-->

رواية جديدة أرهقته حر با لتوتا محمود - الفصل 24 جـ1 - السبت 21/6/2025

 

رواية أرهقته حربًا الجزء الثاني من رواية عشق بعد وهم كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية أرهقته حر با الجزء الثاني من رواية عشق بعد وهم

رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة توتا محمود


الفصل الرابع والعشرون

الجزء الأول 


تم النشر بتاريخ السبت

21/6/2025


هناك وجعٌ لا يُقال،

يسكن العيون ولا يُترجم بالكلام،

يُداوى بصدرٍ يحتوي،

وبصمتٍ يقول: "أنا معك مهما كان."




بللت "نور " شفتيها الجافتين ببطء، كأن لسانها ثقيلٌ عليها، وكأن الهواء نفسه قد خانها، فلم يعد يتسلل بسهولة إلى رئتيها. 


كانت واقفة أمامه، جسدها بالكاد يثبت نفسه، وكل شيء داخلها يرتجف؛ من أطراف أصابعها الباردة، إلى قلبها الذي ينبض كطبل حربٍ خافت... متوتر... قلق.


عيناها تجولان في ملامحه بصمت، تبحث عن أي مخرج، عن أي أثر للرحمة قد يكون نجا من بين قسوة نظرته، لكنها لم تجد.


 فقط ذلك الصمت القاتل، وتلك العيون التي تشتعل بأسئلةٍ لا مفر منها.


حاولت الحديث، لكن صوتها خذلها. 


شهقة صغيرة خرجت من بين شفتيها، لم تكن صوتًا حقيقيًا، بل محاولة يائسة لتحويل ما تشعر به إلى كلمات... ولكن الكلمات لم تأتِ.


 بلعت ريقها مرة، ثم مرة أخرى، وكأنها تحاول دفع خوفها إلى معدتها، دفنه في أعماقها حتى لا يظهر على وجهها. 


لكنها كانت أضعف من أن تُخفي شيئًا الآن.


أمامها، كان هو واقفًا بثبات. 


صلبًا، كأن الأرض تحت قدميه تختلف عن الأرض التي تهتز تحتها.


 يرفع بين أصابعه الزجاجة الصغيرة، زجاجة الدواء المنوم التي كانت تخفيها عنه، تلك الزجاجة التي كانت ملاذها الوحيد كل ليلة حين لا تجد مهربًا من صراخ رأسها.


الضوء الأبيض المنبعث من المصباح العلوي انعكس على الزجاجة، فأضاء محتواها وكأنها تعترف بنفسها، تعترف بكل ليلة اختبأت فيها عن الألم، وكل لحظة نامت فيها لا هربًا من النوم بل هربًا من الواقع.


كانت الزجاجة ترتجف قليلاً في يده، ليس من ضعف، بل من الغضب الصامت الذي يسكنه.


 لم يقل شيئًا، لم يحتج أن ينطق بسؤال واضح؛ فكل جسده كان سؤالًا.


 كل نظرة، كل خط في وجهه، وكل ثانية تمر دون أن تنطق، كانت تسألك: "ليه؟"


هي تعرف ما يسأل عنه. لم يكن يسأل عن الدواء فقط، بل عن السبب، عن السر، عن الجرح الذي دفعها لتختبئ بهذه الطريقة. 


وكان الأصعب من كل ذلك... أنه عرف.


شهقت مرة أخرى، كأن قلبها انقبض في صدرها، ولكن الصوت لم يخرج، فقط دمعة صغيرة سالت على خدها بصمت، حارة، متوترة، ثقيلة. 


رفعت يدها لتتحدث، لكن يدها عادت تهتز كما كانت. أرادت أن تقول : "أنا آسفة"، "أنا كنت تعبانة"، "أنا مش قادرة"... لكنها لم تستطع.


هي فقط، وقفت هناك، غارقة بين رغبتها في أن تشرح، وعجزها الكامل عن أن تبرر.


لم تعد الزجاجة مجرد دواء... أصبحت الآن مرآة.


 مرآة تكشف هشاشتها أمامه، تكشف كل الليالي التي غرقَت فيها تحت الغطاء تبكي في الظلام، وكل الصباحات التي استيقظت فيها بجفونٍ ثقيلة لا تعرف كيف تواجه الحياة.


ولم يكن أمامها سوى الصمت، ونظراته المتجمدة، والزجاجة التي لم تعد زجاجة منوم... بل كانت دليلًا دامغًا على كل ما حاولت إخفاءه.



كان صوته منخفضًا، لكنه ثقيل... محمل بشحنة من العتاب والألم، كأن كل حرف فيه يجرح صدرها قبل أن يصل إلى أذنها.


ـ ليه مقولتليش، كنت عرفت وساعدك بدل ما تاخدى ده؟؟ ليه يا نور، ليه مصممه تخليني في حياتك كأني شخص ماليش أي لازمه في حياتك؟؟


الهدوء الذي سبق كلماته، كان كاذبًا... الهدوء الذي يسبق العاصفة تمامًا.


 لم تكن كلماته حادة، لكنها اخترقت قلبها ببطء، كأنها سكين تُغرس برفق، لكنها لا ترحم.


عيناها لم تجرؤ على النظر له، كأنها تخشى أن ترى في عينيه تلك الخيبة. 


وقفت جامدة، تتنفس بصعوبة، وعيناها تغيم بالألم، بينما يده لا تزال مرفوعة، تمسك بالزجاجة الصغيرة، وكأنها تحمل كل ذنبها، وتضعه أمامها بلا هروب.


"ماذا تقول له؟"


هل تقول له أنها لم تكن تأخذ الدواء لتنام فحسب؟ بل لتنسى، أو على الأقل لتُخدر عقلها من هول الذكريات؟



هل تخبره أنها لم تعد تطيق إغلاق عينيها دون أن ترى تلك الليلة، تلك اللحظة، الصراخ، النظرة الأخيرة في عينيه قبل أن يسقط كل شيء؟


كيف تخبره أنها منذ فراق زوجها الأول، رحيم، وهي تأخذ هذا المنوم اللعين حتى لا تحلم؟


أن كل ليلة، منذ ذلك اليوم، لم تمر بدون كابوس؟


أن وجه رحيم يطاردها، صوته في أذنها، نظراته الأخيرة تترسخ في عقلها وكأنها وشم لا يُمحى.


كيف تقول له... أن الحادث لم يغادرها يومًا؟


أنها لا تزال تستيقظ فزعًا، تتنفس كأنها على وشك الغرق، وأنها تشعر وكأن الحادث حدث بالأمس... بالأمس فقط، وليس قبل سنة كاملة؟


أنها لم تنسَ، ولن تنسى، تلك الليلة التي كان من المفترض أن تموت فيها هي، لا هو؟


أن الشعور بالذنب يخنقها أكثر مما يخنقها هذا الدواء؟


أنها تعاقب نفسها، بصمت، كل يوم، لأنها لا تستحق النجاة؟


بللت شفتيها مرة أخرى، ببطء، تحاول كسر هذا الصمت الثقيل، لكن صوتها كان عالقًا، كأن الكلمات تتعثر في حلقها، تختنق قبل أن تولد.


تمنت في لحظة أن يقرأ عقلها، أن يفهم من صمتها ما تعجز عن قوله، لكنها أدركت أن الصمت لا يكفي.


ومع ذلك، لم تقل شيئًا.


بقيت واقفة، تتنفس بصعوبة، وعيناها تمتلئان بدموع لم تسقط.


هو كان يراقبها، ينتظر، يتألم


لكنها، بكل ما فيها من وجع، لم تقدر على النطق... فقط، نظرت إليه نظرة طويلة، مليئة بالخوف، والندم، والانكسار.


وكأن تلك النظرة وحدها، كانت تحمل كل ما لم تستطع قوله.


نظرة خامدة، مشبعة بكل ما لم يُنطق، بكل الذكريات التي ترفض أن تموت، وبكل الذنوب التي لم تجد غفرانًا بعد.



كانت نظرة شخص ضائع... غريق يُحدّق في اليابسة وهو يعلم أنه لن يصلها، نظرة جعلت الهواء بينهما يثقل، وكأن الغرفة ضاقت عليهما، حتى لم يعد هناك متسع حتى للأنفاس.


لم يتحمل نظراتها... لم يتحمل أبدًا أن يرى هذا الكم من الألم في وجهها، قبل حتى أن يظهر في عينيها.


ذلك الوجع الصامت الذي يكسو ملامحها، يكسر شيئًا بداخله هو، يجعل رجولته كلها ترتجف من العجز، من كونه لم يحميها، لم يمنع عنها هذا الحزن القديم الذي يأكلها في صمت.


وبدون سابق إنذار، وبدون أي تردد... اقترب منها بخطوتين فقط، ثم... عانـ ـقها.



ضمها إلى صدره بقوة لا تخلو من الحذر، وكأنه يخشى أن تنكسر بين ذراعيه.


يداه كانتا ترتجفان، ومع ذلك تحركت إحداهما لتربت على ظهرها برفق، بحنيةٍ صادقةٍ صامتة، لا كلمات فيها، فقط لمساتٍ تحاول أن تُطفئ النار التي في قلبها.



أما هي... فما إن شعرت بذراعيه حولها، حتى انهارت تمامًا.


كأنها كانت تنتظر هذا العناق لتسمح لنفسها بالسقوط، لتتخلى عن تلك القوة الزائفة التي ترتديها كل يوم.


عانقته بكل ضعفها، بكل هشاشتها، وكأنها طفلة صغيرة تائهة، وجدت أخيرًا حضنًا آمِنًا لتبكي فيه.


دفنت وجهها في صدره، وبكت...


بكت بكاءً مكتومًا، لكنه ممتلئ، كأنها تبكي سنوات من الألم، تبكي رحيم، وتبكي الذكرى، وتبكي الحادث، وتبكي الليل الذي لا يمر إلا ومعه ألف كابوس.


لم تصدر منها كلمات، فقط شهقاتٍ متقطعة، تنهيدة تلو الأخرى، ودموع تنهمر بلا توقف، بلا إذن، ولا تبرير.


ياليتهم يعلمون…


ياليتهم فقط يعلمون أنها تأذت كثيرًا.


أنها كل ليلة كانت تقاتل وحدها، بين ضلوعها ساحة معركة، وعقلها يغرق في الماضي.


أنها لم تكن بخير أبدًا، لكنها تعلمت أن تبتسم.


وفي لحظة، وسط كل هذا الصمت، أدرك كلاهما شيئًا...

أن بعض الأوجاع لا تُشفى بالكلمات، بل بعناقٍ صادق، ووجودٍ لا يخذل.



أخذها برفق في اتجاه الفراش، ومازالت بين ذراعيه، كأن صدره هو الملجأ الوحيد القادر على احتواء هذا الانكسار الذي يسكنها. 


خطواته كانت بطيئة، حذرة، وكأنها محملة بثقل مشاعر لم يُنطق بها بعد. 


لم يكن مجرد عناق، بل كان التمسك بها، بكل ضعفها وخوفها.


فصل العنـ ـاق ببطء، كأن قلبه يرفض أن يتركها ولو للحظة. 


وما إن ابتعد قليلًا حتى شهقت ،شهقة خافتة، مرتعشة، خرجت من بين شفتيها كأنها صدى وجع دفين، وجسدها كله ارتجف، كأن الدفء الذي تركها فجأة كشفها لرياح باردة من الذكرى والخوف.


اقترب منها على الفور، لم يحتمل أن يراها بهذا الارتعاش. 


مد يديه لوجهها، كأنهما جناحين يحاولان احتواء الوجع. 


كفه كانت دافئة، وحنونة، تمسح بلطف دموعها العالقة على وجنتيها، تلك الدموع التي لم تجد يومًا من يمسحها قبل الآن.


 همس بصوت خافت لكنه مطمئن، كأنه يسكب الطمأنينة في قلبها حرفًا حرفًا:


ـ أنا جنبك، متقلقيش، هجبلك مياه تهدى.


تركها بلطف، وتحرك ببطء نحو الكأس الموضوعة أمامها على الطاولة، صب بعض الماء بتأنٍ، وكأنه لا يريد حتى لصوت الماء أن يزعجها. 


قدّم الكأس نحوها، وعيناه لا تتركها، يراقب كل حركة، كل ارتعاشة، كل تنهيدة. 


شربت أمامه، ببطء، كأنها تُبلل جفافًا في قلبها لا في حلقها فقط.


وضع الكأس على الطاولة، وعاد بجانبها، جلس أولًا، ثم تمدد بهدوء إلى جوارها على الفراش، وكأن الأرض كلها ضاقت عليه إلا هذه اللحظة التي تجمعه بها. 


مد ذراعه نحوها، وسحبها بلطف إلى حضنه، كأنه يُعيد ترتيبها من الداخل، يُحاول أن يُطفئ فوضاها بالعناق.


بدأ يربت على شعرها بحنان، حركة بطيئة، متكررة، تشبه التنهيدات، تشبه الهمسات، تشبه الدعاء.


همس بصوت محمَّل بالعطف، يشبه حضنه:


ـ متقلقيش أنا جنبك ومش هتحرك، عايزه تنامي، نامي، عايزه تتكلمي أنا برضو جنبك.


كلماته كانت أشبه بلحاف من الطمأنينة، تلفها دون أن تقيّدها. 


ارتعش صوتها، وامتلأت عيناها بالدموع، شهقت شهقة خافتة، تحمل من التعب ما لا يمكن ترجمته، وهزّت رأسها نفيًا وهي تُدفن أكثر في حضنه، كأنها تريد أن تختبئ بداخله، أن تذوب فيه، أن تختفي.


هتفت بصوت مكسور، يرتعش، يتناثر:


ـ أنا خايفة ، خايفة أنام، أصحى على حلم.


لم يرد على الفور، بل شدها إليه أكثر، وكأن كل ما فيه يصرخ: "أنا هنا".


ضمها بعُمق، ثم انحنى قليلًا، وقبـ ـلها قبـ ـلة طويلة فوق فروة رأسها، قبلة لم تكن عابرة، بل كأنها وعد... وعد بالأمان، وعد بالحماية، وعد بعدم الخذلان.


وهمس فوق رأسها، بنبرة تتكئ عليها القلوب الضعيفة:


ـ أوعى تخافي وأنا جنبك، سمي الله كده، وغمضي عينك، وأنا وحياة نور عندي مش هتحرك من جنبك.


كلماته كانت كأنها بلسم على جرح غائر.


 أغمضت عينيها أخيرًا، لا عن يقين، بل عن تعب... تعب مقاومة، وتعب خوف، وتعب من الأحلام التي تطاردها كل ليلة.


وضعت رأسها فوق قلبه، فوق المكان الذي لا تكذب فيه النبضات، وكأنها تبحث فيه عن إيقاع مختلف للحياة.


مرت دقائق طويلة، لم يتحدث، ولم تتحرك... فقط هو يربت، وهي تستكين.


حتى استسلمت أخيرًا لسلطان النوم، نوم لا يشبه كل لياليها الماضية، نوم على أمل أن الغد، ربما يكون أقل وجعًا.



❈-❈-❈


كانت الغرفة هادئة، لا يُسمع فيها سوى أنفاس "يمن" المتقطعة، ونبضات الشك التي بدأت تتسلل إلى قلبها بهدوء يشبه صرير باب قديم في ليلة عاصفة. 


حدّقت إليه، وملامحه المنكمشة المذعورة لم تمر مرور الكرام على عينيها، وكأنها رأت شيئًا خلف الكلمات التي لم تُقال بعد.


انحنت بجسدها قليلًا، وضاقت عيناها بشكٍّ عميق، وهي تهمس بنبرة هادئة، لكنها كانت كالسكين الناعمة التي تحاول اختراق جدار الصمت:


ـ انت اللي صحاك؟؟


ظل صامتًا لوهلة، وكأن عقله يبحث عن كذبة متماسكة يمكنها أن تنقذه من الورطة، ثم ارتسم على وجهه توتر خافت، واختار أن يرد بأقل قدر من الانفعال، يخفي وراء هدوئه براكين من القلق:


ـ مفيش حاجه، شاب كده بيرخم على بنت، ساكنين قريبين مني، والبنت كلمتني كذا مره، مالهاش حد، وبس... وكلمته زي ما انتي ما سمعتي.


لم تكن "يمن" سهلة الخداع، فالحيرة تماوجت في عينيها، تطلّعها يحمل من الفضول ما يكفي لهدم جبلٍ من الأسرار. 


عقّدت حاجبيها، وهمست باستغراب مشوب بالريبة:


ـ غريبة ، أصل عمرك ما قولتلي أبدًا عن البنت دي؟ طيب، هي عندها كام سنة؟


تنهد بعمق، كأن الهواء نفسه أصبح ثقيلاً داخل صدره، ثم رد بنبرة هادئة كاذبة الارتياح:


ـ عندها ٢٣ سنة... والشاب بيحبها، وهي مش بتحبه.


كلماتُه لم تُطفئ نيران التساؤل، بل زادت من اشتعالها.


 كانت "يمن" تراقب كل حركة، كل نَفَس، كل رمشة عين، وكأنها تحاول فك شيفرة خفية بين سطور حديثه، فأضافت وهي تمعن النظر في وجهه:


ـ طيب والبنت دي كلمتك إمتى؟ أصل كنت متعصب قوي وإنت بتتكلم و...


لكنها لم تُكمل.


 قاطعها بصوت فَج، نبرته انزلقت من الحدة، كأنها سكين خدشت الحائط:


ـ يووووه ، هو انتي مش مبطّلة أم أسئلة ليه ، ده كل الحوار اللي قولتهولك، وياريت منتكلمش تاني في الموضوع ده   


ثم استدار بعنف، خطواته تجرّ خلفها ثقلًا غريبًا، وأغلق الباب خلفه بحدّة أفزعتها، وكأن الباب شارك في غضبه، وأطلق صرخته بدلاً عنه. 


بقيت "يمن" واقفة، تبتلع صدمة لا تفهم مصدرها، قبل أن تهمس ببطء، وكأنها تتحدث لنفسها:


ـ هو ماله متعصّب ليه ده .


لحظات الصمت بعد عبارتها كانت أثقل من كل الأصوات، وكأن البيت نفسه يحبس أنفاسه... في انتظار الحقيقة .


❈-❈-❈


كانت الغرفة غارقة في سكونٍ ثقيل، كأن الهواء نفسه يُراقب ما يحدث بتوتر.


 وفي لحظة مفاجئة، اخترق صوته الهادئ الممزوج بالدهشة والصدمة جدار الصمت:


ـ انت بتعمل إيه هنا؟؟


الكلمات خرجت ببطء، كأنها تصفعه على وجهه قبل أن تستقر في أذنه. 


ارتجف داخليًا، لكنه حاول أن يُخفي رجفته خلف قناع من الهدوء. 


تقدم خطوة واحدة للأمام، يحاول أن يحتوي غضبها، أن يسبق الانفجار الذي تلوح شرارته في عينيها ، قبل أن تستيقظ "وعد" على ذراعيه، تلك التي تحتضنها الآن كأنها جزء من روحه لا يقدر على إفلاته.


لكنها لم تترك له مجالًا.


 كانت تحدق فيه بنظرة مشوشة، عيناها ترمشان بتكرار وكأن الوعي يتلاشى منها ببطء، قبل أن تتحرك بخطوتين، ثم يتملكها دوار مفاجئ، وسواد كثيف بدأ يلتهم أطراف رؤيتها ،لتسقط بثقلها على الفراش.


ركض نحوها، عيناه امتلأتا بالقلق.


 وما إن اقترب منها حتى التقطت أنفاسه رائحة الخمر الحادة، التي كشفت له سر ترنحها.


 تنهد بعمق ، لقد كانت ثملة. 


لا تدرك شيئًا، ولا تتذكر شيئًا.


أدار وجهه نحو "وعد"، تلك النائمة على صدره كطفلة منهكة.


 جسدها الصغير بين ذراعيه، رأسها يستقر فوق قلبه وكأنها تسمع دقاته وتحتمي بها. 


لحظات، ثم انحنى نحوها.


شفاهها... تلك التي أسَرَته منذ اللحظة الأولى، أول نظرة، أول كلمة، أول صمت، جعلته يتمنى الاقتراب.


 والآن، كانت بين يديه، قريبة جدًا، ساكنة... وكأن الزمن توقّف ليسمح له بأن يلمس الحلم الذي ظل يطارده طويلاً.


قبّلها.


قبلة مرتعشة في أولها، مترددة كأنها تخشى أن تُكسر.


 لكنه لم يستطع التوقف.


 شيئًا فشيئًا، ابتلعته اللحظة، تعمق أكثر، نسي كل شيء. نسي أنها نائمة، نسي أي حدود، نسي حتى أنه مازال يتنفس.


لكن "وعد" كانت هناك، في مكان آخر تماماً كانت في حلمٍ يحمل ملامح "كمال"، الرجل الذي سكن قلبها حتى في اللاوعي. 


عندما شعرت بتلك القبلة، لم تُقاوم.


 ظنت أنه هو.


 ووسط أحلامها التي لم تكن تعلم أنها كاذبة... بادلتـه.


عانقته.


بعمقٍ مماثل، بإحساسٍ دفين. 


قلبه انفجر بين ضلوعه، وصدره ارتجف من عنف النبض، وكل ذرة فيه صرخت أنها اللحظة التي لطالما انتظرها ، لحظة لم يتوقعها بهذا الشكل، لكنه... تملكها.


وفجأة 


انفتح الباب بعنف، ووقف "أيان" على عتبته، عيناه متسعتان، صدره يعلو ويهبط، كأن الزمن سقط عليه دفعة واحدة.


 نظرته تجمدت، تصفّح المشهد بكل تفاصيله الصادمة، وعيناه لا تصدقان ما تراه.


كان المشهد قاتلًا.


هو، وهي، في حضنٍ مسروق، في لحظةٍ لا يجب أن تكون.


وجسده ارتجف.


كانت اللحظة مشتعلة، لا بالضجيج ، بل بذلك الصمت الصاخب الذي يسبق العاصفة.


تقدم "أيان" بخطوات ثابتة لكنها مشتعلة بالغضب، عيناه لا تريان إلا ملامح "شهاب"، تكاد قبضته تنفجر على ملامحه، لكنه ، توقف. 


ليس ضعفًا، بل لأن عينيه سقطت على "وعد".


كانت مستلقية هناك، بلا حول، كطفلة نامت على أمان لا تعلم أنه مُزيف. 


وجهها ساكن، بريء، لا يدرك شيئًا مما حدث، أو ما أوشك أن يحدث.


تقدم "أيان"، بكل قوة الرجولة وغضب الأخ والوصي والحبيب، وانتزعها من بين ذراعي "شهاب" كما تُنتزع الروح من الجسد، وكاد "شهاب" أن يعترض، أن يتكلم، أن يبرر ، لكن "أيان" سبقه بصوت غليظ، منخفض لكنه مشبع بالتهديد:


ـ ورحمة أمي اللي عمري ما حلفت بيها كدب، لو مخلتنيش دلوقتي أخدها منك، لضربك قدامها، وزي ما تيجي تيجي ، ميهمنيش بقى، يعرفوا ولا ميعرفوش ، وعد تصحى أو لا.


تجمّد "شهاب"، وعجز عن الرد، كأن الهيبة التي تسربت من نبرة "أيان" شلت حركته. 


حملها "أيان" بين ذراعيه برفق، كأنها زجاج هش يخشى عليه من الكسر، ومددها على الفراش بهدوء، أنامل حانية تتعامل مع أغلى ما يملك.


اقترب ليغطي جسدها، لكن همسة ناعمة خرجت من بين شفتيها وهي تتقلب قليلًا ، همسة كانت كصفعة.


ـ كمال .


شعر "أيان" بداخل قلبه شيء يُنتزع، كأن الأرض اختارت أن تبتلعه بدلًا من أن تجعله يواجه تلك الكلمة. 


تذكر فجأة كل شيء


أنها لم تكن بكامل وعيها، أنها لم تكن ترى "شهاب" أصلًا... بل تراه هو، "كمال".


أغلق عينيه بألم، ثم فتحهما، ونظراته كالسكاكين تُغرس في ظهر "شهاب".


 لم ينطق، لم يعترض، لم يناقش.


 فقط مد يده وأمسك بذراعه، وجرّه خارج الغرفة… لا، خارج القصر كله.


وما إن تخطى الباب حتى .


لكمه.


لكمة خرجت من جوفه، من غضبه، من حسرته، من غيرته، من خوفه، من إحساسه بالعجز. 


ارتطم جسد "شهاب" بالأرض بقوة، لكن الألم الحقيقي لم يكن في السقوط ، بل في الصوت الذي تبعه.


صرخة.


ـ انت اتجننت يا شهاب؟ انت إزاي تعمل كده؟؟ إزاي تستغل "وعد" بطريقتك الـ ***؟ وكمان في بيتها؟ وفي أوضتها؟ إنت مش مكسوف من نفسك؟؟


"شهاب" نهض بصعوبة، ينفض التراب عن نفسه، لكنه لم يجد الكلمات ، فقط قال بهمس حاد:


ـ وطّي صوتك يا أيان.


لكن أيان لم يسمعه ، أو لعلّه لم يُرد أن يسمعه. 


كان الصوت بالنسبة له تافهًا، لا يوازي حجم الجريمة. 


فاندفعت يده من جديد، ولكمه مرة أخرى، بقوة أكبر، دون وعي، دون تفكير.


لم يعد يهتم لأي شيء ، لا للمكان، لا للناس، لا للعواقب.


كل ما كان يشغل عقله هو شيء واحد 


أن وعد كانت بين يديه ، وهو لم يحميها.


كانت لحظة مشتعلة كأن الأرض نفسها قررت أن تنفجر تحت أقدامهم، والهواء من حولهم مشحون بالكلمات الثقيلة التي تُقال، لا كحروف، بل كطلقات نار مباشرة إلى القلب.


دفعه "شهاب" بكل ما يملك من غضب مكبوت، جسده كان يهتز من التوتر، عيناه تقدحان شررًا، وصوته خرج كفحيح أفعى، أعمى به نفسه قبل غيره:


ـ مش هتقدر تفرقني عن وعد مهما عملت، وعد ملكي أنا، وهتبقى مراتي لحد ما أموت 


كان يصرخ كمن يعلن امتلاكًا لا حبًا، هوسًا لا احتواء، شعورًا مشوهًا لم يعرف فيه النُبل ولا الاحترام.


 جسده كان يتنفس الغضب، كأن كل ذرة فيه تصرخ بالتمرد على الواقع.


أمامه، وقف "أيان"، ثابت النظرة، شامخ رغم الألم، نظر له كمن يرى أمامه حفرة سوداء، وألقى عليه نظرة اشمئزاز حادة، لم تكن فقط كارهة ، بل مقززة من كل ما هو عليه، ثم نطق بصوت هادئ كهدوء العاصفة قبل أن تضرب :


ـ وعد النويري عمرها ما هتختارك .


صوته كان أشبه بالحُكم لا الرد.


ثم أكمل بهدوء يشبه الرعد المكبوت:


ـ ولو اختارتك، فـ همنع الجوازة دي 


وجملته التالية خرجت مزلزلة : 


ـ والجوازة دي اللي بتقول عليها... مش هتحصل إلا على موتي.


كانت الكلمة الأخيرة تنغرس في الجو مثل خنجر، يسبق ما هو آت.


ثم اقترب منه خطوة بخطوة، كل خطوة تحمل ثقل قَسَمه، ونبرته أصبحت كأنها حديد يُطرق على جدار الحقيقة:


ـ ولو دخلت قصر النويري تاني سرقة ، وحياة أبويا ورحمة أمي ، لكون فضحتك فضيحة قدام عيلة النويري.



ثم أكمل بجملة كالقفل:


ـ وابقى وريني هتتجوزها إزاي يا شاطر.


قال كلمته وغادر ، لا هرولة، لا استعجال، بل بخطوات واثقة، هادئة، تحمل بين طياتها نارًا لا تُرى.


أما "شهاب"، فبقي واقفًا في مكانه، جسده لا يزال ينبض بانفعاله، لكنه الآن أقرب إلى الجنون. 


عيناه تتسعان، وصدره يعلو ويهبط كوحش حُبس طويلًا، وها هو على وشك الانفجار.


صرخ، لا بمناداة بل بوعد لنفسه، بصوت مبحوح:


ـ وأنا بحب التحدي ، وشهاب الشوري عمره أبدًا ما هيخسر ، ووعد النويري هتبقى ملكي أنا 


كانت كلماته تطير في الأرجاء كأنها نبوءة، أو لعنة يتحدى بها القدر.


لكن ما لم يعرفه شهاب، أن هناك من سمع.

أن الظلام لم يكن وحده يشهد تلك اللحظة.


خلف أحد الأعمدة، وقفت "يمن".


شفتيها فُتحتا ببطء، لكن لا كلمات خرجت، فقط صمت عميق... وصدمة تملأ عينيها. كانت تسمع، ترى، وتشعر بكل حرف خرج منه.


عقلها رفض تصديق ما سمعته…

شهاب هنا؟

شهاب مهووس بـ وعد؟

شهاب يتحدث ستصبح "ملكُه"؟


لكن الأسوأ من كل ذلك…

الأسئلة التي بدأت تطرق عقلها بقوة مرعبة 


هل... وعد... تحبه؟

هل كانت تخفي عنها شيئًا؟

وهل ، كانت تستجيب له يومًا دون أن تراها؟


انكمشت يمن مكانها، قلبها يرتجف، وذهنها يعصف.

كانت تعلم أن هذه الليلة... لن تمر مرور الكرام.

الصفحة التالية