رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 21 - 1 - الجمعة 28/2/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الواحد والعشرون
1
تم النشر الجمعة
28/2/2025
شيء ما يحدث!
الرسلانية مطلع ١٩٢١..
لم يكذب سعد خبرا، فبعد أن جاءته الرؤية المبشرة بعودة زوجته وولده، بشرط تنفيذ ما جاء فيها من دلالات، حتى شد رحاله للعودة للرسلانية بصحبة الشيخ رضا المحمدي وزوجه.. وصلا حتى دار الشيخ حسونة رحمه الله، وأكد سعد في ترحاب: اتفضل يا شيخ رضا، الدار اهي تتعمر بكم، دي كانت دار الشيخ حسونة بنتها له، سكن فيها هو ومرته لحد ما چه الاچل، والدار رچعت لي تاني، عشان تتشرف بكم..
همس الشيخ رضا وهو يتطلع حوله في جوانب الدار، ومن خلفه زوجه تقف بأحد الأركان هادئة لا تنطق حرفا، تتستر ببردتها وبرقعها التلي، ولم تعقب على حديث سعد أو رد زوجها: على بركة الله يا سعد بيه، ربنا يبارك لنا فيها ويجعلها خير المستقر بإذن الله..
خرج سعد من الدار مرددا: إن شاء الله، اسيبك تستريح، وتشوف الدار ناجصها ايه، وأني تحت أمركم..
هتف الشيخ رضا في أمتنان: تسلم يا سعد بيه، بس أني عايز أروح الجامع، تعال نمشوا سوا وعرفني طريقه حكم خلاص العصر وجب..
ابتسم سعد مشيرا إليه ليتبعه، فجذب الشيخ رضا باب الدار الخشبي، هاتفا لزوجه بالداخل: أني رايح الجامع، هصلي العصر وراجع طوالي..
سارا على طول الطريق الترابي صوب المسجد، فإذا بسعد يسأل في تردد: هو أنت فين عيالك يا شيخ رضا!
أكد رضا متنهدا: الحمد لله ربنا ما ارضش يطعمنا بالذرية، ومراتي بت عمي وملهاش غيري، غلبانة وراضية وادينا محتسبين، الحمد لله..
هز سعد رأسه متفهما: ربنا يرزجك بفرحة العوض عن جريب يا رب..
هتف رضا في قلب متضرع: يا رب..
ساد الصمت لبرهة قبل أن يهتف رضا متسائلا: مقام مين ده يا سعد بيه!..
أجاب سعد: مقام الشيخ مندور السماحي.. كان راچل صالح چه البلد من أيام چدي، حافظ كتاب الله، وكان له كرامات ياما، وعلى يده تاب كتير من النور والهنجرانية اللي كانوا ماليين النچوع، ده حتى ضمراني واد الليل اللي ديابة الچبل كانت تهابه، واللي كان مغلب المديرية كلها، خرچ تايب من عنده.. ده له حكاية طويلة، ابجى احكيهالك لما تروج..
همس الشيخ رضا متسائلا: ومين ده اللي قاعد عند المقام، رافع عيونه للسما كده ومسلم، تعرفه!..
هز سعد رأسه مؤكدا في نبرة تقطر حسرة: ايوه يا شيخ، ده طليج أختي، وهدان الحراني.. غلبان.. ربنا يعينه على ما بلاه..
سأل رضا في فضول: فيه ايه!.. أنت بتقول طليق أختك، بس بتتكلم عنه كأنه صعبان عليك! هي ايه الحكاية!..
هتف سعد مؤكدا: دي جصة عچب يا شيخنا، نلحجوا العصر، وابجى احكي لك الحكاية من طجطج لسلام عليكوا..
مد الشيخ رضا الخطى نحو المسجد للحاق بموعد إقامة شعائر صلاة العصر، وعيناه على وهدان الذي لم يبرح المقام حتى غاب موضعه عن ناظريه.. بينما هتف سعد في سعادة: مش أني اتفجت مع واحد إيطالي چاي عشان يشوف الأرض ونبدأ نبني بجى الدار، كيف ما فسرت لي الرؤية!..
همس الشيخ رضا في رزانة: ربنا يرد الغائبين بخير يا رب..
همس سعد وقد وصلا لعتبة المسجد: يا رب..
❈-❈-❈
أزمير ١٩٢١..
