-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 15 -3 - الثلاثاء 4/2/2025

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الخامس عشر

3

تم النشر الثلاثاء

4/2/2025

القاهرة ١٩١٩.. 

اندفع سعد لداخل قصر رستم باشا، وصاحبه الخادم للمكتب لينتظر قدوم رستم الذي كانت فترات بقاءه في القصر قد طالت، نظرا لخوفه على ألفت هانم مع تقدمها في شهور الحمل.. 

هلٌ رستم فنهض سعد في اضطراب، متسائلا: شفت اللي حاصل في البلد يا رستم باشا! الدنيا ولعت.. 

أكدت رستم في اضطراب: ايوه، المظاهرات مالية الشوارع، أنت أصلا جيت إزاي على هنا! 

أكد سعد وهو يلتقط أنفاسه: خليت السواج يركن في شارع چانبي، وچيت أني ماشي، بس مفيش شارع رئيسي مفيهوشي مظاهرة.. 

أكد رستم في رزانة: وضع طبيعي يا سعد بيه، قمع الحريات يعمل أكتر من كده، يعني ايه سعد باشا زغلول ومجموعة من رجاله عايزين يسافروا، يقوموا يمنعوهم! 

أكد سعد: يا باشا، سفر سعد بيه واللي معاه مش على هوى الإنجليز، دول رايحين يطالبوا بالاستقلال عن بريطانيا، طبعا هتمنع سفرهم، واهي كمان نفتهم بره مصر خالص.. 

أقر رستم: طب أهي البلد ولعت! يبقوا يقدروا بقى يسيطروا ع اللي بيحصل ده! .. الستات نفسها نزلت المظاهرات، عايزين مين تاني يقولهم حلوا عن البلد بقى!.. 

همس سعد: آه والله صدجت.. بس ربك يسترها يا باشا، شكلها مش هتهدا بالساهل.. 

تنهد رستم مؤكدا: مش هتهدا إلا لما طلبات المصريين تتنفذ.. وأنا متوقع إن ده هيحصل عن قريب.. 

هتف سعد مستبشرا: يا رب يا باشا.. 

ساد الصمت لبرهة قبل أن يهمس سعد متسائلا في تردد: هو مفيش أي چوابات چت من اسطنبول يا باشا! 

أكد رستم مع ابتسامة: وهو معقول سعد بيه هيكون عندي خبر زي ده ومقلهوش! بس أكيد لسه ميلحقش الجواب يوصل لو أنس بعتت أول ما وصلت على طول.. الصبر.. وأكيد هبشرك برسالة منها عن قريب.. 

هز سعد رأسه متفهما، لكن قلبه يئن شوقا لمحيا زوجه ومرأى طفله.. أو حتى سماع خبر عنهما يهدىء من روعه، ويسكن نفسه الملتاعة خوفا على مصيرهما، ورغبة في الاطمئنان على سلامتهما..

❈-❈-❈

أزمير.. ١٩١٩.. 

توقفت العربة بأنس ونازك، وكذا المربية يلديز أمام ذاك القصر الصيفي الصغير، كان قصرا خاصا ببعض العطلات التي كانوا يقضونها جميعا بين جنباته حين يعتدل الطقس، ويصبح البقاء به مناسبا، تطلعت لما حولها في حنين، سنوات طويلة خلت لم تطأ أقدامها هذا المكان الذي يحمل من الذكريات الحلوة الكثير، خاصة برفقة أمها رحمها الله.. بحثت بين الأركان عن تلك الأرجوحة التي سقطت منها ذات ظهيرة، حينما حاولت أن تقلد بعض الصبية الذين أبصرتهم ذات مرة يلهون بحبل مثبت بجذع شجرة ضخم، كأرجوحة بدائية، لكنها لم تستطع محاكاة حركاتهم البهلوانية وسقطت ساعتها وجرحت ركبتها وحرمت اللعب على الأرجوحة لعدة أيام حتى طاب الجرح، وتعلمت الدرس.. 

دفعت نازك الباب الحديدي القصير، وخطت بأقدامها للداخل، هامسة لأنس: ألن تدخلي سيدتي!

هتفت يلديز متعجبة: ما هذا السؤال الأحمق! لمَ جاءت إذن، وتركت زوجها الغالي خلفها، إن لم يكن من أجل هذه اللحظة! 

امتعضت نازك ولم تعقب بحرف، بينما خطت أنس للداخل، هامسة لمربيتها الحبيبة بما اعتمل به قلبها من قلق واضطراب: إني خائفة أمي، تراه يقبل بمسامحتي!.. 

ربتت يلديز على كتف أنس في مودة، دافعة بها نحو الداخل في هوادة: أدخلي ودعينا ننهي الأمر، وأنا معك سأحاول أن أتدخل، إن لزم الأمر.. 

صعدن الدرج نحو الداخل، ظهر أحد الخدم ليهتف محتجا لدخول الغرباء دون استئذان، لكن ما أن وعى لوجود يلديز، التي لها حظوة بالقصر الكبير باسطنبول، والكل يعرفها وينزلها قدرها.. ما دفع الخادم الصغير السن، والحديث العهد بالعمل في قصر الباشا بإسطنبول، لينكس رأسه في احترام لوجودها، متقهقرا مرحبا بوصولها وضيوفها، فهو لا يعلم من تكون أنس الوجود من الأصل، ولا وصيفتها.. 

سألت يلديز في نبرة حازمة: هل الباشا بحجرته! 

هز الخادم الشاب رأسه مؤكدا، ما دفع يلديز لتتجه صوب الدرج، ومن خلفها أنس الوجود وقد بات قلبها أشبه بمضخة يكاد أن يصم صوت خفقانها أذنيها صخبا، تتبعها نازك حاملة فضل الله.. 

التقطت يلديز أنفاسها في تتابع هامسة بحروف متقطعة، ما أن وصلن لأعلى الدرج في مقدمة ذاك الرواق الطويل الذي يفضي لغرفة الباشا: آه يا يلديز، ضاع شبابك يا صغيرة، وولت الصحة.. 

تمالكت يلديز نفسها، وسارت نحو غرفة الباشا، وهن خلفها يلفهن صمت حاد، حتى إذا ما وصلت يلديز لحجرة الباشا حتى توقفت قبالة بابها، رافعة كفيها متضرعة: يا كريم، فليكن غضب الباشا بردا وسلاما على ابنتنا.. آمين.. 

مسحت كتفيها بباطن كفيها، وطرقت الباب في قوة، طرقة بعد طرقة في ثبات، حتى انفرج الباب عن محيا خادم الباشا الخاص، والذي لا يفارقه أبدا.. هامسة في تأدب تسأله: هل الباشا قادر على استقبال زوار!.. 

هز الخادم رأسه متفهما، و قد وقع ناظره على أنس الوجود ونازك، والواقفات خلف يلديز في هدوء ظاهري، ليعود لداخل الغرفة لبرهة، كان وقعها على أنس بمقدار سنة كاملة من ترقب، قبل أن يعود الخادم ليوميء برأسه مؤكدا على موافقة الباشا على مقابلة يلديز، والتي دخلت وحيدة للغرفة مقتربة من فراش الباشا الذي كان ممددا فيه يتطلع لموضع القادم حتى توقفت يلديز بالقرب من فراش الباشا، ملقية التحية في احترام، قبل أن تهتف مفسرة: جئت من إسطنبول يا باشا حاملة لك هدية غالية، أنا أعرف أنك بحاجة لرؤيتها.. 

تنبه الباشا صوبها ولم يعقب، لتستطرد يلديز في فصاحة: هي راغبة في الصفح والسماح، فلن تطيب لها الحياة إلا برضاك عنها باشا.. 

هتف كاظم باشا في نبرة صوت قوية تحمل عمقا يؤكد على مدى سطوة ذاك الرجل وقدرته في التأثير على سامعيه: نفد رصيد السماح لدي لأي إنسان مهما كانت غلاوته يلديز، ولا رغبة لدي في الجدال بهذا الشأن، أي من كان أو كانت خلف هذا الباب، وجاء يطلب العفو، فلن امنحه ما يبتغيه.. 

انتهى يلديز.. انتهى.. 

همت يلديز باستطراد الحديث، إلا أن خادمه الخاص منعها، مشيرا لها لتستدير متخذة طريقها صوب الباب ومنه لخارج الغرفة، ليطالعها وجه أنس الوجود وقد غطاه الدمع وهي تسمع رفض أبيها حتى لمقابلتها.. تطلعت يلديز نحو أنس الوجود، وكل هذا الحزن الذي ارتسم على قسماتها وقد علا صوت نحيبها في قهر، لتقوم بفعل ما توقعت يوما أنها قادرة على القيام به، فما أن هم الخادم بغلق الباب، حتى جذبت فضل من بين ذراعي نازك، مندفعة نحو حجرة الباشا مجددا، وقد دفعت بابها في غفلة من الخادم، الذي صدمه وجودها بقلب الغرفة حاملة فضل الله، هاتفة بالباشا في نبرة تحمل عتبا: ومن لا يستطيع أن يعفو عن ذاك الملاك! إن له عينا جده، ولونهما.. 

تطلع كاظم باشا صوب يلديز في حيرة، متسائلا في اضطراب: جده! من يكون جده! 

أكدت يلديز في محبة دامعة: إنه حفيدكم كاظم باشا، حفيدكم الأول، فضل الله.. 

هتف كاظم في تعجب: هل أنجب رستم باشا ولدنا أخيرا.. هل ترك هذه المرأة العقيم وتزوج من تأتي بأحفاد يحملون اسم عائلة أوغلو باشا!.. 

أكدت يلديز باكية: هذا حفيدكم، ابن أنس الوجود ابنتكم باشا، لم تكن عقيم كما أدعى طوسون باشا رحمه الله على كل حال.. 

تطلع كاظم نحو فضل الذي بدأ يتململ بين ذراعي يلديز، شاعرا بتلك الذبذبات المحيطة به، والتي بدأت توتره، وكذا استشعرت يلديز رغبة كاظم باشا على الرغم من مكابرته، لحمل فضل الله بين ذراعيه، ما دفعها لتتجرأ قليلا مقتربة لتضع الطفل بين ذراعي جده، والذي حمله في عدم ممانعة أسعدت يلديز حتى أن ابتسامة ظهرت على شفتيها على الرغم من الدموع التي انسابت على خديها، وهي تهمس في حنو: حفيدكم كاظم باشا، أرأيت كم هو جميل، ويحمل لون عيني جده وملامحه القوية.. 

تطلع كاظم في تعجب هامسا: نعم، هو كذلك.. فضل الله، جميل فضل الله.. 

ابتسم الصغير عدم كرر جده اسمه، ما دفع كاظم باشا ليعيد تكراره، فيضحك الصغير في أريحية، ما دفع يلديز لتتسلل في رفق للخلف خطوات مشيرة لأنس كي تتقدم لداخل الغرفة في هوادة، مستغلة انشغال أبيها مع ولدها، الذي على ما يبدو قد شغل قلبه بالفعل، نفذت أنس الوجود ما أمرتها به يلديز، حتى إذا ما رفع كاظم باشا عينيه عن الصغير لبرهة، حتى وقعت على أنس الوجود، ساد الصمت لبرهة قبل أن يحيد الباشا ناظريه عن محياها، ويفقد شغفه بالصغير.. 

حملت يلديز فضل الله مبتعدة، تاركة المجال لأنس الوجود كي تأخذ فرصتها، وقد اندفعت باكية تستند على طرف فراش أبيها، هامسة في نبرة تقطر شوقا: اشتقت لك أبي، أعرف أنك غاضب مني لمخالفتي رأيك، لكن أنا هي أنس كاظم باشا، أنس ابنتكم التي ما خالفت لك رأيا قط، والتي كانت دوما طوع بنانك، فهلا غفرت لها مخالفة واحدة، مقابل عمر كامل من الطاعة أبي! 

هتف كاظم بصوت قوي على الرغم من رقة نبرته: الطاعة لا تتجزأ أنس الوجود هانم، ومخالفة واحدة كألف مخالفة.. غفرت لك مصيبة ذاك الشاب الأحمق الذي كان يرغب في الزواج بكِ، وكاد أن يودي الأمر لهروبك معه، مكللة رأس والدك بالعار، نفذ رصيد السماح منذ هذه السقطة أنس، أم أنكِ نسيتي!.. 

أكدت أنس في وجع: لا، لم أنس كاظم باشا، وكيف لي أن أنسى تلك السقطة التي دفعت من أجل التكفير عنها تسع سنوات كاملة من عمري في سجن هذا المتوحش طوسون، الذي كاد أن يقتلني غيرة وشكا.. خطأي لم يغتفر والدنا، خطئتي كفرت عنها ولم تغفر لي، وحين جاءت الفرصة لأحيا كفتاة لها زوج محب وأسرة، جاء رفضك من جديد.. وأنا هناك بالمحروسة.. لا ذكرى حلوة اكترها، ولا أمل انتظره، حتى لاح طيف سعد بيه، وأدركت أني وجدت ذاك الرجل الذي يرغب أنس لذاتها، لا رغبة في مال أو سلطان أو للتقرب من أبيها طمعا في منصبا عالِ، جاء طالبا أنس لذاتها بكل ما يعتمل داخلها من شكوك، وبكل ما يحمله قلبها من أوجاع، لتكون جوهرة غالية يعرف يقدرها.. لحظتها فقط يا أبي شعرت أنس الوجود أنها سعيدة، وأنها وجدت ضالتها، فهل يكره والدنا في أن يرى ابنته سعيدة ومحبوبة ومقدرة!.. 

تطلع كاظم نحوها وقد بدأ قلبه يلين قليلا، لتستطرد أنس مؤكدة: لقد وافق سعد بيه على قدومي إلى هنا لطلب لعفو منك، والسماح له بزيارتك، فقد أكد لي، أن لا فرحة كاملة إلا بتشريفك بالموافقة وبمباركة زواجنا..

الصفحة التالية