رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 20 - 3 - الجمعة 21/2/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل العشرون
3
تم النشر الجمعة
21/2/2025
القاهرة ١٩٢٠..
وجد حاله في موضع عجيب يحيط به الدخان والسحب من كل جانب، ضباب كثيف يعيق الرؤية ويحجب ضوء الشمس عن الوصول لأنظاره، ظل يتطلع حوله ولا أحد بالجوار، فتيقن أنه تائه وما من إشارة واحدة ترشده لدرب العودة، رفع عقيرته مناديا: يا أنس، يا فضل..
لم يجبه أحدهما، ظل ينادي في إصرار حتى تناهى لمسامعه صوتها يرد من البعد فاستبشر خيرا، وتقدم صوب الموضع الذي يأتيه منه صوتها الخافت، الذي يرتفع رويدا كلما تقدم صوبها، حتى هل محياها أخيرا وهي تدور حول نفسها باحثة عنه، ليصرخ في لهفة ما أن وقعت عيناه على طيفها، لم يستطع أن يتقدم خطوة آخرى مهما حاول وهي كذلك على الجانب الآخر لا تقو على الاقتراب كأن بينهما سور شفاف غير مرئي يمنعهما التقدم، كان يشتاق لضمها بين ذراعيه، لكن ذاك الحائل منعه، ما دفعه ليهتف في لهفة: اتوحشتك يا أنس! هترچعي ميتا!..
سال دمعها ولم تنطق حرفا، لكنها أشارت نحو كفيه، تنبه سعد لاشارتها وفتح كفيه فوجدهما فارغين، ليسأل متعجبا: مفيش حاچة فكفي يا أنس، ما هو صحيح أني ايه ب يدي أعمله لچل ما ارچعكم!.. جوليلي وأني أنفذ..
أشارت من جديد نحو كفيه، ثم نحو أرض بعيدة عندما حاول تبينها، أيقن أنها أرض البركة التي كان عليها لقاؤهما بعد تيه، ثم لوحت له مودعة وبدأ طيفها يتلاشى، صرخ سعد يستوقفها ويستبقيها ولو لبرهة قصيرة، لكن طيفها خبا بين الضباب كأنه لم يكن..
انتفض سعد بموضعه، يتطلع لذاك الرجل الذي يهز كتفه ليوقظه من منامه، متطلعا نحوه في تيه، ليقر الرجل في نبرة متأسفة: معلش يا حضرة، قومتك من رقدتك، بس أصلك كنت بتبكي فمنامك، لعله خير..
تطلع سعد للرجل الذي كان يماثله في العمر تقريبا، تبدو على سمات وجهه الطيبة والسماحة، يرتدي كاكولة وجلبابا ازهريا، ما حث سعد على الاعتدال جالسا، مؤكدا: ايون يا شيخ صدجت، كان حلم عچيب..
همس الشيخ في هوادة: خيرا إن شاء الله.. رفع سعد يمسح كامل وجهه بباطن كفيه، فسقط منهما شيئان استقرا بحجر جلبابه، ما دفعه ليتطلع نحوهما في صدمة، لا يصدق ما يجري..
وصوت المبتهلين الذي قد غفا على ذكرهم، وترديده معهم، يعلو في الأجواء..
يا غياث المستغيثين ويا..
ماضي الحكم إذا ما حكم..
فرج الأمر علينا سرعة..
إنما الأمر علينا عظم..
رفع سعد ما بحجره متطلعا نحوهما في تعجب تغمره الدهشة، من أين له بمثلهما!..
دفع بهما نحو الشيخ مستفسرا: يا شيخ أني متوسم فيك الخير، فمنامي شفت مرتي جاعدة يشاور لي على كفوفي، وعلى أرض عندنا فالبلد، ولما صحيت لجيت دول لسه واجعين من كفوفي جدامك، ومكنوش فيهم لما نعست، ايه ده!
تبسم الشيخ مؤكدا: إنها البشرى، لك غايب..
هتف سعد في لهفة: اتنين يا شيخ، مرتي وولدي..
أكد الشيخ في بشاشة: على عودة بإذن الله، لكن.. مش قبل ما يتحقق الشرط..
هتف سعد متعجلا: شرط ايه!.. جولي يا شيخ والله لو لبن العصفور اچيبه بس يرچعوا بالسلامة من غير شر!..
اتسعت ابتسامة الشيخ مؤكدا: لا، لا لبن العصفور ولا حاجة، ايه اللي كان ف يدك، مش حصاية وفسيلة لتعريشة عنب، يبقى تقوم دلوقت حالا، ترجع بلدكم، والأرض اللي شاروت لك عليها مراتك، ابني عليها دار واغرس فيها فسيلة العنباية.. قوم وتوكل على الله..
انتفض سعد ناهضا، وقد كاد أن ينسى حذائه، لولا أن نبهه الشيخ ضاحكا: مداسك يا حضرت، هتروح حافي.. وبعدين خليك.. خلاص كلها شوية والعصر هيترفع آذانه..
عاد سعد لموضعه، وقد احتفظ بهدايا الرؤية في جيب جلبابه في حرص، وما أن هم بالانحناء متناولا حذائه، حتى جلس قبالة الشيخ متسائلا في نبرة معتذرة: معلش يا شيخنا، جصرت فالسؤال، هو اسم الكريم ايه!
رد الشيخ في سماحة: رضا المحمدي..
هتف سعد: أنعم وأكرم، وأني سعد رسلان.. منين بجى يا شيخ رضا!
رد رضا في سلاسة: من كفر صغير كده جنب شربين يا عمدة..
استفسر سعد: طب هو أنت شغال هنا!
رد رضا: لا، على باب الله، لسه سايب البلد مع مراتي ونزلنا المحروسة جلت بلاد الله لخلق الله..
هتف سعد في حماسة: طاب ده زين جوي، بجولك يا شيخ رضا، ايه جولك تاچي معاي الصعيد، الشيخ حسونة شيخ الچامع ومأذون البلد اتوفى من كام شهر، تاخد مكانه، جولت ايه، ودارك وكل حاچة لزماك علي!..
هتف رضا المحمدي في سرور: على بركة الله، ربنا يكتب لنا فيها الخير.. وسبحان من جمعنا..
هتف سعد في عجالة: على بركة الله يا شيخ رضا، بكرة بعد صلاة الفچر بالمشيئة، نتجابل هنا، ونتوكلوا ع الله..
هز الشيخ رضا المحمدي رأسه موافقا، وقد بدأ يردد مع المبتهلين دعواهم.. وأخيرا هتف شارحا لسعد: عارف التضرع ده اتحركت عشانه مراكب الخليفة لإغاثة تاجر بسيط..
سأل سعد متعجب: كيف ده!..
الخليفة جاله حالة أرق ومش عارف ينام راح جمع قواده، وأمرهم بالخروج بسفنه لتفقد بعض الأمور، نفذ القادة الأمر، عشان يرجع الخليفة بعد يومين يلاقي المراكب اللي بعتها رجعت، استغرب لقى القادة داخلين عليه ومعاهم واحد لحقوه من عرض البحر قبل ما يغرق، اتاري التاجر ده غرقت سفينته وما بقى إلا هو، ٣ أيام فالبحر وهو متعلق بخشبة حتى الخشبة نفسها بدأت تتشرب ميا وقال خلاص حانت ساعتي، لحد ما ربنا ألهمه الدعاء ده، وجه قادة سفن الخليفة ينقذوه، فسبحانه غياث المستغيثين اللي بعت الأرق للخليفة ليحرك سفنه لإنقاذ التاجر الغلبان..
هز سعد رأسه في تفهم، وما أن أتم صلاة العصر مع الشيخ رضا المحمدي، حتى استأذن مهرولا، فقد كانت الرؤية بشرى، بعد أن خرج من قصر رستم باشا لا يلوي على شيء، شاعرا بضيق في صدره، كأنما ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وما عاد للدنيا من قدر بعد أن جاءه ذاك الخبر الذي انتظر قدومه منذ شهور طويلا مخيبا للآمال العريضة التي رسمها بخياله، والتي كانت كلها تتمحور حول إمكانية عودة أنس الوجود وفضل ولده، ما له بهذه الدنيا بعد أن ضاع عنه عزيزيه!..
سار سعد بلا هدى لا يعرف إلى أين قد تأخذه قدماه، حتى أنه نسي عربته خارج قصر رستم باشا، ولم يجب على نداءات السائق حين تخطاه مبتعدا، ليجد نفسه بعد فترة طويلة من المسير ها هنا بمنطقة الحسين، وقف على أعتاب الجامع العتيق خالعا عنه نعله، واضعا إياه أسفل إبطه، متجها لركن منعزل حيث صل ركعتين ما أن انهاهما حتى جلس يتضرع لله أن يأتيه ما يطمئن باله على زوجه وولده، يجعله يتشبث بالأمل في عودتهما، ذاك الأمل الذي يهبه الحياة، ليصل لمسامعه ابتهال المصلين بالقرب، فما كان منه إلا ترديده معهم وأخذه النعاس، ليستيقظ على كف الشيخ رضا المحمدي توقظه.. ليكون للحياة معنى آخر وهدف جديد..
❈-❈-❈
القاهرة.. ١٩٩١..
مرت عليها الأيام الماضية بصعوبة بالغة، وكان عيد ميلادها هو الاسوء على الإطلاق، فقد انهارت كل أحلامها دفعة واحدة، وما عاد لها من أمل مع نصير بعد أن أدركت أنه اختار أنس الوجود لتكن شريكة حياته..
كان يؤرقها طوال الليالي الماضية سؤال واحد لم تجد له إجابة قط، كيف لنصير أن يعرف أنس الوجود للدرجة التي تدفعه ليعرض عليها الزواج بهذه السرعة!.. فهي لم تأتي يوما إلى الڤيلا، ولم يرها نصير مرة في صحبتها، كانت أنس بعيدة شكلا وموضوعا عن نصير الراوي وحياته وكل ما يمت له بصلة، فكيف يكون ما جرى منطقيا!.. هناك تفاصيل لا تعرفها، وأمور بالتأكيد غابت عنها، ولذا كان الذهاب لأنس وسؤالها ضروريا، لكن حتى هذا ما استطاعت اتيانه حين وجدت نصير هناك، يجلس في أريحية على طاولة طعامهن، وكأن الأمر أصبح رسميا، وقبول عرضه بات شيئا مسلم به!..
حتى اللحظة هي لا تجد ما يجعل تعلق نصير بأنس الوجود واردا من الأصل، ولا تجد سببا واحدا يجعله لا يلتفت لها ويستشعر ذاك الهوى الذي تضمره تجاهه لسنوات طويلة خلت، وما زالت تحمل له كل هذا الحب على الرغم من كسرة القلب التي عاشتها منذ أسابيع، والتي قررت بعدها أن تحاول الابتعاد والتفكير ببعض العقلانية، لكن هذا لم يفلح، فكل الطرق تؤدي إلى المزيد من التورط في محبة هذا الرجل الذي سقطت في شباك هواه، وعلقت به دون قدرة على الخلاص..
هي تموت وتحيا كلما جال بخاطرها فكرة زواج نصير من صديقتها الوحيدة التي تعدها أختا، والتي تدرك بدورها كم المشاعر التي تكنها هي لنصير منذ نعومة أظفارها، وكم حذرتها أنها واهمة، وأنه لا يشعر بها ولا يدرك كم المشاعر الفياضة التي تحملها لشخصه، لكنها أبدا لم تستمع، لكن السؤال الذي يضج مضجها بحق ويثير داخلها ألف نار لا يهدأ سعيرها، هل تقبل أنس الوجود بعرض نصير على الرغم من معرفتها بمشاعرها تجاهه!.. هل تخسر صداقتها الطويلة، في مقابل الفوز بنصير وكل ما يملك!.. نعم ما يملك، فهي تدرك أن أنس لو قبلت بنصير كزوج سيكون ذاك زواجا عقلانيا مبني على المصلحة المتبادلة، وأن برلنت هانم هي من ستحث أنس الوجود على القبول بهذه الزيجة، فهي تدرك أن التفكير المادي هو الدافع الوحيد عند برلنت هانم لقبول زيجة كهذه دون حتى الالتفات لرغبة أنس من الأساس.. وربما يكون ذاك دافع أنس للهرب والسفر للرسلانية بعيدا عن ضغط أمها حول هذا الأمر.. ربما!..
انتفضت من خواطرها التي تعاد على بالها كبكرة خيط جذب أحدهم طرفها إلى ما لا نهاية، حين جاءها صوت نصير عبر جهاز التواصل بينهما، أمرا إياها: هاجر، عايزك بسرعة!..
ضغطت زر الرد مؤكدة: حالا يا نصير بيه..
ارتدت وجهها العملي الذي سار عنوانا لها، وسارت خطوات حتى طرقت باب مكتبه ودخلت متسائلة: تحت أمرك يا نصير بيه!..
تطلع نصير نحو بعض الأوراق القابعة أمامه على سطح المكتب، هاتفا في حنق: ايه ده يا هاجر! أنا علمتك كده!.. الأوراق دي تخسرنا كتير أوي.. إنتي عقلك كان فين وإنتي بتراجعيها!..