-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 25 - الثلاثاء 15/4/2025

 

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش



الفصل الخامس والعشرون


تم النشر الثلاثاء 

15/4/2025

 عطر خطر.. 

الرسلانية ١٩٢٣..

رآها تتقدم نحوه، فانتفض في سعادة لمرآها، فقد كانت شحيحة الوصل في المرات السابقة، وكان كل ما يصله منها هو صوت باكِ وأنات متوجعة، لكن ها هي تجود عليه بطلتها التي يشتاقها كشوق العابد لبشارة القبول، متقدمة في خطوات خجلى ووجيب قلبه يتضاعف كما هو حاله في لحظات لقياها، مدت كفها نحو تعريشة العنب، واقتطفت عنقود صغير لا يحمل إلا سبع حبات، منحته إياه مع ابتسامة أذابت بدمه الشوق المصفى، وطالبته في نظرة ساحرة أن يتناول الحبات واحدة تلو الآخرى.. ذاق الحبة الأولى.. كانت مرة أشبه بالحنظل، وكاد أن يعاف الحبات، لكنها استحثته على الاستمرار، ما دفعه لينفذ وهو مصلوب النظرة على قسمات ذاك الوجه النوراني الذي يعشق.. أتى على الحبات السبع.. وما أن شرع في الحديث إليها حتى بدأت تتلاشى صورتها تدريجيا.. بحث عنها شرقا و غربا .. لم يكن لها أثرا.. لكنه وجد في كفه مفتاح جميل التكوين.. قابع في احضان كفه.. فاستيقظ وهو ينادي باسمها.. 

تطلع سعد حوله، ليتأكد له أنها رؤيا.. لعلها مبشرة عما هو قادم.. كان قد قرر السفر للقاهرة لبعض الأعمال، قبل موعد عقد قران توحيد ووهدان.. وعليه أن ينهض حتى يلحق بالقطار.. لكن قبل ذلك.. عليه المرور على الشيخ رضا.. لعله يحمل له بشارة تعينه على تحمل ما لا يمكن تحمله من تبعات الشوق، وهجمات الحنين.. التي فاضت حتى اغرقته وجعا وسهدا.. فقد استبشر خيرا حين علم من رستم باشا، أن الحرب قد وضعت أوزارها هناك.. حيث غابت غاليته وولدهما، وربما في الإمكان قريبا السفر لإسطنبول والبحث عن أنس الوجود وفضل الله طفلهما.. 

نهض سعد متجها نحو المسجد، لصلاة الفجر وملاقاة الشيخ رضا، الذي جلس إليه بعد إنتهاء الصلاة متسائلا عن تفسير لرؤياه، فتبسم الشيخ في محبة، مؤكدا في حماس: هانت يا سعد بيه، بعد ٧ خطوات هيجيك الفرج.. يمكن بعد ٧ أيام.. نقول يا رب.. 

سأل سعد في تعجب: طب وليه كان العنب حصروم، مر علجم!.. 

ابتسم الشيخ رضا: مر البعاد، وده اللي باجي.. وأنت مكنتش جادر عليه.. بس الهانم في الرؤية كانت بتصبرك.. 

هتف سعد متعجبا: الباجي من ايه!.. 

أكد الشيخ: باجي من الزمن.. من زمن البعد والغيبة.. ربنا يقرب البعيد.. ويجمع الشمل عن قريب.. 

همس سعد في وجل: يا رب.. 

ساد الصمت، وظهر جليا أن الشيخ رضا نظراته تحمل حزنا على غير العادة، وكأنه يستر وجعا لا يبوح به، ما جعل سعد يسأل بلا مواربة: ايه فيك يا شيخ رضا!.. جلبي بيجول لي إن في حاچة مش تمام أنت مخبيها عني!.. 

تنهد رضا مقرا: حرمنا تعبانة أوي يا سعد بيه.. لليلة التانية اهي مفيش حاچة مريحاها.. 

انتفض سعد في عزم، معاتبا في حنو: بجي كده يا شيخ رضا، ومتجولش، ياچيها احسن حكيم، هِم جوام على دارك، خليك چارها، وأني هشيع الواد مصباح يچيب الحكيم ونحصلك.. وإن شاء الله خير.. 

هتف الشيخ رضا: بس أنت مش كنت على سفر!.. روح شوف مصالحك.. 

هتف سعد مقسما: والله ما يحصل، ياچي الحكيم، ونطمنوا على الچماعة.. والسفر يتأچل.. جوم حلاً.. دي لوحدها وغريبة مفيش حد چارها.. خليك چنبها.. 

نهض الشيخ رضا، هامسا في امتنان: تسلم وتعيش يا سعد بيه.. ربنا ما يوجع قلبك على عزيز.. ويرد البعيد يا رب.  

همس سعد مؤمنا، واندفع كلاهما خارج المسجد كل في طريق مختلف.. 

❈-❈-❈

إسكندرية ١٩٢٣.. 

تطلعت نحو الشاطيء الذي يقترب على مرمى البصر، كانت زغاريد طيور النورس فوق الباخرة، تستقبل قدومهما لموطن الفؤاد في حبور، دمعت عينى أنس الوجود فرحا وهو تحمل فضل الله، مشيرة له نحو الميناء في نبرة متحشرجة تأثرا: أنظر يا فضل الله، إنها الإسكندرية.. لقد وصلنا.. هنا بر الأمان الحقيقي.. 

سالت دمعة على خدها، هامسة في شوق: آه يا شوق قلبي للقياك يا سعدي وسعادتي.. 

مسحت دمعاتها وهي تهبط أرض الميناء بصحبة طفلها، توقفت لبرهة تتطلع حولها، إلى تلك البقعة البعيدة التي وقف بها سعد يوم وداعها يلوح لها حتى اختفت الباخرة التي كانت تقلها لإسطنبول.. ابتسمت وسحبت برئتيها هواء نقي زفرته في رقة وهي تهمس لنفسها، الآن فقط.. أشعر أني عدت للحياة.. وكأن الله قد كتب لي عمرا جديدا.. 

خرجت توقف إحدى سيارات الأجرة.. متجهة إلى حي سان ستيفانو، حيث فيلا أخيها رستم، وتمنت من صميم قلبها أن تجده هناك، لكن للأسف.. لم يكن موجود وتعرف عليها كبير الخدم مستقبلا إياها في سعادة غامرة، مقدما لها ولولدها كل سبل الراحة حتى أمر في صباح اليوم التالي بخروج عربة من أجل توصيلها للقاهرة.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٢٣.. 

كان سعد يقف على أعتاب دار الشيخ رضا.. رافضا الدخول.. مستأذنا للطبيب حين جاء به مصباح على عجل، أمرا رضا في مودة، حين أصر عليه الدخول والجلوس: يا راچل روح مع الحكيم.. ربنا يطمنك عليها.. 

دخل رضا مع الحكيم الذي غاب لبعض الوقت.. حتى خرج مؤكدا مع ابتسامة: حرمكم زي الفل، وده عادي فحالتها، ربنا يقومها بالسلامة.. 

صمت سعد ولم يعقب، بينما هتف رضا في أحرف متقطعة: مش فاهم يا حضرة الباشحكيم، هي فيها ايه!.. أصل بقالها كام يوم ع ده الحال!.. 

اتسعت ابتسامة الطبيب معلنا: فيها إن حرمكم حامل.. ربنا يتم حملها على خير.. 

هتف الشيخ رضا غير مصدق: حبلى! والنبي صحيح!.. 

وتطلع لسعد في ذهول: بيقول حبلى يا سعد بيه! بعد السنين دي كلها!.. 

دمعت عينى سعد مندفعا يحتضن رضا في سعادة، هاتفا في فرحة: مبارك يا شيخ رضا، هتچيب لنا شيخ صغير.. ربنا يمتعك بشوفته يا رب.. 

