-->

رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 15 - جـ 1 - الأحد 31/8/2025

 

قراءة رواية ثنايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ثنايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا الخولي


الفصل الخامس عشر 

الحزء الأول

تم النشر الأحد 

31/8/2025



كانت الحديقة الخلفية لمنزل الرفاعي غارقة في الظلام إلا من ضوء القمر الباهت الذي كان يتسلل بين أغصان الأشجار العتيقة. 

وقف عدي هناك وحيداً كشبح، يذرع الممر الحجري ذهاباً وإياباً، والهاتف في يده كأنه قطعة من الجليد لم يستطع البقاء في الداخل، حيث الأجواء مشحونة بصمت ثقيل واستعدادات زائفة لفرح أشبه بمأتم.


كانت عيناه تحملان بريقاً غريباً، بريقاً لا يشبه حزن أبيه أو غضب سند المكسور

كان بريقاً هادئاً، حاداً، ومخيفاً بريق رجل يرى ما لا يراه الآخرون، ويفكر في لعبة مختلفة تماماً عن تلك التي يلعبونها في الداخل.


لم يكن يفكر في 

"شكل العيلة" أو "كلام الناس". 

هذه المفاهيم بدت له تافهة وساذجة في مواجهة ما حدث. 

هو لم يرى في ما حدث هزيمة، بل رآه تغييراً في قواعد اللعبة وجاسر التهامي بكل جبروته، قد فتح باباً لم يكن يجب أن يُفتح أبداً.


توقف عن المشي فجأة، ورفع الهاتف إلى أذنه. 

لم يكن ينتظر مكالمة، بل كان هو من يبادر بالاتصال 

ضغط على رقم لم يكن مسجلاً باسم، مجرد سلسلة من الأرقام المحفوظة في ذاكرته.


رنة واحدة، ثم جاء صوت من الطرف الآخر. لم يتحدث عدي، بل استمع فقط. كان الصمت من جانبه أبلغ من أي كلام.


بعد لحظات، تحدث عدي أخيراً، بصوتٍ منخفض وحيادي، صوت لا يحمل أي عاطفة، وكأنه يقرأ قائمة مشتريات.

_عملت ايه؟

.....

_لا مش عايز أي أذى جسدي.

قالها ببرود، ثم أضاف جملة غامضة جعلت نواياه أكثر إبهاماً.

_الخوف أداة أجوى من الألم خليه يعرف إن كل حاچة بيحبها ممكن تختفي في أي لحظة، خليه يحس بنفس الإحساس.


أنهى المكالمة دون كلمة وداع.


لم يكن يخطط لقتل أو مواجهة. 

خطته كانت أكثر دهاءً، وأكثر خطورة. 

هو لن ينقذ نغم بالطريقة التي يتوقعها الجميع. 

هو سيفعل شيئاً يقلب الطاولة على جاسر نفسه، شيئاً يجعله يدرك أن خطف فتاة من عائلة الرفاعي لم يكن انتصاراً، بل كان أكبر خطأ ارتكبه في حياته.


استدار عدي واختفى في الظلام، تاركاً وراءه سؤالاً واحداً معلقاً في الهواء: ما الذي ينوي فعله؟ ومن هو الشخص الذي كان يتحدث معه على الهاتف؟


❈-❈-❈


كانت كلمة "قتلته" لا تزال تتردد في أذني نغم بينما العالم من حولها يضيق ويتحول إلى نفق مظلم لا نهاية له. 

لم تستطع أن ترمش ولم تستطع أن تتنفس. 

كانت تحدق في وجه جاسر تبحث عن أي أثر لكذبة لأي مزحة مريضة، لكنها لم تجد سوى حقيقة قاسية ومرعبة. 

لقد أصبح هذا الوحش زوجها رسمياً قبل ساعات.


رأى جاسر الصدمة وهي تشل ملامحها، ورأى الرعب وهو يجمد الدم في عروقها. 

لم يشعر بالرضا، بل شعر باللامبالاة

كانت هذه هي قوانين عالمه، والآن بعد أن أصبحت زوجته، كان عليها أن تتعلمها بسرعة.


مد يده ببطء نحو وجهها جفلت نغم وتراجعت للخلف، فاصطدم ظهرها بمسند الأريكة الصلب. 

لم يعد لديها مكان آخر لتهرب إليه

تجاهل جاسر رد فعلها وأكمل حركته، لكنه لم يلمسها بدلاً من ذلك، التقط خصلة شعر تمردت وخرجت من تحت حجابها، وأعادها برفق إلى مكانها. 

كانت لمسته خفيفة، لكنها حملت ثقل تهديد مميت.

همس بصوتٍ هادئ ومخيف

_شفتي؟

أني بحافظ على حاجتي كويس جوي ومبحبش حد يلمسها غيري."


كانت كلماته تحمل معنى مزدوجاً، هو لم يقتل السائق لأنه تهجم عليها، بل لأنه تجرأ ولمس "ملكيته". 

لم يكن الأمر يتعلق بحمايتها، بل بحماية ممتلكاته.


أخيراً وجدت نغم صوتها، لكنه خرج متقطعاً ومبحوحاً بالرعب. 

_أ... أنت... أنت وحش.


ابتسم جاسر ابتسامة باهتة، خالية من أي دفء. 

_ممكن بس الوحش ده هو اللي بجيتي تحملي اسمه خلاص. 

وهو الوحيد اللي هيحميكي في الدنيا دي هيحميكي من الكل... حتى من نفسك.


استقام في وقفته وبدأ في تزرير قميصه ببطء، فاردًا جسده القوي في استعراض متعمد للقوة والسيطرة.

لم يعد هناك باب ليخرج منه ويغلقه لقد انتهى وقت التهديدات البعيدة، وبدأ واقع العيش معه.


اتجه نحو السرير الضخم، ورفع الغطاء الحريري الرمادي بحركة واحدة سلسة.

_ده سريري ومبحبش حد يشاركني فيه.


ثم أشار برأسه نحو الأريكة التي تجلس عليها دون أن ينظر إليها مباشرة.

_مكانك هناك على الكنبة.


كانت كلماته صفعة غير متوقعة لم تكن تتوقع منه رحمة أو حباً، لكنها أيضاً لم تتوقع هذه الإهانة الصريحة مؤكداً على مكانتها الحقيقية في هذا المنزل: مجرد سجينة، غنيمة حرب، وليست زوجة.


وقفت نغم، وشعرت بدمها يغلي

الكره الذي شعرت به نحوه تحول إلى غضب ناري.

_وأني مستحيل أنام في أوضة واحدة مع واحد جاتل.


رفع الغطاء عن الفراش ليستلقي عليه وقال بعدم اكتراث

_حاليًا ده آمن مكان ليكي وأنصح بلاش تتحديني لأن محدش هيخسر غيرك.

ثم أضاف ببرود قاطع، وهو يطفئ المصباح الذي بجانبه، ليغرق جانبها من الغرفة في شبه ظلام:

"بس لو سمعت صوت نفسك بعد دلوجت، أو حسيت إنك بتفكري تعملي أي حاچة غبية... افتكري السواج. 

وافتكري إن بنت عمك وأهلك هما اللي هيدفعوا التمن بعده.


أعطاها ظهره، وسحب الغطاء عليه متجاهلاً وجودها تماماً.


بقيت نغم واقفة في الظلام، تشعر بالبرد والإهانة والغضب يعصفون بداخلها. 

لقد أجبرها على الزواج منه، ثم حكم عليها بالنوم على أريكة كخادمة منبوذة. 

أدركت في تلك اللحظة أن حربه معها لن تكون حرب جسد، بل حرب لإذلال الروح. 

وهو قد بدأ للتو في الاستمتاع بفصولها الأولى.


انتظرت نغم في الظلام، كل حواسها متيقظة، تستمع إلى إيقاع أنفاس جاسر وهو يغرق في نوم عميق على الأريكة في زاوية الغرفة

لقد أصر على النوم في نفس الغرفة، كحارس سجن يراقب سجينته. 

كان كل نفس يأخذه بمثابة عد تنازلي للحظة التي ستخاطر فيها بكل شيء.


عندما تأكدت من أنه نام تمامًا، تحركت بخفة الأشباح انزلقت من على السرير، وقدماها الحافيتان لا تصدران أي صوت على الأرضية الباردة. 

وصلت إلى حقيبتها ، وأدخلت يدها المرتجفة حتى لمست أصابعها برودة هاتفها الذي خبأته بعناية. 

كانت تلك القطعة الصغيرة من المعدن والزجاج هي حبل نجاتها الوحيد، وصلتها الوحيدة بالعالم الذي سُحبت منه.


تسللت نحو الشرفة، وفتحت الباب الزجاجي ببطء لا نهائي، تتجنب أي صوت قد يوقظ الوحش النائم. 

ما إن خرجت إلى هواء الليل البارد، أغلقت الباب خلفها وشعرت بأنها تستطيع التنفس لأول مرة منذ ساعات.


بأصابع ترتجف كأوراق الخريف بحثت نغم عن اسم "روح" في جهات الاتصال كان هذا هو الخيط الأخير الذي يربطها بعالمها القديم وعليها أن تتأكد هل قُطع هذا الخيط بالفعل أم أن كل ما قاله جاسر كان مجرد لعبة أخرى من ألعابه النفسية السادية. 


ضغطت على زر الاتصال ووضعت الهاتف على أذنها وقلبها يدق بعنف حتى كاد يكسر أضلاعها. 

كل رنة كانت كالأبدية صدى لفراغ يتربص بها.


على الجانب الآخر في منزل الرفاعي الذي كان يومًا منزلها.


دخلت روح غرفتها كطيفٍ حزين، كان البيت كله يضج باستعدادات زائفة لفرح لا روح فيه، لكن غرفتها كانت ملاذها الوحيد للحداد، نظرت إلى فراش نغم الفارغ وشعرت بحنين جارف يمزق صدرها، كيف يمكن أن يكون مكان أختها فارغاً وبارداً هكذا.


استلقت عليه ودفنت وجهها في وسادة نغم تستنشق رائحتها المتبقية كأنها آخر أثر من وجودها، وهنا انهار السد بكت كما لم تبكِ من قبل، لم يكن بكاءً هادئاً بل نحيباً عميقاً وموجوعاً بكاءً يشبه بكاءها يوم وفاة أبيها.

فاليوم مات شيء بداخلها مرة أخرى، لقد فقدت أختها توأم روحها التي انشغل الجميع عنها في دوامة الحفاظ على المظاهر.

"نغم" 

رددت اسمها بلوعة أرهقتها وازداد نحيبها حتى اهتز جسدها بالكامل.


وسط دموعها لم تنتبه في البداية لاهتزاز هاتفها بيد مرتعشة أمسكته على أمل يائس أن يكون "مالك" أو أي شخص يحمل خبراً لكن ما إن رأت اسم 

"نغم"

يضيء الشاشة حتى توقف قلبها للحظة ثم قفز إلى حلقها، شهقت وجلست في فراشها بسرعة البرق تمسح دموعها بعنف وتجيب بصوتٍ هو مزيج من اللهفة والخوف والهمس كأنها تخشى أن يكون حلماً.

_نغم؟


بمجرد أن تسلل صوت أختها الدافئ إلى أذنها، شعرت نغم بسد منيع داخلها يبدأ في التصدع والانهيار، صوت روح كان حقيقياً يحمل حناناً فقدته ومختلفاً تماماً عن البرود القاتل الذي يحيط بها، أغمضت عينيها بقوة محاولة حبس طوفان الدموع

_روح أنا....

انقطع صوتها وخانتها شهقة بكاء مكتومة لم تستطع إكمال الجملة


شعرت روح بوجع أختها عبر الأثير وكأنه سكين يخترق قلبها هي

_نغم حبيبتي فيكي إيه هو هو عملك حاچة أذاكي.

سألت بقلق محموم

حاولت نغم التوقف عن البكاء وأخذت نفساً عميقاً ومتقطعاً

_متخافيش عليا بس طمنيني أمي كيفها؟


قالت روح بحزن عميق

_مبطلتش عياط من وجت اللي حصل قاعدة زي اللي تايها منها روحها


مسحت نغم دمعة غادرة

_طمنيها وجوليلها إني بخير خليكي چانبها ومتسيبهاش


أومأت روح وكأن نغم تراها

_متخافيش بس انتي خلي بالك من نفسك.

ثم سألتها نغم بأمل التكذيب بصوتٍ خافت كأنه سر مؤلم

_صحيح.....صحيح اللي جالوه إن سند كتب كتابه على وعد


ساد صمت طويل وموجع على الخط لم تستطع روح الإجابة فهربت إلى الصمت الذي كان في حد ذاته إجابة مدوية.


أخذت نغم نفساً عميقاً ومريراً وشعرت ببرودة جليدية تزحف إلى أطرافها لقد تأكدت الشائعة، همست بصوتٍ أجش

_يعني حجيجي؟

هيعملوا الفرح بكرة هيجوزوا وعد لسند


لم تستطع روح إخفاء الوجع في صوتها وهي تجيب

_آه يا نغم حجيجي، جدك وعمامك جالوا لازم الفرح يتم عشان كلام الناس عشان يحفظوا شكل العيلة.


هنا لم تعد نغم قادرة على التحمل انزلقت دمعة حارقة على خدها دمعة واحدة تحمل كل مشاعر الخذلان والوحدة في العالم

_يحفظوا شكل العيلة؟

همست بسخرية مؤلمة وضحكت ضحكة قصيرة خالية من أي مرح ضحكة تشبه البكاء

_يحفظوه على حسابي وعلى حساب وعد؟ بالسهولة دي باعوني بالسرعة دي ولقوا لي بديل؟


بدأت روح تبكي في صمت على الطرف الآخر من الخط

_غصب عنيهم يا نغم، والله غصب عنيهم، محدش هنا جادر يفتح بقه.

البيت كله عامل زي ما يكون فيه ميتم بس لابسين وش الفرح، ووعد وعد حبست نفسها في أوضتها من امبارح ومبتكلمش حد.


كل كلمة كانت مسماراً جديداً يُدق في نعش علاقتها بهم لم تعد تشعر بالغضب بل بحزن عميق لا قرار له وبخيبة أمل هائلة جعلت كل ما فعله جاسر يبدو تافهاً لقد تأكدت الآن من كل شيء لم يتخلوا عنها فحسب بل محوها استبدلوها وأكملوا الحياة وكأنها لم تكن.

_روح..

قالت نغم بصوتٍ مبحوح لكنه الآن يحمل برودة وقوة غريبة قوة من وُلد من رحم اليأس

_اسمعيني زين، متجوليش لحد إني اتصلت أبدًا واحذفي المكالمة دي.

توسلت روح بيأس

_نغم استني، هنعمل إيه أنا مش هسيبك كده.


ردت نغم وفي صوتها كان هناك استسلام جليدي وقرار نهائي.

_مفيش حاچة تتعمل خلاص

أنا طريجي بجى معروف بس أنتم حاولوا تعيشوا.


_نغم أرجوكي.....


لكن نغم أنهت المكالمة، لقد قطعت الخيط الأخير بنفسها


أسندت ظهرها على الحائط البارد للشرفة والهاتف ينزلق من يدها المرتعشة نظرت إلى الظلام أمامها وشعرت بأنها هي نفسها أصبحت جزءًا من هذا الظلام، لقد تأكدت من الحقيقة والحقيقة كانت أقسى وأكثر إيلامًا من أي تهديد نطق به جاسر. 

هو سجن جسدها لكن أهلها قتلوا روحها وفي تلك اللحظة اتخذت قرارها لم تعد نغم الرفاعي لقد ماتت تلك الفتاة ومن الآن فصاعداً ستمحوهم من قلبها وذاكرتها تماماً كما محوها هم من حياتهم، لقد كانت وحيدة بالفعل والآن أصبحت حرة من حبهم الذي خذلها.


بأقدام واهنة خطت لداخل الغرفة، فتنصدم بذلك الذي يقف أمامها بعينين ثابتتين بهما وميض لم تراه من قبل

لكن الرؤية اختفت فجأة حين شعرت بدوار جذبها لعالم بعيد تماماً عن عالمهم.

لم تعد لديها القدرة على التحمل أكثر من ذلك.

لذا رحبت بظلام دامس يجذبها بعيدًا عن عالمهم القاسي.


❈-❈-❈


كان سالم يجلس في بهو بيته الفسيح، لكن المكان بدا له ضيقًا كقبر

كان الصمت يلف كل شيء، صمت ثقيل لا يقطعه سوى صوت عقارب الساعة التي كانت تدق كالمطارق على رأسه، تذكره بكل لحظة تمر ونغم بعيدة عنهم، في عرين عدوهم. 

كان يمسك بهاتفه في يده، يقلبه بين الحين والآخر، ينتظر لم يكن يعرف ماذا ينتظر بالضبط ربما معجزة، ربما خبرًا يريح قلبه، أو ربما الكارثة التي يتوقعها.


فجأة، اهتز الهاتف في يده رأى رقمًا غريبًا على الشاشة، لكن قلبه انقبض شعر بأن هذا هو الاتصال الذي كان يخشاه وينتظره في آن واحد أجاب بصوت أجش.

_السلام عليكم.


جاءه صوت فتاة خائف ومتردد من الطرف الآخر.

_وعليكم السلام الحاج سالم بيه؟ أني... أني فرح، الخدامة اللي في سرايا التهامي.

اعتدل سالم في جلسته، وتمسّك بالهاتف بقوة.

_أيوه يا بتي في حاجة؟ نغم زينة؟


صمتت فرح للحظات، وكأنها تجمع شجاعتها لتقول ما يجب أن تقوله ثم تحدثت بسرعة، بصوت خفيض كأنها تخشى أن يسمعها أحد.

_هي... هي مخرجتش خالص من الأوضة من ساعة ما رجعت من عندكم.

شعر سالم بقلبه يهبط.

_وكلت؟


_لا يا بيه رفضت الوكل والست  ونس بعتتلها وكل تاني برضك رفضته. جالتلي خدي الوكل ومش عايزة حاجة.


أغمض سالم عينيه بألم ابنته التي كان يتحايل عليها لتأكل لقمة زائدة، الآن تجوّع نفسها عمدًا.

طيب هي... هي بتعمل إيه؟ حالها كيف؟


ترددت فرح مرة أخرى، ثم قالت بصوت يملؤه الأسف.

_ لما دخلت عندها الأوضة، كانت مكسرة حاجات بسيطة، والفرش متبهدل كانت بتعيط يا حاج ولما جولتلها إنك موصيني عليها، حسيت إنها اتضايجت أكتر.


كل كلمة كانت سكينًا يغرس في قلبه يستطيع أن يتخيلها الآن، وحيدة في تلك الغرفة الغريبة، تحارب حزنها وغضبها بتحطيم الأشياء، تبكي بصمت حتى لا تسمعهم صوت انكسارها ويشعر بالعجز

عجز رهيب ومقيت يلتهم روحه هو سالم الرفاعي، الذي كان يستطيع أن يحرك الجبال من أجلها، يقف الآن مكتوف الأيدي، لا يملك سوى أن يستمع إلى تقرير عن عذاب ابنته عبر الهاتف.

_في حاجة تانية حوصلت؟

سأل بصوت بالكاد كان مسموعًا وهنا جاءت الطعنة الأقوى.

_جاسر بيه... هو اللي جالي أكلمك.


اتسعت عينا سالم بصدمة.

_كيف يعني؟


_هو اللي أمرني أجولك كل حاچة.... كل حاچة بتحصل معاها لما سمعني بكلمها عليك، وسمحلي أبلغك بكل حاچة بتحصل عادي

هو... هو عايزك تعرف.


هنا فهم سالم كل شيء لم تكن هذه مكالمة للاطمئنان كانت هذه جلسة تعذيب نفسي، خطط لها جاسر ببرود شيطاني هو لا يريد فقط أن يسجن نغم، بل يريد أن يجعلهم سجناء معها، يشاركونها كل لحظة من ألمها وهم عاجزون عن فعل أي شيء يريد أن يذيقهم نفس القهر الذي تشعر به.


شعر سالم بغصة حارقة في حلقه، وبغضب عارم يغلي في دمه، لكنه غضب مشلول، لا يستطيع أن يفعل به شيئًا لو كان جاسر أمامه الآن، لقتله بيديه لكنه بعيد، وهو هنا، لا يملك سوى أن يستمع.


أنهى المكالمة دون أن ينطق بكلمة أخرى وضع الهاتف بجانبه، وظل جالسًا في مكانه، يحدق في الفراغ لم تعد الساعة تدق، بل كان يسمع صوت بكاء نغم في أذنيه يرى صورتها وهي تحطم الأشياء، يرى انطفاء روحها في عينيها.


وضع رأسه بين يديه، وشعر لأول مرة في حياته بمعنى العجز الحقيقي ليس عجز القوة أو المال، بل عجز الأب الذي لا يستطيع أن يحمي ابنته، 

الذي لا يستطيع أن يمسح دمعتها، 

الذي لا يستطيع أن يضمها إلى صدره ويخبرها أن كل شيء سيكون على ما يرام لأنه يعلم في قرارة نفسه، أن لا شيء سيكون على ما يرام بعد الآن.


❈-❈-❈

_نغم...


أصوات خافتة، وكأنها آتية من بئر عميق، تنادي باسمها

شعرت بوخز حاد في ذراعها آلمها قليلًا، ثم بيد حانية تمسك بيدها تربت عليها بلطف، كأنها تحثها على العودة من ذلك الظلام البارد الذي سقطت فيه.

_أمي...


تمتمت بالكلمة، ظنًا منها أنها تستيقظ أخيرًا من ذلك الكابوس المريع الذي أرهقها، وأنها ستجد وجه والدتها الحنون أول ما تراه.

فتحت عينيها بتثاقل كانت الرؤية ضبابية، والأشكال غير واضحة، حركت عينيها بوهن، تحاول تمييز الوجوه.

_روح...


_حمد لله على سلامتك يا بنتي.

لم يكن صوت والدتها، ولا صوت زوجة عمها كان صوتًا غريبًا، يحمل دفئًا لم تتوقعه في هذا الكابوس.

_نغم... سامعاني؟


بدأت الرؤية تتضح أمامها رويدًا رويدًا، حتى ظهرت أمامها امرأة في منتصف العمر، وجهها طيب الملامح، وبجانبها فتاة شابة ترفع يدها لتجس نبضها.

_الحمد لله، فاقت يا مرت عمي.


لم تفهم نغم شيئًا من شدة الدوار الذي كان يهاجمها تمتمت بضعف، وصوتها كان بالكاد مسموعًا.

_أني... أني فين؟


_أنتِ في بيت جوزك يا بنتي.

أغمضت نغم عينيها بألم حارق إذن، ما عاشته كان حقيقة، ولم يكن كما ظنت. لم يكن كابوسًا ستستيقظ منه، بل واقعًا ستعيشه كل يوم.


قالت الفتاة الشابة، التي يبدو أنها طبيبة.

_الحمد لله، الضغط اتظبط شوية.


نظرت نغم إليها، فوجدت امرأة صغيرة السن، وجهها هادئ ومبتسم، لا ينتمي أبدًا لتلك العائلة الجاحدة ذات الوجوه القاسية.

دلفت فرح وهي تحمل صينية عليها طبق حساء ساخن، فأخذته منها الطبيبة.


_متشكرة يا فرح روحي نامي أنتِ، تعبناكي معانا.


قالت فرح بصدق.

_تعبك راحة يا ست الدكتورة المهم إن ست نغم بخير.


خرجت فرح، وجلست الطبيبة بجوار نغم على طرف السرير.

_اسنديها يا مرات عمي، عشان أسقيها الشوربة دي.


هزت نغم رأسها برفض، وتمتمت بوهن.

_مش... عايزة.


قالت أم جاسر، التي كانت تجلس على الجانب الآخر.

_مينفعش يا بنتي، أنتِ وجعتي من طولك عشان معدتك خاوية لازم تاكلي أي حاچة عشان تجويكي.


ظلت نغم على رفضها، عيناها مغمضتان بعناد فقالت الطبيبة بمزاح لطيف.

_لاا، دي شكلها مبتجيش بالذوق زي جوزها.


وضعت الصينية على الطاولة، وعادت لنغم، ووضعت الوسادة خلف ظهرها رغم تمنعها.

_يلا، اتسندي على المخدة عشان تاكلي.

الصفحة التالية