رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش - الفصل 9 - 2 - الثلاثاء 14/1/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل التاسع
2
تم النشر الثلاثاء
14/1/2025
الرسلانية مطلع ١٩١٦..
تأوهت وهي تجلس في هوادة على الأريكة الممتدة بعرض غرفة فُتنة، وقد زاد انتفاخ بطنها للحد الذي يؤكد على اكتمال اشهر حملها، وأنها على وشك الوضع في أي لحظة، هاتفة في نبرة فاضت فضولا: شفتي البرنسيسة اللي كانت فبيت الرسلانية!
تنبهت فُتنة أخيرا، وقد حادت بناظرها عن النافذة التي لا تفارقها إلا فيما ندر، على أمل أن يمر سعد فوق فرسه بالقرب من دارهم، فتنعم منه بنظرة تروي عطش قلبها لمحياه، متسائلة في حنق: مالها المخفية!..
هتفت شفاعات زوجة أخيها رغبة في اغاظتها: يووووه، خالتي مكحلة وعيت لها، بتجول ايه يا بت حاچة كده ولا ف الخيال، چمال مفيش منِه، چمال أتراك بجى! وشكل كده سعد بيه عينه منها، ويمكن تكون من نصيبه.. والله لو ده حصل، ليكون طال الهنا كله واد عبدالمچيد رسلان! ..
انتفضت فُتنة في حنق صارخة: برنسيسة ايه دي اللي تاچي الرسلانية وتعيش فيها، دي آخرها اليومين اللي جعدتهم، لكن تعيش هنا وكمان تتچوز سعد بيه رسلان! مظنيش.. هو آه سعد بيه ميتعيبش، لكن هي برضك برنسيسة وتربية بشوات.. لاه.. خالتي مكحلة دماغها طجت وشكلها كبرت وعجلها خف..
هتفت شفاعات، مؤكدة في نبرة شامتة، راغبة في إثارة غضب فتنة، لأنها ترى أن من حق وهدان أخيها الزواج بأخرى دون مراعاة لها، فقررت حرق أعصابها متشفية: آه يا بت لو وعيتي لسعد بيه وهو شايلها بين درعاته، لما خفيت وانبدر النچع غفر وعبيد يفتشوا عنها تحت كل حچر، لحد ما عتر فيها وشالها لحد داره.. فارس كده وشايل عروسته.. والله لياخدها يا فُتنة وتبجى حلاله، ويطلع نجبك على شونة يا مسدوحة..
انتفضت فُتنة في غضب حقيقي لمجرد أن استشعرت صدق ما تدعيه شفاعات، تزرع الغرفة ذهابا وإيابا رغبة في تهدئة بعض من نيران الثورة المستعرة بجنبات فؤادها، لتهتف بها شفاعات في ضيق: اجعدي على حيلك بجى، ايه المزاولة دي والواحد مش ناجص، التعب زايد عليا هبابة النهاردة، شكلي هعملها يا بت، واخلص بجى!..
لم ترد فتنة بحرف، أو حتى تبادلت الحديث مجيبة على شفاعات، فقد كان فكرها في عالم آخر، وقد هداها شيطانها لفكرة واحدة لا ثاني لها، حتى تنل مرادها ويحدث ما تتمنى منذ سنوات، عليها الشروع في تنفيذها لتوها، متسائلة وقد بدأت تعطي شفاعات بعض من اهتمامها: هي خالتي مكحلة چاية لك النهاردة!
أكدت شفاعات وهي تعتدل في محاولة لتغيير وضعية جلوسها، وقد بدأ الألم يشتد عليها، هاتفة: لاه، مش چاية النهاردة، بس اشيعلها وتاچي، أنتي ريداها فحاچة!
أكدت فتنة وهي تتطلع من النافذة من جديد: لما تاچي هنبجوا نشوفوا لها عازة ولا لاه، وكله بحسابه..
تأوهت شفاعات لبرهة، متسائلة في قلق: هو أنتي ناوية على ايه يا فتنة!.. اوعي يا بت يكون اللي فبالي!..
قهقهت فتنة عاليا، بضحكة خليعة تجمع بعض من تحدِ مخلوط بغل: وهو اللي فبالك ميعملوش إلا انتي ولا ايه يا شفاعات!
اضطربت شفاعات ونهضت راغبة في الانصراف حين وصل الحديث لهذا المنعطف، لكن فتنة أكملت حديثها بلا اهتمام لتوقف شفاعات المفاجيء عن المسير لخارج الغرفة، مسندة جسدها على أحد أعمدة السرير النحاسي الضخم، مؤكدة في نبرة العالم ببواطن الأمور: وهو أخوي وهدان كان إيه اللي وجعه فيكي يا حزينة! لا كان الشوج هيموته ولا كنتي فباله م الأساس، واتشجلب حالة ما بين يوم وليلة، وكان هيموت عليكي.. جلولي بجى إن مكحلة ملهاش يد فاللي بجوله ده! وإن محبتك اتزرعت كده فجلبه رباني يا بت التربي!..
لم ترد شفاعات بحرف مدافعة عن نفسها، فقد كان الوجع الذي وصلت وتيرته لأقصى درجاتها قد بدأ يعلن عن نفسه بهذه الصرخة المدوية، التي تؤكد أن جنينها قرر الوصول للحياة في هذه الساعة.. لتندفع فتنة لإحضار مكحلة، واخبار وهدان أن شفاعات على وشك قذف حملها للحياة..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩١٦..
وصل إلى مشارف النجع، وبدأ الهرج والمرج يظهر على السطح، ما الذي يجري هنا!.. الكثير من الصرخات واللعنات وعساكر السلطة تجمع في الشباب والرجال من أعمار مختلفة طالما وصلوا لسن قادرين على العمل، يوما ما كان منصب العمدية من نصيب جده الأكبر، لكنه تخلى عنه، فلم يكن أمر منصب العمدة يعنيه أو يشغل بال أحد من رجال عائلته شغله، فتركوه طواعية لرجال عائلة النجدي ليقوموا بمهامه، متفرغين هم لأعمالهم التي تستدعي عدم تواجدهم بشكل دائم داخل النجع، وذاك يتنافى مع وضع العمدة ومقتضيات وظيفته، وصل سعد إلى دار النجدي، واستقبله العمدة سلمان النجدي بترحاب، ليسأل سعد في قلق: ايه اللي بيچرا فالنچع يا عمدة!
أكد سلمان في هدوء: أوامر عليا يا سعد بيه! الحكومة طالبة نبعت الرچالة اللي نجدر عليها عشان الشغل في معسكرات وكمبات الإنچليز..
هتف سعد معترضا: ولما ياخدوا شباب البلد ورچالتها، يبجى مين للزرع والأرض.. الحريم!..
هتف العمدة معترضا: ده مش كده وبس، من مدة طلبوا من عمدة كل نچع وكفر إنه لازما يبعت حصر باسامي الرچالة والشباب اللي عنده.. وبعتنا ومحناش فاهين إيه في! .. اديهم بيطالبونا بالعدد اللي هم عايزينه.. ولازما نوفيه، وكله بالاسماء.. حزن وسواد ع البر كله من يوم ما چانا الخبر.. وأديك واعي.. بجينا فمعزا كبير بكا ونواح و..
اندفع أحد الرجال ساقطا تحت أقدام العمدة في مذلة صارخا: أحب على رچلك يا عمدة، رچع لي الواد، ده الحيلة على أربع بنات، أمه مموتة روحها، وحالفة لترمي نفسها فالرياح لو ما رچع..
هتف سلمان في تعاطف: والله يا سعداوي ما بيدي، ده مطلوب بالاسم..
هتف سعداوي: أبوس مداسك ترده، جولهم ملجتهوش، أو أجول لك، خدني مطرحه، بس الواد ميروحش، أني خابر لو راح مش هيرچع..
هتف سعد في اشفاق: جوم يا سعداوي، جوم وحد الله، ولو العمدة ولا أني كنا نجدر نمنع حاچة عنكم مكناش اتأخرنا، بس دي أوامر السلطة والانچليز، بالك لو مخدوش العدد اللي رايدينه من النچع، هينزلوا بنفسيهم ياخدوا اللي ياچي فطريجهم وهتبجى خراب ع الكل..
همس سعداوي في قلة حيلة: يعني خلاص كده! الواد راح يا سعد بيه! الواد مش هيرچع يا حضرة العمدة!..
نهض سعداوي في صعوبة، وكأن أقدامه ما عادت قادرة على حمل أثقال همه، هامسا في تيه وهو يبتعد خارجا من دوار العمدة: هجول لأمه ايه! ولدك راح!.. استعوضي ربنا فيه.. عليه العوض ومنه العوض..
ظل يكرر كلمته الأخيرة في قهر أدمى قلب سعد الذي ما عاد يطيق كل ذاك الحزن الذي يعبق أجواء النجع منذ قدم من المحروسة، كان يكفيه ما يحمل من هم قلبه لرفض كاظم باشا تزويجه من أنس الوجود، لكن أحوال البلاد عامة ما عادت تسر عدوا ولا حبيبا، تطلع وهو في طريقه لداره على طول طريق السكة القبلية على ذاك الطابور الطويل من الرجال والشباب الذين يسحبهم عساكر السلطة مكبلين لخارج النجع بلا حول ولا قوة، ومن خلفهم نساءهم وأطفالهم وبعض العجائز، يتبعهوهم باكين في قهرة، معترضين على فراق احبتهم بلا جريرة أو ذنب اقترفوه، فراق لا يعلم طرفاه هل بعده لقاء، أم ذاك هو اللقاء الأخير بلا عودة!..
ذاق مر العلقم وهو يزردر ريقه بصعوبة وأمامه ذاك المشهد الموجع، وصرخات النساء الثكالى وأنات أطفالهن تدمي القلوب وتخترق الآذان لعل هناك من شافع لهم ليغفر ذنب لم يرتكب من الأساس..
آه من الفراق، ذاك النصل المغروز بعمق الحشا، وما من يد بقادرة على نزعه، لتنزف روحك في صمت، وتتسلى على وجيعتك الأيام، وتذبل وأنت في عرض أمل يحيي بعض من أمل.. أن الوصل جائز، وأن اللقاء محتمل، وأن الشفاء من داء البعاد مرهون بوصال الحبيب الغائب..
سحب سعد مزيد من هواء لرئتيه، راغبا في الشعور ببعض الراحة، فقد اهلكه شعور الاختناق الذي ظل ملازم له منذ سمع جواب الرفض من رستم باشا، وها قد زاد بما يبصره أمام ناظريه من ظلم ما له القدرة على دفعه عن أهل بلده، ليسرع الخطى نحو بوابة داره، التي ما أن تخطاها حتى هتف مصباح مرحبا، يستمهله مفسرا: سي وهدان الحراني فالمندرة منتظر چنابك..
همس سعد معترضا: وده عايز إيه ده راخر!
توجه سعد بلا رغبة صوب المندرة، التي ما أن دخلها حتى نهض وهدان في احترام مجيبا تحية سعد الذي استقبله على أحسن ما يكون، على الرغم من رغبته في الاختلاء بنفسه، وسأل في هدوء: خير يا وهدان!
تردد وهدان مؤكدا: كل خير يا سعد بيه! أني هجولك طلبي طوالي ومن غير لف ودوران..
أكد سعد: يبجى أحسن، اديك واعي النچع مجلوب حاله، والواحد مزاچه مش تمام، خير!..
نطق وهدان بلا مواربة: أني طالب الجرب منك، ورايد أختك توحيد على سنة الله ورسوله..
ساد الصمت لبرهة، كانت كفيلة بقتل وهدان فزعا، متوقعا أن ينهض سعد مخرجا سلاحه، مفرغا خزنته بصدره، إلا أن سعد رد في هدوء مقلق: طب واللي چاي يطلب يد واحدة، وخصوصي لو من عيلة كبيرة ونسب عالي، مش ياچي وبدنته وناسه كلاتهم معاه! ولا بياچي بطوله!..
هتف وهدان وقد تأكد له أن سعد يسخر منه، فهو يدرك تماما أن الحرانية أول عن آخر لا يتعدى رجالها.. الخمس رجال.. جميعهم مستأجرين وتملية باليومية في أرض الغير، والباقي عجائز أو نساء.. وذكورهم أطفال ما زالوا على حجور أمهاتهم، ولم يشب عن الطوق، وأصبح ذا مال ودار وأراضِ إلا هو، لكنه لم يستسلم، بل رد في هدوء مماثل: اللي تأمر به يا سعد بيه ياچي، أچيب رچالة الحرانية كلهم وناچيك ساعة ما تأمر، وطلباتها واللي فنفسها كله يكون موچود ولو كان لبن العصفور..
هتف سعد مستفهما وهو ما يزال على هدوئه المريب: ده أنت شاري وبالجوي يا وهدان!.. لكن على حد علمي أنت متچوز وعندك عيلين والتالت فالطريج!..
أكد وهدان: ايوه، خلفتها كلها بنات، أهي چابت البت التالتة، وأني رايد الواد، وبعدين إيه في لو على ذمتي واحدة ولا تلاتة، طالما مجتدر أتچوز ليه لأ!..
هز سعد رأسه موافقا وهو يضرب على الأرض بعصاه: صح!..
ساد الصمت ليسأل وهدان في لهفة: طب جلت إيه يا سعد بيه! نجول مبروك!..
هتف سعد متطلعا نحوه في نفاذ صبر: هي الحاچات دي بتاچي كده يا وهدان! كله بالأصول ولا ايه!.. أدينا وجتنا وهنرد عليك..
نهض وهدان مستبشرا: وأني من يدك دي ليدك دي يا سعد بيه.. اللي تطلبه ست الناس كله مچاب..
ابتسم سعد ساخرا: طب بس مش لما توافج فالأول!..