-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 37 - الجمعة 6/6/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل السابع والثلاثون 


تم النشر الجمعة 

6/6/2025

ـ أسئلة حائرة..

 

القاهرة.. ١٩٤٥.. 

اندفع فضل حاملا عن فوز كومة الملابس التي كانت في سبيلها لوضعها في قعر الحقيبة المعدة للسفر.. المنفرجة على الفراش.. هاتفا في عتب: أنا مش قلت ترتاحي وأنا هبقى اوضب الشنطة بعد ما أرجع يا فوز!.. 

سألت في قلق وهي تجلس على أقرب مقعد قابلها في هوادة، فقد كان ثقل جسمها جراء حملها الذي أصبح مؤلما على الرغم من أنها ما تزل في شهرها الرابع: راچع منين!..

تطلع فضل نحوها لائما، وهو يحتضن وجهها بكفيه: ليه القلق! هو أنا مش وعدتك إنك طول ما انتي هنا.. وبحالك ده.. مش هعمل حاجة تقلقك عليا!.. 

هزت رأسها في إيجاب، مؤكدة: كلمتك عندي عهد وعارفة إن عمرك ما هتخلف عهدك معايا يا فضل، عشان كده مش عايزة أسافر واسيبك لحالك والفكر يلعب براسي ليل نهار من خوفي عليك..  

همس فضل في مودة: والله لو إنتي مش تعبانة كنت خليتك معايا، هو أنا اقدر استغنى عنك!.. بس انتي فعلا محتاجة رعاية وحد فاهم يكون جنبك يا فوز.. ست تنصحك اعملي كذا.. لا بلاش كذا.. أنا تعبان وأنا شايفك قاعدة جاية على نفسك عشان تفضلي معايا وأنت أحوج ما يكون لحد يخدمك ويريحك.. 

تنهد فضل، وهو يقبل جبين زوجته: وبعدين هو أنا رايح فين لكل ده!.. انا نازل اقعد في شقة واحد زميلنا شوية، المجموعة كلها مجتمعة لأول مرة من فترة طويلة.. ومش هتأخر.. اقعدي ذاكري انتي عشان الامتحانات.. وأنا هرجع على طول.. 

همست فوز في ضيق: مش باينها امتحان السنة دي!. 

ابتسم فضل مؤكدا: وماله.. اللي ميجيش السنة دي، يجي السنة الجاية.. براحتك خالص.. 

ابتسمت فوز وهي تؤكد: صدقت.. الأهم اللي هيشرف ده يچي بالسلامة.. 

أومأ فضل مقرا على كلامها، أمرا من جديد: دلوقت المطلوب منك ترتاحي وأنا لما ارجع هوضب الشنطة عشان السفر، إحنا مش مستعجلين على حاجة.. بابا بعت العربية واهي تحت ايدينا، نسافر في الوقت اللي يريح جناب البرنسيسة فوز.. وولي العهد اللي مطلع عينيها..

قهقهت فوز على أقوال زوجها، ليلتفت لها مبلغا: اه بالحق يا فوز، عرفت إن عامر واد عمك ربنا رزقه بعدنان الصغير.. 

هتفت فوز في سعادة: صح!.. زمان عمي طاير م الفرحة.. ربنا يبارك لهم فيه.. 

هتف فضل باسما: يا رب.. ويفرحنا باللي جاي عن قريب.. 

همست متضرعة: يا رب..

بينما اتجه فضل لخارج الغرفة.. ظلت عيناها تتابعه حتى ترك الشقة مغادرا.. 

❈-❈-❈

الرسلانية.. ١٩٤٥.. 

هتفت توحيد في قلة حيلة: يا بتي كلي بجى، كده مش حلو ع اللي فبطنك، ده هيبجى كيف عود الجصب من جلة أكلك، بجي ينفع كده!.. ما تجول حاچة لمرتك يا مختار يا ولدي!.. 

قهقه مختار على أفعال أمه منذ علمت بحمل صفية.. مقرا وهو يتطلع لوجه صفية الشاحب نظرا لعدم قدرتها على الجدال: سبيها براحتها يا ماما، ما هو كل الحوامل على ده الحال.. 

نفت توحيد في حزم: لاه، فالشهور الاولانية نجولوا ماشي، الوحم بيبجى صعب ومش مخلي الواحدة طايجة حاچة فچوفها، لكن مرتك عدت الشهر السادس أها.. ولساها على حالها.. أني جلبي عليها وع اللي چاي ده.. لازما تصلب طولها شوية.. أها الاكل، وريني شطارتك أنت بجى يا مختار.. وخليها تاكل لها لجمتين يصلبوا جلبها..

تركت توحيد صينية الطعام جانبا، وغادرت الغرفة، تطلع مختار نحو صفية التي انهكتها المجادلة مع عمتها منذ شهور، فما عادت تعقب على أقوالها التي باتت تحفظها.. جلس قبالتها، رابتا على كفيها المضمومتين بحجرها، هامسا: عشان خاطري يا صفية، عشان مصلحتك إنتي..وصحتك الغالية عليا.. حاولي تيجي على نفسك شوية وتاكلي.. 

نهض حاملا صينية الطعام، واضعا إياها قبالة صفية على الفراش، وجلس مطالبا في حنو: أنا ماشي دلوقت يا صفية، ولسه مفطرتش، لو مكلتيش مش هاكل، وهفضل جعان طول السكة.. لو يرضيكي.. متكليش!.. 

تطلعت صفية نحوه، هامسة في نبرة شجية: أنت خلاص ماشي!. طب ما ينفعش تجعد معايا يومين كمان!..

ابتسم مختار هاتفا: يومين كمان! ولا حتى ساعتين زيادة يا صفية، يعني هو أنت مش عارفة الميري!.. أنا جلت اتعودتي خلاص!.. 

همست صفية في حزن: اتعود ع الغياب! صعب يا مختار!.. أنا اتعودت على جربك.. 

همس مختار: طب عشان خاطري كلي، خليني أكل أنا كمان واسافر وأنا مطمن عليكي..

اومأت صفية برأسها في طاعة، وبدأت في تناول الطعام في هوادة.. يطعمها مختار بيده بعض من لقيمات، حتى إذا ما انتهت وضع الصينية جانبا، وجذب سترة بدلته الميري، وشرع في ارتدائها.. ما دفع صفية لتنهض في تباطؤ، متسائلة: خلاص ماشي!.. 

هز مختار رأسه بإيجاب ولم يعقب بحرف، فتح ذراعيه ليستقبلها في محبة، اندفعت هي تلوذ بصدره، ليطبق عليها ذراعيه هامسا في حنو: خلي بالك على حالك.. وكلي كويس عايز أنزل الإچازة الچاية ألجى صحتك بجت تمام.. مفهوم!.. 

همست صفية باسمة، وهي تمسح دموعها، ملقية التحية العسكرية وهو يضع على رأسه كابه الميري: مفهوم يا حضرة النقيب.. 

طبع مختار قبلة سريعة على جبين صفية قبل أن يندفع مهرولا للخارج، وما أن هبط الدرج حتى تلقفته توحيد متسائلة: خلاص كده ماشي يا مختار!.. 

هتف مختار مازحا: حكم الميري يا أم مختار..

ربتت توحيد على كتفه مودعة: تروح وتعاود بألف سلامة يا عين أمك.. خلي بالك على حالك.. 

هم مختار بالمغادرة، إلا أن توحيد سألته: سلمت على أخوك جبل ما تروح!.  

أكد مختار وهو يعود القهقري: لاه والله يا حاچة، هو هنا!.. أنا عديت ع الحچ في اوضته وسلمت.. لكن سميح مكنتش أعرف إنه هنا.. 

تنهدت توحيد شامية: لاه موچود.. چه عشية.. بس أخوك معدش مظبوط يا مختار.. اخوك فيه حاچة مش تمام.. 

هتف مختار منزعجا: ليه بس يا حچة! هو مش إنتي الأچازة اللي فاتت جلتي لي ما شاء الله عليه بجي بيصلي وتمام.. وبطل السرح والمشي اللي مكنش عاچبك!.. ايه في تاني!..

أكدت توحيد متنهدة: ايوه جلت.. بس أني بجولك أهو يا مختار، أخوك متغير وحاله مش عاچبني.. 

هم مختار بالعودة للطابق العلوي مرة آخرى، إلا أن توحيد استوقفته متعجبة: يا ولدي خلاص روح إلحج طريجك، كده هنأخروك.. 

هتف مختار وهو يصعد الدرج مجددا: مفيش الكلام ده، هشوف ايه في وبعدين أسافر.. 

طرق مختار باب حجرة أخيه الأصغر والتي دخلها ما أن سمح له، ليجد سميح ينهض لتوه من فوق سجادة الصلاة، متطلعا نحو مختار متعجبا: ايه ده كنت فاكرك سافرت، ليا نصيب اشوفك.. 

هتف مختار بالمثل: وانا كمان كنت فاكرك مش هنا، لولا ما أمك.. 

قاطعه سميح معترضا: مالها الحچة!.. مچيتك على هنا كده معناتها إنها شكت لك.. أني حافظ.. ايه في المرة دي!.. 

هتف مختار مكذبا: ولا شكت لي ولا حاچة، هي بس جلجانة عليك، وأنا چاي اسلم عليك وماشي، ايه فيها دي!.. بس من ميتا الصلاة والتقوى دي يا سميح.. والدجن اللي بدت تطلع دي!.. 

هتف سميح باسما: هو لما سميح كان بيسرمح كان مش عاچب، ولما ربنا هداه برضك مش عاچب!.. 

أكد مختار في محبة: لاه، كده احسن طبعا، هي بس أمك مستغربة من التغيير اللي چه فجأة ده.. بس حد يكره.. أي نعم أنا نفسي مش قادر استوعب ده حصل ميتا.. ده أنت من كام شهر كنت هتموت ع اللي اسمها زينات عزمي اللي چت رجصت يوم فرحي.. فچأة كده جلبت سيدنا الشيخ!.. 

هتف سميح معترضا: على فكرة بجى زينات عوني دي ست مفيش كده، مش هنكر إني روحت لها التياترو اللي بترجص فيه كام مرة.. لكن هناك لجيت الهداية الصح.. وقابلت الشيخ اللي حطني على أول الطريج.. 

ابتسم مختار وهتف ساخرا: يعني مواعظ وخطب الشيخ رضا كل السنين دي محجوتش فيك، والأخ ده اللي جابلته فتياترو هو اللي عدل دماغك وحطك ع الطريج الصح!.. طريج ايه اللي ممكن تاخده من واحد جابلته في تياترو أغلب الظن الأخ ده كان قاعد سكران.. 

هتف سميح معترضا: متقلش كده ع الشيخ سامي جنديل.. ده هو موچود فالاماكن دي بالذات عشان يرچع اللي زيي من رواد الأماكن دي للطريج المظبوط.. 

هتف مختار مهادنا: وماله.. هيبان.. بس أنا شايف إنك طالما بدأت تلتزم يبجى نچوزك.. مش الچواز عصمة.. ايه رأيك!.. 

هتف سميح مؤيدا: خدت الكلمة من طرف لساني، ايوه..الچواز عصمة.. ولابد منه.. ده الكلام المظبوط.. 

قهقه مختار مؤكدا: كنت عارف أنا اللف والدوران ده كله عشان ايه! طب وهي أمك تكره.. ده يوم المنا.. وبعدين عروستك موچودة وكلنا عارفين إن هي كمان ريداك.. 

ما أن هم سميح بالكلام، حتى جاءهم صوت وداد الباسم وهي تتبادل الأحاديث والضحكات مع عمتها توحيد في سبيلها لغرفة صفية لقضاء الوقت معها بعد مغادرة مختار، الذي هتف باسما: أهي.. چبنا في سيرة الجط.. العروسة بشحمها ولحمها وصلت بره.. وأنا أراهنك إن هي هتسأل عليك دلوجت.. 

هتف سميح يستوقف أخاه حين هم مختار بفتح باب الحجرة، هاتفا في نبرة هادئة: لاه يا مختار.. مش وداد.. وداد أبعد واحدة عن بالي.. 

تطلع نحوه مختار في صدمة: أبعد واحدة! اومال كنت بتشاغلها ليه!.. وليه تعلج جلبها بك، دي تلاجيها مستنية منك كلمة.. وداد ما.. 

قاطعه سميح مؤكدا: وداد متنفعنيش، هي قدامها البكالوريا اهي وبعدها هتجول لي الچامعة وأنا.. 

قاطعه مختار: ما يمكن تجعد زي صفية ومتكملش لا چامعة ولا يحزنون.. طب شوف..

أكد سميح: حتى ولو مش هتكمل.. مش هي اللي هتچوزها يا مختار.. أني عايز واحدة طوع وتعرف ربنا و.. 

هتف مختار حانقا: وهي وداد كافرة يعني!.. أنت بتجول إيه!.. 

هتف سميح مؤكدا في حزم: أني حر في اللي رايدها يا مختار.. محدش بياخد حد مش على هواه.. وأنا خلاص أخترت.. 

سأل مختار ساخرا: ومين ربة الصون والعفاف!.  

أقر سميح في هدوء: مديحة بت الشيخ رضا.. 

لم يعقب مختار بحرف واحد، فما عساه أن يقول، الفتاة من أسرة طيبة ومعروف عنها الصلاح والتقوى، والدها الشيخ رضا.. صديق والدهما الحميم منذ سنوات طويلة، ووالد صديق طفولتهما، الشيخ معتوق.. قضي الأمر وما عاد هناك من كلام يقال، ما دفع مختار ليهز رأسه في هدوء، هامسا بكلمة واحدة: ربنا يحضر لك الصالح.. اشوف وشك بخير.. 

غادر مختار الغرفة مهرولا، فقد تأخر بالفعل عن المغادرة، تصله ضحكات وداد من داخل حجرة صفية والتي كان يدرك تماما كم هو معلق قلبها بأخيه، الذي أخبره لتوه وبكل بساطة.. أنه يرغب في الزواج من فتاة غيرها.. كم سيكون ذاك الخبر قاسيا على قلبها!.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٤٥..

مع سقوط القنبلة الذرية على اليابان.. ونهاية الحرب العالمية الثانية بشكل غير رسمي.. بدأت صرخات مخاض فوز في الارتفاع معلنة عن رغبة جنينها في الخروج للحياة.. 

كانت السراي على قدم وساق لاستقبال الحفيد الأول لسعد باشا رسلان والبرنسبسة أنس الوجود.. والذي هلّ للحياة أخيرا بعد ساعات من المعاناة لدفعه لخارج رحم أمه.. ليوضع أخيرا بين كفي والده.. الذي اندفع حاملا واضعا إياه بين كفي سعد.. الذي حمله في تأثر واضح.. متطلعا نحوه في حنو كبير، لا يصدق أنه يحمل بين ذراعيه بضعة منه، لا يصدق أنه أضحى جدا.. ربتت أنس الوجود على كتف سعد في محبة، مدركة دون غيرها ما يعتري سعد اللحظة وما يعتمل في صدره من مشاعر وأحاسيس مربكة على الرغم من حلاوتها.. هنأته في نبرة متأثرة بدورها: مبارك علينا يا باشا.. حفيدنا الغالي.. 

ابتسم سعد واضعا الوليد بين ذراعي أنس، التي همست تسأل في سعادة: أي اسم اخترتوه للطفل يا فضل!.. 

أكد فضل في محبة: اتفقت أنا وفوز إن اللي يسمي المولود هو بابا.. سعد باشا يختار لنا اسم أول حفيد.. مع إني كنت عايز اسميه سعد..

هتف سعد باسما: لاه، كفاية عليكم سعد واحد.. نسميه رؤوف.. ايه رأيكم!.. 

هتف فضل باسما: مفيش أجمل من كده.. يبقى رؤوف على بركة الله.. 

ابتسمت أنس متطلعة نحو الطفل: شرفتنا رؤوف بيه، اتمنى لك حياة مديدة وسعيدة حفيدنا.. 

بدأ الطفل يتململ، وخرج الطبيب ومساعداته، لتدفع أنس الوجود بالطفل نحو ذراعي أمه.. حين دخلت للاطمئنان عليها، ليتبعها فضل ومن بعدهما سعد.. لتهمس فوز في سعادة، حين ابلغها فضل باسم الطفل الذي اختاره سعد: الله.. رؤوف.. تسلم اختياراتك يا عمي.. وتعيش وتسمي.. 

ابتسم سعد هاتفا: حمد الله بسلامتك يا بتي.. ربنا يبارك لكم فيه ويجعله من البارين بكم.. ودي حلاوة وصول رؤوف بيه بالسلامة.. 

وضع سعد رزمة مالية ضخمة عند موضع رأس رؤوف بفراشه الصغير المجاور لفراش والديه، بينما وضع علبة صغيرة قيمة، بداخلها قطعة ذهبية راقية مؤكدا: ودي هدية لأم رؤوف لجومتها بالسلامة.. 

هتفت فوز في خجل: ده كتير يا عمي.. 

هتفت أنس باسمة: مفيش حاجة كتير عليكي وعلى حفيدنا الأول فوز.. 

كان خبر وصول الحفيد الأول لسعد باشا رسلان سعيدا على الرسلانية كلها، فقدت كان يوم السابع من ميلاده يوم عيد لأهل النجع.. فقد قرر سعد توزيع لحوم الذبائح ببزخ على الجميع.. وقررت البرنسيسة كسوة أهل النجع جميعا.. 

لم يمر الشهر وقد أعلنت اليابان رسميا هزيمتها وانسحابها من الحرب.. لتنتهي الحرب العالمية الثانية رسميا.. حتى بدأ مخاض صفية.. ليستعيد أهل السراي نفس أحداث يوم ولادة رؤوف، داخل دار الحرانية برفقة توحيد ووهدان.. لتمر الساعات طويلة بطيئة .. لتنتهي المعاناة والانتظار أخيرا بإطلاق توحيد لسلسلة من الزغاريد متزامنة مع وصول مختار الذي اندفع يطمئن في لهفة على حال صفية.. تاركا المولود بين ذراعي أمه.. لكن الطببب كان بالداخل لم يدعه يدخل حتى انتهاء عملهما.. فعاد للعائلة المجتمعة بالخارج.. لتسأل توحيد في فرحة غامرة: نويت تسميه ايه يا عين أمك!.. 

هتف مختار في تأدب: كبراتنا يسموه يا حچة توحيد.. ها يا عمي.. ها يا حچ وهدان.. ايه رأيكم!.. 

هتف سعد باسما: أني خدت دوري وسميت رؤوف.. ده دور أبوك.. 

هتف وهدان وهو يحرك مسبحته بين أصابعه في هوادة: وأني ايه وأنت ايه يا باشا.. ما واحد!.. 

هتف سعد باسما: طالما واحد.. يبجى اللي تجول عليه أني راضي به.. يااللاه.. ها.. 

هتفت وداد في براءة، والتي وصلت لتوها ما أن ابلغوها أن صفية تضع مولودها: نسميه على اسم عمه.. سميح.. أنا لو كانت جت بنت كنت هخليها مناحة لحد ما تسموها على اسمي.. وتطلعت لسميح مازحة: ما تسبش حقك.. الولد على اسم عمه.. ولا ايه!.. 

أكد سميح في نبرة جافة، لم تكن من عاداته استخدامها مع وداد.. أو في تعامله مع الجنس اللطيف بوجه عام، مؤكدا: لا، يسموه اللي يحبو.. مش فارج.. ولدهم وهم حرين فيه..  

شعرت وداد بغرابة رد سميح، الذي كان يتجاهل وجودها في دار أبيه مع صفية لمرات عدة، وهو الذي كان ينتظر قدومها بفارغ الصبر، حتى أنه كف عن زيارة السراي منذ شهور، على غير العادة.. كانت تستشعر ذاك التحول العجيب نحوها، وتبدل طريقة معاملته معها من اللطف واللهفة والرغبة في اللقاء إلى التجاهل والتجنب ومحاولة الابتعاد عن أي موضع يجمعهما سويا.. وكان ذلك موترا وعجيبا حتى أنها قررت البارحة حين علمت بوجوده في الرسلانية.. أن تزور أختها وتحاول الوقوف على أسباب تبدل معاملته معها بهذا الشكل الغير مبرر.. أخرجها من شرودها الواجم هتاف أبوه وهدان في هدوء: يبجى مصطفى على بركة الله.. 

ابتسمت أنس.. ورفعت توحيد عقيرتها بالزغاريد من جديد.. ليهتف سعد باسما، وهو يربت على كتف مختار مهنئا: مبارك يا بو مصطفى.. يتربى في عزك وعز چده.. 

ليهمس وهدان في فخر: مصطفى مختار وهدان الحراني.. 

لينحني مختار مقبلا هامة والده في سعادة وتوحيد تطلق مجموعة آخرى من الزغاريد دامعة العينين.. ليهتف سميح معلنا: كتري الزغاريد طيب يا ام مختار، عشان الفرحة هتبجى فرحتين.. أني هخطب.. 

توقفت توحيد عن إطلاق مظاهر الفرحة الرنانة، أمرة في حذر: مش وجته يا سميح، ما تاخدش من فرحتنا بواد أخوك.. سيب فرحتنا بك تاخد وجتها.. 

تغير لون وجه وداد، واصطبغ بلون وردي في حياء، معتقدة أنه سيعلن رغبته في الارتباط بها مستغلا اجتماع العائلتين في موضع فرح كهذا.. لكن سميح أعترض على أمه في هدوء: ليه.. ما خير البر عاچله ونخلي الفرحة فرحتين.. واهو خالي سعد موچود عشان ياچي معاي أنا والحچ وهدان نخطبوها.. 

امتقع وجه وداد، فقد أدركت من كلام سميح، الذي رغب في مرافقة أبيها لبيت المخطوبة، أنها ليست المعنية بهذا الحوار.. ما دفع أنس الوجود التي كانت تستشعر مشاعر ابنتها تجاه سميح، من جذب وداد مستأذنة في الدخول لحجرة صفية للاطمئنان عليها، لحفظ كرامة ابنتها التي ظهرت علامات الصدمة على قسمات وجهها الذي بدأ في الشحوب.. والتي تناهى لسمامعها، كلمات سميح في إصرار: أنا نويت أخطب مديحة بنت الشيخ رضا!.. ايه رأيكم!.. 

لم يعقب مختار، بل اندفع خلف أنس الوجود ووداد لداخل حجرة زوجته للاطمئنان عليها، لتتبعه توحيد متعللة برغبة الطفل وحاجته لأمه ليحصل على رضعته الأولى.. بينما هتف سعد في ثبات: يا زين ما اخترت يا باشمهندس.. مديحة زينة البنات.. والشيخ رضا راچل ولا كل الرچالة.. 

ليعقب وهدان: بس هي مش فسنك، أو يمكن أكبر منك هبابة!.. 

هتف سميح متعجبا: ده ميعبهاش يا حچ.. المهم دينها واخلاجها.. 

أكد وهدان مهادنا: على بركة الله يا سميح يا ولدي.. نبلغوهم ونروحو نخطبوهالك.. ربنا يعمر بك أنت وأخوك... 

مال سميح على هامة والده مقبلا في امتنان، تاركا إياه بصحبة خاله سعد للدخول والاطمئنان على صفية وتهنئتها بالحدث السعيد.. متنفسا الصعداء أنه تخلص من ثقل إعلان خبر رغبته في الارتباط من فتاة آخرى خلاف وداد التي كان الجميع يصر على زواجه بها.. 

❈-❈-❈

القاهرة نهاية ١٩٤٦.. ومطلع ١٩٤٧..

سنة كاملة من الهدوء النسبي.. نجحت وداد وقررت الابتعاد عن الرسلانية ودخول جامعة الملك فؤاد بالقاهرة.. بينما تم زواج سميح من مديحة ابنة الشيخ رضا.. كان زفافا بسيطا خاليا من البهرجة والزينة التي اعتادتها الرسلانية عند زواج ولد من أولاد الأكابر بها.. لكن سميح أصر على حفل زفاف بسيط بلا مظاهر بزخ.. وليمة لأهل الرسلانية وعقد القران ثم اصطحاب العروس لدار الحرانية.. حيث خصص له جناحا خاصا.. على الجانب الآخر من جناح مختار أخيه.. 

في حين أعلن عزام حفيد وهدان من ابنته الكبرى أخيرا.. بعد طول انتظار لسنوات.. وضع زوجته سعادات ابنة أبو زكيبة لطفله الأول.. مجاهد.. 

وجاءت الأخبار السعيدة من عرابة آل حفني.. معلنة وصول الطفل الثاني لعامر وعفيفة.. الذي أسموه صبري.. بينما لم يسمع عن بهجت أي أخبار منذ سفره للخارج.. وخاصة حين اشتدت مجريات الحرب.. ولم يعد إلا منذ شهور قليلة..

لم يذكر أمامه أي أخبار عن صفية.. حاولت إلهام تجنب ذلك على قدر استطاعتها، لكن ما استطاعت منع امها من ذكرها وهي تؤنبها على رفضها طلب أحد أبناء البشوات اصدقاء والدها للزواج بها، وهي تهتف لائمة: أنا عايزة أعرف، ايه اللي مش عاجبك في ابن سيرين باشا، شاب محترم وأي بنت تتمناه!.. 

أكدت إلهام: أي بنت إلا أنا.. لسه قدامي الدراسات العليا عشان أفكر في الجواز.. 

هتفت ألفت أمها في حنق: وايه المشكلة.. اتجوزي وكملي دراسات عليا.. ده شاب متحضر ولا يمكن يعارض رغبتك.. يا حبيبتي اللي فسنك عندهم أولاد دلوقت.. اقربهم صفية.. عندها مصطفى دلوقت تقريبا بقى عنده سنة.. امتى هااا.. 

هتف بهجت الذي كان يجلس على مائدة الإفطار في صمت ولم يتدخل في الحديث إلا اللحظة، متسائلا وقد اهتز فنجان الشاي بكفه: هي صفية خلفت!..

أكدت ألفت في فرحة: آه.. ما أنت كنت مسافر ومتعرفش.. صفية ربنا رزقها بمصطفى.. وفضل ربنا رزقه برؤوف.. ها مين فيكم بقى هيفرحني بأحفاد.. 

اضطرب بهجت، مؤكدا وهو ينهض عن طاولة الطعام مدعيا المزاح: الموضوع ده من اختصاص البنات، دي مسؤولية إلهام.. أنا مش فاضي للموضوع ده خالص دلوقت.. لأني لسه هسافر أكمل دراسة للأسواق العالمية بعد الحرب ما انتهت.. 

استوقفته ألفت في صدمة: هتسافر تاني يا بهجت!.. ده أنت لسه راجع!.. 

ابتسم بهجت في هدوء: معلش بقى يا ماما.. الشغل عايز كده.. اشوفكم ع الغدا.. 

واندفع بهجت مغادرا قصر والده، تتبعه نظرات أخته إلهام المشفقة على قلب أخيها المعذب بحب من طرف واحد.. ووصل مستحيل.. 

هربت إلهام بصعوبة من حصار أمها عدة مرات لاقتاعها بقبول عرض الخطبة.. حتى فقدت أمها الأمل في موافقة ابنتها فكفت عن الإلحاح.. لتهل حفلة عيد رأس السنة ويقام حفلها كالعادة في قصر أبيها وتنتظر هي مقابلة فارسها ككل عام.. لكن ها هو الحفل ينتصف.. ولا بادرة تمنحها الأمل في ظهوره.. كما كان يحدث دوما قبل دقات الثانية عشرة بلحظات.. يظهر هو مقنعا لترقص معه بأول دقائق في العام.. حتى إذا ما انتهت رقصتهما يطبع قبلة بباطن كفها في رقة، ويرحل تاركا إياها بانتظار لقاء آخر.. 

لكن هذا العام قد هلّ.. ومرت دقائقه الأولى دون الأنس بحضرته.. بل انتهى الحفل ورحل المدعوين.. واطفئت الأنوار.. وخلد الجميع كل إلى فراشه.. إلا هي.. خاصمها النعاس.. وما استطاعت الرقاد.. شعرت بالاختناق وأفكارها ترهقها.. فقررت النزول للحديقة.. دارت دورة كاملة حول القصر سيرا.. وما أن اقتربت من إنهائها حتى شعرت بكف قوية تجذبها نحو أحد الأركان المتطرفة بالحديقة.. كادت أن تقاوم صارخة.. لكن ظهور فارسها المقنع قبالة ناظريها جعلها تتراجع.. متطلعة نحوه في نظرة عاتبة، ليهمس هو معتذرا: مقدرتش اجي فوقتي.. لكن مقدرتش افوت النهاردة ومشفكيش.. 

تطلعت إلهام صوب ناظريه، ليزول أي رغبة في لوم أو عتاب من قبلها، ليستطرد هو في نبرة جادة: والأهم كمان.. أنا عايز اعترف لك بحاجة!.. 

انتظرت إلهام في هدوء ظاهري، لكن قلبها كان من اللهفة لسماع اعترافه، حتى أن دقاته تضاعفت في اضطراب حلو، وخاصة حين همس أمرا في لطف: قبل ما أقول أي حاجة، مدي إيدك وشيلي القناع من على عنايا.. عشان أنا حابب اقول كلامي وإنتي عارفة أنا مين.. 

مدت إلهام يدا مرتجفة نحو قناعه وازاحته عن محياه في بطء حذر، لتشهق في صدمة هاتفة: أمير!.. أيوه أمير صاحب فضل، اللي.. 

هز أمير رأسه مؤكدا، وهو يبتسم على رد فعلها الطفولي: أيوه أمير يا إلهام.. 

أكدت إلهام وآثار الصدمة ما تزل بادية على محياها: كنت حاسة إني قابلتك قبل كده.. لكن عمري ما كنت اتخيل إنه أنت.. أصل أنا بالنسبة لك كنت بنت تافهة ومجنونة و.. 

هتف أمير مقاطعا في عشق: وبحبك.. 

ساد الصمت لبرهة، قبل أن تسيل دموع إلهام في رقة، هامسة تسأل: أنت قلت ايه!.. 

شاكسها أمير: قلت بحبك.. وعايز أتقدم لخطبتك في أقرب فرصة.. 

همست إلهام في تيه: خطوبة!.. 

عاود أمير مشاكستها مؤكدا: الصراحة صعبتي عليا وإنتي قاعدة وكل البنات اللي فسنك اتجوزو وبقى معاهم عيال، قلت أنقذك بقى من شبح العنوسة واتقدم لك.. 

قهقهت إلهام على أقوال أمير، ما دفعه ليهتف في نبرة تنضح حبا: شوفتي ضحكتي على كلامي إزاي!.. عارفة أي بنت تانية كانت عملت فيا ايه ع الكلمتين دول!.. إنتي مختلفة يا إلهام.. وده اللي خلاني أقع في حبك من أول نظرة.. 

شهقت إلهام في دهشة: من أول نظرة!.. أنا!.. ده أنت قعدت تتريق عليا يومها.. و.. 

قاطعها أمير: ومفيش مرة من بعد ما مشيت من هنا، معدتش جنب القصر على أمل اشوفك خارجة أو داخلة.. أو حتى واقفة ف التراس.. فمكنش قدامي فرصة اشوفك إلا في حفلات راس السنة.. لأن مكنش ينفع اتقدم لك أيامها.. كنتي لسه على مشارف دخول الجامعة.. وأنا كمان كنت بدرس.. 

همست تسأل في فضول: بتدرس ايه!.. 

تنحنح أمير معترفا: أنا نقيب في الجيش الملكي.. 

هتفت إلهام في حماس: عشان كده جيت الحفلة أول مرة وأنت لابس ميري.. كنت فكراه لبس تنكري!.. 

أكد أمير: لا.. مكنش لبس تنكري.. دي كانت بدلتي الميري بعد تخرجي مباشرة.. أنا دفعة مختار الحراني جوز صفية بنت عمتك.. 

هتفت إلهام تربط الخيوط ببعضها: عشان كده كنت فالرسلانية بتحضر فرحه.. 

أكد أمير: مش فرحه هو بس.. وفرح فضل كمان، إنتي ناسية إن له الفضل في معرفتي بيكي!.. 

ابتسمت إلهام في حياء، ليستطرد أمير متطلعا بعمق عينيها: في سر كمان.. لازم تعرفيه.. 

همست في اضطراب متسائلة: ايه! أنت متجوز!.. 

حاول أن يمسك أمير ضحكاته عن الارتفاع في قلب الليل، حتى لا تسري منبهة الجميع لوجوده، نافيا: لا.. متقلقيش.. حاجة أخف من كده.. أنا اسمي مش أمير.. ده اسم حركي.. 

هتفت إلهام في صدمة: اومال اسمك ايه!.. 

أكد أمير في هوادة: ناجي صديق الشافعي.. 

همست إلهام تكرر اسمه في شرود: ناجي!.. 

همس ناجي متسائلا: ايه! مش عاجبك!.. 

همست تتطلع نحوه في عشق: إذا كنت أمير أو ناجي.. ايه الفرق.. أنت هم.. وده اللي يهمني.. 

تطلع ناجي نحوها في عشق لبرهة، قبل أن يهتف مؤكدا: أنا لازم أمشي حالا دلوقت.. عشان لو فضلت ابص لك كده، هعمل حاجة هنندم عليها كلنا.. 

أمسكت إلهام ضحكاتها، وهي تتابعه يغادر من من بين ثنايا السور الواسعة، هامسا قبل أن يرحل: أنا جاي اتقدم للباشا في أقرب فرصة.. 

همست تستوقفه: ناجي!.. 

تصلب موضعه، فقد كانت المرة الأولى التي يسمع اسمه منغما بهذه الرقة، لتستطرد إلهام في وداعة: أنا في انتظار زيارتك.. خلي بالك على نفسك.. 

لم ينطق ناجي حرفا، بل أومأ رأسه في إيجاب، قبل أن يندفع مهرولا.. مبتعدا عن سور القصر.. وقد بزغ فجر اليوم الأول من العام الجديد بالأفق.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١.. 

كان وقوفها عند تلك الستائر التي تعد فاصلا بين ذاك الرواق والردهة الصغيرة التي تفصله عن الرواق الآخر العامر بغرف قاطني السراي.. كأنها تقف على حاجز يفصلها عن عالمين مختلفين بالكلية.. مدت كفا مرتجفة نحو الستار المخملي الثقيل قرمزي اللون، وازاحته قليلا، ليظهر لها بداية الرواق على ضوء الردهة وكأنه ثقب أسود مجهول قد يبتلعها دون أن لا تدرك له نهاية.. توقفت تستجمع شجاعتها حتى يتسنى لها أن تمد كفها لقابص الضوء القريب منها والذي لمحته بالحائط المجاور.. وها قد فعلا أخيرا بعد لحظة تردد.. ليسطع الضوء الشاحب قليلا منيرا الرواق الذي استطاعت تبين آخره على الرغم من طوله.. فتنفست الصعداء.. 

عبرت لداخل الرواق لتصبح الستائر خلفها كحاجز يفصلها عن ما دونه.. لتستشعر أنها أصبحت بعالم آخر.. أمامها أبواب لحجرات كأنها بوابات زمنية قد تدفع بها لبعد آخر.. 

أي الأبواب تختار يا ترى!.. وهل تبدأ من الأقرب لموضع وقوفها، أم تشرع في البدء بأول الأبواب البعيدة في أول الرواق هناك!.. كانت على عجلة من أمرها، فقد استشعرت أن هناك أصواتا خلف هذه الأبواب تدعيها للقدوم.. هي تعلم أن ذاك صوت وهمها، ومجرد تخيلات لا أكثر.. لكنها حاولت أن تنهي حيرة الاختيار التي هي معضلة الإنسان منذ بدء الخليقة.. واندفعت نحو الباب الأقرب من مكانها.. مديرة مفتاحه بموضعه عدة مرات.. وما أن أدارت مقبض الباب حتى أصدر صريرا بسيطا افزعها.. ما جعلها تغلق الباب لبرهة قبل أن تستعيد ثبات أنفاسها المضطربة.. لتعاود دفع الباب في هوادة محتملة صوت صرير مفصلاته القديمة التي آنت وجعا من طول الهجر.. 

مدت كفها التي ما تزل على ارتجافها لتضغط زر إضاءة الغرفة.. التي شهقت ما أن أبرز الضوء تفاصيلها العريقة.. وتساءلت وهي على الأعتاب.. إلى أي فرد من الأسرة الكريمة، تكون هذه الحجرة الفخمة الطراز والأثاث!.. على الرغم من أن الأغطية البيضاء تغطي بعض التفاصيل عنها، لكن ما ظهر يؤكد أن ذوق راقِ كان يحكم هذا المكان منذ زمن ليس بالبعيد.. فخمسون عاما لا يعد عمرا طويلا في عمر الأماكن أو الشعوب.. 

تطلعت نحو الفراش الطويل القوائم وتلك المنحوتات التي تبرز على الخشب في فخامة.. مررت كفها عليها على الرغم من بعض الأتربة التي علقت بكفها، إلا أنها استشعرت إحساسا عجيبا، شملها بالسكينة.. دارت في الغرفة هنا وهناك.. تتفحص الانتيكات والمصابيح النحاسية.. وأخيرا.. بدأت في فتح الأدراج لتلك الطاولة المخصصة للجلوس عليها وكتابة الخطابات.. في حذر.. ليبرز أمام ناظرها بعض المظاريف البنية اللون.. حملت أحدهم واخرجت في تلك الورقة المطوية داخله في وجل.. ليصبح بين كفيها رسالة صفراء الأطراف حاولت على قدر استطاعتها التعامل معها بحرص وهي تحاول أن تفضها.. شرعت في القراءة.. وضربات قلبها تزداد اضطرابا.. 

"اتمنى أن لا يلقى هذا الخطاب مصير أخيه السابق، ولا يصل لكفيك.. فكل ما ارغبه اللحظة هو أن ادثرك بكلماتي عوضا عن ذراعيّ.. 

افتقدك كثيرا.. ولدي من الكلمات والحكايا والقصص الكثير.. أدخرها لمسامعك وحدك.. فهلا أتيت!.. 

السماء ما عادت زرقاء.. ولا عاد للزهور عطر.. ولا عاد للعمر جدوى.. دون ليالِ أنت بدرها.. 

آه يا فضل!.. موحشة هي الحياة دون صحبتك.. وبائسة أنا دون أنسك.. ومسكين ولدنا دون عطفك.. يستجدي صوتك وصورتك اينما حل.. وأحاول أنا والجميع تعويضه عما لا عوض عنه.. عن حنانك.. 

الكلمات باتت تخنقني.. ما بقى لي من قدرة على البوح.. اتعشم أن أجدك ما بين طرفة عين وانتباهتها قبالة ناظري.. أحبك.. 

                         زوجتك.. فوز.."

سالت دموع أنس الوجود بلا وعي لتلك الكلمات التي كانت تحمل الكثير من المشاعر الصادقة الجياشة من زوجة تفتقد زوجها.. أين كان يا ترى!.. وتعجبت كيف أثرت فيها بضع كلمات من امرأة يفصلها عن زمنها ما يزيد عن الثلاثين عاما بهذا الشكل الذي جعلها تسكب الدموع تعاطفا على حالها!.. لم تكن بالسابق تقيم لتلك المشاعر وزنا، كانت تسخر من هاجر حين تخبرها عن لوعة قلبها لحب نصير الذي ما كان يحس بأوجاعها، ولا كانت هي صديقتها تدرك عما تحكي.. فهي لم تختبر يوما تلك المشاعر التي كانت تصفها هاجر نحو نصير ولا التي كان يؤكد عليها ممدوح تجاه هاجر.. لمَ اليوم تدركها بهذه القوة.. كأنها بعض من تكوين ذاتها!.. ما الذي جرى وغيرك يا أنس الوجود!.. هل هو وجودك على هذه الأرض التي بدلت فيكِ الكثير!.. أم لقاءك بذاك الرجل الذي أصبح قربه ملاذا لطمأنينة روحك، حين تتكالب عليك صراعات الدنيا، وتجبرك الحياة على مر الاختيار!.. 

رج السؤال دواخلها، ما جعل الاضطراب يشملها وهي تهم بإعادة الرسالة لداخل مظروفها بكف مرتجفة.. وقلب مترنح من صدمة مواجهة الحقائق المتداعية أمام ناظري روحها.. لتصرخ ويسقطا من يدها بالقرب من قدميها، حين سأل صوت رخيم خلفها متعجبا: ايه اللي چابك هنا يا أستاذة!.. 

استدارت لمواجهة حبيب، ولوهلة كادت أن تلقي بنفسها بين ذراعيه محتمية، إلا أنها وبلا وعي شعرت بارتجاف قدميها حتى أنها سقطت مستقرة على ركبتيها جواز الرسالة ومظروفها.. 

انتفض حبيب مذعورا، دافعا عنه عصاه منحنيا أرضا يسألها في نبرة مرتجفة قلقا: ايه في! انتي بخير يا أستاذة!.. 

لم ترد أنس فقد ارتفع نحيبها دون أن يدرك حبيب له سبب واضح، ما زاد من قلقه، أمرا في لطف: هاتي يدك.. وجومي طيب.. أني معرفش ايه اللي چابك هنا الساعة دي!.. 

تطلعت أنس من بين دموعها لكف حبيب الممدودة قبالة ناظريها.. وبلا وعي.. مدت كفها بكل سلاسة تضعها بأحضان كفه.. حتى أنها حاولت أن تطبق على ذاك الكف الضخمة الحانية بمجامع كفها الصغيرة الحجم فلم تستطع.. ما دفع حبيب بشكل لا إرادي يطبق هو كفه على مجمل كفها الناعسة في هوادة بكفه في رقة.. متطلعا نحو عمق عينيها.. لا يدرك ما الذي جرى لتصبح بهذه الهشاشة، حتى أنها زرفت دمعا ما رآه يوما منسابا على خديها.. فمنذ وطأت أقدامها الرسلانية وهي قوية.. مستقلة.. قادرة.. ولم يرى إلا اللحظة ذاك الضعف الأنثوي الذي يطل الآن من حدقتيها بهذه القوة!.. 

استجمع شتات نفسه، ونهض مستقيما، جاذبا إياها من موضعها أرضا.. حتى إذا ما استقامت ظل بلا وعي محتفظا بكفها هانئا بقلب كفه.. 

وهمس أخيرا بصوت أبح، لم يكن له: إنتي بخير!.. 

تطلعت نحوه، ولأول مرة لا تملك إجابة عن سؤال بسيط كهذا!.. هل هي بخير!.. ربما الآن.. في هذه اللحظة التي تنعم فيها كفها بأمان كفه، هي تملك الإجابة جلية واضحة.. هي بخير.. بل بألف خير.. لكن ماذا عن حالها، إذا ما أفلت كفها الصغيرة مبتعدا!.. هل تملك الإجابة حينئذ بهذا الوضوح.. وكل هذه الشفافية!.. 

أدركت أنها بدأت تهزي.. أو ربما كان ذاك الهزيان هو عين الحقيقة التي كانت ترفض مواجهتها.. فتمثلت أمامها بكل جلاء حتى ما عاد من سبيل لإنكارها.. فقررت الفرار.. تاركة سؤاله بلا إجابة.. مهرولة لخارج الحجرة بعد أن جذبت كفها قسرا.. لكن هل يمكن للمرء الفرار من نفسه!.. وإلى أين!.. إلى نفسه!.. يفر من قدر الله.. لقدر الله.. فلا مفر!.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٩١.. 

قررت مريم عقد هدنة غير معلنة مع ذاك المدعو ممدوح سرحان.. فحضرت لمقر عملهما.. وقد اتخذت قرارها بأن لا تزعجه بأغان عبدالحليم حافظ، الذي على ما يبدو، ليس المطرب المفضل له.. مع تعجبها سرا.. من ذا الذي لا يحب عبدالحليم!.. لكن ما باليد حيلة.. فلتقدم السبت وتنتظر.. لعلها بالغت في الحكم عليه.. 

جاء بدوره ملقيا تحية مقتضبة على شركائه بالمكتب.. وجلس في هدوء كعادته وبدأ عمله في كفاءة.. بينما كانت هي تقاوم النعاس.. وتقاوم مد يدها لتشغيل المسجل صغير الحجم الذي كان قابعا جوارها كالعادة، حتى وإن كان قرارها عدم تشغيله، لكن وجوده في حد ذاته يعطيها نوعا من الشعور بالاطمئنان أنه يمكننا ذلك متى ما أحبت.. وأن إغلاقه ما هو إلا رغبة منها لا أكثر.. 

لا تعلم ما الذي جرى.. إلا أنها شعرت بشيء ما يضرب جبهتها بقوة.. ما جعلها تنتفض منتبهة.. لتدرك أنها استسلمت للنعاس بالفعل.. وما أن همت بالاعتراض زاعقة على ما جرى من ممدوح.. إلا وأدركت وجود مدير الإدارة يمر على مكاتب الموظفين في جولة مفاجئة.. استقامت في جلستها.. وأخذت في العمل بحماس عجيب.. وهي ترمق ممدوح بحنق ممزوج بشكر.. فلولا تلك الكرة الورقية التي قذفها بها في منتصف جبهتها فاستيقظت بالوقت المناسب مع ظهور المدير على أعتاب حجرة مكتبهم.. لكانت الآن ملقية على الدرج الخارجي للشركة مطرودة غير مأسوف عليها..

انتهت جولة المدير في سلام.. لتتطلع مريم نحو ممدوح في حنق، راغبة في القيام بخنقه.. لكن على العكس من ذلك.. نهض ممدوح في هدوء.. متجها نحو مشغل الأغاني، هامسا في هدوء أغاظها: افتحيه لو هو ده اللي هيفوقك، بدل الفضايح.. والمدير يدخل يلاقيكي نايمة.. كنتي مش هتعمري معانا.. 

هتفت تتهمه وهي تملس على جبينها موضع قذيفته الورقية: البركة فيك.. 

ضغط ممدوح زر التشغيل مؤكدا: اهو اشتغلي.. بلاش حجج فاضية.. 

همت بالاعتراض، لكن عبدالحليم هتف متهما بديلا عنها: مغرررور.. 

أمسكت ضحكاتها، وممدوح ينظر إليها شذرا.. حين تبعه الاتهام حتى جلس على مكتبه.. محاولا تجاهل ضحكاتها التي انطلقت شجية رنانة رغما عنها.. وما عاد باستطاعتها كتمانها..

❈-❈-❈ 

عرابة آل حفني ١٩٩١..

توقف بالرعبة الميري على أعتاب ذاك النجع الذي يحمل أصول والده صبري الحفناوي.. لا يعلم هل ما يقدم عليه اللحظة.. أمرا سيكون له من العواقب ما لا يحمد عقباه!.. أم ذاك الفعل الذي ظل يلح عليه لشهور قد يجر عليه أمورا كان في غنى عنها.. وسيفتح أبوابا للماضي الذي لا يعلم تفاصيل ما جرى به.. فتكون أبواب من جحيم!.. 

تنهد سراج في محاولة لدفع نفسه على استكمال ما بدء.. طاردا التوتر والقلق الذي اعتراه ما أن أصبح قاب قوسين أو أدنى من تنفيذ ما عزم عليه.. متسلحا برغبة قوية بل ملحة في إدراك أسباب هجر والده لأرضه وناسه.. والفرار بعيدا من أقصى الجنوب لأقصى الشمال.. ليستقر به الحال بالإسكندرية التي على الرغم من عشقه لها إلا أنه لم يتخل أبدا عن هويته ولهجته.. ولم يستطع أن يمد بها جذورا ثابتة.. فما زالت جذوره ها هنا.. متشبثة بهذه الأرض.. التي لا يعلم لمَ لفظته.. 

ضغط سراج على دواسة البنزين.. وخاض بدروب العرابة يسأل عن دار الحفناوية.. حتى وصل لبراح واسع.. أوقف به العربة.. وترجل منها متطلعا نحو تلك الدار الضخمة التي على الرغم من قدمها العتيق.. إلا أنها ما تزل تحمل فخامة وعراقة لا يمكن إغفالها.. 

سار بخطى ثابتة صوب ذاك الباب الخشبي الضخم ذو الضلقتين.. والذي تتدلى منه كفا معدنية نحاسية شاحبة.. استعملها للطرق على الباب لمرتين متتابعتين.. هم بالطرق من جديد حين مرت دقيقة ولم يفتح أحد.. لكن الباب انفرج بغتة.. ليطل شاب من خلفه، متسائلا في توجس: تحت أمرك.. خير!.. 

استجمع سراج شتات نفسه، متسائلا في لين: الحچ عدنان الحفناوي موچود!.. 

سألت الشاب في ريبة، فقد كانت هيئة سراج توحي بأنه غريب عن العرابة: نجوله مين حضرتك!.. 

هتف سراج في ثبات: سراچ صبري الحفناوي..

تطلع الشاب نحوه لبرهة في صدمة.. مندفعا للداخل مثل الطلقة.. قبل أن يتركه وحيدا على الأعتاب.. لا يعرف ما الذي قد تسفر عنه الأحداث القادمة.. والتي قد تجيب على سؤاله الحائر.. هل كان على خطأ حين قرر القدوم إلى هنا!.. أم أن ذاك كان عين الصواب!.. 

يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة