-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 36 - الجمعة 30/5/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل السادس والثلاثون 


تم النشر الجمعة 

30/5/2025

ـ ليلة لا تنسى


الرسلانية مطلع ١٩٤٤.. 

كان زفاف سعد باشا رسلان وكريمة كاظم باشا أوغلو أكبر حدث شهدته الرسلانية في تاريخها، لكن ما يجري منذ شهر تقريبا في الرسلانية فاق ذاك الحدث فخامة بمراحل.. فقد تم تمهيد طريق أكثر اتساعا عن الطريق الأصلي الواصل بين سراي رسلان ودار الحرانية الفخم الذي جهزه وهدان من أجل عودة توحيد.. خلافا عن بيته القديم الكائن بأطراف النجع.. طريق لأجل مرور عربة صفية وما قبلها من تشريفة وخيالة وعوالم.. وما بعدها من فرقة موسيقية ومزمار وناس النجع القادمين من كل صوب وحدب..

ولم تكن الرسلانية وحدها هي المعنية بكل هذه الفخامة، لكن شمل ذلك عرابة آل حفني.. فقد مُهد الطريق بين النجعين تماما، وعُلقت الرايات الخضراء لعلم المملكة المصرية الأخضر على طول الطريق الواصل ما بين سراي آل رسلان، ودار عمدة العرابة.. وانتشرت الكلوبات الإنجليزية الصنع على جانبي الدرب الممتد بينهما.. 

كان العمل طول هذا الشهر يجري على قدم وساق حتى حان اليوم الموعود.. 

كان سعد قد أرسل عربة مقفلة تجرها الأحصنة مزينة بالورود كي يُحضر بها عدنان الحفناوي كريمته حتى السراي لعقد القرآن كما هي العادة.. كانت العربة محط إعجاب كل من عاينها، فما كان العرف المتبع هو استخدام مثل تلك العربات في نقل العروس من دارها لدار عريسها، لكن العرف السائد كان استخدام الهودج المزين بسعف النخيل على ظهر البعير.. والذي يقوده ولي العروس حتى دار عريسها حيث يعقد القران في حضور رجال العائلتين.. كانت فرحة فايزة عارمة حين طالعت العربة من حجرتها حيث كانت تتزين.. لكن كان على عمها انتظار إحضار عروس ولده عفيفة من دار أبيها وعقد القران على عامر حتى يتسنى له اصطحاب فايزة لعريسها كذلك.. 

طلبت فايزة من خادمتها نعناعة، استدعاء عامر على وجه السرعة، والذي حاول التخلص من كم المسؤوليات التي تحيطه، مندفعا نحو الدرج صوب حجرة ابنة عمه، ليقف خلف باب الحجرة الموارب، وفايزة تخاطبه في سعادة: مبروك يا عامر، حبيت أبارك لك جبل ما تيچي العروسة، واجولك العربية اللي بعتها عمي سعد تحت أمرك.. لو حبيت تبعتها تچيب عروستك الأول.. عفيفة برضك بت بشوات وتستاهل حاچة تليج بها.. وبدخلتها دارك يا واد عمي.. 

هتف عامر متعجبا في نبرة فرحة: يعني ابعت لها العربية تچيبها!.. 

أكدت فايزة من خلف الباب: ايوه اومال أني بجول ايه!.. روح هم ابعتها تزفها لحد هنا.. 

هتف عامر في سعادة: ربنا يراضيكي ويسعدك يا فايزة.. أني رايح أها.. 

واندفع عامر مهرولا، ينفذ رأي فايزة.. ولم تمر الساعة حتى اقترب الجمع الراقص وتعالى صوت الطبل والمزمار حول العربة التي ذهبت لتحضر عفيفة من دار أبيها لدارها الجديدة.. 

تعالت الزغاريد وعفيفة تترجل من العربة لداخل الدار حيث القاعة التي اجتمعت فيها النساء راقصات.. ليجتمع الرجال في قاعة مجاورة وتبدأ مراسم عقد القران الذي ما طالت أكثر من نصف الساعة.. لترتفع بنادق الخفراء التي انطلقت أعيرتها النارية معلنة الانتهاء من عقد القران.. لتعلو زغاريد النساء معلنة أن عفيفة قد أضحت زوج عامر .. على سنة الله ورسوله.. 

ليحين وقت مغادرة فايزة لدار عمها، نحو دار زوجها، لتبدأ الزغاريد في الارتفاع مجددا ما أن هلت فايزة بأعلى الدرج بصحبة سكينة أمها، تهبط في هوادة بفستانها الأبيض الرائع الجمال، والذي أرسله فضل الله.. مؤكدا في رسالة ارفقها بفستان الزفاف.. أنه اختياره.. ولن يكون مناسبا إلا عليها.. وقد كان محقا.. فقد انبهر الجميع بروعة فايزة التي بدت كأميرة متوجة وهي تصعد العربة وعمها بصحبتها، بعد الكثير من التأثر والدموع عند وداع أمها لها.. 

كان الطريق نحو الرسلانية أشبه بدرب معبد بالحلم.. كانت كل خطوة للعربة في اتجاه السراي، وسط المشاعل والطبل والزمر.. هي خطوة للقرب نحو الاجتماع بفضل بعد طول انتظار.. 

على الجانب الآخر.. كانت سراي الرسلانية تودع عروسها صفية التي صاحبها أباها نحو دار الحرانية حيث ينتظرها عريسها مختار.. على باب دارها بصحبة وهدان أبيه وسميح أخيه.. حتى إذا ما هلّ موكب صفية اندفعت توحيد من الداخل، حتى تكون في استقبال العروس لاصطحابها لقاعة الحريم.. حتى يتم الرجال مراسم عقد القران.. 

عاد سعد للسراي مجددا، ليهل موكب العروس الثالثة والأخيرة في هذه الليلة، عروس فضل.. التي تقدم عمها عدنان موكبها في افتخار.. لتكون أنس الوجود ووداد في استقبال العروس.. بينما اتجه فضل مع أبيه وعمها نحو قاعة الضيوف لعقد القران وإتمام مراسمه.. 

كان بهو السراي الواسع يضج بالضيوف من كل الأطياف السياسية والاقتصادية بمصر.. رجال ونساء من الطبقة المخملية جاءوا من أماكن متفرقة لتهنئة سعد باشا رسلان بزفاف ولده الوحيد.. حتى أن الحفل ذاته كان مختلفا عن أمثاله في مثل هذه الفترة وبقلب نجع في الصعيد.. فقد كان لفضل وفايزة مقاعد عالية من مخمل.. وضعت على قاعدة عالية نسبيا.. تشرف على البهو الواسع.. الذي ما أن أعلن إتمام عقد القران وارتفعت الزغاريد.. حتى سُمح لفضل باصطحاب العروس نحو مجلسهما المعد لأجلها.. لتبدأ فقرات الحفل.. والذي شمل أغان لمطربين جاؤوا خصيصا من أجل إحياء الحفل، مع فرقهم الموسيقية التي احتلت جزءا ظاهرا من البهو.. وقد ارتفعت ألحانها لتمتد لخارج السراي وأسوارها حيث يجتمع أهل الرسلانية في فضول، يتطلعون من بين قضبانه الحديدية لرؤية ذاك الحدث النادر المرور في مسار دنياهم الاعتيادية الأحداث.. والرتيبة الأيام.. 

وكان لظهور الراقصة زينات عوني بإحدى فقرات الحفل، أثرا زاد من بهجة الحضور.. واشعل حماس الشباب على الأسوار بالخارج على الرغم من وجود الخفراء المحاوطين للسراي من جهاتها الأربع.. لمنعهم من الاقتراب أكثر من المسافة المسموح بها.. 

أنهت زينات عوني فقرتها في احترافية نالت استحسان الجميع، لتجمع كل ما يلزمها لأداء المهمة الأصعب على الإطلاق.. وهي فقرتها في دار وهدان وتوحيد.. لعنت في سرها الخواجه نعيم ألف مرة.. متسائلة.. لمَ أصر على إعادتها إلى هنا مجددا! لمَ يحاول الدفع بها للماضي الذي حاولت مرارا أن تتخلص من ذكرياته بالقائها خلف ظهرها كأنها لم تكن.. والبدء من جديد باسم جديد وهوية مختلفة.. وحاضر تصنعه من مجدها الفني الذي تسير فيه بخطى ثابتة.. وحققت فيه نجاحا كبيرا لم تحققه راقصة آخرى خلال السنوات الماضية!.. لكنها مجبرة على الازعان لمطالب نعيم وعدم مخالفتها، فمن غيره يعرف أصلها وكل كبيرة وصغيرة عن ماضيها إلا هو.. ويمكنه تدمير كل ما ذاقت الأمرين لبنائه خلال السنوات الغابرة منذ خروجها من النجع وحتى هذه اللحظة.. 

خرجت من الباب الخلفي للسراي.. لتركب العربة بصحبة مساعدتها صوب دار زوجها السابق وغريمتها.. 

هل بناتها موجودات بالحفل!. سؤال أحمق.. بالتأكيد فلن يتخلفن عن حضور زفاف أخيهن.. 

وصلت العربة للدار.. تلك الدار التي بناها لأجل توحيد غريمتها، لتعيش بها وحيدة بعيدا عن تملكها وتجبرها.. 

استعدت في إحدى الغرف الجانبية، وقررت أن يكون وجهها مغطى لحد كبير بنقاب من التل أشبه بجواري السلطان العثماني، فعلى الرغم من أن وجهها مغطى بالمساحيق التجميلية التي زادته بهاءً.. كما أن مظهرها الذي يشير لوصولها لمنتصف العشرينيات على أقصى تقدير.. عامل آخر يجعل القدرة على اكتشاف حقيقتها مستحيلا. بفضل ذاك العهد الذي ابرمته مع ذاك المجهول منذ سنوات طويلة والذي يمكنها من احتفاظها بجمالها الدائم وشباب أبدي لا ينضب.. لتخرج أخيرا نحو بهو الدار حين علت الموسيقى تستدعي ظهورها..

