-->

رواية جديدة بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) لعفاف شريف - الفصل 23 - 1 - الثلاثاء 11/2/2025

  

قراءة رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر


رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض)

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة عفاف شريف


الفصل الثالث والعشرون

1

تم النشر الثلاثاء

11/2/2025



إذا اشتدتْ بنا الأيامُ واشتعلَ الظلامُ،

وضاقَ الدربُ، وانطفأ الكلامُ.

نهيمُ كأننا أوراقُ خريفٍ،

تُصارعُ الريحَ، ترجو السلامَ.


تلك هي النجاةُ، صرخةُ الروحِ فينا،

حين ينهارُ الأملُ ويغيبُ اليقينُ.

نقفُ رغمَ الوجعِ، رغمَ الانكسارِ،

كجبالٍ في وجهِ الريحِ، نصونُ الحنينَ.


نسيرُ على دربٍ قاسٍ، مكسورَ الخطى،

لكنَّ القلبَ يقاتلُ كي لا ينحني.

نغزلُ من حطامِ الأمسِ أجنحةً،

ونحلمُ بالضوءِ، نرجو المُنتهى.


هي محاولاتُنا تلكَ، هزائمٌ وانتصارُ،

هي الشوكُ والوردُ، هي الألمُ والفرحُ الجارحُ.

نكتبُ اسمَنا في وجهِ القدرِ،

ونعلمُ أن النجاةَ هي الرحلةُ، لا النصرُ.

❈-❈-❈

دثَّرت الصغار جيدًا بعد أن أهدت كل واحدٍ منهم قُبلةً حنونةً مُشتاقة، وظلَّت تُطالعهم لعدَّة دقائق.

هؤلاء جوهرة حياتها، مهما شعرت بالألم، مهما شعرت بالوَحدة، معهم تشعر بالدفء والحنان والحب، وكل المشاعر التي يتمناها الجميع.


لكنها تتألَّم وإن أنكرت.

نظرت إلى هاتفها بابتسامة ساخرة موحشة، وهي تفكر  لم يُكلِّف نفسه حتي أن يُحدِّثها، لا ليطمئن عليها، ولا على أولاده، ولا حتى على أخيها المُلقى في المشفى.

أخيها الذي سانده بالكثير من الأمور، ودعمه في عمله دون تردُّد، الآن تناسى كل هذا ولم يتذكر أي شيء، بكل عينٍ وقحة!


تحرَّكت ببطءٍ وحِرصٍ شديد، تحمل أكواب الحليب بعد أن انتهى منها الصغار، وهي تخرج متوجهة نحو المطبخ لتضعها، وتعدَّ لها أي شيء لتأكله، علَّه يملأ فراغ معدتها.

وما إن وصلت هناك حتى وجدت يارا تجلس تشرب فنجان قهوة بشرود، حتى إنها لم تلاحظ دخولها، إلا بعد أن وضعت الأكواب وأصدرت صوتًا، فاجفلت، تسمِّي الله.


تناظرها بطرف عينها قبل أن تنظر إلى الأكواب متسائلة بهدوء:

ـ دول كانوا للولاد؟

أومأت لها بصمت، لتصمت هي الأخرى مفكرة.


مراد ومريم لم يشربا الحليب اليوم، فحور كانت المسؤولة عنهم كل يوم، وبعودة الكل للمنزل مرة أخرى، أصبحت كل أمٍّ مسؤولة عن صغارها، وهي لا طاقة لها بتلك الأمور.

هي تفكر بطريقة مختلفة، تسعى لتوفر لهم حياةً تجد مَن يفعل لهم هذا، وهي تراقب من بعيد بهدوء.


هي مختلفة عن حور وآلاء، فقد رسَّخت كلٌّ منهما حياتها للبيت وللزوج وللاطفال، وفي النهاية... لا أمان.

هي قوَّتها في عملها، عملها فقط.

أطفالها أفضل أطفال، أفضل تعليم، وهي لا تُقصِّر معهم، وطالما لا تُقصِّر، إذن هي في الطريق الصحيح.


كانت تُراقب آلاء وهي تتحرك، تفتح المُبرِّد، تُخرج عدة عُلب، قبل أن ترفع وجهها تسألها بهدوء:أعملك معايا سندوتشات؟

هزَّت يارا رأسها تقول برفض واستنكار: الأكل بليل بيتخن، خافي على وزنك.


نظرت آلاء إلى علبة المخلل بيدها قبل أن تسألها بغباءٍ ممازح: وهو هيعرف منين إننا بليل؟


انفلتت من يارا ضحكة ساخرة وهي تهز رأسها بيأس، قبل أن تقول بلا مبالاة: ولا أقولك... اعملي.


ضحكت آلاء بمرح وهي تُخرج الخبز، وتُجهِّز طبقًا كبيرًا يملؤه الشطائر وكوبين من الشاي بالحليب.

قطعت تفاحًا، وأخرجت فِراولة وتوت، وعلبة المخلل بالطبع كانت أولهم، وفي النهاية علبة المثلجات.


اتسعت عينا يارا وهي تُشاهد الأطعمة التي لا تمتُّ لبعضها بصلة، قبل أن تسألها بتوجُّس:  إيه كل ده؟ إنتي ناوية تنتحري؟


هزَّت آلاء رأسها نفيًا، وهي تلتقط شطيرة الجبن المشوي وقطعة المخلل، تلتهمهما بجوع وهي ترد بفم ممتلئ: لا، بس صدقيني... أكل اليوم كله كوم، وأكل بليل ده كوم، ليه طعم خاص، مميز، ودافئ.


قالتها وهي تحمل كوب الشاي بالحليب، ترتشف منه رشفة، متنهده بسعادة.


ابتسمت لها يارا وهي تمد يدها بتردد، تحمل شطيرة هي الأخرى، وهي تتساءل كم سعرًا حراريًّا فيها؟


إلا أنها، وما إن قضمت منها قضمة، حتى تأوَّهت بسعادة، تلحقها رشفة من كوبها هي الأخرى.


ورغم بساطة الجلسة مع أخت زوجها، إلا أنها كانت مرتاحة البال، دون التفكير في العمل.

وكم كان هذا هادئًا ومريحًا!


وبداخلها، ومن هنا والآن... بدأ الصراع.

❈-❈-❈

كانت تقف أمام المرآة، تعدل من وضع خصلاتها، تنظر إلى منامتها الرقيقة، وهي تلتفت لتنظر إلى ابنتها الجالسة، تشاهدها بابتسامة جميلة كجمالها.


اقتربت منها، تحتضنها بحنان، قائلة بابتسامة سعيدة:

ـ انتي وحشك بابا يا شموس؟

ـ وحشك يا صغنن يا حلو؟

هنقضي الليل كله مع بابا، نتفرج على فيلم، ونلعب.


ضحكت الصغيرة، لكن ليس لها، بل لمن يقف خلفها يُطالعها بحنان.


التفتت تنظر إليه بعد أن أنهى مكالمته الهاتفية، ليقترب منها، يحمل الصغيرة، يقذفها للأعلى عدة مرات، لتضحك هي أعلى وأعلى، وتقف هي تشاهدهم بعين مرتاحة مطمئنة.


تضم يدها إلى قلبها، تدعو الله من كل قلبها أن يديم تلك الضحكة لتنير حياتها.


نظر لشرودها متسائلًا بهدوء:

 اخترتي الفيلم اللي هنتفرج عليه؟


أومأت له بحماس، تخبره عن أحد الأفلام الأجنبية، فابتسم لها واقترب، يُقبِّل وجنتيها، قبل أن يجلسا، والصغيرة في المنتصف، لمشاهدة الفيلم المنشود.


ولكن...


وبعد عشر دقائق كاملة، انطلقت شمس في بكاء، رافضةً لهذا الفيلم المُمل، وهي غاضبة... وبشدة!


ولأجل عيون الأميرة شمس، تم تغيير الفيلم، وكانت السهرة برعاية سندريلا، يضمها والصغيرة في المنتصف، تُشاهد الفيلم بكل سعادة.


وحور تفكر... ربما لم يكن فيلمها المفضل، لكنها تحيا حكايتها الخاصة، وهذا بأكثر من كافٍ بالنسبة لها.


❈-❈-❈

بعد ثرثرة طويلة مع يارا، صعدت كل واحدة منهنَّ إلى غرفتها.


دلفت، تحرِّك رأسها يمينًا ويسارًا بألم. كم كان يومًا مرهقًا متعبًا، والصداع فعليًّا أصبح رفيقًا لها.


لولا مساعدة حور، لما استطاعت أبدًا أن تزور تميم اليوم.


حسنًا، والآن، فلتنال قسطًا وفيرًا من الراحة.


تسطَّحت بحرص بجانب الصغار، وأمسكت هاتفها، تُقلِّب فيه بشرود، تُراجع الرسائل، تردُّ على مَن راسلها، تتفقد الإشعارات، واحدًا تلو الآخر.


ثانية...


ما هذا؟


اعتدلت سريعًا، منتفضةً فعليًّا، وهي تتسمر أمام رسالة من حسابها البنكي المشترك، هي ورامي، وقد تم سحب مبلغ .......


كم؟!


وضعت يدها تكتم شهقتها، وهي ترى المبلغ، والذي كان مُخططًا أن يكون ثمن الشقة التي كان من المفترض أن يتم شراؤها، لضيق المكان الحالي عليها وعلى الصغار.


كيف حدث هذا؟


أيُمكن أن تكون غلطة من البنك؟ كيف أصلًا؟


أسرعت تهاتف رامي برعب.


ماذا حدث؟ تكاد تجن!


هذا المبلغ جمعته هي بشقِّ الأنفس،  تحرم نفسها من الكثير من الأشياء لأجل أن تنتقل إلى بيت أكبر حجمًا.


ماذا يحدث؟! ماذا حدث؟!


نزعت الهاتف من على أذنها، وهي تكاد تجن... لقد رفض المكالمة!


أيُّ غبيٍّ تزوجت؟!


إن قتلها أحد، فلن يشعر بها!


إلا أنها لم تستسلم، هاتفته مرة أخرى، اثنتين، ثلاث، أربع مرات... وهو يُغلق في كل مرة!


وبعد عشر دقائق كاملة، كانت خلالها تنظر إلى الهاتف بجمود، وقلبها على وشك التوقف من شدة الرعب، وصلتها رسالة باهتة مختصرة، يتساءل فيها عن سبب الاتصال.


ردَّت سريعًا، تتساءل عن المال:


جالي رسالة إن اتسحب من الحساب .....


وقبل أن تتابع الكتابة، لتخبره أن يذهب إلى البنك سريعًا ليتفقد الوضع، وهي ستأتي بأول طائرة، أتاها الرد سريعًا، وهو يخبرها ببساطة:


 أيوة، سحبته.


ردَّت بسرعة وهلع:


 إيه؟! ليه؟! إزاي أصلًا تسحبه من غير ما تقولي؟!


وأتاها الرد أسرع، وهو يخبرها بهدوء:


واقولك ليه ؟ الفلوس فلوسي، أسحبها، أحرقها؟!


وتابع:


ومترنيش عليا تاني، أنا مش فاضي، نتكلم بعدين.


واختفى.


رفعت الهاتف على أذنها، تتصل، تنوي أن تفعل أي شيء غير أنها تبقى صامتة... لكنه كان مغلق.


وظلَّت هي في محلها، تنظر إلى اللاشيء، وبداخلها يحترق.


قلبها يحترق، وهي تتساءل بداخلها بجنون:


 سحب هو المال؟!


المال الذي ضحَّت لأجل تجميعه بالكثير...


الكثير من الراحة، والصحة الجسدية والنفسية...


الكثير مما أرادت... والكثير مما تخلَّت...


كيف له؟! كيف له أصلًا؟! وهي لها في هذا المال أكثر مما له هو حتى!


تلك أموال كان يرسلها لها إخوتها، تحديدًا وأكثرهم تميم، وبدلًا من أن تُنفقها وتُريح نفسها وجسدها المُنهك، كانت تضعها في حسابهم المشترك، لكي لا تُشعره بالدنو أبدًا، وأنها أعلى منه شأنًا.


جمعته لهم، لتبني مستقبل أبنائها، غافلةً أنها تضعهم في فم الذئب!


لا، بل في فم كلبٍ أجرب، نهش حقها دون حق!


كلبٌ وضيع، لم يَصُن أيَّ شيء!


وفي غمضة عين، دمَّر هو كل هذا... دون أي رحمة.


❈-❈-❈

الصباح ليس مجرد شروق شمس، بل بداية جديدة تحمل في طياتها احتمالات لا نهائية. هو اللحظة التي يتردد فيها العقل بين الاستمرار فيما كان أو بدء طريق مختلف. في هدوئه تُصنع القرارات، وفي نوره تتجدد الأحلام المؤجلة. بعض الصباحات تأتي محمَّلة بالإلهام، وأخرى تثقلها الذكريات، لكن جميعها تمنحنا خيارًا واحدًا: أن نمضي، مهما كانت البدايات، ومهما كانت النهايات التي تنتظرنا.


كانت ما زالت في محلها، لم تُغمض عينيها ولو لوهلة، لم تقدر أصلًا.


بكت كثيرًا، حتى اكتفت، ولم تجد المزيد من الدموع لتهدرها، فصمتت وتجمدت.


كان أحدهم قد أسقط عليها دلو ماء بارد في أشد الأيام برودة.


لقد ظلَّت طوال الليل تفكر في الخطوة القادمة... هل ستخبر أباها؟


ماذا ستفعل؟


والاسئلة قاتلة 


أغلقت عينيها، تشعر بالألم، وهي تسمع صوت بكاء تميم يعلن عن استيقاظه.


تحركت من فراشها، تشعر بكل عظمة فيها تصرخ ألمًا، حملته، وظلَّت تهدهده.


تبعها استيقاظ الصغار واحدًا تلو الآخر، آية وإيلا تحركتا سريعًا إلى الحمام كالمعتاد، وعز ما زال في مكانه، يستوعب ما يحدث حوله.


وحينما زاد بكاء تميم، ألقى بنفسه للخلف مرة أخرى، واضعًا الوسادة على رأسه في رسالة واضحة أنه لا يريد ضوضاء.


تحركت هي تخرج الملابس لهم جميعًا... ولها، فهي بحاجة إلى حمام طويل، لعله يزيل أثر إرهاقها.


وقبل أن تلتفت لتوبخ عز ليتحرك، قاطعها صوت طرقات الباب ودخول ملك، التي أهدتها ابتسامة مشرقة، تردد بهدوء:  صباح الخير يا لولو.


حاولت آلاء رسم ابتسامة، إلا أنها لم تقدر.


راقبتها ملك باستغراب، قبل أن تقترب منها، تحمل الصغير الباكي عنها، وهي تمسك يدها، تجلسها على الفراش، ثم تجلس بجانبها، قبل أن تتساءل بقلق: في إيه؟ مالك؟


أطرقت آلاء بوجهها، ثم قالت بصوت خافت، تائه، كأنها لا تعي:  أنا مابقتش عارفة المفروض أعمل إيه يا ملك... مابقتش فاهمة، وحاسة إني تعبت... تعبت أوي.


طيب، المفروض إيه اللي يحصل دلوقتي؟


خلاص يعني؟!


 طيب، ما أنا كنت أصلًا مستنية من بدري... ليه في وجع كده؟ ليه في كسرة نفس على سنين عمري كده؟


 هل أنا ما استاهلش؟ ولا هو اللي كان وحش أوي كده؟


قطبت ملك حاجبها باستغراب، وهي تتساءل:

حصل إيه يا بنتي؟ إنتي اتخنقتي مع رامي ولا إيه؟ احكيلي، أنا هنا.


ابتلعت شيئًا مؤلمًا في حلقها، وهي تنظر إلى عينيها القلقتين، لا تعرف ماذا تقول.


أتخبرها؟


تخاف، ملك ستنهار، هي حسَّاسة للغاية، مشاعرها مرهفة، لن تتحمل.


أو يمكن هي من ليست مستعدة لتلك الخطوة بعد.


تتأخر... فتتألم، ولا مفر من النهاية إلا إليها.


هي فقط تزيد من ألم نفسها، لكنها لن تتحدث حتى ترتب أوراقها.


لن تهرب، ليس بعد الآن، بل ستواجه.


ستأخذ حقها وحق صغارها... لكن وحدها.


هي بحاجة لاسترداد كل شيء بنفسها.


لذا، سحبت نفسًا عميقًا، تكتم في قلبها... تكتم الكثير، قبل أن ترد بهمْس خافت، متألم:

أنا كويسة يا حبيبتي، بس مضغوطة من اللي بيحصل.


كانت ملك تراقبها بعين قلقة، هناك شيء بينها وبين رامي، واضح للأعمى، لكنها تصمت.


لا تشاركها... أو تشارك أي أحد حتى.


إلا أنها لم تحب أن تزيد من الضغط عليها، على الأقل في الوقت الحالي، فأمسكت يدها، تجذبها لتحتضنها، هي والصغير، الذي هدأ تمامًا.


وانصاعت الأخرى لها بصمت... وبعينيها دمعة لم تسمح لها بالانزلاق.


كفاها... كفاها ما ضحت به.

الصفحة التالية