مر شهران منذ جاء بها ذاك القائد اليوناني إلى قصر أبيها الذي أصبح مقرا لقيادته، وسكنا له كذلك، كانت تعلم أنس الوجود أن ذاك الرجل يضمر لها الشر، فقد كانت نظراته منذ قدم بها إلى هنا تحمل الكثير من التهديدات، لم يكن عليها إلا الصبر، وقد وطدت نفسها على التعامل مع الوضع الحالي الذي وجدت نفسها متورطة فيه بكل هدوء وروية، محاولة أن تنسى أنها كانت سيدة هذا القصر يوما ما، دعت الله كثيرا أن يزيح هذا البلاء، ولا يبتليها في نفسها وولدها، وقد شكرته حين أدركت عدم وجود ذاك الفظ بالجوار، فأدركت أن قيادته العليا أرسلته لبعض المناطق القريبة لإخماد بعض الاضطرابات والسيطرة على الأمور هناك..
ويا لها من أخبار سعيدة!.. كانت المقاومة لهؤلاء الأوغاد على أشدها، ولن يهنأوا بالركون إلى الراحة طالما هناك قلب نابض بين صفوف المقاومين لوجودهم السافر.. وتساءلت في حزن، عن حال نوري.. تراه حيا يرزق! أم قتله هؤلاء السفلة تعذيبا!.. كان خاطر الهرب قد راودها عدة مرات، هي لا تعلم إلى أين يمكنها الهرب من الأساس، فما عاد كوخ يلديز صالحا ليكون مكانا للاختباء فقد أصبح وجهة معروفة لذاك القائد!.. لكن على الرغم من ذلك فكرت في تنفيذ خطتها والهرب من ذاك السرداب السري الذي هربت منه بصحبة يلديز يوم مقتل والدها، لكن للأسف، وجدت حين حاولت أن تستطلع الأمر، أن ذاك السرداب قد تم إكتشاف أمره، وقد أصبح موضع لتخزين بعض المؤنة والسلاح لكتبة الجنود التي يقودها القائد نيكوس..
انتفضت أنس من خواطرها على بكاء فضل، فاندفعت مهرولة من داخل المطبخ، لتجد ولدها يقف بالبهو الواسع في خوف، أمام ذاك الرجل الذي ظنت أن اضطرابات بني جلدتها من المقاومين لاستعمار قواته لبلادهم قد اراحتها من وجوده بينهم، لكن ها قد عاد..
اندفعت في عجالة تحمل طفلها تضمه لصدرها كي تهدىء من روعه، بينما انصبت نظرات نيكوس على محياها في نظرة طويلة متفحصة كأنما يحاول أن يتذكر من تكون، على الرغم من أنه أكد على معرفته إياها حين هتف في نبرة قوية: أنس الوجود هو اسمك! أليس كذلك!..
هزت أنس رأسها مؤكدة، وحين لم يتلق جوابا، تطلع نحوها متهكما: هل أكلت القطة لسانك! سألت سؤالا وطلبت إجابة!..
أنزلت أنس طفلها أمرة إياه ليبتعد عن ذاك المجال السام، ليطيع الصبي مندفعا للداخل نحو مساعدها ذاك العجوز المدعو عون، الذي تلقفه حاملا إياه، واقفا في هوادة مستترا حتى يرى ما قد يسفر عنه لقاء القائد نيكوس بأم الصبي، والتي سمعها تهتف في نبرة قوية: نعم سيدي.. ذاك اسمي..
هز نيكوس رأسه في لامبالاة أمرا: عليك تحضير عشاءً خفيفا.. مبكرا، فأنا مرهق.. أرغب في النوم لأيام..
أكدت أنس في طاعة: سأفعل.. خلال ساعة ستكون المائدة معدة بما أمرت..
همس نيكوس وهو يهم بالرحيل: سنرى..
وما أن خطى خطوة واحدة مبتعدا، حتى عاد مجددا أمرا في نبرة قاسية: احرصي على ردع ولدك عن التجول في المقر كأنه بيت والده، لأني اقسم لو رأيته مرة آخرى بالبهو، فستكون العواقب وخيمة، فهذا مقر لقيادة القوات اليونانية، لا دار حضانة أطفال.. مفهوم!..
أكدت أنس في طاعة: مفهوم!..
تركها وغادر، وما أن تأكدت أنه غاب بالأعلى حتى اندفعت في عجالة صوب ولدها تطمئن أنه بخير، في حماية العجوز عون، الذي جاء للخدمة بالمقر بعد مقدمها بحوالي الأسبوع، كان طباخا ماهرا، وذاك وفر عليها الكثير، فقد ساعدها خلال فترة غياب القائد نيكوس في تعليمها إعداد عدة أطباق أساسية لابد من وجودها على المائدة، حتى إذا ما قامت بتجهيزها كما يجب أن يكون، فلا تصير موضع شك أو انتقاد من قبل ذاك القائد النزق..
اتمت تحضير المائدة في خلال الساعة على أكمل ما يكون، ليهبط نيكوس الدرج في عجرفة واضحة، وخطوات متمهلة، جلس على رأس المائدة متطلعا في تفرس نحو وضع الصحون ونظامها، وشرع في تذوق الأصناف مستحسنا، حتى إذا ما أنهى طعامه، نهض في هدوء دون أن ينطق حرفا، متجها صوب المكتب، أمرا دون أن يلتفت صوب موضعها: قهوتي بالمكتب..
نفذت، وكانت قهوته معدة كما يفضلها، بكى فضل.. فتوجهت نحو غرفتها لتكون برفقته، تاركة تقديم القهوة لعون الذي اتجه صوب المكتب، تاركا إياها تتمدد جوار طفلها فعلى أي حال، انتهت فترة خدمتها بإعداد القهوة، لكن ما أن فكرت في التخلص من ثوبها الثقيل وحجابها، مرتدية ثياب النوم، حتى كانت طرقات العجوز عون على الباب دافعا لها لتتوقف، فتحت الباب في حذر متسائلة: ماذا هناك عون أفندي!
أكد عون في نبرة خاضعة: القائد يطلبكِ، قال أنه طلب منكِ أنتِ إحضار القهوة.. وعليكِ ذلك فورا..
تنهدت أنس في محاولة لضبط أعصابها، وقد أطاعت حاملة صينية القهوة عن عون، متجهة صوب غرفة المكتب، طرقت الباب في تأدب، ودخلت ما أن أذن لها، واضعة صينية القهوة قبالة موضع جلوسه على كرسيه المفضل، ليحمل الفنجال مرتشفا في صمت، وتوقفت هي في ترقب انتهائه، لكنه بصق القهوة بالفنجال، هاتفا في غضب، مساحا فمه بمحرمة قماش كانت موضوعة جانب الفنجال على الصينية: ما هذا القرف! القهوة باردة، كما أنها ليست كما أفضلها.. بلا سكر..
اعتذرت أنس في نبرة محايدة، وقد انحنت تحمل الصينية مؤكدة: سأعد لك غيرها سيدي..
غافلها شعرها وانحدرت جديلة في عجالة هاربة من عقاله طوال الوقت خلف رأسها في إحكام، لتسقط متدلية بطول كتفها، لتصدر عنه شهقة مكتومة، صاحبت شهقتها المذعورة.. حاولت أن تهرول هاربة عن ناظره، لكنه كان الأسبق الذي قبض على جديلة شعرها مستوقفا إياها، جابرا نظراتها للتطلع نحوه في نظرة تحمل ذعر لا يمكن وصفه، وقد قرأت في عينيه نوايا غير محمودة العاقبة، وخاصة حين همس بذاك الصوت الأبح: كنت على حق.. فتلك الأثمال البالية التي ترتدين، تخفي لؤلؤة ثمينة، وسأكون في قمة سعادتي أن أزيح عنها هذه الأوحال لتسطع لي وحدي..
جذبها مقربا إياها أكثر وهو يقبض على جديلة شعرها بقبضة من حديد، وقد بدأت تتألم حقا من إحكام سيطرته عليها بهذا الشكل، وما أن شعرت أن عليها أن تتصرف حيال ذاك الرجل، حتى ألهمها الله أن تسقط عليه صينية القهوة بما تحمل من فنجال القهوة البارد وكوب الماء، لينتفض موبخا لفعلتها، ما ترك لها فرصة سانحة لتندفع هاربة من حجرة المكتب نحو حجرتها، والعجيب أنها لم تسمع صراخا أو تهديدا خلفها حين وصلت غرفتها ترتعش، بل كانت ضحكاته الهيستيرية هي كل ما تناهى لمسامعها من خلف باب حجرتها التي أغلقته في إحكام تام، وجلست ترتجف خلفه لبعض الوقت، حتى تأكد لها أنه لن يجرب المحاولة منساقا خلفها حتى حجرتها، وأنه اكتفى بالعبث بها وحرق أعصابها بشكل كاف لهذه الليلة، تاركا لها تخيل الأسوء فيما هو قادم من أيام، الله وحده يعلم كيف ستمضي عليها داخل هذا الجحيم!..