم بالمكان كان رسالة أخرى، مباشرة ومليئة بالوضوح، تضيف تأكيدًا غير لفظي على إنهاء المحادثة.
رفعت وجهها إليه مُجددًا، مانحة إياه تلك الابتسامة الأخيرة التي حملت في طياتها كل معاني المجاملة المتكلفة. لم تكن ابتسامة لطيفة، بل أشبه بإعلان مُغلف بإتقان أن هذه المحادثة انتهت هنا ولن تُمدد أكثر.
_"بعد أذنك، مضطرة أدخل".
قالتها بصوت هادئ لكنه حازم، تُلقي عليه عبارتها وكأنها ختمتها بطابع لا رجعة فيه. ثم استدارت برشاقة محسوبة، تاركة وراءها أثراً من الغرور الناعم الذي ميز كل حركة وكلمة منها، وأغلقت الباب برفق، وكأنها تُغلق معه أي مجال لتبادل حديث أطول بينهما.
من ثُم أستندت عليهِ تزفرُ الهواء بغيظ، أبعدت خصلاتها السوداء الثائرة حول وجهها، قَلّبت عينيها بمللٍ، تتقدمُ للداخل بهدوء وتؤدةٍ...من أينَ تأتي بعصاة غليظة، لا ليسَ لضربهِ لتسبُبه في أفساد مزاجها بالصباح الباكر، بل لضرب نفسها، وينتهي الأمر... أينَ كانَ عقلها حينما قبلت بأن تسكنُ هُنا....
نعم أنها عِمارة راقية، تحتضنها المدينة كجوهرة خفية وسط الضجيج. المبنى يبدو كأنه لوحة كلاسيكية خرجت من زمنٍ مختلف...
على الرغم من كل هذا الجمال، كانت العمارة أشبه بعالم غريب بالنسبة لها. سكنت فيها وسط بحر من الوجوه الرجالية، وكأنها وردة وحيدة في حقل من الصخر. معظم الساكنين أن لم يكن جميعهم،عداها، رجالٌ يعملون في وظائف مرموقة، تُظهرها ملابسهم الرسمية وحركاتهم الواثقة وهم يعبرون البهو أو ينتظرون المصعد. أغلبهم يُظهرون لامبالاة مُتكلّفة، لا أكثر من إيماءة رأس صباحية أو ابتسامة رسمية عابرة، لكنها دائمًا ما شعرت بالعيون تراقبها من خلف الزجاج العاكس للنوافذ، أو من خلال الستائر المُسدَلة بحذر..... وخاصةً جارها الساذج "هشام"، طبيب يعملُ تقريبًا بمشفي قريبة منهم
المصعد، الذي بدا كأنه جزء من فيلم كلاسيكي، يفتح أبوابه برفاهية معدنية صامتة. كل مرة تدخل فيه، تشعر بأنفاسها تنحبس للحظات، ليس بسبب المساحة الضيقة، بل بسبب الإحساس الطاغي بأنها موضع اهتمام، حتى وإن لم يكن هناك أحد. المرآة الداخلية في المصعد تعكس صورتها كأنها تذكرها بأنها الأنثى الوحيدة هنا، وسط هذا الصرح الرجالي، كم هُو مُثير للشكوك، أُنثي صغيرة مثلها..مُحاطة من جميع الجهات بالرجال الغُرباء
يتبع
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة هاجر التركي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية