رواية جديدة كيان مستغل مكتملة لشيماء مجدي- الفصل 2 - الثلاثاء 21/1/2025
قراءة رواية كيان مستغل كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية كيان مستغل
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة شيماء مجدي
الفصل الثاني
الفصل الثاني
تم النشر الثلاثاء
21/1/2025
تم النشر الثلاثاء
21/1/2025
الموت لا يسرق الأحباء فقط، بل يسلب أيضًا الشعور بقيمة الحياة، ويمزق ما بين القلب وحناياه. منذ وفاة والدها وهي مستلقية فوق فراشها بوجهٍ شاحبٍ كشحوب الموتى، لم تغادر غرفتها مهما استدعى الأمر، ولم تتحدث لأي شخص عليها مر، باتت كالشريدة وهي بين جدران بيتها، فاقدة للحنان، وحيدة، وضاع منها مصدر الآمان، عدم تهيؤها لرحيله، أو ربما نكرانها لاحتمالية وفاته ما جعلها تصل إلى تلك الحالة السيئة، لقد كانت حياتها كلها تتمحور حوله، فهو لم يكن لها والدًا فحسب، بل كان صديقًا تشاركه أسرارها، وشتى أحاديثها، كان أمانها وبه تكمن كل حياتها.
خلال الأيام المنصرمة تردد الكثير إليهم، للقيام بواجب العزاء، وكان يمتليء البيت بالزوار، منهم الأقارب، ومنهم الأغراب، ووسط هذا الخضم من أناس كثر لم تشعر سوى بوحدتها، التي لازمتها بابتعاد روح والدها عن المكان، حتى الدفء الذي كان يتغللها بقربه، تحول إلى برودة قاسية ضربت بسائر كيانها الكسير، الذي يملأه الحنين لصوته الأمن، رائحته الطيبة، وحنانه الكبير.
كل ما تبقى لها الحين منه هي الذكريات، أطياف وخيالات، لكل ما مر عليها طوال سنواتها بقربه، وبين أحضانه، ذكريات أصبحت مصدر للألم، فمع استعادتها تتنشط مداركها بحقيقة رحيله القاسم. بينما هي بين طيات التيه والشرود، وصل لمسامعها صوت طرقتين فوق باب غرفتها، تلاهما دخول مدبرة البيت، ومربيتها سابقًا، فهي تدري أنها لن تتفوه بكلمةٍ تسمح من خلالها بالدلوف أو الرفض، فهي على تلك الحالة الساهدة، والصامتة منذ ليلة فقدها لوالدها، وهي بدورها ظلت إلى جوارها تحاول شد أزرها ومواساتها. اقتربت منها وهى تحمل بين يديها صينية طعامٍ جلبته لها، وضعتها فوق الطاولة الصغيرة المتوسطة الغرفة، ثم اقتربت من فراشها بابتسامة طيبة، وأردفت بهدوءٍ وحنوٍ:
-كيان يا حبيبتي، عشان خاطري يا بنتي قومي كليلك لقمة، انتي بقالك يومين محطتيش حاجة في بؤك.
ظلت على صمتها المحزن، ونظرها مثبت في نقطة وهمية في الفراغ، كأنما فقدت السمع والنظر، فلا تسمعها أو تشعر بوجودها. اعترى وجه العاملة الأسى عليها، ولكنها لم تيأس في اقناعها، فتركها بدون طعام لكل تلك المدة يعد انتحارًا يغمضون الطرف عنه، وأطنبت بإصرار وهي تربت على ذراعها برفقٍ:
-طب بلاش عشان خاطري، عشان خاطر بكر بيه اللي استحالة كان هيرضيه حالتك دي او يسكت عنها.
رفعت مقلتيها التي امتلأت بالدموع على ذكر والدها، حينئذ دنت منها الأخرى عندما رأت استجابتها، وسألتها بتأكدٍ وهى تملس على خصلاتها بلينٍ:
-هتقومي معايا يا حبيبتي تاكلي صح؟
أومأت بضعفٍ وبدأت في رفع جسدها الواهن عن السرير، وساعادتها المدبرة على النهوض بعد أن شعرت بقدرتها المعدومة على الاستقامة بمفردها، فانقطاعها عن الطعام، مع بكائها المستمر جعلاها في حالة ضعفٍ عام. لم تنتقل من جوارها وهي تتناول الطعام، الذي كان ممزوجًا بدموعها، التي باتت فاقدة للتحكم بها، كحياتها التي جرفتها إلى أسوأ مصائرها.
❈-❈-❈
قبل الوقت المحدد لإعلام الوراثة، حدد المحامي الخاص بـ"بكر الراشدى" موعدًا لمجيء الورثة لمكتبه، حتى يعلمهم بالوصية التي تركها السيد "بكر" حول تركته، والتي قد أبلغه بها قبل وفاته بفترة وجيزة، وكلفه كذلك بإثباتها في الشهر العقاري بالتوكيل الذي بحوزته. بعد صمتٍ دام لبضعة دقائق كان يعبث خلالهم ببضعة ملفات بين يديه، أعطاها بعد ذلك لمساعده الخاص، الذي غادر الغرفة فور ذلك، ثم تكلم بنبرةٍ رسمية جدية للغاية:
-بكر بيه قبل ما يموت بشهرين تقريبا، كتب وصية وطلب مني إثباتها في الشهر العقاري..
ارتكزت أبصارهم عليه بتركيزٍ منتبه، عدا "كيان" التي أتت تنفيذًا لأمر والدتها، في حين أكمل الآخر دون تمهيدٍ:
-كتب فيها كل أملاكه باسم انسه كيان بنته.
برقت أعينهم فى صدمةٍ غير متوقعة، ألجمت ألسنتهم عن النبس ببنت شفةٍ لعدة لحظات، وكان أكثرهم صدمةً "كيان"، التي لم تدرِ عن ذلك الأمر شيئًا، وشعرت بدقات قلبها ترتطم في صدرها بعنفٍ، فلا والدتها أو عمها سيتقبلا بما أوصى به، فمجيئهم بالأساس كان لمعرفة مقدار نصيبهم في الإرث، الذي اتضح أنه لا شيء، وهذا ما جعل والدتها تنتفض كمن لدغتها أفعى للتو، وهدرت بالمحامي بانفعالٍ أهوج:
-ايه التهريج ده! ده كذب استحالة بكر يعمل كده.
تغيرت تعبيراته إثرًا لتشكيكها في أمانته، ولكنه تحامل ذلك ورد عليها بهدوءٍ:
-من غير غلط يا سمية هانم، انا معايا الأوراق اللي بتثبت كلامي ومتسجلة في الشهر العقاري، تقدري تاخدي نسخة تتأكدي من صحتها بنفسك.
غاب عقلها عن التفكير تمادت فى إهانتها له صارخةً بغضبٍ أعمى:
- ده تزوير وانت مساعد فيه وانا هرفع عليك قضية وهطعن فى صحة الورق ده.
احتدت ملامحه من اتهامها الصريح له، وأردف بجدية:
-سمية هانم انا قلتلك بلاش غلط، انا مفيش أي إفادة هتعود عليا من إنى ازور وصية، الأملاك كلها باسم بنت حضرتك مش باسمي انا مثلا.
حاول كبح جماح غضبه وهو يضيف بتعقلٍ:
-ومع ذلك قلتلك تقدري تاخدي نسخة تتأكدي منها إذا كانت مزورة ولا سليمة.
كادت تتحدث مجددًا بغضبٍ أهوج، ولكن منعها "نوح" بنهوضه عن مقعده، وهو يقول:
-استني يا سمية.
نظرت له بوجهٍ ينبعث منه حرارة ثورتها المكتومة، في حين وجه هو حديثه للمحامي قائلًا بتوجسٍ:
-مش بتقول برضه يا متر انه من شهرين تقريبا قبل موته كتب كل املاكه باسم كيان؟
أجابه الآخر بإيجاز قائلًا:
-بالظبط.
ضم شفتيه بغير اقتناعٍ وسريعًا ما أردف بتخبط داخلي:
-وهو من شهرين تقريبا قبل موته برضه كان جاله جلطة وكان مبيتحركش ولا بيتكلم.
أغمض عينيه وتنهد مطولًا ثم تكلم بنفاذ صبر من تصميمهم الواضح على تكذيبه، موضحًا:
-بكر بيه الله يرحمه كان الجزء الشمال عنده اللي اتشل، طلبني وروحتله الفيلا وهو تعبان، وقتها كان كاتبلي وصيته وانا مشيت في الإجراءات بعد كده بالتوكيل اللي معايا.
ازداد جنونها مما قاله، فقد ساورتها الشكوك حول صدق كلامه، حيث إنها قد سبق أن علمت أثناء مرضه من العاملات ببيتهم بتردد المحامي إليه، ولكن غليان الدماء بعروقها جعلها تنكر تلك الشكوك وتصيح به:
-ولما هو كده معرّفش حد فينا ليه!
رد عليها على مهلٍ متعمدًا إثارة استفزازها بقوله:
-بلغني إن الموضوع يتم فى سرية تامة، وده شغلي وانا نفذته..
في تلك اللحظة لعبت الظنون في رأس "نوح"، وحول عيناه نحو "سمية"، التي فهمت ما دار في ذهنه من نظرته، فقد كانت تفكر في نفس طرق لفكره، وحينما رأى المحامي النظرات المتبادلة بينهما، فطن أن الأمر شخصي، بعيدًا عن عمله كمحامٍ للمتوفي، وقال وقتئذٍ:
-انا كده مهمتي في تبليغكم انتهت، وأي أمور شخصية بعد إذنكم اتكموا فيها بره المكتب.
طريقته التي توحي بطردهم بعد أن قذف بقنبلته الموقوتة في وجوههم ضاعفت من غليلها، وكادت أن تتحدث مجددًا بأفظع الكلمات، إلا أن "نوح" منعها بوضعه يده أمام وجهها، وتكلم بجمودٍ:
-المتر معاه حق، ملهاش لازمة قاعدتنا هنا أكتر من كده.
كانت ثائرة بشكلٍ لا يوصف، ولكنها رغم ذلك استجابت لما قاله، وغادرت المكتب بخطواتٍ تعتريها الغضب البين، فوجودها لن ينتج عنه خيرًا، خاصة مع طريقة ذلك الرجل، الذي شيع الخبر لهما بطريقة بدت كأنها شامتة، بينما نهضت "كيان" وهى لا تدري ما الذي سينجم عن فعلة والدها، ولكنها اتبعتهما في صمتٍ كله ترقبٍ.
وقف بالخارج كل من "نوح" و "سمية" أمام سيارة الأول، بعد أن توجهت "كيان" لاستقلال سيارة والدتها، ووجه الأولى كان يملأه الحمرة إثرًا لعصبيتها المكتومة، والتي تكبحها بشق الأنفس، وأردفت بحنقٍ مستفسرة:
-هنعمل ايه؟!
صيغة الجمع في سؤالها لم يعبأ بها، فقد تغيرت كل خططه بتلك الوصية، وأصبحت هي الحين كالورقة الخاسرة، ظل ينظر في الفراغ أمامه لجزءٍ من الدقيقة، يدرس في رأسه ما طرأ به بغتةً، ثم انشق ثغره تدريجيًا بابتسامةٍ أظهرت الخبث الدفين بداخله، وتكلم مجيبًا إياها بغموضٍ:
-انا عارف كويس هعمل ايه.
❈-❈-❈
من قبيل الاحتياط لم تظهر له عدم ارتياحها لما يدور في رأسه، وتظاهرت بوضعها كامل الثقة فيه، رغم يقينها من عدم إصغائه إليها خلال التحدث معه حول محاولتها في استمالة "كيان"، لجعلها تتنازل عن حقها، في توزيع الإرث حسب قول الشرع، وليس تبعًا لوصية والدها، ومن هنا بدأت تشعر بأنه يخطط لشيءٍ مجهول، سيدر بالنفع عليه وحده، وحينها ستخرج من كل ذلك الخاسرة الوحيدة، اهتاجت عند تخيل فقدها لكل ما سعت له منذ موافقتها على الزواج بابن خالها الأصغر، بالرغم من فتور مشاعرها نحوه، ولكن نيلها للمكانة الاجتماعية المرموقة، وحالتها المادية التي سترتفع عن طريقه، جعلاه توافق طواعًا، فالأخ الأكبر الذي كانت تضع عينها عليه، وتكن له المشاعر منذ الصغر، اختار أخرى غيرها، وخرج عن طوع والده بزواجه منها، حينها كان "بكر" الخيار الأمثل، خاصة بعدما باتت أملاك والده تحت إمرته، وملك له بعد مماته.
ولجت غرفة ابنتها على حين غرة، وكل ما بها مشحون بالبغض من خسارتها الحتمية، وبأفكارها العدائية، ممَ جعل جسد "كيان" ينتفض أثناء جلوسها على طرف سريرها، تدون في دفترها الذي يلازمها منذ سنوات مضت، دنت منها وعلى وجهها أمارت الغضب، وهتفت بتساؤل يحمل الاتهام بين طياته:
-انتي كنتي عارفة حاجة عن الوصية دي؟
شعرت ببعض الخوف من هيئتها المحتدمة، خاصة مع غياب والدها، الذي كان يتصدى لها في معاملتها القاسية، هزت رأسها نافيةً وردت عليها بصدق:
-لأ، انا اتفاجئت زيي زيكوا.
ظلت على طور انفعالها وعلقت بشيء من التكذيب:
-هتعمليهم عليا، لو مكانش قالك هيقول لمين غيرك.
حاولت تبين قصدها، لفهم ما ترمي له، ولكنها اجابتها في الأخير:
-بابا فعلا مكانش قالي حاجة، لانه اكيد كان عارف اني مكنتش هرضى.
أمعنت النظر في وجهها لتتحرى صدقها، وسألت بترقبٍ:
-ودلوقتي؟
لاح التعجب فوق وجهها، وتساءلت بغير فهم:
-دلوقتي ايه؟
رمقتها بنظراتٍ تحمل السخط، ولامتها بقولها:
-راضية ان كل حاجة تبقى ليكي واحنا نتحرم من حقنا.
قاومت بصعوبة شعورها بالتعاطف، وتمسكت برغبة والدها –مجهولة السبب إلى الحين- في جعل كل أملاكه باسمها، وردت بعدم تفكير دام لعدة لحظات:
-اكيد بابا كان عنده اسبابه.
اتسعت عيناها في ذهولٍ مم استنتجته، وهو نيتها المعدومة في إعطائها نصيبها الشرعي في الميراث، ودمدمت:
-يعني اي؟ هتطمعي في كل حاجة ليكي لواحدك.
قبضت بيدها ملاءة السرير، كأنما تستمد منها الدعم، لتتحكم بتلبكها وهي تقول بثبات وهيٍ:
-انا مطمعتش في حاجة، دي وصية بابا.
حينئذٍ صرخت والدتها بجنون صاخب:
-وانا ايه؟ انا مش امك!
اهتز جسدها برجفة قوية من صوتها الهادر، ولم تجرؤ على النظر لها في تلك اللحظة، حادت بعينيها وأنفاسها تعالت بصورة واضحة، ولكن ليس كأنفاس والدتها التي باتت تتوالى بوتيرة هادرة، فقد اعترتها موجة هائلة من الغضب، إن لم تتحرك من أمامها الحين، لن تضمن العواقب، لذا قالت لها بلهجة لا تطمئن:
-ماشي يا كيان.
تحركت بخطوات تضرب الأرض ضربًا، وأغلقت الباب من خلفها بعنفٍ، هز كامل وجدانها، نال منها التردد وودت لو تراجعت عمَ قالت، وتركت كل شيء لينتهي هذا الضغط العصبي، ولكن والدها طالما أقبل على ذلك، فمن المؤكد أن لديه أسبابه، وبإلغاء الوصية، ستكون قد أخلت برغبته، خاصة بعد ما أخبرها به المحامي عبر الهاتف منذ قليل، حينما أجرت مكالمة به بعد عودتها، حتى تفهم ما السبب الذي دفع والدها لكتابة سائر أملاكه لها، وهو الحوار الذي سبق وقد دار بين والدها وبينه وقتما استدعاه للمجيء، وهو على فراش المرض، حتى يبلغه بوصيته، التي تفاجأ بها حينها، وفهم رغبته في كتابة الإرث لابنته، وذلك حتى يضمن حقوقها بعد وفاته، ولكن لم يفهم السبب وراء حرمان زوجته من الميراث، وحينها قال له بحذرٍ:
-مش حرام يا بكر بيه!
أخبرها أن والده وقتئذٍ –على الرغم من تمكن المرض منه- ثار وهو يقول:
-الحرام الوحيد انهم يورثوا فيا.
سأله آنذاك باستغراب:
-ليه بتقول كده؟ على الأقل زوجة سعادتك تكتبلها نصيبها.
ازداد انفعالًا، واحمر وجهه بغضب واضح وهو يخبره:
-هي السبب في اللي حصلي، محدش يستاهل ياخد جنية من فلوسي.
آثر الصمت آنئذٍ خاصة بعدما رأى الإنهاك اعتراه من عبارتين ازداد انفعاله خلال قولهما، في حين تابع الآخر بتصميم بعد ان ضبط أنفاسه:
-كل حاجة من حق كيان، محدش ليه حق فيا غيرها.
ربما إلى الحين لا تعلم السبب، ولكن عبارته التي تشير بأن والدتها المتسببة في مرضه، والذي نجم عنه وفاته، جعلها تعقد العزم على تنفيذ رغبته، بعدم السماح لها بالتشارك معها في الميراث، وكذلك الأمر مع عمها، فما ارتكباه في حقه يبدو أنه ذنب عظيم، ستسعى لمعرفته، مع الحفاظ على تركته.
في الناحية الأخرى كانت والدتها تلهج بقوة وتناظر الفراغ خارج الغرفة بنظرة عدائية ينبعث منها شرر شيطاني، ولكنها حاولت استجماع نفسها، حتى تجد حلًا تستعيد به حقها، فاللين يبدو أنه لن يجدي نفعًا معها، والعنف والإجبار لربما يجعلاها تخرج عن طوعها، خاصة وأن بحوزتها كل شيء، فما الذي سيمنعها من الفرار بأملاكها، وتركها كالخرقة البالية ورائها، لذا ليس أمامها سوى الحيلة، الدهاء، والتريث للحصول على مسعاها، فإنها لواهمة إن ظنت أنها سترتضي بالأمر الواقع، وتستسلم لوصية واهية، تعمد بها تحطيمها، وتركها بلا شيء كما أخذها.
❈-❈-❈
آن أوان أخذ الحق، ولن يتم ذلك إلا بانضمام ابنه له، ولكي يضمن خنوعه لمخططه، وتنفيذه لكلمته، سيلجأ لسلاح من نوعٍ خاص، متأكدًا من تأثيره عليه، فهذا ينجح دومًا معه. على صوت الجرس استيقظ "راغب" من نومه، في شقته التى انفصل مؤخرًا عنه والده بالسكن بها، توجه نحو الباب وهو يتثاءب ويفرك عينيه نافضًا علامات النعاس عنه، فتح الباب بتعبيرات حانقة ممن جاء إليه فى ذلك الوقت المبكر، ويقظه من نومه، وجده والده، الذى نحاه جانبًا ودلف ببروده المعتاد، دون حتى أن يلقي عليه التحية، قلب الآخر عينيه بملل، وأغلق الباب فى هدوءٍ، تبعه حتى غرفة المعيشة، حيث جلس والده على أحد المقاعد، واضعًا ساق فوق الآخر، نظر إليه بغطرسته المميتة وقال له بجمودٍ:
-أقعد يا راغب عايزك في موضوع.
لم يستنبط سبب مجيئه من ملامحه المبهمة، ولكنه جلس على المقعد المجاور منه على مضض، فقد استرعى اهتمامه معرفة ما الأمر الذى استدعى والده للمجيء إليه فتلك الساعة الباكرة، فمنذ انتقاله للعيش بمفرده لم يكلف وسعه مرة واحدة لزيارته، وارتكز بنظره عليه، في انتظار حديثه. في حين أخرج "نوح" علبة سجائرة والقداحة، أخرج واحدة من العلبة، وقام بإشعالها، ثم ألقى العلبة والقداحة من يده بإهمال فوق المنضدة، لفظ دخان السيجارة بتريثٍ ، بعدئذٍ أخبره وهو ناظر لسحابه الدخان الذي خرجت من فمه، قائلًا بهدوء:
-عايزك تتجوز كيان بنت عمك.
توسعت عيناه بعدم استيعاب لمطلبه الغريب، وظل صامتًا لبضعة لحظات محاولًا التأكد ممَ وقع على سمعه، ثم عقد حاجبيه وهز رأسه وهو يتساءل باستنكار:
-اتجوز مين!
أنزل السيجارة عن فمه، مشيرًا عليه بها وهى بين أصبعيه، قائلًا له وهو ينفث دخانها:
-انت سمعت كويس.
زم شفتيه كابحًا حنقه من طريقته المثيرة للأعصاب، ثم تكلم بتهكم:
-بابا انت أكيد بتهزر، كيان مين اللى عايزنى اتجوزها! دى عيلة.
مط شفتيه بلا مبالاة، وأردف باستخفاف:
-لا عيلة ولا حاجة كيان عندها عشرين سنة
استفزه رده، ورفع أحد حاجبيه وهز يعلق:
-وانا عندى تلاتة وتلاتين..
ثم ما لبث أن أضاف بتنبيهٍ:
-وبعدين الناس كلها عارفة انى مرتبط بداليدا وتقريبا مخطوبين
أحنى جزعه قليلا للأمام، مطفئًا سيجارته بالمطفأة، وهو يقول:
-خطوبتك من داليدا والناس..
استقام بظهره وصمت ليسترعي انتابهه وهو يكمل بكلمات عمد عن طريقها إغوائه:
-ولا املاك عمك وثروته اللى هيبقوا تحت رجليك وهيعلوا مركزك فى السوق وتولع ساعتها الناس.
من المعروف عنه سعيه الدائم في علو مركزه، وعلى صعيد آخر يقدس حياة الترف والبزخ تقديسًا، لذلك تيقن من نجاحه مقدمًا، حينما رأى التساؤلات جلية على وجهه، استطرد ليوضح له مقصده:
-عمك كتب كل املاكه وفلوسه لكيان.
ثم سدد له نظرة ماكرة وهو يسأله باشتفافٍ:
-عرفت انا عايزك تتجوزها ليه؟
ضم ما بين حاجبيه بغير فهمٍ، وقال:
-مش فاهم.
شبح ابتسامة شيطانية ارتسم على ثغره، وأردف بجشعٍ:
-كل ده هيبقى لينا عن طريق كيان.
خلل الآخر شعره بيديه بنفاذ صبر من عدم تطرقه لما يريد مباشرة، وقال بملل:
-بابا وضح، انا لسه صاحي من النوم ومش فاهم انت بترمى لايه بكلامك ده.
تنهد بحنق من عدم استخدامه لعقله في التفكير في تبعات طلبه، وتكلم بتعبيرات مشتدة:
-انت عارف ان فلوس بكر في الاساس فلوسي، انا اللي تعبت وشقيت فيها وجدك في الآخر حرمني منها وكتبهاله، وهو أخدها على الجاهز.
تلك القصة التي سبق وسردها عليه لأكثر من مرة ما دخلها الحين بزواجه بالأخرى؟ تخبط فكره، وقال بنزق متسائلًا:
-ده ماله ومال جوازي من كيان؟
تأفف بضجر ثم أردف مستضيحًا بإسهاب:
-بجوازك منها كل حاجة هتبقى تحت ايدينا، ومع الوقت هنقدر نسيطر عليها ونخليها تتنازل عن الورث.
لم يقتنع "راغب" بسريان مخطط والده كما يرسم بتلك السهولة التي يتحدث بها، سحب الهواء لرئتيه ولفظه على مهل ثم تساءل بجدية:
-وهي ايه اللى يخليها ترضى بكده تحت لو بقت على ذمتي؟
اعتراه الضيق من كثرة تساؤلاته، وجاوبه بدون تفكير:
- هنجبرها..
ثم أكمل بكراهية واضحة:
-واحنا لو معملناش كده سمية هتعمل الأكبر من كده وهيضيع عليا فلوسي اللي بكر نهبها مني.
بقى منصتًا له باهتمامٍ وهو يطنب:
-لكن بجوازك منها هنمنع سمية انها تحط ايدها على حاجة أو تقنع كيان انها تتنازلها، وهى اصلا واضح إن مش فارق معها ورث ولا فلوس، موت ابوها مأثر فيها ومش مخليها عايزه ورث ولا غيره.
خلال بضعة لحظات، درس ما قاله في رأسه، وجد أنه محق من ناحية تصميمه على استعادته لحقه، ومن ناحية أخرى ازدياد الأملاك سيقوي من مركزهم المادي، لذلك قبل بالانضمام له، فالهدف بات مشتركًا، والفائدة ستعم على الجميع، ولكن لم يتضح له الخطة بشكلٍ كاملٍ بعد، لذا تساءل باستفسار:
-وده هيتم ازاي بقى؟
أحس بانتعاش بصدره لاستجابة ابنه، التي تعني حصوله على مبتغاه في القريب العاجل، وتكلم بهدوء شارحًا له:
-هتتجوزها عادي وهتفضل على ذمتك لحد ما تتم الواحد وعشرين سنة، بعدها هنمضيها على تنازل عن حقي في الميراث.
أراح ظهره على الأريكة وهو يضيف بغير اكتراث:
-حابب تكمل معاها بعد كده انت حر، مش حابب طلقها ورجعها لامها، اعمل معاها اللى انت عايزه مش هتدخل في قرارك
على إتيانه بذكر والدتها، التي غاب أمرها عن فكره، وتساءل بانتباهٍ:
-وسمية هانم هتوافق على الكلام ده؟
استقام في جلسته وقال بصوتٍ امتلأ بغتةً بالبغض والخبث الذى لم يلحظه ابنه من احتدام ملامحه وهو يردد:
-مجبرة توافق.
يتبع...