رواية جديدة طُياب الحبايب لرضوى جاويش الفصل 17 - 3 - الثلاثاء 11/2/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل السابع عشر
3
تم النشر الثلاثاء
11/2/2025
الرسلانية.. ١٩١٩.. بيت الحرانية..
اندفعت فتنة حاملة طفها لداخل دار أخيها، باحثة عن شفاعات، التي ما أن طالعتها حتى جذبتها لداخل حجرتها، متسائلة في حنق: إنتي بتعملي ايه تاني يا شفاعات! مش بكفاياكي بجى!..
هتفت شفاعات مدعية عدم الفهم: بكفاياني إيه يا فُتنة! هو إنتي داخلة عليا تجولي يا شر اشطر! أني مدهولة فحالي لا عملت ولا سويت..
أكدت فتنة: أخوي وهدان مش على بعضه، وما حد له فالملاعيب دي إلا انتي.. ايه عملتي تاني!
أكدت شفاعات في ثقة: والله تهماني ظلم، ما الخالة مكحلة الله يرحمها، راحت وهي اللي كنت بتكل عليها، هروح لمين وفين.. معدش يا غالية..
تطلعت نحوها فتنة في شك، لا تصدق حرفا مما تدعي، لكنها تذكرت أمرا ما، فسألت متعجلة: لاه، خرچتي يوم ما بيّت عندكم، كنتي متسربعة ومش على بعضك، غورتي فين!
أكدت شفاعات في مسكنة: هروح فين بس! ما أني جلت لك، معدش فيه..
ألحت فتنة فالسؤال: طب كنتي فين! الغيبة اللي غبيتها دي كنتي مع مين! ولما رچعتي كنتي مبسوطة ورايجة، ليه!
هتفت شفاعات متعجبة: أني! ميتا ده حصل!.. تصدجي ما فاكرة! هو أني مخي دفتر..
هتفت فتنة في حنق: بجولك ايه يا شفاعات، والله لو چرا حاچة لوهدان أخوي من تحت راسك، ما هيكفيني موتك بيدي..
هتفت شفاعات متعجبة: وهو أني لو عملت حاچة هعمل لوهدان ليه! طب أعمل للمسدوحة اللي فوج دي واللي كنها هي اللي عملاله عمل تخليه خاتم فصباعها.. لكن چوزي أبو عيالي، ربنا يحفظهولي يا رب..
لم تنطق فتنة بكلمة، فهي غير قادرة على إثبات ما ادعته توحيد حين قدمت إليها خوفا على وهدان ورغبة في حمايته، وقد حكت لها بعضا مما كان يحدث مؤكدة عليها أن تتدخل في محاولة للسيطرة على الأمور، وإعادة وهدان إلى طبيعته.. حتى لو كان مقابل ذلك، التخلي عن حياتها مع وهدان والعودة لدار أبيها.. وكان ذلك آخر ورقة في جعبة فتنة، والتي هتفت خوفا على أخيها من هذه الحية، التي لم تصدق حرفا مما قالت: بجولك يا شفاعات، من الآخر كده، ابعدي عن وهدان ولكِ عندي أخليه يطلج توحيد ويرچعها بيت أبوها!.. ها.. جولتي ايه!..
همت شفاعات بالرد، لكن فتنة قاطعتها أمرة: مترديش، فكري بس، ولو ده اللي يريحك ويرچع وهدان لحاله، ليكي عليا اطلجها بالتلاتة وملهاش رچعة على هنا تاني..
انصرفت فتنة في عجالة، لتضع شفاعات بردتها متجهة للخارج في هرولة صوب بيت الخالة مكحلة المتطرف، وما أن وصلته حتى دفعت الباب في حذر، لتجد صاحب ذاك الصوت الذي باتت تحفظ وكأنه تغلغل بأعماقها صاحبه موجود بالداخل يولي لها ظهره كالعادة، دخلت في خطوات أكثر ثباتا من المرة السابقة، هاتفة في تعجب: أني چاية ومعرفش إنك هنا!.. عرفت كيف إني چيالك!
قهقه صاحب الصوت العميق الذي يحمل صدى خاص به وحده، مؤكدا: أنا مش محتاج أعرف عنك أي حاجة، عشان أنا أصلا عارف عنك كل حاجة، وعارف اللي بتفكري فيه، وعارف كمان انتي جاية تقابليني النهاردة ليه!..
اقتربت منه هاتفة في تردد: وهدان حاله بجي عدم، مش معانا فالدنيا، أني ريداه، مش رايدة له يتأذى، هي توحيد وولدها واللي فبطنها، يغوروا.. لكن وهدان چوزي وأبو بناتي لاه.. وأني..
هتف الصوت في حنق: إنتي تنفذي اللي بقولك عليه وبس..
هتفت شفاعات في أحرف متقطعة: بس أصلك مش هو ده اللي اتفجنا عليه..
هتف صاحب الصوت في ضيق: أنتي تقولي اللي انتي عايزاه، وأنا أعمل اللي شايف فيه الصالح..
همست شفاعات مترددة: لكن الراچل كده هيضيع مني!..
أكد صاحب الصوت وهو ما يزال موليا ظهره لها: لا، مش هيروح، إحنا هنعمل اللي إنتي عايزاه، بس بطريقتي.. هو اللي نجمه خفيف، ومش بيستحمل، راجل ايه ده!.. وبتحبيه على ايه من أصله!..
همست شفاعات في دلال: الجلب وما يريد..
استدار صاحب الصوت وقد اتخذ هيئة وهدان، لتتطلع شفاعات نحوه في عشق، ليدنو منها هامسا: وحبيب القلب قدامك أهو، بعيدة ليه!
اندفعت شفاعات نحو صاحب الصوت المتمثل في هيئة وهدان، هامسة: أنت مانعه ليه يجرب مني! أني عايزة چوزي، حتى وهو شارد عن الدنيا، لساته نافر مني، ليه طيب!
أكد صاحب الصوت في رزانة: هيجيلك راكع ملهوف، زي ما أنا ملهوف عليكي كده، بس بعد ما يتم المراد.. هيفوق من كل اللي هو فيه ده، ومش هايبقى شايف إلا انتي..
واستطرد وهو يضمها لصدره في قوة: بس المهم دلوقت، إنك متبقيش شايفة إلا أنا.. أنا وبس، وزي ما قلت لك، الطاعة هي مفتاح الأمنيات..
هزت شفاعات رأسها مؤكدة أنها وعت الدرس، ودارت رأسها بفعل الأبخرة التي لا يخلو منها المكان، والتي وياللعجب، لا تخرج أبدا عن حيز الجدران الأربعة المتهالكة، ولا تتسرب معلنة عن وجود أحد بداخل الدار، بل تتصاعد حتى ينتهي بها الأمر لتتحلل بالأعلى كأنها لم تكن..
همست شفاعات في غنج: وأني كلي طايعة وملك لك..
اعتصرها طيف وهدان بين ذراعيه في تملك، هامسا في نبرة تقطر شبقا: وانتي كل اللي تتمنيه هيكون.. طالما هتفضلي ع العهد..
تحول المكان لكرة أرجوانية، وباتت شفاعات في عالم آخر، تبث لذاك الغريب المجهول عشقها رغبة في نيل رضاه، ليكون مصباح علاء الدين الذي ينفذ رغباتها..
❈-❈-❈
أزمير ١٩١٩..
لا تعرف كم ظلت على حالها من التيه بالطرقات والأزقة حتى وصلت لمبتغاها أخيرا بعد الكثير من الاسئلة والتفسيرات، تنهدت في راحة ما أن وضعت مفتاح يلديز بالباب وادارته في سلاسة فانفتح في يسر..
وطأت أقدامها البيت الصغير المكون من طابق واحد، نظيف به بعض الإمكانات البسيطة التي تكفيها الحاجة، حتى تعرف كيف ستدبر أمورها الفترة القادمة التي لا تعرف إلى متى قد تطول..
جلست في انهاك وقد راح ولدها في نوم عميق، ما دفعها لوضعه جانبا على أحد الأرائك حتى يتسنى لها البحث عن مصباح زيتي لتضيئه فيعم النور المكان المعتم لحد كبير، فها قد اقتربت الشمس من المغيب، والبيت في الأساس على أطراف أحد الحارات المتطرفة، القريبة من حدود الغابة المظلومة المطل على أشجارها الضخمة الجزء الخلفي منه.. وجدت المصباح الزيتي أخيرا، وحمدت ربها أن به من الزيت ما يكفيها لعدة أيام.. أشعلت فتيل المصباح وانتشر الضوء.. فلاح لها ما كانت قد نسيته من معالم ذاك البيت الذي لم تزره إلا مرة وحيدة، وبات البيت الذي كان فيما مضى كبيرا بالنسبة لها، مجرد كوخ صغير الآن.. مكون من حجرة نوم واحدة بداخلها فراش واحد نظيف ومرتب، ومطبخ مفتوح على قلب البيت به بعض الأدوات التي لا تدرك كيفية استخدام بعضها.. وأخيرا وجدت طبق من الفاكهة موضوع على الطاولة التي تتوسط البيت، والتي لم تتنبه لوجودها في البداية.. مدت كفها تتناول إحدى الثمار التي اكلتها بلا شهية، رغبة فقط في الحصول على بعض الطاقة، والمزيد من إدرار اللبن لفضل، الذي تململ قليلا في نومه قبل أن يشرع في البكاء، مطالبا بحصته في الطعام..
ضمته أنس لصدرها، وبدأت في هدهدته، تحاول أن تستوعب كل الأحداث التي وقعت منذ الصباح، وما زال عقلها لا يقدر على تصديقها.. منكرا إياها جملة وتفصيلا..
أنهت إرضاع الصغير، وضعته جوارها مدثرة إياه بالفراش جيدا، فقد كان الجو باردا بحق، وما من إمكانية هناك لإشعال المدفئة التي لا تعلم أين يكون حطبها، ولا كيفية اشعالها من الأساس..
دست نفسها في محاولة لبث الطمأنينة لروحها ولو كذبا، ينكر وعيها أن والدها قد فارق الحياة برصاص الأوغاد الذين يرتعون بشوارع أزمير، ولا تحاول التمهيد لعقلها لتصديق رحيل يلديز المباغت بين ذراعيها.. تكومت على نفسها في قهر، وتذكرت فقط أنها اللحظة بين ذراعي سعد، لينبعث دفء خفي ساريا بجسدها، وهي يخيل إليها، أنها تنعم بذاك الأمان الذي افتقدته منذ أن رحلت عنه..
راحت في سبات عميق، وهي تكرر اسم سعد في محاولة لاستدعاء ذاك الأمن المفتقد..
ساعات مرت وهي في عالم آخر، غائبة عن الدنيا، رحمة من رب العالمين دثرها النعاس مبعدا اياها عن كل الأحداث الدامية التي صارت، تقلبت قلقة تحكم الغطاء حول جسد فضل، الذي ما ايقظها لينل قسطا آخر من غذائه، على غير عادته..
تطلعت حولها في تيه لبرهة، حتى أدركت أين تكون، متوقعة أن الوقت قد ناهز منتصف الليل تقريبا، حاولت أن تخلد للنوم مجددا، لكن ذاك الصوت الذي جاءها من الخارج، جعل كل خلية من خلاياها تستفز ذعرا، صوت صفير العسكر، وذاك الصخب الدائر عند مدخل الحارة، علا صوته وبات أقرب.. وعلى الرغم مما يجري بالخارج، كان صوت الحركة القادمة من خلفية الكوخ الذي تسكنه، تحفز حواسها لتزود عن نفسها وولدها..