شهق الجميع في افتتان لمرآها.. رقصت بجسد اعتاد الانسجام مع الموسيقى وبال مشغول ونظرات حائرة تدور باحثة بين الأوجه عن وجوه تشتاقها على الرغم من إنكارها ذلك لسنوات.. وقعت نظراتها على توحيد.. تلك الحية التي نالت بلا جهد ما ذاقت المر كي تحصل عليه ولم تفلح.. قلب وهدان.. ذاك الرجل ذو الهيبة الذي يقف سعيدا منتشيا لزواج ولده.. وها قد رزق بآخر تراه يبحلق فيها بشهوة.. فأدركت أن هذا الولد يحمل من دم الحرانية الكثير.. لذا تعمدت المكوث قبالته لفترة أطول وهي تتمايل في غنج.. 

اقتربت لتصير قبالة العروسين.. ليبدأ مختار في الشعور بالاختناق.. نفس الشعور الذي راوده من فترة بسيطة عندما اجتمع مع أصحابه بحفل توديع العزوبية.. رأى من الراقصات الكثير.. بحكم مخالطة الإنجليز وضباطهم..  وما هزته امرأة مهما كان جمالها.. إذن ما الذي يجري عند رؤيته هذه المرأة بالذات! 

تنفس مختار الصعداء حين انهت زينات رقصتها وغادرت، فما كان من اللائق مغادرته القاعة إذا ما شعر بالمزيد من الاختناق في وجودها.. استشعرت صفية اضطرابه، فسألته في هدوء: أنت بخير يا مختار!.. 

هز رأسه مؤكدا: اه، تمام.. الجاعة بس زحمت لما الرجاصة بدأت.. بس الدنيا خير.. 

ظهر أصدقاؤه قادمين من الخارج للتهنئة، لينهض مختار في سعادة لاستطاعتهم الحضور، متسائلا: فين ناجي! شكله مقدرش يجي ولا ايه!.. 

أكد أحد أصحابه: لا جه معانا! اللاه.. راح فين الخلبوص ده!.. تلاقيه سرح هنا ولا هنا.. أنت عارف ناجي.. هيظهر دلوقت.. 

ابتسم مختار.. سعيدا بحضورهم.. معرفا إياهم لأبيه وأمه وأخيه الأصغر سميح الذي اندمج سريعا معهم.. 

وفي سراي رسلان لم يكن الأمر مختلفا، كانت البهجة تعم الوجوه، وبدأت الفرقة في عزف ألحان كلاسيكية هادئة، ليرقص الحضور على أنغامها.. ليبدأ شباب الرسلانية خلف الأسوار في تقليد ما يجري.. ليحتضن أحد الفلاحين رفيقه ويشرع في التمايل مقلدا.. ما دفع أحد الجالسين ليهتف ساخرا: ايه اللي بتهببه ده يا واد منك له!.. لازما كل راچل يكون معاه حرمة مش راچلين مع بعض.. يا خيبتكم..

هتف أحد الرجلين مازحا: طب واحنا هنچيب الحريم منين دلوجت.. أهو صميدة جايم بالواچب.. 

انفجر الجمع ضاحكا.. واستمروا على تقليدهم لكل ما يحدث بالحفل في استمتاع.. 

وقفت إلهام وحيدة بالقرب من مجلس والديها، تحمد الله أن بهجت قد سافر بالفعل ولم يحضر زفاف صفية، فما كان ليقدر أن يراها بكل هذه الروعة والجمال كأميرة متوجة، تعلو وجهها امارات الحياء والسعادة لقرب اجتماعها مع الحبيب.. كان ذاك لقاتل بهجت حرفيا.. اقترب نادل يقدم لها مشروب ما، همت برفضه في هدوء، إلا أنه أرفق المشروب بورقة صغيرة اتخذت جانبا لتفضها.. متعجبة ممن قد تكون!.. قرأت في هوادة..

"أنا برا السرايا، منتظرك في الجنينة.. مقنع حفلة عيد الميلاد".. 

اضطربت إلهام.. كيف يكون هنا!.. نظرت حولها في تيه، وتسللت في هوادة نحو الخارج.. 

نزلت الدرج وتوغلت في الحديقة.. تسير بين أشجارها بلا هدى.. وفجأة.. انتزعتها كف ما من موضعها، لتصطدم بصدر أحدهم.. كادت أن تصرخ مذعورة، لكنه كان أسرع واضعا كفا ضخمة فوق فمها في قوة محسوبة.. تطلعت إلهام نحوه.. لتدرك أنه ذاك المقنع الذي قابلته في مطلع السنة الماضية .. وانتظرت ظهوره بشوق في حفل هذا العام.. لينتهي الحفل تاركا إياها تبكي شوقا لمرآه وقد خيب أملها في الحضور.. وكأنه قد قرأ أفكارها فهمس معتذرا: مقدرتش أحضر حفلة رأس السنة.. كان عندي ظروف عمل صعبة منعتني.. ولكن قررت اعوضها وجيت اشوفك هنا.. 

همست إلهام وهي تحاول أن تكشف حقيقته، هامسة في خجل: أنت عارفني وشفتني .. مش من حقي أعرف أنت مين!.. ولا هتفضل كده متخفي.. معرفش إلا صوتك وعينيك.. حتى اسمك معرفهوش.. 

همس صاحب القناع مؤكدا: صدقيني ده لمصلحتك.. ولما يحين الأوان.. هعرفك عني كل حاجة.. أنا مقدرتش افوت الفرصة من غير ما اقابلك.. بس قبل ما امشي.. تسمحيلي بالرقصة دي!.. 

تطلعت إلهام صوبه في تيه، تاركة نفسها لتصبح كالريشة بين ذراعيه وهما يتمايلان على ألحان الفرقة الموسيقية الناعمة التي تنساب لموضعهما فتخلق جوا شاعريا خلابا.. 

لا تعرف كم ظلا على هذه الحال.. كل ما أدركته أنه توقف فجأة طابعا قبلة على باطن كفها.. وغاب في لحظة وكأنه كان طيفا من خيال تبخر في ثوانِ.. لتعود للداخل وهي لاهية عن الحفل ومن فيه.. تضم كفا على موضع قبلته الدافئ.. والكف الآخرى تعانق رسالته.. وقد بدا لها أن الحفل على وشك الانتهاء.. 

كاد الحفل بدار الحرانية أن ينتهي بدوره.. ليأتي ظهور ناجي أخيرا.. والذي اندفع مهللا ليبارك مختار.. متمنيا له حياة زوجية سعيدة.. وقد بدأ الحضور في الاستعداد للرحيل.. لتبدأ مراسم زفاف العروسين نحو عشهما السعيد.. 

❈-❈-❈

عرابة آل حفني ١٩٤٤..

أعلن الخفراء بطلقات بنادقهم الميري، حين نهض العريس من مجلسه بين الرجال، رغبته في اصطحاب عروسه لعشهم الزوجي.. فتنبهت النساء في مجلسهن، فعلت أصوات الزغاريد تعد العروس لاستقبال عريسها.. 

دخل عامر قاعة النساء لتتعالى الزغاريد من كل موضع، وهو يقترب من موضع عروسه وما أن أصبح قبالتها حتى انحنى فجأة حاملا إياها بين ذراعيه صاعدا الدرج نحو حجرتهمامع المزيد من دقات الدفوف والطبول وكذا الزغاريد التي لم تنقطع.. 

دخل عامر حجرته حاملا عروسه التي انكمشت خجلا بين ذراعيه، منتفضة حين وضعها على طرف فراشهما، عائدا لباب الحجرة الذي انفرج عند دخولهما، ليغلقه بإحكام.. دفع عامر عنه عباءته وعمامته جانبا، متجها صوب عفيفة التي ما تزل على حالها تجلس على طرف الفراش تنتفض داخليا، متسترة خلف ذاك الغطاء التلي المنسدل على وجهها.. توقف عامر قبالتها، مادا كفيه في هوادة رافعا عن محياها الذي زاده الخجل جمالا.. ذاك الساتر.. خامسا في صوت أبح تأثرا: ارفعي راسك واطلعي لي يا عفيفة.. 

ترددت عفيفة لبرهة، قبل أن تنفذ في طاعة، ليظل ناظره معلقا بناظريها.. قبل أن يهمس باسما: هي عيونك دي اللي يوم ما اترفعت تنضرني وهي مذعورة.. اللي چابتني على ملا وشي.. هربتي ورچعت بعدها أدور على صاحبتهم يوماتي.. من الفچر لطلعة الشمس..

ولما لجيتك.. كن اتردت لي روحي.. 

همست عفيفة في اضطراب: أني.. أني فرحانة جوي يا سي عامر.. 

مد عامر كفيه جاذبا إياها نحو صدره، فقد كانت كلماتها تلك والتي صدرت عنها بكل عفوية كفيلة أن تحول عامر لكتلة من محبة وحتان، وقد أدرك الفارق شاسع في شعوره وهو بين ذراعيه امرأة ترغبه على حق، فرحة وسعيدة في حضوره، راغبة في منحه ما يستحق من حب.. وبين امرأة كانت فكرة الزواج به وحدها.. تبدل قسمات وجهها للحزن والضيق.. فما أروع أن يكون المرء محبا!.. والأكثر روعة هو أن يكون محبوبا..

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٤٤..

هدأت الأجواء تماما ما أن أسدل الستار على الليلة الميمونة، وعاد كل فرد لداره، حتى هي التي اشترطت أن لا تبيت ليلتها في الرسلانية.. عرضوا عليها جناحا خاصا في المضيفة، نزلت فيه ضيفة حتى يحين موعد رحيلها في الصباح الباكر.. لكنها لم تستطع النعاس، فنهضت متسللة للخارج، تعرف إلى أين تقودها قدماها.. مرت ببيت الحرانية القديم وأدركت أن عزام حفيدها وابن ابنتها الكبرى قد تزوج وتركه وهدان له ليقيم فيه مع زوجته سعادات ابنة ابو زكيبة وفتنة.. التي ابصرتها الليلة.. وقد تبدلت ملامحها واصابها الوهن.. وقد تخطت الأربعين عاماً عمرا.. لم تتعرف عليها في البداية لكنها عرفتها عندما سمعت احداهن تنادي باسمها.. وبناتها أنفسهن لو قورنت هي. بإحداهن عمرا وشبابا لكانت كفتها هي الأرجح بالطبع.. 

سارت شفاعات في هوادة باتجاه دار نعيم الذي كان مغلقا، لقد سمعت منه ما جرى من ابنته الصغرى استير.. وحكاية زواجها من اين الشيخ رضا الضرير.. لقد رأتها وقد ظهرت عليها أعراض الحمل.. حين كانت بالحفل، وحماها هو من قام بعقد القران.. سارت حتى وصلت لذاك الدرب المتطرف حتى انتهت إلى دار الخالة مكحلة القديم.. لتجد نفسها تقف بداخله تتطلع صوب موضع الإناء الذي كان يغلي على نار خضراء عجيبة.. في كل مرة تأتي فيها إلى هنا.. إلا هذه المرة.. فقد..

