رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 18 - 3 - الجمعة 14/2/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الثامن عشر
3
تم النشر الجمعة
14/2/2025
أكد نوري في ثبات: تنفيذ مطالبك كان دوما من دواعي سعادتي أنس.. هانم، لكن ما عاد هذا ممكنا، فعليك أنتِ طلب السماح بموافقتي لكِ بالبقاء في كوخي العزيز، لا العكس..
رددت أنس في حنق: كوخك العزيز! إنه كوخ أمي.. أقصد الخالة يلديز مربيتي.. رحمها الله..
انتفض نوري صارخا: متى حدث ذلك!
اضطربت أنس، وتململ فضل بين ذراعيها منزعجا، لكنها همست مؤكدة: في تلك الفوضى التي حدثت بعد هروبنا من قصر والدنا بعد أن أطلق عليه الجند الرصاص، كان قلبها ضعيفا ولم أكن أعلم.. سقطت وما احتمل قلبها العليل الركض والهرج الحادث.. فجذبت مفتاح الكوخ من صدرها وناولتني إياه، ثم فاضت روحها بين ذراعي..
ساد الصمت، وأخيرا انفجرت أنس الوجود في البكاء بغتة، وكأن استعادة المواقف التي كان عقلها ينكر وقوعها من الأساس، قد جعلها حقيقة ملموسة واسترجع ذهنها كل تلك اللحظات المريرة، وقد تأكدت اللحظة فقط أنها لن ترى والدها ومربيتها مجددا.. ما زاد من شهقات بكاءها، وقد اتخذ نوري موضعا قرب النافذة يولي لها ظهره، لا ينطق حرفا..
ساد الصمت لدقائق ما كان يقطعها إلا صوت نحيب أنس الوجود، وما أن بدأت هناتها في السكوت، حتى استدار مواجها أنس مقرا في نبرة متحشرجة تأثرا: لكِ البقاء هنا، واستميحك البقاء بدوري، فما عاد لي من موضع للبقاء بأزمير إلا كوخ خالتي..
هتفت أنس الوجود في دهشة مخلوطة بذهول: خالتك! الخالة يلديز خالتك! كيف لم أعرف تلك الحقيقة من قبل!..
أكد نوري في هدوء: نعم خالتي، أخت أكبر غير شقيقة لأمي، ولم يكن على وفاق أبدا، لكني كنت أحب خالتي يلديز، وهي اعتبرتني ولدها الذي لم تنجب، لعلك لم تدركي حتى هذه اللحظة، أن سبب لقاؤنا من الأصل، أني كنت في زيارة لها بقصركم حيث كانت تعمل، وهي لم تدرك أبدا علاقتنا، إلا بعد افتضاحها.. والحمد لله أن والدكم الباشا لم يفطن لقرابتي بها، وإلا كانت قد اُتهمت أنها سهلت لنا اللقاء، أو ربما كانت قد فقدت وظيفتها.. مصدر دخلها الوحيد.. وكان ذاك أبسط الخسائر.. لكن الله سلم..
هتفت أنس في نبرة آسفة: على إذن المغادرة، فأنت أحق طبعا بالبقاء هنا..
انتفض نوري مؤكدا في حزم: لن يحدث، لن يغادر أي منا..
ثم تنهد مؤكدا حين لاح الحنق بنظرات أنس الوجود: دعينا نعقد اتفاقا.. أنا سأخرج للعمل معظم النهار في الغابة متخفيا حتى تهدأ الأوضاع بعض الشيء، وينسى اليونانيون أمري قليلا، وأعيد محاولاتي في الاتصال مجددا بأعضاء خليتي.. لأرحل بعدها وقد أمنت لك البقاء لكِ ولطفلك، دون عناء.. فالثلوج ستسقط عما قريب، وأنا على يقين أنك لستِ مؤهلة للخروج والتعامل مع العالم الخارجي، فمثلك لم يعتد ذلك..
هتفت أنس في نبرة قوية: وماذا عليّ أن أقدم في المقابل نوري أفندي!..
أكد نوري في تأدب: مجرد موضع على الأريكة للنوم ليلا، وطبق من حساء، إن كنتي تجيدين صنعه، والأهم.. العهد..
تطلعت نحوه طالبة التفسير، ليستطرد موضحا: عهدك بألا تشي بوجودي لجنود اليونان..
أكدت أنس في ثبات: لك كلمتي وعهدي.. لن يحدث ذلك أبدا..
همس نوري: اتفقنا.. والله شاهدنا..
همست أنس الوجود: والله شاهدنا..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩١٩..
كانت صرخات أنس الوجود تأتيه من جبل بعيد تقف هي على قمته، قمة مدببة كأنها سن مدبب لسكين حاد، لا تقو على الحركة وكأنها عالقة، تحمل فضل بين ذراعيها في حرص، وتتلفت حولها في تيه، وحيدة تماما لا مخلوق يغيثها، حتى بدأت تنادى اسمه.. سعد بيه.. أغثنا..
مد كفيه يحاول أن يلحق بها وولده، وقد بدأ ذاك الجبل يذوب كما قطعة الثلج، وما أن صرخت أنس في قوة تستحثه ليلحق بها حتى انتفض سعد صارخا باسمها في ذعر.. وقد تأكد له أنه ذاك الحلم الذي لم يفارقه منذ عدة ليال.. يستشعر أن في الأمر خبرا ما يُخفى عليه يخص زوجته وولده، لكن لا أحد يعلمه، لكن على الرغم من استعادته كامل وعيه، إلا أن صوت الصرخات باسمه ما زال يتردد صداها، هل بدأ في فقدان عقله!..
برهة وايقن أن هذه صرخات توحيد بالخارج، ففز مندفعا في زعر صوب أخته، التي وجدها قد وصلت لدرجات السلم الخارجي للدار، مذعورة من شيء ما كان يركض خلفها ربما، هيئتها مغبرة، وبلا ملس أو حبرة تسترها، تضع كفها أسفل بطنها البارز في ألم، وتلتقط أنفاسها في صعوبة..
هاله منظرها، فهرول صوبها، حاملا إياها نحو حجرتها، لكنها صرخت فيه: سيبني يا سعد وغيت ولدي، إلحج مختار من يد أبوه..
لم يكن سعد يستوعب شيئا مما تحكي، أو ربما تهزي، ما جعله يسأل وهو يضعها على فراشها في حرص: وهدان يجتل ولده اللي چاله بعد شوجة، خبر ايه يا توحيد! ده عينه اللي بينضر بها..
دفعت توحيد بسعد صارخة: إلحجه من يد وهدان وشفاعات.. غيت مختار يا سعد.. إنچده..
اندفع سعد كما الاعصار نحو الخارج، حين أيقن أن مختار في خطر حقيقي، أمرا مصباح بإحضار الطبيب لتوحيد، وقد اعتلى صهوة جواده في عجالة منطلقا نحو دار الحرانية، وما أن وصلها وحاول الخفير منعه من الدخول، حتى دفعه سعد جانبا، راكضا للداخل ينادي على وهدان تارة، وعلى مختار تارة أخرى.. لكن بلا جدوى.. ما جعله يعود من جديد نحو الخفير يستنطقه كي يقر بمكان وهدان، ليشير الخفير اخيرا صوب الدرب الذي رحل منه وهدان، ما جعل سعد يهرول نحو فرسه من جديد، مندفعا في الطريق القديم المفضي لذاك الركن المتطرف الذي تقبع فيه دار مكحلة الغجرية، والتي كانت يوما ما مضارب للحلب والغجر من أهلها، أيام جده، قبل أن يبتلوا بوجودهم الدائم فيما بينهم..