رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 18 - 2 - الجمعة 14/2/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الثامن عشر
2
تم النشر الجمعة
14/2/2025
انتفضت جالسة ما أن دفع وهدان باب الحجرة في شدة، وما أن طالعت محياه، حتى نهضت من موضعها مشفقة على حاله، آه لو تعرف من أين يأتيها كل ليلة بهذا الشكل المنهك، والجسد المغبر من رأسه حتى أخمص القدمين، وكفيه حالتهما عدم، تسلخ جلد باطنهما والثرى أصبح كطبقة ثانية على ظاهرهما.. اقتربت تهمس له وهو يقف في منتصف الغرفة في تيه: تعالى يا وهدان، ايه في! تعال يا حبة الجلب جولي ايه چرالك وغير حالك كده!..
اجلسته على إحدى الأرائك، وضمته لصدرها وهي تبكي في حرقة، وبدأت في تلاوة بعض آيات مما تحفظ من القرآن الكريم: قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس..
بدأ جسد وهدان في الإرتجاف في قوة كمن اصابته الحمى، كانت توحيد تتوقع أن عليها الزيادة في التلاوة، ربما تنصرف عنه هذه العين الحاسدة، التي أصابت زوجها وقلبت حاله، وكان هو من أمرها على الرغم من انتفاضه: زيدي يا توحيد، ميهمكيش من رچفتي، اقري ودفيني بين درعاتك.. لكن على العكس، كلما زادت توحيد في تلاوتها، زاد وهدان من إرتجافاته التي تحولت لإنتفاضات قوية، حتى أن الانتفاضات تحولت لرعشات قوية، دفعت وهدان ليتزع نفسه من بين ذراعي توحيد، صارخا في قهر، وهو يضم رأسه بين كفيه: بكفاياك، وجف.. حل عني حرام عليك.. اخرچ من راسي.. بكفاياك..
دنت منه توحيد تضع كفها على كتفه مواسية، تسأل في ذعر: هو مين ده يا وهدان! سلامتك يا أبو مختار..
دفع وهدان كفها عن كتفه في شدة لم تكن من طبعه معها، دافعا بها هي شخصيا لتبتعد عنه، صارخا في ضيق: بعدي يا توحيد.. بعدي..
بكت توحيد، بل انفجرت في البكاء بدموع تحمل قهر الدنيا ووجيعتها، وهي ترى زوجها وحبيبها على هذه الحالة المزرية، ما دفعها لتنهض مغادرة الحجرة دون أن يحاول وهدان منعها، لتسير في خطى ثابتة لا تعرف الخوف نحو حجرة ضرتها، طرقت بابها الذي سرعان ما انفرج عن محياها، وكأنها كانت بانتظارها، لتسأل وهي تضع كفها بوسطها متخصرة في ميوعة: خير!. ايه اللي چاب ست الناس لحدة باب اوضتي!..
هتفت توحيد وقد تجمدت الدموع بعينيها، هاتفة في نبرة تحمل وجع العالم: خديه يا شفاعات، أني راچعة بيت أخوي وفايتهولك، بس كفاياكي بهدلة فيه، مصعبش عليكي حاله، مش اللي يرضيكي إنه يطلجني!.. والله ما هرچع الدار دي تاني، ولا حتى الدار اللي كان واعدني بها اتبنت من أساسه عشان ارچع عليها، أني مش خارچة من بيت أخوي تاني، وخليه يطلجني بس ترتاحي وتريحيه، وهدان بيموت يا شفاعات..
ما أن نطقت توحيد جملتها الأخيرة، حتى انفجرت في البكاء من جديد وهي تتذكر حال زوجها الذي كان ينتفض بلا حول ولا قوة بين ذراعيها، تطلعت شفاعات نحو توحيد باسمة في تشفي: عارفة إنك روحتي لكذا شيخ وخليتيه يجعد مع وهدان، يمكن يعرف يداويه، بس وهدان دواه عندي، ولو رايدة صح شفاه من حاله، طاطي وحبي على يدي..
اندفعت توحيد ممسكة بكف شفاعات الممدودة قبالتها، وانحنت تقبلها في مذلة، هاتفة بها في قهر: اهااا، أحب على يدك ورچلك كمان، إلا وهدان يا شفاعات، ده برضك أبو عيالك.. وأني مش جاعدة لكم، راچعة بيت أخوي، وهو ليكي وأني مفارجة..
هتفت شفاعات في غل، بعد أن نزعت كفها من بين كفي توحيد التي كانت منكسة الرأس تقبلها في تذلل وقهر باكية: لاه، معدش ينفع، طول ما انتي وعيالك موچودين، أني مش هيهنالي عيش مع وهدان، واستحمديه إني سيبتك بخطري تعيشي لك معاه يومين حلوين، لكن لحد كده، وكفاية عليكي جوي يا بت عبدالمچيد رسلان..
هتفت توحيد في ذعر، وقد أدركت أن شفاعات قد أطلقت كل شياطين حقدها وغلها، وما عاد من أمر قد يبرد نارها إلا إلحاق الضرر بها وبأولادها، ما دفع توحيد بشكل لا إرادي أن تضع كفها على بطنها المنتفخ، وقد بدأت في التقهقر بخطوات مترددة نحو باب الحجرة رغبة في الانصراف بعيدا عن محيا شفاعات التي بات مرسوم على ملامحها الشر المطلق، وعيناها نظراتها لا تحمل إلا الكره الدفين..
وما أن أصبحت توحيد خارج غرفة شفاعات حتى أطلقت ساقيها للريح متناسبة وجع ظهرها، وثقل حملها الذي أوشك على القدوم للدنيا، مندفعة نحو حجرتها، التي ما أن فتحتها حتى وجدتها فارغة ووهدان ليس بها كما تركته، لكن الأهم ولدها مختار، أين ذهب!.. بحثت عنه هنا وهناك بلا جدوى، ما حثها على الاندفاع صوب الخارج، تركض بشكل جنوني نحو دار أخيها، الذي عاد من المحروسة صباحا، صارخة بشكل هستيري باسمه، لعله يسمعها ويأتي ليخلص ولدها من ذاك الشر المحدق به..
❈-❈-❈
أزمير ١٩١٩..
كان الجند قد اندفعوا نحو كوخ يلديز المظلم، طارقين بابه في عنف، لكن ما أستجاب أحد لتلك الطرقات القوية بأعقاب البنادق، ما دفع أحد الجيران ليهتف في شجاعة مؤكدا: هذا بيت الخالة يلديز، وهي امرأة مسنة تعيش وحيدة، وهي ليست بالداخل من الأساس، فهي لم تعد للدار منذ فترة، اعتقد أنها سافرت لأهلها في أدنا..
هتف قائد الحرس في حزم: أمتأكد أنت من تلك المعلومات، وأن لا أحد بالداخل!
دار بعض الجند حول الكوخ من جميع جوانبه في محاولة لاستشراف الداخل من خلال بعض الثغرات في النوافذ، لكن كان داخل الكوخ ساكنا بالفعل وكأن ما من مخلوق مر بالداخل منذ شهور وذاك أكد على صدق الجار فيما أقر به، ما دفع قائد الجند ليلوح لجنده حتى يرحلوا في صمت، مشيرا للجهة التي وجب عليهم التوجه لها، وما أن هم الجميع بالتحرك، حتى علا صوت بكاء طفل، ما دفع القائد للتوقف موجها ناظره للكوخ من جديد، إلا أن الجار هتف في نبرة مهادنة: ولدي يبكي بالداخل، أعتذر عن الازعاج..
سكن صوت البكاء سريعا مثلما بدأ، ما جعل ذاك القائد المتحفز يقرر الرحيل، وقد ضاعت الفرصة للامساك بذاك الحقير، الذي حثهم لمطاردته كل هذه المسافة حتى أطراف الغابة بلا جدوى..
ابتعدت خطوات الأقدام الضاربة وجه الأرض في شدة خلف قائدهم، وما أن خبا الصوت تدريجيا وتأكد من هم بكوخ يلديز أن الوضع أصبح مطمئن، حتى تطلع ذاك المجهول إلى أنس الوجود التي تحتضن طفلها بهذا الحنو وهم يتوارون بأسفل حواف الباب حتى لا يمكن لأي من كان مهما مد البصر للداخل أن يدرك موضع اختباءهم، هامسا باضطراب، وعيناه تتأكد أنها قبالته بالفعل: معقول! بعد كل هذه السنوات! أنتِ هنا أنس..
لم تحر أنس جوابا، فقد كانت تتشاغل بطفلها عن ذاك الذي خرج لها من خلف أستار الماضي، بعد أن ظنت أنه رحل عن دنيانا كما أوهمها والدها رحمه الله، لترفع رأسها متطلعة نحوه، هاتفة في لهجة رسمية: بلا، أنا هي نوري أفندي..
ابتسم نوري هاتفا: لم تكن لهجتك بهذه الرسمية أبدا أنس..
نهضت أنس الوجود من موضعها حاملة طفلها، وما أن أصبحت قبالته حتى همست مؤكدة في حزم: نوري أفندي! أنس التي كنت تعرفها ما عاد لها وجود، أنس التي تحدثك اللحظة هي زوجة وأم.. زوجة أجبرتها الظروف على فراق زوجها الذي تحب، وتفرض عليها اللحظة حماية طفلها أمانته حتى تعود به لوالده سالما معافى.. لذا أرجو منك المغادرة فورا.. فوجودك هنا يعرضني وطفلي للخطر في كل لحظة يطول فيها بقاءك..
هتف نوري متطلعا إليها في تعجب، هامسا في نبرة غير مصدقة: تغيرتي كثيرا، تبدلتي من تلك الفتاة الصغيرة التي كانت تأسرها كلمات الحب، إلى.. إلى ماذا!.. اعتقد من أراها اللحظة تليق بلقب كاظم أوغلو السفاح..
هتفت أنس الوجود في نبرة صارمة: كلمة واحدة زيادة تصف بها والدنا الراحل بسوء، صدقني لن اتورع لتسليمك للجنود اليونان بنفسي..
هتف نوري في دهشة: راحل! متي حدث ذلك فقد..
قاطعته أنس في صرامة: البارحة صباحا، رفض مغادرة قصره ليكون مقرا للقادة اليونانيين، مات وهو شامخ الرأس مقاوما، تساوت الروؤس، أليس كذلك!..
هز نوري رأسه متفهما، لتستطرد أنس الوجود في نبرة تحمل ألما عظيما: وها قد نلت ثأرك كاملا..
هتف نوري مؤكدا: لم يكن بيني وبين كاظم باشا أي ثأر إلا أنتِ.. كنت مدرك لدفاعه عن مركزه الأجتماعي، وكم كان يرى أني لست الصهر المناسب، واللائق بابنته، لكن .. ما حملت له إلا بعض الحقد لأنه كان سببا في افتراقنا.. لا أكثر من هذا.. وعلى أي حال، مضى الأمر، وأرى أن أمورك سارت على ما يرام أنس الوجود..
هتفت أنس منبهة: أنس الوجود هانم.. لطفا لا ترفع الكلفة بيننا، فأنا أحمل اسم رجل غيور، لن يقبل أن ينطق اسم امرأته مجردا.. لسان رجل آخر، ولن يقبل بوجودك هنا من الأساس.. واحتراما لرغبات ذاك الرجل الذي أحترم.. عليك أن تغادر .. وفورا..
لم يلق نوري بالا لطلبها المهذب، بل جذب مقعدا وجلس عليه في هدوء، يتطلع حوله في لا مبالاة، ما دفعها لتسأل في نبرة حادة: اعتقد سمعت مطلبي، وأظن أن عليك التنفيذ وفي الحال!..