-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 16 - 2 الجمعة 7/2/2025

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش



الفصل السادس عشر

2


تم النشر الجمعة

7/2/2025

اتسعت ابتسامتها اللحظة وهي تستمع لضحكات فضل وجده يداعبه، وتذكرت كلمة يلديز أن الباشا صحته تحسنت منذ أن دخل فضل حياته.. وكانت محقة تماما، فقد أكد خادم الباشا الشخصي أنه كان يرفض مغادرة القصر للحديقة حتى، وكان يكتفي بالاكتفاء داخل جدران حجرته، لكن ما أن قدم فضل حتى أصبح خروجه للحديقة شيء مقدس، لأنه المكان الأمثل لتواجد طفل في طور النمو، حتى ينعم بالهواء النقي وإشاعة الشمس الصحية.. 

وتساءلت من جديد، هل كان كاظم باشا قاس! حكت لها يلديز منذ سنوات أنه أحب والدة أخيها رستم المصرية كثيرا، بل كان يعشقها وحين رحلت عن دنيانا، كانت صدمة كبرى له عانى منها طويلا.. وقرر بعدها مغادرة القاهرة ليستقر باسطنبول.. وهنا قابل والدتها جشم هانم.. أحبها وتزوجها .. لكنها رحلت بعد أن اهدته إياها.. ليعتزل النساء من بعدها، ويحترف السياسة .. هل كانت السياسة هي سبب قساوة القلب التي اكتسبها منذ بدأ في تعاطيها!.. لم يكن هناك من سبب آخر، فقد كان والدها مع كل هذه الحكايات رجلا محبا، بل عاشقا لزوجته الأولى.. ثم أمها رحمها الله.. وتنبهت أن تلك الأحداث التي مرت بوالدها، هي نفسها التي مرت على سعد زوجها، غير أن سعد عانى فقد الزوجات ومعهن الذرية.. فكان الألم مضاعفا بالتأكيد.. وعلى الرغم من ذلك، ما وجدت من سعد إلا كل حنان ومحبة.. لكم اشتاقته!.. 

دمعت عيناها لذكراه، وتوجهت صوب الطاولة الصغيرة بأحد جوانب الحجرة، أخرجت من أحد أدراجها ورقة وقلم كوبيا، وبدأت في خط خطاب لسعد، تخبره بكل ما جرى منذ لحظة وصولها، وحتى اللحظة التي تكتب فيها رسالتها، مؤكدة على ميعاد العودة.. حتى يطمئن باله.. 

❈-❈-❈

الرسلانية.. ١٩١٩...

كان ذاك الوجوم الرابض على الوجوه شاهدا على هذه الحالة التي تسري في الرسلانية كلها منذ جاءهم ذاك الخبر المشؤوم.. توقف الجميع على مشارف النجع في انتظار الجثمان، كان السكون الخانق المصحوب برائحة الموت، كفيلا بالصراخ وجعا بديلا عن المكلمومين جميعا.. 

هل العربة الحاملة للنعش، وبدأ صوت النحيب المكتوم يعلو رويدا.. رويدا، حتى إذا ما اقتربت العربة وأصبحت قاب قوصين، علا البكاء تدريجيا حتى صار صراخا وعديدا حارا.. فلم يكن الميت المكفن بنعشه إلا أحد أبناء سلمان النجدي.. عمدة نجع رسلان.. شهيد الوطن، والذي راح في الأحداث الأخيرة بالمحروسة، رفضا واعتراضا على نفي سعد باشا زغلول ورفاقه.. 

كان سعد يقف بالقرب من سلمان، الذي كان يحاول أن يتماسك، مستندا على ذراع سعد الذي كان يدعمه هامسا في صوت متحشرج تأثرا: خليك شَديد يا سلمان، كلنا لها.. وده شهيد.. حي يروج عن رب العالمين.. 

هز سلمان رأسه في طاعة، زائغ النظرة يستشعر التيه، حتى توقفت العربة وحمل أولاده نعش أخيهم، وساروا به نحو الجبل حيث مقابر آل النجدي، ومن خلفه العمدة يجاوره سعد، وكل رجال النجع وشبابه.. يتبعهم النساء.. متشحات بالسواد.. أم الشهيد تساندها توحيد التي بكت كما لم تبك من قبل على ذاك الشاب الذي رحل نازعا قلب أمه من جوفها حزنا عليه.. 

وارى أخوة الشهيد جسد أخيهم، لكن سلمان ما رضي أن يرحل عن القبر، ليهمس به سعد وهو يحاول أن يتماسك ليدعمه: حاسس بالنار اللي چواك يا سلمان، مجرب ودايج الوچع اللي جايد بجلبك، الضنا غالي، لكن أمر الله وملناش إننا نعترضوا.. 

همس سلمان باكيا: كان الافندي اللي فيهم، جالي أروح المحروسة أتعلم، جلت وماله، يروح ويبجى بيه كد الدنيا، ويمكن يكون فيوم وزير ولا نايب فالمچلس، رچع لي بعيار فصدره، وراح يا سعد.. چتته تحت التراب، وأني فوج بجهرتي، يا ريتني ما تبعت كلامه ولا خليته يسافر.. يا .. 

قاطعه سعد أمرا في لطف: هشش، استغفر ربك يا سلمان، ده نصيبه وعمره ولو كان فين كان هيحصله.. استهدى بالله .. ده بجي شفيعك، إنا لله وإنا إليه راجعون.. 

همس سلمان في وجع مستسلما: إنا لله وإنا إليه راجعون.. 

عادت الرسلانية كلها من جنازة ابن العمدة سلمان النجدي، وساد السكون القاتل أرجاء النجع لأيام وأيام.. ليزداد الأمر قتامة حين قدمت جنازة آخرى لأحد شباب النجع، طالب أزهري كانت عائلته تضع عليه أملا كبيرا في انتشالها من الفقر، ليساعد سعد في دفنه، متكفلا بالأمر كله، وكذا تفكل بإعالة الأسرة.. فقد كان ذاك الشاب هو عائلها الوحيد.. فقد كان يعمل بالمحروسة جنبا لجنب مع الدراسة.. 

كانت البلاد كلها في حالة حداد، لا حزنا على نفي سعد باشا صوت المصريين، ولكن جراء تلك الجنازات التي تتعاقب لشباب في عمر الزهور، لم يكن لهم من ذنب إلا دفاعهم عن حق بلادهم في تقرير مصيرها بعيدا عن سلطة الإنجليز وحكم ملكة بريطانيا.. فأصبحت البلاد شرقها وغربها سرداق عزاء كبير.. متشح بالسواد.. 

❈-❈-❈

أزمير.. ١٩١٩.. 

كان ذاك الصباح يحمل عبق خاص، وأجواء استثنائية، رائحة ما منتشرة بالهواء تصل لصدرها فتقبضه، مشعرة إياها بعدم الراحة، ربما هي اشتاقت لسعد وصباحا الأيام التي كانت تبدأ بطلته البهية، وقبلة الجبين التي افتقدتها كثيرا.. على أي حال، اقترب موعد رحيلها الذي كانت قد قررته، واعلمت به سعد بيه في خطابها الذي أرسلته، تراه قد وصل لكفه، وشرع في قراءته، وأدرك كما هي تشتاقه بحق!.. 

نهضت من موضعها في اتجاه النافذة تتطلع للأفق البعيد، الذي ملأته السحب واصطفت بعرضه الغيوم، أو هكذا اعتقدت حتى تنبهت أن هذه الخيالات القادمة من البعد لم تكن خيالات أبدا.. بل هي طائرات حربية قد بدأت تتضح أحجامها الحقيقية، وذاك الغيم ما هو إلا أدخنة محركاتها.. 

ساد الصمت لبرهة، صمت حاد قطعه فجأة دوي القنابل الذي بدأ يعلو هنا وهناك.. وعلت الصرخات.. 

ما دفعها لتهرول بكل قوة تملكها نحو الحديقة، صارخة في ذعر باسم ولدها فضل وأبيها.. كانت القنابل صوتها يتصارع بالمدى، وهي لا تعلم ما الذي يحدث بالضبط.. 

حتى وصلت لباب القصر، لتجد والدها وقد أسرع بأقصى قدرة امتلكها نحو الداخل حاملا فضل، ومن خلفه ركضت نازك، أما الأم يلديز فقد قدمت من المطبخ، وهي تصرخ مستغفرة.. لا أحد يعرف أو يدرك حتى هذه اللحظة ما الذي يجري بالخارج.  

الصرخات تأتيهم من كل جانب، وضربات القنابل تحاوطهم، ما دفع كاظم باشا الذي دبت الصحة في جسده فجأة، ليأمرهن بالمجيء خلفه وأن يكن قريبات منه، في سبيلهم جميعا نحو ذاك القبو العميق أسفل القصر، رغبة في حماية مؤقتة، حتى ينتهي ذاك الهجوم الغير معروفة وجهته، وقد كان.. فتح كاظم باشا باب القبو المخفي بإحترافية أسفل ذاك الدرج الجانبي داخل الرواق القصير المفضي للمطبخ وغرفة الغسيل، ليهبط النساء واحدة تلو الآخرى، والضربات بالخارج لازالت على أشدها، حتى كان كاظم باشا هو الأخير، والذي نزل بدوره جاذبا باب القبو مغلقا إياه بعد نزوله، وقد تجمعن في أحد أركان القبو المعتمة، تلتصق أجسادهن في ذعر، حتى أن فضل شعر بالذعر كذلك، فبدأ في البكاء، ما دفع الباشا ليأمر أنس الوجود في همس حازم: ضميه لصدرك، واطعميه، الطفل مذعور..

الصفحة التالية