انقطع حبل خواطرها حين ظهر ذاك الطيف القديم، هاتفا في مودة: أهلا.. عاش من شافك يا شفاعات.. ولا اقولك يا زينات!.. 

هتفت شفاعات متعجبة: أنت اللي رحت فين!.. كنت فاكرة إنك هتفضل على طول معايا!.. 

قهقه المجهول منتشيا: طب ما أنا على طول معاكي.. واللي بقيتي فيه ده كان من تخطيطي.. واللي وصلتيله ده كان من صنع ايديا.. والجمال اللي الكل حاسدك عليه ده ما كان تمن العهد اللي ما بينا ولا نسيتي!.. 

أكدت شفاعات: ودي حاجة تتنسي!.. وبعدين كفاية اهو الخواجه نعيم ظهر وبيفكرني بطريقته!.. مفيش أمل اخلص منه!.. 

قهقه المجهول عاليا: تخلصي من مين! نعيم!.. نعيم محدش يقدر عليه غيري!.. وهو له لأزمة كبيرة اوي عندي.. واللي يقولك عليه اعمليه من سكات بدل ما يخليكي تعمليه بالغصب.. اديني نبهتك.. 

هزت رأسها متفهمة في طاعة، ليستطرد متسائلاً: شفتي النجع وناسه! عشرين سنة مهماش قليليين.. ولا ايه!.. 

أكدت شفاعات في حنق: يا ريتني ما جيت ولا شفت.. كنت فاكرة إنهم عادي مش عايشين في النعيم والراحة دي.. كان دماغي مصورالي إنهم لا بقوا حاجة عليها القيمة.. ولا عندهم اللي عندي.. رجعت لقيت بيوت وسرايات وعيالهم حاجة كبيرة.. كنت فاكرة إني وصلت .. اتاري اللي وصلت له في عشرين سنة شقى ومذلة من ساعة ما الخواجه نعيم حطيني في بيت ست بديعة العالمة.. لحد النهاردة وأنا محتكمش على شوية م اللي عندهم .. ده أنا على كده مطلتش حاجة.. 

ارتفعت ضحكات المجهول مجددا، هاتفا في هوادة: متستعجليش.. كل واحد وله دور.. ينول فيه مراده.. مش بيقولوا الدنيا دوارة !.. وده دوري أنا بقى.. وحشتيني يا شفاعات.. قربي واقفة بعيد ليه!.. 

ابتسمت شفاعات ودنت منه في دلال، ليتلقفها المجهول بين ذراعيه.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٤٤.. 

دخلت فايزة لحجرتهما، ليتبعها فضل مغلقا بابها خلفه متوقفا لبرهة على الأعتاب.. لا يصدق أن ما يجري حقيقة ولا وهما.. وان هذه الغيمة البيضاء البراقة التي تسطع في فضاء حجرته.. حجرتهما.. هي فوز التي كان يظن منذ أيام معدودة خلت أن وصلها أضحى محال.. 

تقدم نحوها في خطى ثابتة وقلب وجل مادا كفه دافعا عن وجهها الغلالة الرقيقة التي تستر ملامحها الناعمة عن ناظريه، رافعا وجهها متطلعا لعينيها الناعستين في شوق، هامسا بصوت رخيم: سبتها للقدر يا فوز.. لقيتني جنبك هنا.. 

دمعت عيناها وهي تغوص في عمق نظراته العاشقة، هامسة وابتسامة رقيقة على شفتيها: الظاهر مفيش خلاص لك مني!.. 

همس وهو يدنو أكثر: ومين قال إني كنت عايز الخلاص.. أنا كنت فاكر إني لوحدي حر.. لكني اكتشفت بعد ما عرفتك.. إن إنتي اللي قربك حرية.. ومعاكي خلاصي الحقيقي.. بحبك يا فوز.. 

سال دمعي فايزة في رقة لاعترافه، ليستطرد هامسا في وجد: أول مرة اعترفلك بها، وعمري ما قلتها لغيرك.. ولا هتكون لغيرك يا فوز.. 

زرع فضل وجهه ما بين جسدها ونحرها، هامسا من جديد باعتراف حبه، مكررا إياه في نشوة، وهو يضمها بين ذراعيه، لتسكن هي بين أضلعه في وداعة، منتشية بدورها لاعترافه الرائع، المخدر لحواسها.. مانحة إياه الحرية التي يحلم دوما بامتلاك أجنحتها الفضية.. 

❈-❈-❈

الرسلانية.. ١٩٤٤.. 

كانت توحيد هي السباقة لتصل لباب حجرة العروسين في سعادة وهي تزغرد في فرحة منقطعة النظير.. حتى إذا ما وصل العروسان لغرفتهما.. كانت توحيد هي التي تغادرها مع المزيد من الزغاريد بعد أن وضعت صينية عامرة بالطعام على إحدى الطاولات بأحد الأركان.. مغلقة الباب خلفها في إحكام.. مطلقة المزيد من الزغاريد المتتابعة وهي تبتعد عن باب الغرفة مع من صاحبها من الخدم.. ليخلو الطابق برمته للعروسين.. 

أقترب مختار من صفية في سعادة، مادا كفيه صوبها لتضع كفيها بأحضان كفيه في خجل.. 

رفع مختار كل كف على حدى مقبلا في هوادة.. لتجذب صفية كفيها في خجل مضطرب، هامسة في نبرة مرتجفة: مختار!.. 

همس مختار بدوره: عيون مختار.. تعالي.. 

جذبها خلفه في رقة، ليجلس على إحدى الارائك مشيرا لها لتجلس على قدمه.. تمنعت صفية خجلة، ليجذبها هو في هوادة، لتصبح بأحضانه، تجلس على إحدى قدميه، ليهمس باسما: كنت بحطك على رجلي كده زمان عشان تسكتي وفضل ميطردكيش بره الاوضة وهو بيسمع الجرامفون، كنت اخبي لك الأرواح والفنضام من سميح في قلب كتب المدرسة عشان اديهالك.. فاكرة!.. 

هزت صفية رأسها مؤكدة، وكيف لها أن تنسى مختار وعشق مختار الذي طرق باب قلبها قبل أن تدرك ما معنى العشق.. هامسة في وجد: وهي دي ذكرى ممكن أنساها!.. أنا فتحت عيوني على حبك يا مختار.. 

دفع مختار كفه بقلب جيب سترته، مخرجا نوعها المفضل من الحلوى، باسما متطلعا نحوها في عشق، يناولها إياه، هامسا في نبرة مهتزة تأثرا: دول بقى حلاوة الاعتراف الغالي ده.. 

مدت كفها تحتضن قطع الحلوى باسمة: حتى النهاردة منستش!.. 

همس مختار في وجد: ولا عمري هنسى.. 

وطوق خصرها بذراعيه في شوق هامسا في نبرة ماجنة: بس اللي يتهادى بهدية يا إما يرد زيها يا احسن منها.. الأصول بتقول كده!.. 

حاولت صفية الابتعاد، هامسة تعاتبه: خلاص خد الحلاوة اهي.. ونبقى كده خالصين.. 

لم يفلتها مختار مؤكدا وابتسامة على شفتيه: رد الهدية إهانة يا صفية، وإنتي كده بتعلني الحرب، ودي بقى لعبتي.. 

شهقت حين حملها مختار بين ذراعيه، لتهمس به معترضة، لكنه لم يمهلها الوقت لمزيد من الاعتراضات.. ليكون ذاك آخر اعتراضاتها لهذه الليلة.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١.. 

رب صدفة خير فعلا من ألف ميعاد، فانشراح وجه حبيب حين رؤية طيفها قادم من الدرب المفضي لداخل النجع، كان كفيلا بجعلها تركن للاستقرار ها هنا، ولا تفكر بالعودة للقاهرة مجددا.. خمس ليالِ هي كل زمن الغياب لكنه اشعرها بهذا البشر الصافي الذي ارتسم على قسمات وجهه الرجولية الخشنة.. أنهن خمسة أعوام كاملة.. توقفت وبيدها حقيبتها مؤنسها الوحيد في تلك الرحلة الطويلة.. ولم يكذب هو خبرا مادا يده مستلقيا الحقيبة عنها بفعل سلس لا يقبل المجادلة فتركتها له صاغرة شاكرة.. ولم يهمسا إلا بقول واحد.. حمدالله بالسلامة.. الله يسلمك.. ولاذا بالصمت الودود بينهما.. حتى سألها في أريحية: تحبي تاخدي الطريج الطويل ولا الجصير للسرايا!.. 

هتفت وقد اشتعل فصولها كالعادة: صحيح، كنت عايزة أسألك.. ليه في طريقين مرسومين من بره البلد لحد السرايا!.. 

ابتسم حبيب مفسرا: ملاحظة ممتازة، بصي يا ستي.. الطريج ده چاي من بيت الرسلانية الجديم لحد بيت الحرانية.. وده الطريج اللي طلع فيه موكب ستي توحيد أخت چدي سعد لبيت وهدان الحراني.. أول شبكة الرسلانية مع الحرانية.. 

همست مستنكرة: بتقولها وأنت مش مبسوط كده ليه!.. 

قهقه حبيب: ليه يا بوي! ابجى زعلان ليه بس!.. دول ناس راحوا لحالهم.. وحكايتهم لما تعرفيها.. هتجولي معجول هو في كده ف الدنيا!.. 

همست أنس: هو انتوا كده مفيش موضوع إلا ووراه حكاية!.. طيب.. والطريق التاني.. 

أشار حبيب للطريق الأوسع عرضا، مؤكدا: والطريج ده اتعمل عشان لما موكب ستي فوز الحفناوي من العرابة لحد السرايا يوم چوازها من چدي فضل.. وخروچ موكب ستي صفية من السرايا لبيت الحرانية يوم چوازها بچدي مختار.. أصلك هم اتچوزو فى ليلة واحدة..  

صمتت لبرهة متسائلة: أنت قلت الحفناوي!.. هو حضرة الظابط سراج الحفناوي بينه وبينا صلة قرابة!.. 

هز حبيب رأسه مؤكدا: ايوه .. فيه صلة جرابة، هي بعيدة شوية، وهو كنه ميعرفهاش.. أو عشان يمكن اتربى بعيد.. ميعرفش حاچات كتير.. كيفك كده.. 

هزت رأسها متفهمة، ليسأل هو من جديد: ها مجلتيش، ناخدوا انهي طريج!.. 

همست في تيه: الطريق القصير.. عشان أنا تعبانة عايزة استريح.. 

همس حبيب متسائلا، وهو يعرج بها نحو بداية الدرب الأقصر طولا في اتجاه السراي: في حاچة يا أستاذة!.. حاسس في حاچة شغلاكي..ايه في!.. 

تنهدت أنس مؤكدة: شوية اشغال كده عايزة أخلص منها لما نزلت مصر لقيتها فوق دماغي..

هز حبيب رأسه بغير اقتناع، هامسا: خير.. بإذن الله خير.. كله بيخلص..

اومأت في إيجاب ولم تعقب بكلمة.. تتطلع حولها بكل تفصيلة تمر عليها بنظرة عجيبة أربكت حبيب.. اشعرته بعدم الراحة لفشله في تفسير معنى هذه النظرات المبهمة..

❈-❈-❈

القاهرة.. ١٩٩١.. 

كان يتخذ من مكتبه المتطرف في أحد أركان الغرفة ملجأ حتى لا يعكر صفوه مخلوق، وقد قرر الانغماس في العمل على قدر استطاعته حتى لا يدع لنفسه فرصة للتفكير في هاجر أو حتى الضعف لحظة والاندفاع نحو المشفى للبقاء معها كما كان يفعل سابقا.. عليه التخلص من ادمان وجوده في صحبتها، قد يكون خروجه عن الدوران في مدار ثابت حولها هو الحل الأسلم الذي يكفل له التشافي سريعا من ذاك الداء الذي ألم بقلبه لفترة طويلة يغذيه الأمل الكاذب.. حتى اتضح له خيبة مسعاه.. 

دفن رأسه في الأوراق وغاص في الكثير من الحسابات المعقدة، حتى أنه لم يدرك وصولها وجلوسها بالمكتب المقابل إلا حين ارتفع صوت عبدالحليم شاديا.. متكلمنيش ع الحب.. متفكرنيش بالحب.. لا حياتي هي حياتي .. ولا قلبي أصبح قلب..

وكأن الكلمات المغناة بتلك النبرة المعذبة للعندليب نكأت جرحا حيا ما زال نازفا، ما دفعه ليضرب سطح المكتب بكلتا يديه، هاتفا في حنق: اللي فاتح أغاني ده.. إحنا مش قاعدين على قهوة بلدي وما يطلبه المستمعون.. عايزين نركز فاللي بتعمله.. 

تطلعت مريم من خلف ذاك الحاجز الزجاجي الفاصل بين مكتبيهما، مؤكدة في إصرار: مبعرفش اشتغل إلا وعبد الحليم جنبي.. قصدي بيغني لي.. قصدي بيغني وخلاص.. 

لا يعرف ما الذي دفعه ليتطلع إليها بهذه النظرة السمجة، أمرا في حزم: طب اقفليه يا آنسة لو سمحتي.. 

هتفت مريم تستفزه: الأغنية شكلها مش عجباك.. طب احط لك أغنية الحلوة الحلوة الحلوة .. برموشها السودا الحلوة.. 

تطلع ممدوح نحوها وكأنه يخاطب شخصا فاقدا للأهلية، متعجبا: الحلوة!.. يا ستي أنا لا عايز حلوة ولا وحشة.. أنا عايز هدوووء.. 

أكدت مريم في نبرة متحمسة: طلبك عندي.. أنا لك على طول خليك ليا.. موسيقى هادية بقى ايه.. مفيش كده هدوء!.. 

هتف ممدوح مستاءً: يا آنسة أماني وأغاني إنتي.. أنا مش عايز أي..

قاطعته مريم في حنق: أماني مين اسمي مريم.. وأنا مبعرفش اشتغل إلا كده.. لازم عبدالحليم وصوته عشان منمش.. 

همس ممدوح متعجبا: تنامي!.. ده ايه الأشكال العجيبة اللي اتحدفت علينا دي يا ربي!.. 

هتفت مريم محتجة: على فكرة البرطمة دي عيب.. لو في قلبك شكوى مني.. اشكي مني لوم عليا.. وإن لقيت الحق عندي.. 

قاطعها ممدوح ساخرا: ايه!.. ادهولك من عنايا.. 

تطلعت إليه مريم في براءة: حضرتك اللي قلت أهو.. والله ده هيبقى كرم أخلاق منك..

صرخ ممدوح محتجا: لا.. كده كتير.. أنا ماشي.. 

وتطلع لزميلتهما الثالثة التي كانت تشاركهما الغرفة مؤكدا: ولو حد سأل عليا قولوله في البوفيه.. أو اقولك أنا فالارشيف.. 

واندفع ممدوح لخارج الغرفة، لتلومها زميلتهما المشتركة: ليه كده يا مريم! والله الاستاذ ممدوح ده اطيب واحد فالشركة.. محترم ومتربي وعمره ما زعل حد.. حرام عليكي.. 

تطلعت نحوها مريم متعجبة: بس هو فعلا عاملني بأسلوب مش ظريف من أول ما وصلت.. فبردهاله.. 

هتفت زميلتها متعجبة: أستاذ ممدوح!.. استحالة يعامل حد بشكل مش كويس.. بس للأمانة يا مريم.. انتي ممكن يكون عندك حق شوية.. لأن بقاله كام يوم كده مش على عادته.. واضح إن في حاجة مضيقاه.. وده ممكن يكون طلع معاكي.. بس حقيقي.. الراجل مبيطلعش منه الهيبة.. خفي عليه بقى.. 

صمتت مريم ولم تعقب، حتى أنها مدت كفها نحو راديو الترانزسور الذي يلازمها دوما، ديرة مؤشره حتى اغلقته.. ووضعت رأسها في الأوراق قبالتها، محاولة أن تركز على الأرقام التي بدأت تتراقص أمام ناظريها في تشويش..

❈-❈-❈

الرسلانية.. ١٩٩١..

لم تكن عودة أنس الوجود السريعة مخطط لها، فلم يكن هناك من موضع صالح لمبيتها بعد أن احتلت نجية وولدها حجرتها التي اعتادت النزول فيها ما أن تطأ أقدامها الرسلانية.. كما أن باقي الغرف مقفلة وغير مجهزة للعيش فيها، بعد أن تم غلقها لسنوات طويلة.. وعلى الرغم من أن كل تلك الغرف ما زال مفاتيحها ساكنة بمواضعها.. لكن لم يجرؤ أو ربما لم يفكر مخلوق في الدخول إليها.. 

كان المكان الملائم لبقاء أنس الوجود حتى إعداد حجرة لها، هو المبيت مشاركة في غرفة منيرة.. والتي رحبت في سعادة.. 

لتستلقي كلتاهما على الفراش، وتبدأ الحكايات والتساؤلات الفضولية من جانب أنس، التي هتفت في نبرة تحمل خبثا محببا: شفتي! مش طلع سيادة النقيب سراج قربنا.. 

ادعت منيرة الغباء متسائلة: جريبنا كيف!.. فسرت أنس: أنا لما كنت بحكي النهاردة مع حبيب بيه، قالي إن الطريق الطويل اللي جاي من بره النجع لسرايا الرسلانية ده.. كان معمول عشان موكب واحدة اسمها فوز الحفناوي.. ودي اتجوزت فضل رسلان.. يبقى كده سيادة النقيب سراج الحفناوي قريبنا.. أو حتى في صلة بين عيلتنا وعائلته.. 

أكدت منيرة في شجن: ايوه صح.. بس اهي الدنيا ياما بتچمع وياما بتفرج.. 

همست أنس متعجبة: بقى كلامك شبه ستك صفية.. 

ثم غلبها الفضول متسائلة: طب تعرفي ليه مفيش صلة لسه موجودة بينا وبين الحفناوي.. اللي هم أهل حضرة الظابط.. مع أن في نسب قديم بين العيلتين!.. 

أكدت منيرة: الصراحة معرفش.. ولا حتى كنت أعرف إن هو من حفناوية العرابة.. كنت فاكراه تشابه أسماء.. 

توقف الحديث عند هذه النقطة، وبدأ النعاس يتسلل لعيني منيرة، على عكس أنس الوجود التي ظل ناظريها معلقين بسقف الغرفة تفكر في حكم العلاقات المتشابكة والحكايات العجيبة التي شهدتها هذه السراي على مدار ما يزيد من خمس وسبعين عاما.. تقريبا هي عمر الجدة صفية التي تقبع بالاسفل.. يؤنسها الجرامفون العتيق.. الذي يبث بعض الالحان التي لا تسبين نغماتها اللحظة.. 

تنهدت أنس في قلة حيلة وقد جفى النعاس جفونها بالكلية.. نهضت تقف بالنافذة قليلا .. أبصرت من موضعها التعريشة بلا روح.. ساكنة بلا وجوده.. فعلى ما يبدو أن حبيب خارج السراي.. وما عاد حتى الساعة.. 

تسللت في حذر حتى لا توقظ منيرة، وفتحت الباب في حرص.. لتسير الردهة الطويلة حتى وصلت لأولى درجات السلم.. همت بالنزول إلا أن هاتفا ما دفع بها للعودة.. متطلعة نحو الجانب الآخر من السراي.. ذاك الجانب الذي لا يسكنه مخلوق.. حتى أن الردهة المفضية لحجرات هذا الجانب معتمة لا نور يضيء جنباتها.. 

لا تعرف من أين واتتها الشجاعة لتقترب في خطوات وجلة نحو بداية الردهة متطلعة بنظرات مسترقة نحو أبواب حجراتها.. لا تعرف ما الذي يدفعها نحو هذه الغرف.. ولا تدرك ما قد تجده هناك إلا بعض الأثاث والأتربة الكثيفة المتراكمة لسنوات.. لكن.. ما عاد في إمكانها إسكات ذاك الهاجس الذي يلح عليها لتستمر في المسير على طول ذاك الرواق الطويل.. لتخطو بالفعل أولى خطواتها نحو المجهول.. 

تتبع حدسها.. أو ربما فضولها الذي شبه حبيب يوما ما.. بأنه الفضول الذي قتل القطة!.. 

يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة