-->

رواية جديدة طُياب الحبايب لرضوى جاويش الفصل 17 - 2 - الثلاثاء 11/2/2025

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل السابع عشر

2

تم النشر الثلاثاء

11/2/2025



أزمير.. ١٩١٩.. 

لم يكن الوضع مطمئنا، فقد انتشرت القوات اليونانية على طول أزمير وعرضها فارضة نفوذها، مؤكدة على حقها في حماية رعاياها، تلك الحجة الواهنة التي اتخذتها اليونان زريعة لاحتلال جزء من الأراضي العثمانية للأخذ بثأر قديم.. وبموافقة ضمنية من انجلترا وفرنسا، لمكافأة كل حلفائهم في الحرب العالمية الأولى التي انتهت منذ أشهر قليلة، لكن أثرها لا زال باقيا، والغنائم تقسم هنا وهناك.. 

هكذا أكد كاظم باشا، حين سألت أنس عن مدى خطورة الوضع الحالي، في محاولة لفهم الأوضاع وتقييمها، ولتقيس مدى جدية الأمر.. وهل هناك من أمل في عودتها للمحروسة عما قريب!.. لكن يبدو أن الأمر أكثر سوءا مما اعتقدت.. وخاصة حين بدأ اليونانيون في فرض سطوتهم على المدينة ومنشآتها بشكل بات معلنا وصريحا.. حتى أنهم بدأوا في إخراج أصحاب الدور والقصور التي يرى قادتهم أنها مناسبة لسكناهم وتصلح أن تكون مراكز لقيادة قواتهم، وما كانت تتوقع أن يأتي الدور على قصر والدها، ليكون ضمن المبان التي وقع الاختيار عليها ليكون مقر لأحد قادتهم.. 

توقف الجنود اليونان بعرباتهم أمام بوابة القصر، وتقدم أحد ضباطهم أمرا البواب العجوز بإبلاغ أصحاب القصر أن يغادروه خلال ساعة واحدة، حتى يتسنى لقائد القوات أن يتخذه مركزا لضبط الأمور في المدينة، وكذلك للسكنى.. 

نفذ البواب العجوز في حسرة، وما أن علم كاظم باشا بما يحدث، حتى أمر يلديز في صرامة: يلديز! خذي أنس الوجود وولدها ونازك للقبو بالأسفل، وهناك إذا ما ساءت الأمور، تعرفين كيف تغادرين القصر، دون أن تلتفن للخلف لحظة، فهمتي يلديز!.. 

هزت يلديز رأسها في طاعة، بينما اندفعت أنس الوجود هاتفة في ذعر: لن أغادر لأي مكان دونك، لن أفعل.. 

تطلع كاظم باشا لابنته في محبة، كانت نظرة من تلك النظرات التي ما رأتها تطل من عينيه إلا في حياة والدتها، لكم افتقدتها منه!.. وها هو كاظم باشا يظهر وجهه الحقيقي الذي غاب عنه لسنوات، باسما في ود: بل ستفعلين، لا من أجلك، بل من أجل حفيدنا فضل الله، أمانة زوجك، الذي كنت اتمنى لو التقيته، لكني على يقين، أنه رجل صالح، يستحق محبة ابنتنا الحبيبة، هيا أنس.. 

سالت دموع أنس في قهر، ليستطرد كاظم باشا: اخبري حفيدي الصغير ابن أو ابنة ابننا رستم أني وددت لو قابلته، لكنها الأقدار.. قبليه عني.. وعيشي سعيدة أنس، فأنتِ تستحقين السعادة.. 

شهقت أنس باكية في لوعة، رافضة الابتعاد، لكنه أمر يلديز في حزم: اذهبن، ولا تلتفتن لبرهة.. أنس وولدها أمانتك يلديز.. 

دمعت عينى يلديز في تأثر: لن أفرط بالأمانة كاظم باشا.. لن أفرط أبدا.. 

اندفع كاظم باشا لخارج القصر لملاقاة الجنود اليونيين، تاركا يلديز تجذب أنس وهي تحمل طفلها نحو فتحة القبو السرية، متطلعة حولها باحثة عن نازك، ليتأكد لها ظنها فيها دوما، فقد هربت ما أن علمت أن الأمور تسوء.. صدق من قال، أن الجيرزان أول ما يغادر السفينة التي توشك على الغرق.. 

أغلقت يلديز باب القبو خلفها، واندفعت بصحبة أنس الباكية وطفلها الذي تضمه لصدرها نحو تلك الخزينة الخشبية، دفعت يلديز أحد رفوفها لتتحرك الخزينة معلنة عن وجود مخرج ما، سارت به يلديز وأنس تتبعها بطول ذاك الممر السري، حتى إذا ما وصلتا لباب أخير، دفعت به يلديز بعد أن عالجته بمفتاح كان بحوزتها، لتصبحتا فجأة بزقاق ضيق، لا يعد سبيلا مزدحما بالمارة، خرجتا من ذاك الباب السري، لتصيرا بعد أن سارا لخارج الزقاق في عرض الشارع الرئيسي الذي تطل عليه واجهة قصرهم.. 

جذبت يلديز أنس في شدة، أمرة في صرامة لم تعتدها منها: هيا أنس، أوامر والدك أن لا نلتفت لبرهة، ما حاجتنا للوقوف هنا، قد يرانا أحدهم ويوشي بنا!.. 

أكدت أنس وهي تحكم غطاء رأسها، تحاول أن تخفي ملامحها، ساترة هويتها عن الأعين، مؤكدة في همس باكِ: أرغب في الاطمئنان على والدنا أمي.. لطفا.. 

لم تكمل يلديز تحذيرها، حين جاءهما صوت رصاصة انطلقت من فوهة بندقية أحد الجنود اليونانيين، ليصرخ الجمع المتجمهر من أبناء أزمير احتجاجا على ما يجري، بعد أن سقط كاظم باشا مدرجا بدمائه حين قاوم الجنود رغبة في عدم تسليم قصره لقيادتهم التي لا يعترف بها، لتعاود الطلقات النارية انطلاقها في الهواء تهديدا من الجنود اليونان بعدم الاقتراب، وقد أدركت يلديز ما حدث، فجذبت أنس الوجود في عزم، وأنس تبكي والدها في قهر، بل إنهما بدأتا في الركض، حين عاودت الطلقات انطلاقها حين قررت الجماهير المتجمهرة الاعتراض بحق على أفعال اليونانيين.. وقتلهم واحد من أهم رجال الحكم في بلادهم.. وقد بدأوا يندفعون نحو موضعهما في صخب وعشوائية، لتعم الفوضى وتعلو الصرخات.. 

وكل منهما تحاول التشبث بيد الآخرى في استماتة، لا تريد أن تفلتها، لكن في ظل ذاك الطوفان الجارف من البشر المندفعين بهذا الشكل الهادر، تفرقت الأيدي، وتاهت الأجسام، وضلت الأقدام موضعها، لكن عينى أنس ظلت متعلقة بمحيا يلديز التي ابتعدت بعض الشيء، وما زال الجنود اليونانيين يتعقبون المعارضين ببنادقهم، ورصاصهم الحي.. ليغادوا أخيرا ذلك الحي، بعد أن أسقطت بنادقهم العديد من الضحايا.. 

سقطت يلديز على قارعة أحد الطرق، واندفعت أنس صوبها في ذعر: أمي!. هل أنت بخير!

ابتسمت يلديز مؤكدة في وهن: لا، لست بخير يا ابنتي، اذهبي.. اهربي أنس، إنهم قادمون من جديد، هيا، خذي.. ذاك مفتاح داري.. تعرفين موضعه، اذهبي حالا، واحمي ولدك أمانة زوجك سعدي بيه.. 

هتفت أنس تطالبها في لهفة: لن أدخل الدار دونك، هيا، انهضي وسنرحل سويا.. 

أكدت يلديز وهي تلتقط أنفاسها في تتابع محموم: نعم، سأغادر، أنا حقا راحلة فقلبي ضعيف منذ سنوات أنس، وما عاد يحتمل أوجاع الدنيا أكثر،  لكن تتعرفين!.. أجمل ما كان في الرحلة هو نهايتها، وأنا أموت كما دعوت الله في صلواتي، بين ذراعيكِ، ووجهك هو آخر وجه أطالع محياه، وكذلك ولدك الغالي.. 

شهقت أنس باكية في قهر، لترفع يلديز كفها رابتة على وجه أنس باسمة قبل أن تشهق لبرهة، دافعة من صدرها النفس الأخير الفاصل بين الحياة والموت، قبل أن يسكن جسدها للأبد..

كادت أنس أن تصرخ وجعا لفقد مربيتها، وأمها الثانية لولا أن تناهى لمسامعها ضربات أقدام لأحذية ميري قادمة من مطلع الطريق، ما دفعها لتتهض مهرولة تحاول أن تتخذ سبيلا آخر بعيدا عن مسار الجنود في محاولة لتذكر ذاك الطريق الذي سارت فيه يوما لزيارة دار يلديز منذ سنوات بعيدة.. 


الصفحة التالية