-->

رواية جديدة بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) لعفاف شريف - الفصل 23 - 2 - الثلاثاء 11/2/2025

  

قراءة رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر


رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض)

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة عفاف شريف


الفصل الثالث والعشرون

2

تم النشر الثلاثاء

11/2/2025


أخذت ملك الصغار وخرجت من الغرفة، ليقابلها أنس، الذي كان لتوّه يبحث عنها، ناظرًا إليها بيأس وفقدان أمل وهو يراها تحمل الصغير تميم المشاكس.

اقترب سريعًا ليحمله عنها، وقبل أن يفعل أي شيء، كان الصغير يرحب به بصفعة على وجهه.

نظر إليه أنس بحاجب مرتفع، مصدومًا، ليزمّ تميم شفتيه قبل أن يهديه قبلة ليراضيه.

انفجرت ملك ضاحكة تحاول أن تكمم فمها، فنظر لها قائلًا بتوبيخ: ينفع كده؟ مش هتستريحي غير لما يحصل حاجة صح؟

غطت فمها تضحك باعتذار، ليتابع بضيق: ملك، لو سمحتي، خدي بالك.

أومأت له وهي تبتسم بهدوء، قبل أن يمد يده يتحسس بطنها قائلًا برفق: خلاص هانت، ويجيلنا بيبي حلو وصغنن زيك يا تيمو. عشان كده، لو سمحتي، خلي بالك من نفسك... ومنه.

قالها وهو يقبّل وجنتها بحب، فاحمرّت وجنتاها وهي تشير للصغار بخجل، ليضحك هو بقوة، قبل أن ينظر لتميم بحنان، ليهديه هو الآخر ابتسامة بديعة.

راقبه أنس بحنان وهو يضمه إلى صدره، داعيًا الله من قلبه أن يحفظه ويحفظ صغيره، وأن يرزقه ضمّه عمّا قريب.

اقتربت ملك منه تحاوط خصره، ليهبطوا للأسفل بحرص، وأمامهم الصغار، ليلحقوا بالإفطار.

ولم يروا يارا، الواقفة خلفهم، تكاد تغلي غضبًا وغيرة، وهي تنقل عينيها إلى الغرفة، حيث يجلس زوجها يتابع حاسوبه بانشغال... عنها، وعن الصغار، والعالم كله.


❈-❈-❈


بعد قليل، هبطت آلاء تدلف سريعًا إلى المطبخ، ألقت السلام على حور وملك، وبدأت في باقي التحضيرات بصمت، فلا طاقة لها لأي شيء.

انضمت يارا بعد قليل، وخلال نصف ساعة، كان الجميع على مائدة الإفطار، ومدحت يراقبهم بعين خبيرة.

لقد أمضى ليلة أمس كاملة يفكر في الكثير، وقد اتخذ القرار.

وكان أولها أن نظر بجانبه لأمير، المنشغل كعادته، ومال عليه قائلًا بهمس وحزم هادئ: "سيب الموبايل يا أمير، ومن النهارده العادة دي تنتهي. دي بالكثير نص ساعة بتقضيها مع أهلك ومراتك وولادك، مش للدرجة دي يعني. ادي كل حاجة حقها، اتفضل، شيل الموبايل ده، آخر مرة. احترم الأكل على الأقل."

نظر إليه أمير بغيظ شديد، إلا أنه، ورغم سنّه ومكانته، لا يحب أن يرفض طلبًا لأبيه، لذلك أغلق الهاتف ووضعه في جيب سترته، تحت نظرات يارا المتعجبة.

ابتسم مدحت بهدوء وهو يتابع تناولهم الطعام، وأمسك كوب الشاي يرتشف منه، قبل أن يقول بهدوء وابتسامة: إن شاء الله، احتمال كبير تميم خارج النهارده من المستشفى. الدكتور قالي إن لو كل النتائج، سواء أشعة أو تحاليل، كانت كويسة، هيروح معانا إن شاء الله، وهيرتاح شوية في البيت لحد ما يبقى قادر يرجع زي الأول وأحسن، إن شاء الله.

وتابع بسعادة: أخوكم هينور البيت تاني.


شهقت آلاء بسعادة، بعيون دامعة، تشعر بقلبها على وشك التوقف من شدة الفرح، لتحتضنها ملك، وهي تكاد تبكي هي الأخرى، والجميع يردد بلسان مرتاح أخيرًا: الحمد لله.

ابتسامات غابت لأيام، واليوم حلّت مجددًا، منيرة وجوه الجميع.

أخيرًا، سيعود تميم... أب وأخ وصديق لكل منهم. سيعود.


راقبهم مدحت بعين سعيدة، وقبل أن يتساءل حسام متى سيذهبون، تابع بعدها بحزم: النهارده إن شاء الله، أنا هروح لوحدي.

وقبل أن يعترض أحدهم، رفع يده يكمل بإصرار: القرار ماشي على الكل. النهارده الكل هيفضل هنا، اللي حابب يروح في حتة يروح، وأنا هروح أشوف هيحصل إيه، ولو هيخرج بإذن الله، هجيبه وأجي، وإن شاء الله لينا كلام بالليل... كلنا.


قالها وهو يطالعهم جميعًا، ثم نظر إلى أنس قائلًا بحنان: مش ناوي تروح لوالدتك يا ابني؟ 

ارتبكت ملامح أنس، إلا أنه رد بهدوء: ناوي إن شاء الله يا عمي، بس أطمن على تميم، وإن شاء الله هاخد ملك وأروح.

ابتسم له مرددًا بصدق: تميم بقى بخير، والحمد لله، وانت عملت اللي عليك وزيادة، سايب شغلك وحياتك، وجيت بملك، بس والدتك ليها واجب عليك، متاخر للأسف بسبب الظروف، بس ملحوقة إن شاء الله. خد مراتك وروحوا زوروها واطمنوا عليها، مينفعش تتأخروا أكثر من كده يا أنس يا ابني. كله الا الأم دي البركة بتاعتك، ووصلها هي والحاج سلامي، لحد ما ربنا يريد وأشوفهم، إن شاء الله."

أومأ له أنس، وهو يجيبه باحترام: حاضر يا عمي، زي ما حضرتك شايف أن شاء الله بكرة وملك رايحه تكشف هنروح .


ابتسم له مدحت بهدوء، وتابع حديثه وهو ينظر إلى حسام: وانت يا حسام، تاخد مراتك تزور أهلها، تطمن عليهم يا ابني، قبل ما تسافروا.

أومأ له حسام هو الآخر بهدوء وطاعة، يناظر حور التي شردت تمامًا، وبعينها نظرة... رغم فرحتها، خائفة، كأنها كانت تخشى تلك الزيارة.


التفت مدحت إلى أمير، ليجيبه الآخر بضيق قبل أن ينطق: أهل يارا مش في مصر يا بابا، مفيش حد نروحله.

هز مدحت رأسه بيأس، وعيناه على آلاء، التي انزوت في مقعدها أكثر فأكثر، كأنها تريد الاختباء في أي ركن.

لكن... هل يشعر؟


يشعر... ويتألم.

وكم ينفطر قلبه لرؤيتها بتلك الصورة!


أتظنه لا يلاحظ ذبولها واحمرار عينيها؟

مخطئة هي، لكن لن يتكلم تحديدًا معها في أمر الزيارات، فزوجها، رامي، قد مات أبواه منذ عدة سنوات، ولم يتبقَ سوى إخوته، والعلاقة سطحية جدًا، وهو يعلم ذلك.


لذا، صمت.

لكن ليس طويلًا... فبينهما حديث أطول مما تتخيل.


❈-❈-❈

كانت تجلس تمشط شعر لوزة بهدوء، والابتسامة لا تفارق وجهها.

اليوم أيقظها عمر قبل أن يغادر بوقت قليل، وقد استيقظ أبكر من كل يوم ليعد الإفطار لهما ويدللها قبل ذهابه.

وبالفعل، حظيا بوقت خاص وإفطار مميز، قبل أن يغادر مودعًا إياها بقبلة دافئة مثل قلبه.

تراقبه هي بعين مرتاحة، سعيدة بهذا التغير، وعادت لتنام مرة أخرى بإرهاق، حتى أيقظتها لوزة مرة أخرى، متزمرة من شدة الجوع والانتظار، تناظرها بقرف وتصدر أصواتًا مزعجة.


وها هي، بعد ساعة من المجهود الشاق، انتهت من إطعامها وتنظيف محل ما أفسدت، وكل شيء على ما يرام.

وضعت المشط بجانبها، تقبلها بحنان وهي تناظرها بهدوء. كانت نظيفة، ممشطة، ورائحتها هادئة.

رفعت كوب الشوكولاتة بالحليب ترتشف منه بصمت، قبل أن تردها مكالمة مرئية من سارة.

فتحتها سريعًا قائلة بفرحة وسرعة:  عمر صالحني!


وفي نفس الثانية، انطلق صوت صياح سارة، قائلة باستنكار ورفض حزين: في عريس متقدم، وبابا مصرّ أقعد معاه!


صمت... ثانية واحدة...

ليصيح بعدها كلاهما في نفس الوقت، قائلين بصدمة: إيه؟!


لتتابع سارة بارتياح: اتصلحتوا بجد؟ الحمد لله، الحمد لله! مبروك يا روحي!


إلا أن فريدة لم ترد عليها، وهي تكمل بتساؤل:

 سيبك مني دلوقتي، حصل إيه؟ إيه موضوع العريس ده؟


تنهدت سارة بيأس، وهي تقص عليها ما حدث كله، وحديث والدها الأخير وإصراره الأكبر من طاقتها.

طالعتها فريدة بإرهاق حقيقي من رأسها المتحجر، قبل أن تقول بتأكيد: زي ما امبارح قولتيلي الحقيقي ووجهتيني، هقولك إن عنده حق.

ارفضي، انتي حرة، حقك، محدش يقدر يتكلم. بس جربي، اقعدي، واستخيري ربنا.

مش هتوقفي حياتك يا سارة، مش هينفع، لا دين ولا عقل بيقول كده.

أنا ضد الإجبار، وانتي عارفة رأيي كويس جدًا، وشفتي اللي حصلي أيام تميم، بس الوضع غير.

هنا باباكي أصلًا مختلف عن أهلي، وهو فعلًا مش بيجبرك، بس هيخليكي تشوفي الفرص بعين تانية، أو يمكن من قريب أكثر.

لكن الحقيقة، رفضكِ بدون سبب غلط.

انتي بتكبري، وحلمك أصلًا تكوّني أسرة، زوج وأولاد وحياة هادية... هتحصل إزاي؟

لازم تقعدي معاهم، جربي، مش مستريحة؟ ارفضي، لكن ترفضي لسبب زي اللي انتي عارفاه، غلط.

لأن السبب ده سبب مش منطقي، مش تقليل من حبكِ، أبدًا والله، بس لما نعلّق قلبنا بسراب، يبقى بنظلم نفسنا وقلبنا.


وتابعت بشرود: وهي الحياة فيها قد إيه عشان نقضيه بنتوجع؟ فكري يا سارة، انتي بجد لازم تفكري بشكل جدي، مش مجرد كلام، ولا حتى قاعدة تعارف وهتحاولي تنهيها.

انتي محتاجة تفكري في الموضوع صح، بهدوء وجدية.

صلي يا سارة، صلي استخارة مرة واتنين وعشرة، وجربي، لعل وعسى يكون نصيبك واحد منهم، ويكون هو ده السعادة الحقيقية.

محدش فينا أبدًا يعرف الخير فين.


وأديكي شايفة... في الآخر طلع نصيبي في عمر، مكان ما عمري كنت أتخيل أكون فيه.

فكري يا سارة... فكري قبل ما تخسري.


❈-❈-❈


كان يقف أمام الباب، بيده أحد المستندات، منتظرًا إذنها بالدخول.

وبالفعل دخل، وهو يراقبها تقلب أحد الملفات بيديها، قبل أن ترفع وجهها وتحدقه بتلك النظرات المفتونة به.


اقترب حتى وقف أمامها، وضع المستند.

أشارت له بيدها أن يجلس، فجلس، قبل أن ترجع جسدها للخلف، تستند على مقعدها براحة، مراقبة إياه بتروي شديد.

ولأول مرة، بادلها هو نظراتها، لكن بعين هادئة، وبعد عدة ثوانٍ، خفض عينه متسائلًا بيأس وعدم فهم: إشمعنى أنا؟


شقّ وجهها ابتسامة صغيرة، قبل أن تقول بهدوء:  عشان انت الوحيد اللي رفضت.


عارف؟ الممنوع مرغوب.

عايزاك يا عمر.


أنا صريحة معاك، لا بلفّ ولا بدور، هقولها لك بأي لغة يمكن تفهم وتبطل عند وغباء.

أنا عايزاك، عايزاك وهخدك، ومفيش مخلوق هيقدر يمنعني.


 انتي هتبقى ملكي، يا كده، يا هخرب حياتك.

ومش هتلاقي شغل.


وتابعت بتأكيد وحقد: هخرجك بفضيحة بجلاجل! لا تلاقي شغل عندي، ولا عند غيري.


ماظنش إنك عايز كده، حابب بيتك يتخرب؟

حابب أدمّر كل اللي بنيته كل السنين دي؟

وأحطمك؟


ماظنش، صح؟


قالتها متسائلة، وهي تتحرك من محلها، تقترب منه، تضع يدها على كتفه.


انتفض هو سريعًا، ووقف يقابلها، ينظر كل منهما إلى الآخر.


لتتابع هي برقة: بس لو وافقت... أوووه! هتشوف الهنا كله!


فلوس... مكانة... دلع... وأنا!


قالتها بغنج: شوفت أنا كريمة إزاي؟

معايا انت كسبان.


لكن...


وتابعت بشرّ:

 من غيري... اللعبة بتنتهي!

هتخسر كل حاجة، وهدمّرك.


ظل يناظرها بعين جامدة، قبل أن يحمل الملف التي وقعته سريعًا، قائلًا:عن إذنك.


وقبل أن يخرج، صدح صوتها من خلفه، تنادي بحزم: عمر! وقتك بيخلص.


قالتها، وخرج هو.

وبداخله يعلم... أن وقته ينفذ بالفعل.


❈-❈-❈

وصل مدحت للمشفى، وسار بهدوء متوجهًا نحو غرفة تميم.


فتح الباب ليقابله الجالس هناك، ينظر نحو النافذة شاردًا وصامتًا، حتى إنه لم يشعر بوجوده.

كان يحيا في عالم غير عالمهم بكل هدوء.


أخذ نفسًا عميقًا وهو يفكر، ربما تكون بداية الحديث من هنا.

أغلق الباب ودلف ببطء حتى جلس بجانبه، وما إن أمسك يده حتى التفت له تميم قائلًا بهدوء: جيت إمتى؟ محسّتش بيك.


صمت مدحت لثوانٍ قبل أن يجيب قائلًا:  لسه حالًا. الدكتور قال لو كل حاجة تمام، إن شاء الله هتخرج النهارده.


شقّ وجهه ابتسامة صغيرة وهو يشدّ على يده، قبل أن يقول بهدوء:  الحمد لله.


وعاد للصمت مرة أخرى، ربما متهربًا من عين أبيه، وربما من نفسه. لكن هذه المرة، أراده مدحت أن يسمع.

وبالفعل، أمسك وجهه ليقابله، وهو يقول بحزم:  أنا ابني قوي، قوي أوي، أقوى مما هو متخيل. بس مش معنى إننا أقوياء إننا منتوجعش. إحنا بشر، بنتوجع ونعيط، وبنحتاج نعبر عن حزننا، ده حقنا وأبسط حقوقنا.


 راجل أو ست... مش فارقة، الاتنين بيحسّوا.


وعشان كده، أنا هفضل محترم كل قراراتك دايمًا.


 أنا عارف إنك هتفتكر إني هبدأ أدورلك على عروسة عشان تتجوز وتنسى، بس ده مش هيحصل. من النهارده القرار قرارك.


يمكن أنا خايف، مش هأنكر، وحابب أشوفك مستقر، برضه مش هأنكر، بس انت كمان محتاج تاخد وقت. 

لا هقبل أظلمك، ولا أخليك ظالم.


صمت ليلتقط أنفاسه، ثم تابع:  أنا جيت لوحدي، عشان الكلام ده مني ليك وبس... 

أب لابنه، صديق لصديقه.


 اسمعني يا تميم، الصفحات القديمة لازم تتقفل، طول ما هي مفتوحة، هتعوّرك، هتوجعك، وهتفضل تعيد وتزيد فيها لحد ما قلبك يوجعك.


 لا انت رجعتلها تعيش فيها، ولا قادر تعيش في غيرها.


 القصة دي كان مكتوب لها تحصل، يمكن لربنا حكمة أنا معرفهاش، وده أكيد مش يمكن. بس زي ما انت شايف، الكل بيكمل حياته، وانت الوحيد اللي وقفتها.


مش طبيعي أقولك "قوم اتجوز"، بس حقي عليك أقولك "لازم تفكر تقفل القديم عشان تقدر تفكر تفتح صفحة جديدة".


الإنسانة دي ليها كل احترام مننا، ويعلم الله إني كنت أتمنى تكون ليك، بس "أنت تريد، وأنا أريد، والله يفعل ما يريد".


بنفضل نخطط وندبّر، ويجي النصيب ويكون ليه الكلمة الأكبر.


 أنا هنا، جنبك، في ضهرك. عمري ما هزعل منك تاني على موضوع الجواز، لأني عايزها تيجي منك انت، حابب وراغب في ده.


هتسأل نفسك "ليه أنا بقول كل ده؟ هل بحط على جرحك ملح بكل قسوة؟" لا، أنا بس عايزك تفهم إن اللي حصل يمكن كان رحمة مش ضرر.


 ولآخر لحظة، هتعرف إن اختيار ربنا لينا دايمًا هو الأنسب.


أخفض تميم عينيه بصمت، قبل أن يقول بتأكيد: ونِعْم بالله.


ثم تابع: متخفش يا بابا، أنا راضٍ بقضاء الله، لأني مؤمن إن الصبر والرضا هو مفتاح نجاتي. الصفحة دي اتقفلت خلاص، أكيد في خير ما منعرفوش... أكيد.


قالها بيقين، ثم صمت مفكرًا...


 ليست لك... ولم تكن يومًا لك.


ركضتَ، تعثّرت، نهضتَ من جديد، أرهقت روحك، نزفتَ من قلبك ألف خيبة، وظللتَ تلهث خلفها كمن يبحث عن وطن ضاع منه. أقنعتَ نفسك أنها لك، أنك لو صبرتَ أكثر، لو قاتلتَ بقوة أكبر، لو آمنتَ بها حتى آخر رمق، فستكون بين يديك يومًا.


لكن الحقيقة التي لم تشأ أن تراها، هي أنها لم تكن لك يومًا، ولن تكون.


بعض الأبواب، مهما طرقتها، لا تُفتح، وبعض الطرق، مهما سرتَ فيها، لا تنتهي إلا إلى اللاشيء. ستدرك متأخرًا أن السلام لم يكن في الوصول، بل في الفهم، في التصديق، في اليقين بأن ما هو لك سيأتيك ولو كنتَ في أقاصي التيه، وما ليس لك، لن تبلغه ولو أفنيتَ عمرك في ملاحقته.


فلا تركض خلف السراب، ولا ترهق قلبك بالحلم المستحيل، ولا تحارب القدر كأنك تملك تغييره. حرّر روحك، واترك ما ليس لك، ففي ذلك نجاة لا تراها الآن، لكنك ستشكر الأيام عليها حين يمرّ العمر وتفهم...


الصفحة التالية