-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 18 - 4 - الجمعة 14/2/2025

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الثامن عشر

4

تم النشر الجمعة

14/2/2025



وصل سعد للدار، واندفع يبحث حولها بعينيه سريعا قبل أن تأتيه حركة من الداخل، جعلته يدفع الباب ليجد وهدان يقف على حافة هوة عميقة يبدو أنها حُفرت حديثا، في أعماقها اشياء متناثرة لم يستطع سعد تمييزها، وخاصة وكل تركيزه كان مسلطا على وهدان الذي كان يحمل ولده المذعور عاريا بكف واحدة، حاملا سكين حاد بكفه الآخر، يتمتم ببعض الاحاجي والهمسات الغير مفهومة، وقد شرع في وضع نصل السكين على رقبة ولده، الذي كان يصرخ في فزع حقيقي، ما دفع سعد للصراخ في وهدان، حتى يستفيق فلا يضر ولده.. لكن وهدان لم يكن ليسمع من الأساس.. كان مغيبا يستمع لذاك الصوت الآمر الذي لا يفارق ذهنه، يدفعه للجنون، وها هي فرصته للتخلص من ذاك الصوت المزعج بتنفيذ أوامره، وقتل ذاك الطفل، وليكن بعدها ما يكون، الأهم التخلص من أوجاع ذاك الصوت القاهر الذي يعذبه بلا رحمة.. 

بلا وعي اندفع سعد صوب وهدان ليجذب مختار من بين ذراعيه، لكن وهدان قاومه بشراسة غريبة، وكأنه يملك قوة عشر رجال، لكن سعد لم ييأس.. رغم الجرح الذي أصابه من ذاك النصل الحاد، وظل يصرخ بوهدان، محاولا أن يستحث روح الأب داخله، أمرا في هوادة: سيب مختار يا وهدان، حد يعمل كده فولده!.. مختار يا وهدان اللي كنت بتسترچاه من الدنيا، عطية رب العالمين.. 

صرخ وهدان ما أن جاء سعد على ذكر الله، ما دفع سعد ليعيد عليه الكلمات مرة بعد مرة، حتى هداه الله ليبدأ في تلاوة القرآن، ووهدان ينتفض صارخا، يزيد سعد في القراءة، ووهدان يزداد صراخا وألما حتى أنه كاد أن يسقط مختار داخل تلك الهوة الأشبه بفوهة بركان، لكن سعد كان الأسبق ليلحق بمختار أخيرا ويصبح بين ذراعي خاله، لكن لم يتوقف وهدان عن محاولة الوصول لولده من جديد: ياني يا هو يا سعد، أني بموت والنزناز اللي فراسي مش هيخرچ إلا بموته.. مش جادر يا سعد، عطيهولي.. اديني الواد يا سعد.. 

صرخ سعد في وهدان بصوت هادر: نچوم السما أجرب لك.. ولا هطول شعراية منه.. إلا توحيد وعيالها يا كلاب.. 

ضم سعد مختار تحت عباءته، مدثرا إياه، وهو يرتل القران لم يتوقف، فقد أدرك أن الآيات تحصنه ومختار من ذاك الوحش الذي يسكن روح وهدان، مندفعا لخارج دار مكحلة، ووهدان راكضا خلفه يحاول الحصول على مختار باستماتة.. وسعد يقرأ ويدفعه بعيدا وهو يتلوى وجعا.. حتى ركب سعد فرسه واندفع نحو داره بصحبة مختار الذي سكن مطمئنا بين ذراعي خاله، بعد أن أدرك أنه أصبح في مآمن أخيرا.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٩١.. 

تسللت أنس لداخل شقتها في حذر، فما كان عندها من قدرة على مجابهة اسئلة عن الحفل وما جرى فيها، فهي نفسها لا تعلم ما الذي جرى بالضبط! وما هذا العبث الذي شمل الدنيا حين نطق ذاك الأخرق بعرضه المخزي!.. 

سارت في خطوات متمهلة نحو حجرتها، وكادت أن تفقد وعيها ذعرا، حين هتفت حمدية الخادمة من خلفها، وهي تتبعها كظلها: مش عايزة حاجة يا ست أنس! 

انتفضت أنس متطلعة نحوها في حنق، سريعا ما ذاب حين أدركت حسن النوايا من جانب حمدية، هامسة بصوت خفيض: لا، شكرا.. روحي نامي يا حمدية.. 

هزت حمدية رأسها في طاعة، تاركة أنس تستكمل طريقها نحو حجرتها التي ما أن أغلقت بابها خلفها، وايقنت أنها أصبحت وحيدة، حتى تنهدت في راحة وهي تترك حقيبة يدها جانبا، ملقية جسدها على فراشها في حنق، متطلعة صوب نقطتها المفضلة بالسقف وهي تحاول استيعاب ما جرى.. 

نصير بيه يطلب يدها للزواج، وفي حضور صديقتها هاجر.. المرأة التي لم يحبه مخلوق بقدر محبتها له!. أي جنون هذا!.. كانت دوما ما تؤكد على هاجر أن نصير لا يشعر بمحبتها، ولا يكن لها مشاعر قد تدفعه للزواج بها يوما ما، لكن هاجر لم تكن تصدق، كانت تعيش على أمل واحد، أنه يوم ما سيدرك كم تهواه، وساعتها ستحظى بكل ما تمنت أن تعيشه في كنف ذاك الرجل الذي ذبحها الليلة بدم بارد، ودون أن يطرف له جفن.. هي نفسها وعلى الرغم من كل التحذيرات التي لطالما امطرت بها هاجر، من عدم جدوى مشاعرها تجاه نصير، لكنها أبدا لم تتوقع أن يكون غافلا لهذه الدرجة بتلك المرأة التي أوقفت حياتها رهنا فقط لاسعاده وتحقيق رغباته حتى قبل أن يرغبها... 

تنهدت من جديد، وقد أصبحت في ورطة كبيرة، فكيف يمكنها أن تواجه هاجر بعد ما حدثت تلك الكارثة!.. كيف يمكن لها أن تبرر طلب نصير!.. 

وكيف يمكن أن تعيد ما بينهما نقيا وصافيا كما كان دوما!.. وكيف تضع نصير هذا عند حده، والرد عليه بما يليق.. دون أن يضر ذلك بصديقتها وصاحبة عمرها.. إنها لمعضلة عويصة الحل.. هي كانت في غنى عنها، فهي تمتلك من المشاكل الكثير بالفعل، وما عاد لها طاقة لتحمل المزيد.. وأكثر هذه المشاكل هي هروبها.. نعم.. فقد اعترفت أن عودتها من الرسلانية لم تكن لسبب إلا الهرب.. 

الهرب من كل تلك الألغاز التي تطارها من الماضي، ومن كل ذاك الغموض الذي يكتنف الجميع حول قصص قديمة وحكايات ولت، لكن أثرها ما زال قابعا هناك بين خبايا الصدور، لا أحد يفصح فندرك مكمن العطب ونصلحه إن كان هناك من أمل في الاصلاح، وما من أحد يعفو ويسامح.. فيرتاح الجميع ويهنأ.. 

نهضت من موضعها متجهة نحو نافذة حجرتها دافعة بخصاصها، على الرغم من برودة الطقس في تلك الليلة من بداية العام الجديد، والذي هل بكل هذا الصخب والفوضى بكل تفاصيل حياتها، وخاصة ذاك الجانب المضطرب من روحها.. الذي ما عاد ينعم بالسكينة التي اعتادتها.. والذي اتفق مع عقلها ليكونا حزبا ضد راحة بالها.. خاصة حول شخص واحد، حبيب رسلان.. ذاك الرجل الذي كل ما اقتربت من مجال نفوذه، وتفاصيل دنياه، أدركت أن الانطباعات الأولى التي أخبرونا دوما أنها تدوم.. لا تنطبق بأي حال من الأحوال على حكمها عليه.. فقد اختلف ذاك الانطباع الأول الذي رسمته له بذهنها منذ اللقاء الأول.. كليا عن تلك الفكرة الثابتة التي أصبحت مرادفا لشخصه.. النزاهة والصدق.. 

وتعجبت أنه على الرغم من كل تلك الصعوبات والمسؤوليات التي يحمل على عاتقه، إلا أنه كان على استعداد لإرجاع حقها بكل شفافية، حتى ولو كان ذلك على حساب تحمله المزيد من الأعباء.. 

تطلعت أنس لتلك الأنوار التي تبرق حولها على مدد البصر، معبرة عن احتفال العالم بالعام الجديد.. لكنها شعرت باختناق.. فقد اعتادت عيناها ذاك البراح الاخضر الذي كان يحتضن ناظريها ما أن تدفع خصاص نافذتها هناك، فيسقط كل هم الدنيا مع تلك الأنفاس الأولى التي تصل لرئتيها، ويسقط كل سوء ظن تحمله بنفسها تجاه ذاك الرجل الذي ما أن يهل متجها نحو تعريشة العزلة خاصته، حتى يبتهج العالم، وترقص السحب مقبلة قمم الجبل الشامخ هناك، وتهطل أمطار السماحة والرضا على ثرى روحها الجدباء.. 

ما عاد حالك يسر يا أنس.. هكذا حدثت نفسها وقد سالت دموعها على خديها في قلة حيلة، فما عادت تدرك بكل هذا الاضطراب الذي يدثر دواخلها.. لأي سبب بالضبط تبكي!.. 


الصفحة التالية