أطلق مصباح بعض الأعيرة النارية ابتهاجا بالخبر، بأمر من سعد، وجمع الطبيب أدواته، ليصطحبه مصباح لخارج النجع، ليهتف سعد وهو يربت على كتف رضا في محبة خالصة: والله باين الفرح هل علينا بحج.. ربنا يكمله على خير.. ونزود كمان عچل ندبحه كرامة للشيخ الصغير اللي چاي، مع عچول فرح وهدان وتوحيد .. خلي الغلابة تفرح وتاكل ويدعو لحريمكم ربنا يخلصها على خير.. 

هتف رضا بصوت متحشرج في فرحة: اللهم آمين.. تسلم يا سعد بيه، والله چمايلك كترت علينا.. 

هتف سعد في ود: متجولش كده! چمايل ايه دي اللي بين الأخوات وبعضيها!.. ياللاه خش لمرتك.. ربنا يسعدكم.. أما اروح أني اشوف اللي وراي.. 

اندفع سعد خارج دار الشيخ رضا، ودعوات رضا في أعقابه.. دعوات من قلب صادق المحبة.. وافقت ساعة استجابة.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٢٣.. 

كان الحراك السياسي بالقاهرة على أشده، فمع مولد دستور ٢٣.. وبزوغ شمس الحياة النيابية في مصر ومولد حزب الوفد بقيادة سعد زغلول باشا.. قامت المظاهرات من هنا وهناك.. مطالبين بتنفيذ بنود الدستور الوليد وتواجد فعلي لمجلسي نواب وشيوخ يكون أعضاءه صوتا للشعب في مطالبته بالعدالة والاستقلال.. 

وصلت العربة التي تقل أنس الوجود وطفلها من الإسكندرية بصعوبة.. فقد كان سائقها يتجنب الشوارع والطرق التي تزدحم بالمظاهرات الطلابية.. وتوقفت أمام قصر أخيها رستم باشا.. حتى إذا ما دخلت تجلس في انتظار أخيها وألف زوجته.. رافضة أن تعطي للخادمة التي لم تتعرف عليها.. اسما لصاحبة الرغبة في المقابلة.. لتهل ألفت وهي تهبط الدرج في تؤدة، فقد كانت بطنها تستدير مؤكدة انتظارها حدثا سعيدا.. والتي ما أن اقتربت من وضع أنس الوجود وتبينت ملامحها من خلف نقابها التلي.. إلا وصرخت في فرحة، مندفعة على قدر استطاعتها، جاذبة أنس لأحضانها، هاتفة وهي تشهق باكية: معقول! مش مصدقة عنايا!.. أنا قلت لرستم هترجع.. والله لترجع.. وربنا مخيبش ظننا ولا رجانا.. يا فرحتك يا سعد بيه.. 

مسحت أنس الوجود دموعها، بعد أن تركت احضان ألفت، التي ما تزل تتطلع نحو أخت زوجها وهي غير مصدقة وجودها قبالتها، لتبتسم أنس ما أن وعت حمل ألفت: مبارك يا ألفت، يا رب تقومي بالسلامة، أكيد رستم فرحان جدا، كان منتظر الحدث السعيد ده من زمان.. 

اتسعت ابتسامة ألفت مؤكدة: ده الحمل التاني يا أنس، ربنا رزقنا ببهجت بعد سفرك بشهور قليلة.. 

هتفت أنس في سعادة: حقيقي!..طب وهو فين بهجت، وفين رستم! هو مش موجود!.. 

نفت ألفت: لا للأسف مسافر بره.. وهيرجع خلال أسبوع.. ده كان هيطير من الفرحة لو كان شافك داخلة عليه دلوقت.. 

سألت أنس الوجود في وجل: وسعد بيه هنا بالمحروسة!.. 

أكدت ألفت: لا، بقاله فترة منزلش، آه يا أنس لو تشوفي حاله في غيابك إنتي وفضل!.. آخر مرة شفته.. بكيت مع رستم على حاله اللي يقطع القلب.. كان زاهد فالدنيا كلها.. لحد ما رستم حاول كتير يرجعه للأعمال والتجارة تاني عشان ميفضلش يفكر فيكم الوقت بطوله.. كان كل شوية يسأل.. مفيش أي أخبار عن الحرب هناك!.. لحد ما سمع أن الحرب وقفت، وكان واخد بعضه ومسافر على هناك.. لولا رستم اقنعه إن الدنيا لسه مستقرتش خصوصا في أزمير.. وإن أول الأحوال ما تتحسن، هيكون رجع من سفريته ويسافروا سوا.. عشان يدور عليكي.. 

هزت أنس الوجود رأسها تفهما، وهي تمسح دموعها، بينما هتفت ألفت في محبة نحو فضل الله الذي كان متعلقا بأمه في رهبة: كبرت يا فضل الله، بقيت راجل ما شاء الله.. 

بهجت في نفس سنه تقريبا، هعرفك عليه.. انتوا هتبقوا صحاب.. مش كده!.. 

صمت فضل ولم يعقب، لتسأل ألفت باسمة: شكله مش فاهمني يا أنس! هو مش بيعرف عربي، صح! 

أكدت أنس باسمة: لا، يعرف لأني كنت حريصة أكلمه عربي طول ما إحنا سوا لوحدنا، لكن طبعا التركي كان مستخدم أكتر.. 

هتفت ألفت باسمة نحو فضل تحاول اشعاره بالطمأنينة: بكرة يتكلم عربي لبلب، ومحدش يقدر يسكته كمان.. 

ونظرت نحو أنس الوجود باسمة في شجن: واضح إنك شوفتي كتير في السنين اللي فاتت يا أنس!.. قومي معايا.. لازم ترتاحي شوية.. إنتي جاية من سفر لسفر.. 

هتفت أنس مطالبة: عايزة أسافر لسعد بيه.. 

ابتسمت ألفت في مرح: عارفة طبعا.. بس بذمتك هتسافري كده!.. لأ.. لازم يشوفك في أبهى صورة.. ياللاه على فوق.. وبإذن الله من بكرة الصبح، هخلي خادم يرافقك لحد باب بيتك في الرسلانية.. متقلقيش.. 

وصلت أنس لحجرتها، التي كانت مخصصة لها من قبل زواجها، لتهتف ألفت مؤكدة: اوضتك زي ما هي، حتى لما ربنا رزقنا ببهجت، قلنا اوضتك هتفضل بتاعتك.. 

هتفت أنس في امتنان: ممتنة لكم يا ألفت.. رجاء تأكدي على سفري.. 

ابتسمت ألفت متفهمة: طبعا.. ربنا يجمع بينكم على خير يا رب.. وأنا لو مكنش الحمل كنت جيت معاكي وصلتك بنفسي.. 

ربتت أنس على كتف ألفت في محبة، لتتركها ألفت لترتاح، وتأمر بتحضير العشاء.. لتقف أنس متطلعة للخارج من نافذة حجرتها، لنتذكر كيف كانت تقف هنا بنفس الموضع منذ سنوات تطل على محيا سعد وهو يغادر القصر لعربته، وكيف ألقت له منديلها الحريري ما أن أدركت أنها ستكون له.. هل ما زال يحتفظ بالمنديل.. وهل ما زال يحفظ ما بين صاحبته وبين قلبه من غرام!.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٢٣.. 

دخلت عربتها حدود الرسلانية، وسارت بطول ذاك الدرب الترابي الضيق، وتذكرت كيف سارت عربة زفافها بنفس الطريق منذ سنوات خلت، وكأنها تبصرها اللحظة رؤيا العين، وتسمع طبول الفرح التي استقبلها بها سعد بيه.. لحظة!.. هذه بالفعل طبول فرح وعزف المزامير.. ما الذي يجري!.. 

كان الطريق قد بدأ يزدحم بالمارة، وكأنهم على اتفاق للذهاب إلى بيت رسلان، نفس طريقها.. طرقت على داخل العربة من ناحية السائق، الذي تنبه في أدب، لتسأل مستفسرة:  هناك أمر يحدث! أسأل أحد المارة.. من فضلك.. 

سأل السائق، ثم عاد إليها مجيبا أنس الوجود: بيقولوا في فرح هناك في بيت الرسلانية!.. 

لم تعقب بحرف، فرح في بيت الرسلانية!.. من يتزوج!.. هل يكون سعد قد فقد الأمل في عودتي.. وفكر في الزواج بآخرى!.. لا.. ليس سعد.. سعد بيه لا يفعل .. أنا أعلم أنه بانتظاري مثلما انتظرت هذه اللحظة لسنوات طويلة ذقت فيها الأمرين من أجل العودة لأحضانه.. كانت الأفكار تتقاذفها حين طرق سائق العربة الفاصل بينهما مجددا، يستأذن قائلا: الطريق زحمة بالناس والركايب يا هانم.. ومفيش أمل كده نوصل.. بس في طريق فرعي ممكن ناخده ونبعد عن الزحمة دي.. ايه رأي سعادتك!.. 

هزت أنس رأسها المكتظ بالخواطر في إيجاب، وحين أدركت أن السائق لا يرها، هتفت مؤكدة: تمام، خد الطريق الفرعي بعيد عن الزحام.. 

اتخذ السائق الطريق الفرعي، لتجد أنس الوجود نفسها أمام أرض البركة، نعم.. إنها هي.. لكن.. ما هذه السراي الرائعة الجمال التي تقف في قلبها شامخة بهذا الشكل المهيب!.. كانت تتطلع نحو السراي وبهاءها بهذه الأنوار المشعلة على أطراف سورها الحديدي المتوسط الارتفاع.. 

توقف السائق عند مدخل السراي، وعلى بوابتها وجد ذاك الرجل الأسمر، سأله عن كيفية الوصول لبيت سعد بيه رسلان.. 

سأل الرجل الأسمر: طالب مين هناك!.. 

طلت أنس الوجود من خلف استار العربة، تتطلع إلى صاحب ذاك الصوت المألوف لاسماعها، لتزيح الستار هاتفة في محبة: أنا من يسأل يا مصباح.. 

انتفض مصباح بموضعه صارخا: الهانم!.. أنس الوجود هانم!.. يا فرحتك يا سعد بيه!.. الفرح هايبجى فرحين!.. 

فتح مصباح باب العربة، وعيناه مغرورقة بالدموع، مطالبا أنس الوجود في تأدب: اتفضلي يا هانم، اتفضلي.. ده بيتك ومطرحك.. 

ترجلت أنس الوجود من العربة في شك متسائلة: بيتي!.. ودار الرسلانية.. من يعيش فيها!.. وفرح من الليلة مصباح!.. 

هتف مصباح وهو يسبق أنس الوجود مهللا: فرح ست توحيد على سي وهدان الحراني.. ما هم رچعوا لبعض.. 

سارت أنس الوجود خطوات وتوقفت متسائلة: رجعوا لبعض!.. هو واضح إن حصل حاجات كتير وأنا غايبة!.. 

أكد مصباح في عجالة: حاچات يامااا يا هانم.. أني لازما اچري ابلغ سعد بيه .. 

أرسل مصباح خادمة كانت تعرفها من قبل سفرها ليسهل لها التعامل معها، والتي بكت في فرحة مطلقة زغرودة مدوية بقلب السراي، حين لاحت طلت أنس الوجود.. 

تمنع فضل قليلا في الذهاب مع الخادمة، مفضلا المكوث مع أمه.. فقد كان قد ركن للنوم في الطريق للنجع، لكن أنس طمأنته ليذهب برفقتها، فحملته الخادمة لحجرته التي أعدها سعد لولده.. بينما أشارت لأنس على الغرفة التي أعدها سعد لنفسه.. ولم تطأها قدماه ولو لمرة واحدة حتى.. 

دفعت الباب في هوادة، لتجد حجرة لا تقل فخامة ورقة عن حجرات القصور التي وطأتها قدماها طوال حياتها.. توقفت في منتصف الحجرة لبرهة قبل أن تقترب من المرآة بأحد الأركان.. وتلك الطاولة التي يركن عليها بعض زجاجات العطر.. والتي تعجبت أنها نفس الأنواع التي تفصلها.. تطلعت لنفسها بالمرآة.. تراها لم تتغير في نظره!. تنهدت في وجد لا تصدق أنها أخيرا ها هنا بقلب دارها.. وأن سعد قد يهل عليها ما بين لحظة وآخرى.. تضاعفت خفقات فؤادها في جنون.. فرفعت كفها لنضعها فوق موضع فؤادها الصاخب، لعله يستكين ويهدأ.. لكن ما أن بدأت خفقاته في التباطؤ، إلا وارتفعت دقات قلبها على بوابات صدرها حد اللاطبيعي حين هتف صوته باسمها: أنس الوجود!.. أنس!.. 

كان يقف مشدوها عند باب الحجرة، بينما استدارت هي تتطلع نحوه في رعشة انتابتها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها.. متسمرة موضعها وعيناها لا تبرح محياه المذهول.. دخل الغرفة مغلقا بابها في عجالة، متقدما نحوها في خطوة متمهلة، أعقبها اندفاع صارخ، مطوقا إياها بجنون، يردد اسمها كالمسوس، يكرره في شوق طاغِ.. فما كان منها إلا البكاء شاهقة، تهمس له على قدر استطاعتها، من بين شهقات نحيبها: هي سعد بيه، هي أنس الوجود التي تعذبت كثيرا في بعادك.. 

أدخلت كفيها بين طيات عباءته حتى ظهره.. تتشبث بجلبابه في لوعة.. وهو لا يزال مكررا اسمها في وجل وهيام.. دافعا عنه العباءة التي تعيقه عن ضمها إليه بل اعتصارها حتى تبيت بين الضلوع.. 

سقط حجابها عن رأسها بعد أن انزاح بفعل ذاك اللقاء الملتهب، ليتطلع سعد لشعرها، هاتفا في نبرة مصدومة، ونظراته تحمل وجعا لا يمكن مداراته، على الرغم من أن شعرها استطال بعض الشيء: ايه اللي چرا لشعرك!..

وضعت أنس الوجود كفا مرتجفة على شعرها القصير، متطلعة نحو سعد في نظرة تحمل فخر الدنيا، مؤكدة في نبرة معتزة: ما كان لشعري أن يكون لغيرك.. أو أن يمسه مخلوق غيرك.. فأنا كلي وجزئي.. مجملي وبعضي.. روحي وقلبي..لرجل أوحد.. هو بعيني كل الرجال.. سعد بيه.. 

تطلع إليها سعد في نظرة تحمل أكثر من مجرد عشق، بل عشق فاق حد الصبابة، هاتفا ونبرة صوته تهتز هياما: ووه يا أنس.. 

جذبها مجددا لأحضانه، مطوقا خصرها بذراعين من حنو، دافنا رأسه ما بين جيدها ونحرها، يحاول أن يكون أكثر تماسكا، لكنه لم يقدر إلا على أن يشهق باكيا.. ما عادت أرجلهما بقادرة على حملهما فتشبث كل منهما بالآخر حتى سقطا أرضا في هوادة، كل منهما يبكي تنازعه مشاعر مختلطة، ولم يفلت الآخر.. 

وأخيرا.. رفعت أنس الوجود رأس سعد من بين أحضانها، تضم وجهه بين كفيها، متطلعة إلى عمق عينيه الدامعة، هامسة في وجد: لا تفلتني بعيد عنك أبدا.. مهما حصل.. فبعيد عنك كان العالم قاس جدا على أنس الوجود.. بعيدا عن حضنك الآمن.. ما كان هناك أمان.. وها أنا أعترف أمام عينيك من جديد.. أنا أحبك كثيرا سعد بيه.. 

لم تكن إجابة سعد كلمات، يرد بها على كلمات أنس الوجود بدوره، بل جذبها لصدره.. مطوقا إياها بذراعي روحه.. يبثها ذاك الأمان الذي لم تجده يوما إلا بين ذراعيه.. التي لن تفارقما ما حيت.. لن تفارقما أبدا.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٢٣.. 

كان صوت الطبل والصخب بالخارج يمر بدار بيت الخواجه نعيم، ما دفع رحيل زوجته للهتاف به قائلة: ايه مش ناوي تخرج تهني وتبارك وتاخد لك حتتين لحمة من اللي بتتوزع دي يا نعيم! 

تطلع نحوها نعيم في حنق ولم يعقب بكلمة، لكنها تجاهلته مستطردة: بشوقك، أنا رايحة أنا والعيال، اهو ننوب م الحب جانب.. العيال هفتانين وأنت من ساعة اللي جرا وانت قاعد لنا فالدار.. لا راضي تخرج من تحت البلاطة سحتوت حتى اقوت به العيال ولا أنت بتخرج تشوف أحوالك!.. 

تطلع نعيم نحو زوجته، هاتفا فيها وهو يجز على أسنانه في حنق: طول عمرك هايبقى همك على بطنك.. مفيش فايدة.. 

هتفت رحيل في حنق: اومال هيبقى همي على ايه!.. والعيال دي يبقى همها على ايه!.. ما هو اكيد على بطننا.. لهو انت فاكرني مش واخدة بالي إنك بتدخل بيوت الكبرات هنا وهنا وبتستلقط وقت الغدا مخصوص وتروح لهم عشان يعزموا عليك وانت طبعا مش هترفض وتاكل وتملا بطنك من خيرهم واحنا هنا.. أنا وعيالك بنعض الأرض م الجوع ومشتهيين العيش الحاف..ومش لقيينه..  

هتف نعيم في سخط: بقولك ايه! غوري ياللاه روحي إنتي وعيالك مطرح ما تروحي..  وكلوا ياختي واملوا بطنكم.. 

هتفت رحيل ساخرة: وأنت! هتقعد كده!.. ده مكنش أول مغرز تعمله لسعد رسلان وميظبطش!.. يا سيدي الأيام جاية كتير.. 

هتف نعيم في غل: لا.. كل مادا ما بيقوا والناس بتتلم حواليه.. كل مادا ما ايدي مبطلش وأيده هو طايلة وواصلة للي هي عايزاه.. أنا مش هرتاح ولا يغمض لي جفن إلا لما أرض البركة تبقى ليا.. وكل اللي فبطنها يبقى من نصيبي.. 

هتفت رحيل في حسرة: أرض ايه بس يا نعيم! أنت مشفتش السرايا اللي زي بتاعت بشوات مصر اللي بناها عليها!.. انسى بقى يا نعيم وخلينا نعيش وخلاص.. 

انتفض نعيم صارخا: انسى ايه!.. من غير الأرض دي ملناش عيش يا رحيل.. ملناش لازمة من أصله.. روحي يا رحيل.. روحي انتي والعيال الفرح وكلوا واشبعوا وهاتوا معاكم اللي تقدروا عليه.. خدوا منهم كل اللي يكفيكم وزيادة.. 

هتفت رحيل متسائلة: طب وأنت!.. 

أكد نعيم في نبرة خفيضة: هحصلكم.. ما أنا مش ممكن افوت الياغمة دي ومينبنيش م الحب جانب.. 

هزت رحيل رأسها طائعة، وجذبت صغارها وخرجت حيث تعلو أصوات الفرح هناك بدار الرسلانية.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٢٣.. بيت الحراني الجديد.. 

تعالت الزغاريد ما أن ظهر العريس على أعتاب الدار، يهم بالصعود لعروسه.. تناوبت نساء الدار وأولهن فتنة أخت وهدان، التي سعدت بحق لما جرى، ولغياب شفاعات عن المشهد، فقد كانت تعلم أن ذاك الحال الذي تردى فيه أخوها، ما كان إلا من صنع يد شفاعات، لكن ما كان بيدها حيلة، فمنذ زواجها من أبو زكيبة، وانجابها ولدهما ثم اعقبته بفتاة، وهي تكفي غيرها شرها، وخاصة أن زوجها أبو زكيبة طوع بنانها ولا يرفض لها مطلبا مهما كان، فعاشت معه منعمة أمرة ناهية في داره، مع ضمها لبنات أخيها لجناحها، وخاصة بعد اختفاء امهن العجيب.. أدركت فتنة أن وهدان يعشق توحيد بحق، وأنه لن يكون لامرأة آخرى سواها، فبدأت في تحسين علاقتها بها، فهي على أي حال، لم تر منها ما يجعلها تكرهها أو تتخذ منها موقفا عدائيا.. 

تعالت زغاريد فتنة من جديد، وقد اغرورقت عيناها بالدموع، وهي ترى أخيها الوحيد قد استعاد هيبته ومقامه، وقارنت بين حاله منذ شهور قليلة، وبين حاله الآن.. عاد وهدان لحاله الأول.. وكأن هذه الليلة هي ليلة زفافه الأولى على توحيد.. ألقت فتنة الملح على رأس أخيها وهو يمر لداخل الدار، تتمتم بالأدعية لدرأ العين الحاسدة، تدعو له بالسكينة والراحة التي افتقدها لسنوات.. 

بدأ الحريم في الانحسار عن قاعة الدار في اتجاه المغادرة، تتعالى زغاريدهن الفرحة، ووهدان يصعد الدرج نحو حجرته في قلب وجل تتضاعف دقاته قلما اقترب خطوة من المراد.. 

وقف قبالة الغرفة التي تنتظره فيها توحيد يلتقط أنفاسه في محاولة لجمع شتات نفسه، حتى إذا ما استعادها قليلا، حتى دفع بالباب في رفق ليدخل مغلقا إياه خلفه، باحثا بناظريه عن آسرة القلب التي طال غياب محياها عن عينيه.. لكنها أبدا لم تفارقه بطيفها الذي لازمه على الدوام.. وجدها تقف كما كان منها ليلة زفافها الأولى.. تنتظر منه الاقتراب حتى يرفع عنه حجابها التلي.. اقترب في ثبات ظاهري، ورفع عنها الحجاب هامسا في نبرة صوت معاتبة، وهو يضم وجهها بمجمل كفيه، رافعا ناظريها إليه: ليه يا توحيد كنتي ممانعة انضرك جبل الكتاب! أني كنت بموت وبحيا چار سور داركم لچل ما ألمح حتى طرف توبك!.. 

ترقرق الدمع بعينيها وهي تتطلع إليه في عشق، مؤكدة بنبرة مهزوزة تأثرا: مجدرتش يا سي وهدان، مجدرتش تاچي وتنضرك عيني، تبجى جدامي ومش طيلاك، جدامي ومجدرش أمد يدي تلمس يدك، ولا احوش روحي على إنها تترمي ف حضنك.. واعرة علي جوي يا وهدان.. واعرة على جلبي اللي داب فبعادك، ومعدش حمل وچع تاني.. 

تطلع وهدان نحوها في نظرة مطولة حكت كل ما يمكن أن يقال، وأخيرا همس بصوت متحشرج، ونظراته تتنقل بين قسمات وجهها المحبب لروحه: أني توك اتردت لي روحي بشوفتك يا توحيد.. 

مدت توحيد كفيها تحتضن ظاهر كفي وهدان المطوقين لوجهها، لتطبع قبلة مطولة على باطن كل كف في هيام، قبل أن تندفع مندسة بأحضانه باكية، ليطوقها بذراعيه في شوق جارف، لتهمس توحيد من بين أنات نحيبها: اتوحشك جوي يا سي وهدان.. دنيتي فضيت علي.. ولولا مختار لكنت اتچنيت من زمن، أو يمكن رحت من جهرة جلبي في غيابك، وحرجة روحي على حالك.. 

اعتصرها وهدان لأحضانه أكثر، هامسا في وجد: ووه يا توحيد يا بت عبمجيد رسلان، طب هچيب منين جلبين فوج جلبي اعشجك بهم.. والله جلب واحد فحبك يا ست الناس ما كفاية.. 

رفعها وهدان حاملا إياها بين ذراعيه، ليضعها بقلب الفراش الوثير، دافعا عنه عباءته وعمامته جانبا، لينضم إليها مجاورا، متطلعا إليها كأنما يطالع خيال من خيالاتها التي كانت تزوره مؤنسة وحدته ووحشته دونها، لتدنو هي منه، هامسة تسأل في نبرة تقطر دلالا: ألا صح كنت بتدعي من زمن ما كنا صغار.. عند مجام الشيخ السماحي، إني مكنش لحد غيرك يا سي وهدان!.. 

جذبها لتصبح أقرب إليه من قلبه الذي يسكن ضلوعه، هامسا في هيام: ايوه يا توحيد، إنتي دعوتي اللي ربنا استچاب لها، إنتي الخير كله يا ست الناس.. 

تطلعت إليه في هيام، وهو يبثها مشاعره الفياضة، لتبادله الهوى في عشق صارخ.. لم تبدله الأيام وتواليها.. ولا غيرته قسوة الخطوب.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٢٣.. 

جسا سعد جوار فراش ولده فضل الله، متطلعا إليه في شوق، تمسح نظراته الصغير النائم بفراشه في وداعه، ليهمس موجها حديثه لأنس الوجود، التي كانت تقف على الطرف الآخر من الفراش، تتطلع نحوهما في محبة: كبر فضل الله يا أنس، والله كان على عيني يكبر السنين دي وما هواش جصاد نضري.. 

همست أنس في تعاطف: السنين جاية قدامكم سعد بيه.. وتربيه في عزك .. 

همس سعد في شجن: لساته فاكرني، فاكر أبوه يا أنس!.. 

تململ الصغير قليلا، وأخيرا فتح عينيه متطلعا في نظرة مشوشة صوب سعد، ثم نهض مندفعا صوب أحضان سعد في محبة، هامسا بالتركية بضع كلمات، لتهمس أنس لصغيرها مطالبة في حنو: بالعربية يا فضل.. 

همس فضل من جديد وهو بين ذراعي سعد الذي كان مأخوذا كليا بطفله الذي تعرف عليه مبددا كل مخاوفه، هامسا بالعربية: وحشتني كتير بابا.. 

دمعت عينى سعد وهو يطوق طفله بكلتا ذراعيه، يضمه لروحه هامسا في حنو بالغ: وأني اتوحشتك جوي يا جلب أبوك.. اتوحشتك كد الدنيا، بكرة من الفچر، أنت تشاور بس وياچيك كل اللي تتمناه وزيادة.. 

ظل سعد يحدث طفله ويمنيه وهو بين أحضانه، حتى نبهته أنس هامسة: نام فضل الله على كتفك.. سعد بيه!.. 

أيقن سعد أنها على حق، فقد راح الصغير في سبات عميق، ما حثه على وضع الصغير تحت غطاء فراشه، يدثره جيدا وهو يملس على رأسه بكفه في محبة طاغية.. وأخيرا نهض من موضعه متطلعا صوب أنس في نظرات شقية، مقتربا منها جاذبا إياها لأحضانه، متسائلا في فضول: كيف فضل الله عرفني بسرعة كده!.. 

ابتسمت أنس الوجود هامسة في غنج: تحب أعترف بكام!.. 

كتم سعد قهقهة عالية كاد أن يطلفها، قد توقظ الصغير مجددا، ما دفعه ليحمل أنس الوجود مغادرا غرفة الصبي في اتجاه غرفتهما التي كان بابها مشرعا، دخلا فدفع الباب مغلقا إياه بقدمه، هاتفا وعلى شفتيه ابتسامة صافية، مشاكسا أنس الوجود: ووه، سافرتي بلدكم وبجيتي واعرة يا أنس!.. 

لا يعلم أنها تعلمت أصول البيع والشراء حين كان لزاما عليها النزول للأسواق لشراء مستلزمات المقر من خضراوات وفاكهة.. كما تعلمت الكثير الذي لم تكن تعلم عنه شيئا.. 

تطلعت إليه، وهي ما تزل محمولة بين ذراعيه، هاتفة في شقاوة: ايوه بكام!.. تدفع كام وأنا احكي لك، فضل الله عرفك كيف!.. 

قهقه سعد هذه المرة عاليا، لا يذكر متي خرجت ضحكة صافية من قلبه طوال فترة بعادها، هاتفا في محبة: كيف!.. وكمان بالصعيدي يا أنس! أنا كنت فاكر إنك اول ما ترچعي مش هعرف أكلمك.. اتعودتي بجى ع التركي السنين دي كلها وجلت لسانها هيرچع معووچ تاني!.. أچي ألاجيكي بتتكلمي عربي احسن من جبل ما تسافري، وكمان صعيدي!.. كنك واعرة يا مرت سعد رسلان!.. 

قهقهت أنس بدورها، ثم رفعت ناظريها لأعلى وهو يضعها على طرف الفراش، هامسة في أحرف متقطعة: كررها تاني سعد بيه!.. 

صمت سعد وجلا، وقد غاب عن الوجود لرقتها، هامسا: هي ايه دي! 

همست: يا مرت سعد رسلان!.. 

همس سعد متنهدا: يا مرت سعد رسلان.. وكل دنيته.. 

ألقت أنس برأسها على صدر سعد، ليضمها إليه هامسا يشاكسها من جديد: مش ناوية تعترفي برضك.. كيف الواد فضل الله عرفني ومكنش مستغربني ولا هايب حضوري.. 

رفعت أنس نظراتها نحوه، مفسرة في هوادة: من صورتك.. ما فارقتني، كنت اخدتها معايا يوم سفري، تكون سلوتي في بعادك، كنت كل يوم احكي لفضل الله عن سعد بيه رسلان، والده.. وأضع الصورة بين كفيه حتى حفظها.. كان يسأل عنك كثيرا.. وعن ميعاد رجوعنا لأبي صاحب الصورة.. كان كلامنا بالعربي عشان يفضل فاكر لغة بلده.. ويرجع يعرف يتفاهم مع الناس.. كان كل ما الشوق لك يزيد، كنت أحكي له عنك أكتر.. عن الرجل اللي ظهر لي في أيام كنت فاكرة إني خسرت فيها كل حاجة.. فوجدت إن ربنا جعلني اترك كل ما كان.. لأجدك أنت يا سعدي.. 

تعجب سعد من اللقب الجديد، لتستطرد أنس مفسرة: ده كان لقب الخالة يلديز.. مربيتي وهي كانت أم لي بعد وفاة أمي.. عندما حكيت لها عنك.. ظلت تردد أنك سعدي بيه.. وأنا علمت إنها كانت محقة.. فأنت سعدي وسعادتي.. وقد اجتمعنا أخيرا بعد غياب.. 

لثم سعد جبينها في حنو، وهي تستطرد في نبرة شجن: كانت آخر كلماتها، حافظي على نفسك وولدك، أمانة سعدي بيه، واذكريني في صلواتك.. وبعدها فاضت روحها بين ذراعيّ.. وأنا أديت الأمانة.. وعدت كما ذهبت.. عدت ومعي نفسي وولدي .. أمانتك سعدي بيه.. 

طوقها سعد في قوة، يربت على ظهرها مهدئا نوبة البكاء التي اجتاحتها، تاركا لها العنان حتى تفرغ كل ما بجعبتها من مشاعر مكبوتة، حتى إذا ما هدأت قلبلا، همس محاولا إخراجها من حالة الشجن التي تملكتها: جلتي كل حاچة ومخدتيش ولا مليم مني، طلعتي تاچرة خيبانة وتچارتك خسرانة.. 

اتسعت ابتسامة أنس هامسة في محبة: التجارة معك دايما رابحة سعدي بيه.. 

جذبها سعد من جديد لقلب الفراش، يضمها لصدره مجددا، مؤكدا في عشق: وإنتي لو طلبتي العمر كله ما يغلي عليكي يا ست الهوانم.. يا غالية.. 

اندست أنس الوجود في راحة بين ذراعي زوجها، ليتسرب النوم لعينيها أخيرا.. وقد استشعرت أنها ولأول مرة منذ سنوات طالت في غيابها عن سعد، تنام ملء جفونها في ظل أمانه بين ذراعيه.. حيث مكمن سكينتها.. وسكناها.. 

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩١.. 

خرج النقيب سراج من مبنى النقطة مندفعا ما أن جاءه الخبر بما يحدث أمام بيت نجية، فقد وصل لتوه من اجازته، فهرول أمرا العسكري الجالس خلف عجلة قيادة العربة الميري بالترجل من العربة، وتولى هو بنفسه عجلة القيادة، أمرا العسكري بجمع كل عساكر النقطة والتوجه نحو بيت نجية بأعقابه، فعليه أن يذهب مسرعا لينقذ ما يمكن إنقاذه .. فعلى ما يبدو أن الأمور لا تسير على ما يرام .. بل أنه طبقا  لما سمعه من أحد الخفراء، الأمور هناك خرجت عن السيطرة.. 

سار مسرعا على قدر استطاعته محاولا السيطرة على العربة الميري للسير على تلك الطرق الترابية الضيقة، وما أن هم بالخروج من أحد الدروب الضيقة إلى آخر أكثر اتساعا إلا وكاد أن يصدمها.. فضغط على المكابح في سرعة.. ثار الغبار في ثورة.. حتى أنه ترجل من العربة حتى يستطيع أن يتبين من تكون تلك التي كاد أن يصدمها لسرعته!.. ويطمئن أنها بخير.. حتى يلحق بتلك المصيبة التي تقع.. 

انقشعت سحب الغبار إلى حد ما، وهتف هو في تلك التي وقفت تسعل في قوة، وما أن تبين من تكون، حتى هتف في اضطراب: آنسة منيرة!.. أنا آسف.. معلش مكنتش واخد بالي.. كنت متسربع عشان.. 

هتفت منيرة في عجالة: ولا يهمك يا حضرة الظابط، عن إذنك.. 

كان يبدو أنها في عجلة من أمرها، تسرع الخطى نحو نفس وجهته تقريبا، ما جعله يستنتج أنها سمعت بما يحدث وجاءت لتطمئن على حال أخيها.. 

سار خطوة بالعربة فوصل لموضع سيرها، عارضا في تردد: إنتي رايحة ناحية بيت نجية! تعالي اوصلك معايا.. مع أنا رايح على هناك.. 

لم تفكر لبرهة، بل إنها اندفعت في اتجاه العربة، وجلست جواره، لينطلق نحو وجهتهما، لتسأله في نبرة قلقة: هو ايه اللي ممكن يكون چرا هناك! النچع مجلوب، ومحدش راضي يجول ايه في!.. 

أكد سراج في رزانة: متجلجيش، إن شاء الله خير، وطالما حبيب بيه هناك، يبجى أكيد هتخلص على خير.. 

هزت رأسها في تفهم، ولم تنطق حرفا، بينما ندت عنه نظرة جانبية سريعة نحوها بلا إرادة، جعلت فؤاده يضطرب، ما دفعه لإحكام السيطرة على مقوض الغربة في شدة لم يكن لها من داعِ، إلا الرغبة في السيطرة على حاله في حضرتها.. 

توقفت الغربة على مقربة من التجمهر الحادث، وكانت الصرخات والعويل على أشده، ما دفع سراج لرفع سلاحه عاليا، مطلقا عدة طلقات بالهواء، ليصمت الجميع إلا من بعض نحيب وأنين، وقد بدأ الجمع في الانحسار مفسحين الطريق للحكومة متمثلة في شخص سراج، الذي زعق بصوت جهوري متسائلا: ايه اللي بيجرا هنا ده! انتوا فين! .. 

هتف الرجل الملتحي ذا الجلباب الأبيض القصير في صوت أجش بلغة عربية فصحى: نحن نطبق شرع الله.. الخاطية ملهاش إلا الرچم.. حتى لا تشيع الفاحشة.. ولا الحكومة من مصلحتها أن تشيع الفاحشة!.. اشهدوا يا خلج.. ال.. 

زعق سراج بالرجل مقاطعا، ليخرسه في قوة: أخرس، لا اللي أنت بتعمله ده شرع ربنا، ولا أنت يهمك شرع ربنا من أساسه!.. تعرف ايه أنت اصلا عن الشرع عشان تتكلم فيه!.. 

هتف الرجل يحاول أن يضحد مبررات سراج: دي زانية.. يعني نجيم عليها الحد!.. 

هتف سراج متعجبا: زانية! ومش الشرع اللي بيقول برضك أن حكم الزنا عشان نطبج حد الرچم فيه.. لازما أربع شهود موثوج فيهم!.. فين بجى الشهود دول!.. 

صرخ سراج في الجمع المتجمهر بشدة: حد فيكم شافها!.. دخل عليها ولقاها في حالة تلبس مع راجل مش چوزها!.. 

لم ينطق مخلوق وساد الصمت، لكن الرجل هتف في حنق: دي نچسة ووچودها بين بيوتنا وحريمنا مش أمان.. 

هتف سراج ساخرا: بطلت حجة الشرع عندك، فچاي تجول بيوتنا وحريمنا!.. لو مخرستش وخدت بعضك وغورت من هنا، هقبض عليك بتهمة التجمهر وإثارة البلبلة.. 

نفض الرجل الملتحي جلبابه في حنق، ونزع نفسه من بين الحشد في غيظ مبتعدا.. بينما هتف سراج أمرا: المسرحية خلصت، ياللاه كل واحد يشوف حاله، وملاجيش حد واجف هنا ملوش لازمة.. 

بدأ الجمع في الانتشار كل في طريقه، ليهرول سراج نحو باب دار نجية الذي أصابه الكثير من العطب على إثر كل هذا الكم من الحصى والحجارة التي ألقيت عليه.. 

فقد استطاع حبيب عند تدخل مدثر ليزود عن الجميع، أن يدفع باب الدار من موضع سقوطه محاوطا أنس الوجود ونجية.. لينفرج أمرا أنس بالهرولة للداخل وهو يؤمن ظهرها، وأخيرا جذب جسد نجية، التي كانت ما تزال غائبة عن الوعي، حاملا إياه ومدثر يؤمن ظهره، حتى إذا ما اطمأن مدثر أن نجية في أمان، دخل هو ليكون آخر من نجا من الرجم حيا، مغلقا باب الدار الذي لاقى الكثير.. 

طرق سراج الباب، ليجد حبيب يجلس وقد أصابته بعض الجروح، وكذا مدثر الذي كان جرح راسه ينزف في غزارة.. بينما هلت منيرة من الداخل، هاتفة في ذعر: بنحاول نفوج نجية، مبتفجش.. لازما تروح المستشفى حلا.. 

انتفض مدثر بلا وعي على الرغم من جرحه النازف، يهم بالاندفاع نحو حجرتها للاطمئنان عليها، لكنه تنبه أن ذلك لا يجوز.. فوقف عاجز غير قادر على إتيان أي رد فعل .. ما دفع سراج ليقترح في عجالة: العربية معايا بره، تعالوا ننقلها المستشفى وبعدين نبقى نفتح محضر، ونشوف ايه اللي جرا.. 

هتف حبيب مستأذنا: بلاها محضر يا حضرة الظابط، هقعد واحكي لك الحكاية، ونشوف نساوها إزاي.. 

هتف سراج مؤكدا: طالما روحنا المستشفى يبقى لازما محضر يا حبيب بيه، ع العموم مش ده موضعنا، لازم نروح المستشفى دلوقت عشان نلحق الغلبانة اللي جوا دي، وعشانكم انتوا كمان.. الجروح اللي بتنزف دي لازم تتطهر.. ياللاه على طول.. 

نهض الجميع، بينما هتف حبيب متعجبا: هو الواد سالم فين!.. 

انتفض الجميع متسائلا، لكن ما كان من أحد على علم بمكان تواجد سالم في هذه اللحظة، ما دفع حبيب يسأل منيرة أخته: هو فينه شبل! مچاش معاكي!.. سابك تاچي لحالك كيف!

أكدت منيرة: لاه، مكنش موچود ع البوابة، وأنا چيت چري لما دريت باللي بيجرا.. 

أمرها حبيب: طب ارجعي السرايا، وجولي لمصباح يدور على الواد سالم وميفتهوش، يچيبه معاه السرايا ولو بالغصب، يجعد مع محمود لحد ما نعاود.. 

هزت منيرة رأسها متفهمة، والقت التحية في عجالة، مندفعة لخارج دار نجية ونظرات سراج في عقبها، والذي هتف مؤكدا: هستناكم بره فالعربية، لحد ما تچهزوا.. 

خرج سراج من دار نجية، ليجد منيرة قد اتخذت طريقها نحو الطريق المفضي للسراي.. اسرع الخطى حتى أصبح بمحازاتها، هاتفا في تردد: معلش بقى كان نفسي اوصلك بدل ما تمشي لوحدك.. 

ابتسمت منيرة مجيبة في خجل: لا عادي.. دول خطوتين.. متشكرة يا سراج بيه.. 

توقف لبرهة، فتنبهت مديرة رأسها في اتجاه وقوفه، مدركة أنه لن يسطع التقدم أكثر، وعليه العودة للعربة مهرولا، وهذا ما فعله بحق، لكن ما لم تدركه منيرة أن تصلب سراج بموضعه لم يكن لرغبته فالعودة للعربة، بل لأنها ولأول مرة نطقت اسمه، بديلا عن حضرة الضابط التي لم يسمع غيرها في المرات الشحيحة التي قابلها فيها.. 

كان قدجلس أمام مقود العربة بالفعل، حين بدأ الجميع في الصعود للعربة، كانت عيناه تتبع تلك التي بدأ يغيب محياها في ذاك الطريق الطويل.. واعادت مخيلته اسمه مجددا منطوقا من بين شفتيها.. فأدرك أن اسمه لم يكن بهذا القدر من العذوبة من قبل.. تاه في خواطره، حتى أنه لم يتنبه إلا لنداء حبيب ربما للمرة الثانية، ما دفعه ليستجيب في عجالة.. منتزعا نفسه من خواطره.. منطلقا بالعربة في سرعة.. 

❈-❈-❈

القاهرة ١٩٩١.. 

رن جرس الباب، وفتحت حمدية ليهل ممدوح على موضع جلوس نازلي، التي كانت في انتظاره، ليهتف متسائلا في قلق: خير يا لولو، إنتي بخير! 

أكدت برلنت في هدوء: تعالى اقعد يا ممدوح.. عايزاك ضروري.. 

جلس ممدوح متعجبا: في ايه! أنا كده قلقت بجد! أنا مستأذن من الشغل وجاي على ملا وشي!.. 

هتفت برلنت في استكانة: انزل الرسلانية وهات أنس من هناك يا ممدوح.. قولها خلاص مش هتكلم ولا اضغط عليها تاني في موضوع جوازها من نصير بيه.. بس خليها ترجع.. 

بدأت برلنت في البكاء، ما دفع ممدوح لإحتضانها مهدئا في تعجب: ايه بس يا لولو! ايه اللي مخليكي قلقانة اوي كده على وجود أنس هناك!.. ده إنتي تقريبا اللي شجعتي وجودها فالرسلانية عشان تاخد حقكم!.. ثم أبعدها عنه قليلا، متسائلا في جدية: إنتي خايفة من حاجة معينة يا لولو!.. قوليلي وميهمكيش .. ده أنا ديحا حبيبك.. هتخبي عليا برضو!.. 

هزت برلنت رأسها نفيا، مؤكدة في اضطراب: لا مش خايفة من حاجة، أنا بس عايزاها ترجع عشان وحشتني.. 

هتف ممدوح مشاكسا: طب وموضوع نصير بيه! هتفاتحيها فيه تاني!.. اعترفي يا برلنت.. أنا حافظك، لو حطيتي حاجة فراسك بتنفيذها.. ولو حصل ايه.. 

هتفت برلنت وهي تمسح دموعها: طب بذمتك يا ممدوح، نصير بيه ده يتعيب! ده كله مميزات.. دي مدتش لنفسها حتى فرصة تفكر.. نصير بيه ميترفضش.. 

أكد ممدوح: اهو! يبقى هي عشان كده رافضة ترجع، مش عايزة تزعلك عشان متأكدة انك هتفتحي معاها الموضوع ده مرة واتنين وعشرة.. فخدتها من قصيرها وبعدت.. ساد الصمت، وتنهد ممدوح قائلا في رزانة: بصي من منطق الأمهات كلامك صح، لكن هي اللي هتتجوز.. وتربط حياتها بالشخص ده، وإذا كانت هي مش متقبلاه كشريك حياة، يبقى خلاص كده، الموضوع منتهي يا لولو.. 

هتفت برلنت في حنق: مفيش حاجة اسمها كده، بلا متقبلاه بلا كلام فارغ.. ما هو أنا لما اتجوزت مكنتش متقبلة أ.. 

قطعت برلنت استرسال كلامها مدركة أنها كانت على وشك التفوه بما لا يجوز.. فساد الصمت بلا كلمة تجرح وقعه الثقيل، حتى هتف ممدوح أخيرا: خلاص يا لولو، أنا هشوف كده لو كلمتني.. أوعدك هحاول افتح معاها الموضوع تاني.. يمكن أقدر اخليها تعيد حتى نظر.. 

هتفت برلنت تطالبه في استعطاف: لا يا ممدوح، هو أنا لسه هستنى لما تكلمك!.. افرض متكلمتش!.. عشان خاطري سافر لها.. وحاول تجبها معاك ب أي طريقة.. 

هز ممدوح رأسه يحاول أن يجاري برلنت فيما تريد، مؤكدا عليها: حاضر يا ستي، اشوف بس هقدر أخد إجازة امتى، واطير على هناك.. ومش هرجع إلا بيها بإذن الله، تمام كده!.. 

هزت برلنت رأسها بإيجاب.. تنتظر على أمل تحقيق رغبتها.. بعودة ابنتها الوحيدة.. 

❈-❈-❈

المستشفى ١٩٩١.. 

كان الجميع بلا استثناء يقف خارج حجرة الطوارئ التي تركن بها نجية، بانتظار خروج الطبيب للوقوف على حالة المسكينة التي لم تفتح عينيها منذ سقطت فاقدة الوعي.. على الرغم من المحاولات العديدة لافاقتها.. 

خرج الطبيب من حجرة الكشف، لينتفض الجمع، كل من موضع جلوسه، حبيب ومدثر الذي نال كل منهما بعض الرعاية الطبية، لمداواة جروحهما، ووقف نزيف الرأس بجبهة مدثر.. وأنس الوجود المرأة الوحيدة بينهم، وكذا سراج الذي قام باللازم من أجل دخول الحالة للكشف دون إجراءات أمنية.. حتى إشعار آخر.. 

هتف الطبيب متنهدا: زي ما هو متوقع، حالة صدمة عصبية شديدة، فاقدة الرغبة في التواصل مع الواقع.. واضح إنها اتعرضت لضغط شديد وصلها للمرحلة دي.  أما الحمل بقى.. فاستمراره في خطر.. كان في نزيف وقفناه.. لكن مش عارفين الوضع خلال الايام الجاية هيكون ايه.. ربنا يستر.. 

لم يعقب أي من الحاضرين بكلمة، فما كان من الطبيب إلا الاستطراد مؤكدا: هي هتفضل معانا هنا شوية.. لحد ما نشوف الوضع هيرسى على ايه.. عن إذنكم.. 

سار الطبيب ورافقه سراج ليستفسر عن بعض الأمور.. بينما جلس مدثر يضع رأسه المربوط ببعض الشاش الطبي بين كفيه، متطلعا للأرض في تيه.. بينما جلس حبيب متطلعا لأنس الوجود التي كانت تتخذ مقعدا منزوِ، لا ترغب في الحديث أو التواصل مع أي من كان.. كانت حالتها لا تنبأ بخير.. ساهمة بالفراغ قبالتها.. ظهر سراج من جديد.. مؤكدا على ما قاله الطبيب آنفا.. ما دفع حبيب ليقول: خلاص يا سراچ بيه، اتفضل أنت اكيد وراك شغلك.. وخد معاك مدثر.. و..

هتفت أنس أخيرا بعد طول صمت، مؤكدة: أنا مش ماشية، أنا هبات معاها.. 

هتف حبيب متعاطفا: بس إنتي شكلك تعبان، لازما تروحي ترتاحي.. أنا كمان هروح.. وناچي الصبح نطمن عليها.. 

أكدت أنس: لا، مش همشي، هبات معاها.. 

تنهد حبيب متوجها بالحديث لسراج: خلاص يا سراچ بيه، خد مدثر معاك وعاود النچع، وكتر خيرك على كل اللي عملته.. وجفتك دي فرجت كتير.. 

ألقى سراج التحية، رابتا على كتف مدثر، الذي كان التيه مسيطرا على قسماته.. لينهض مع سراج مغادرا.. يرافقه في آلية.. لا ينطق حرفا.. حتى غابا بالرواق الطويل البارد .. ليتوجه حبيب بناظريه صوب موضع أنس، ليجده شاغرا.. انتفض لا يعلم أين ذهبت.. فهرول باحثا عنها.. ليجدها أخيرا.. وحيدة في آخر رواق هادئ.. تقف أمام نافذة طولية مفتوحة، يهب منها هواء بارد.. في تلك الليلة الشتوية بامتياز.. تعقد ذراعيها أمام صدرها.. شاردة في البراح الواسع قبالتها بعرض السماء.. 

كان يشعر أنها ليست بخير.. وكان ذاك يسؤه ويربك دواخله.. وصورتها وهي تقف هكذا تزيد من شعوره بالغيرة.. فقد كانت لوحة مجسدة للجمال الحزين.. بقسمات وجهها الشاحبة التي يعلوها الوجع الكامن بلا شكوى.. وكذا شعرها الذي خرج عن وقاره.. وتمرد على عقاله في خضم الصراع الذي مر بهما، لينسدل على ظهرها بهذا الشكل الساحر، الذي طالعه مرة ذات صباح.. في أيام معرفتهما الأولى.. فكانت كافية وزيادة لتنزع عنه راحة باله لأيام وليالِ طوال.. 

لم يشعر إلا وهو يقترب منها، هامسا في نبرة  حانية: البرد شديد عليكي يا أستاذة.. 

لم تتنبه إلا وهو يضع عباءته على كتفيها.. فانتفضت متطلعة نحوه في تيه، ليعيد عليها كلماته مبررا وضع العباءة: البرد شديد عليكي.. وانتي واجفة جصاد الريح.. تمرضي.. 

همست أنس الوجود متسائلة في نبرة صوت هزته: هو ليه حصل كده لنجية!.. الناس كلها تعرف أخلاقها.. ليه محدش صدقها!.. ليه كلهم كان عندهم استعداد يموتوها.. من غير ما حد يتحقق من كلامها.. أو حتى يقول كلمة واحدة عدلة في حقها!.. 

تنهد حبيب مفسرا: طبع الناس يا أستاذة.. يشوفوا منك كل الحلو.. ويمدحوا فيك ف الرايحة والچاية..يطلعوا بك السما.. وأول بس ما توجع .. يمسكوا لك على الغلطة دي.. كنك عمرك ما عملت خير أبدا.. 

همست أنس في حنق: بس اللي بيحصل ده غباء.. 

أكد حبيب: تجصدي چهل يا أستاذة.. نچية رمز لكل حد قتله الچهل.. هي كانت چاهلة بالمفروض واللي كان واچب تعمله وتجول إن چوزها چاها حتى ولو ليلة وراح.. والناس چاهلة بالحكم المفروض وكان أسهل عليهم يتهموها من إنهم يدورا ع الحجيجة.. ولا يسمعوا لكلام الدين الحج من الشيخ معتوج.. وچهل بالدين اللي خلى واحد زي الأخ اللي حرضهم على رچمها من غير ما حد يسأل ايه فعلا حكم الدين في حالتها.. وإن لازما يتحجج جبل ما يرمي الناس بالباطل.. 

الچهل يا أستاذة.. هو بطل كل القصص اللي هتشوفيها هنا.. ده لو طولتي الجعدة معانا..بعد اللي انتي شيفاه ده!.. 

تحركت أنس الوجود متململة موضعها، فتحركت العباءة التي لم تكن ترتكز جيدا على كتفيها، فكادت أن تسقط أرضا، ما دفع حبيب للحاق بها، وأنس ترفع خصلات شعرها تحاول جمعها خلف رأسها.. لتهب الريح من النافذة مبعثرة جدائله المعطرة ضاربة بوجهه، وهو يلحق بالعباءة قبل سقوطها أرضا.. تنهد مأخوذا وعطر جدائلها الخطر يتسرب نحو دواخله.. ليقبع مستقرا بأعمق موضع بروحه.. 

ما دفعه لينتفض تاركا العباءة جانبا، مهرولا وهو يبرر في اضطراب: أني رايح أجيب لنا كبايتن شاي.. 

سار مبتعدا يحاول السيطرة على ذاك الاضطراب الذي دثره كليا.. ألقى نظرة نحو موضعها مجددا ليجدها تستخدم شاله الأبيض.. الذي تركه بجانب العباءة.. لتجمع خصلات شعرها الثائر ذاك.. حاد بناظريه عن محياها في عجالة.. فما عاد ذاك التيه المعربد بجنباته يناسبه مطلقا.. 


يتبع...


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة رضوى جاويش، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة