-->

رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 18 - جـ 1 - الأربعاء 3/9/2025

 

قراءة رواية ثنايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ثنايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا الخولي


الفصل الثامن عشر 

الحزء الأول

تم النشر الأربعاء  

3/9/2025


في غرفة الطعام بمنزل الرفاعي، كان الصمت ثقيلاً كالهواء قبل العاصفة

 كان مالك يراقب عدي وروح بنظرات حادة كالصقر

 كانت روح قد بنت حول نفسها جدارًا من الجليد، تتحدث بكلمات مقتضبة وتتجنب النظر إلى زوجها الذي كان وجهه ملتصقًا بهاتفه، يتفحصه كل بضع دقائق بعينين زائغتين كأنه ينتظر حكمًا بالنجاة أو الهلاك.


فجأة نهض مالك وحركته المتعمدة كسرت الجمود.

_أنا رايح مشوار.

قال بصوتٍ جهوري، ليس مجرد إعلان بل أمر واقع فرض نفسه على الجميع.

سأل والده، وقد شعر بثقل نبرة ابنه.

_على فين يا ولدي في وقت زي ده؟ 


_رايح لأكمل. صاحبي، هقعد معاه شوية في بيته.

 كذب مالك ببرود وثقة وهي كذبة محسوبة لإخفاء وجهته الحقيقية

 لم يكن ذاهبًا إلى صديق، بل كان ذاهبًا إلى الحرب.


ألقى نظرة خاطفة نحو روح، نظرة لم تدم أكثر من ثانية لكنها حملت مجلدات من المعاني: وعد صامت بالحماية وتأكيد بأنه لن يتركها فريسة للظروف ثم استدار وخرج بخطوات ثابتة، تاركًا خلفه جوًا مشحونًا بالترقب.


بمجرد أن أغلق باب سيارته خلفه تحول وجهه إلى قناع من التركيز القاتل. 

لم يتجه إلى منزل أكمل، بل انطلق كالصاروخ نحو أطراف البلد، إلى منطقة يعرفها جيدًا حيث تتوارى الأسرار وتُعقد الصفقات بعيدًا عن الأعين

وصل إلى منزل متواضع لكنه نظيف، منزل أم فرح، الخادمة السابقة في منزل التهامي

التي أيضا تدين بالولاء المطلق لعائلتي الرفاعي عندما توفى زوجها ورفض صخر أن يتكفل بتكاليف دفنه وفعلها سالم

وابنتها فرح تعمل حالياً مكانها.


طرق الباب طرقات خفيفة ومميزة فتحت له المرأة العجوز على الفور، وكأنها كانت تتوقعه.

_ مالك بيه! يا ألف أهلا وسهلا اتفضل يا ابني.

 

قال باحترام يخفي عاصفة من الإصرار

_ معلش يا خالة أم فرح، مش هجدر أدخل

أنا عايز منيكى خدمة، وخدمة واعره.


نظرت إليه المرأة بعينيها اللتين رأتا الكثير، وأدركت أن الأمر يتجاوز مجرد طلب عادي.

_ اؤمر يا ابني رجبتي سدادة.


اقترب مالك وهمس بصوت خافت لكنه حاد كالشفرة.

_عايزك تسأليلي... 

لم يعرف كيف يخبرها، فعدل حديثه

_عايز اشوف فرح 

عشان أعرف كل حاچة عن بنت اسمها نغم في بيت التهامي.

_تجصد نغم بنت عمك؟

اندهش مالك وسألها

_انتي عرفتي منين؟

ردت ام فرح.

_لإن أبوك سبجك وطلب ده من فرح، وفرح بتوصله كل حاچة اول بأول


اندهش مالك حقاً

فوالده الذي كان يظن أنه تخلى عنها بدوره كان يتحرك في صمت

نظر لأم فرح وقال 

_لأه انا اللي عايز اعرف كل حاچة وبلاش توصلوى لأبوي


أخرج مالك رزمة سميكة من المال ووضعها في يدها، حاولت الرفض لكنه أمسك بيدها وأغلقها على النقود.

_أرجوكي تخلي فرح تكلمني في أسرع وجت.

ترك لها رقم هاتفه ثم

عاد إلى سيارته، لكنه لم يغادر أخرج هاتفه الذي كان أداة عمله وسلاحه في نفس الوقت بدأ بإجراء سلسلة من الاتصالات السريعة والموجزة، كقائد عسكري يصدر أوامره في ميدان المعركة.

اتصل على أحد الأرقام الذي بعثه له أكمل ليساعده في مراقبة السرايا

_استاذ هيثم... 

انا مالك الرفاعي

عايزك تخترق لي شبكة الكاميرات في المنطقة المحيطة بقصر التهامي مش عايز نقطة عمياء واحدة

 وأي سجلات مكالمات أو تحركات إلكترونية مشبوهة من أي شخص من عيلة التهامي، توصلني فورًا.

بعد مناوشات كثيرة

أنهى اتصالاته وألقى الهاتف بجانبه

لم يعد مجرد فرد من عائلة الرفاعي، بل تحول إلى كيان مستقل، قوة ضاربة تتحرك في الظل لقد أدرك أن مواجهة آل التهامي وجهًا لوجه ستكون انتحارًا، لكن خنقهم بشبكة من الضغط المالي والقانوني والمعلوماتي هو الطريق الوحيد.

 لم يكن يسعى لإنقاذ نغم فحسب، بل كان يبني حصارًا حول أعدائه، طوبة فوق طوبة، حتى ينهار حصنهم من الداخل

 نظر إلى ظلام الليل أمامه، وابتسم ابتسامة باردة لقد بدأت اللعبة للتو.



❈-❈-❈


بعد انتهاء وجبة الإفطار الصامتة، نهض جاسر من على المائدة لم يتحدث بل أشار بعينيه فقط إلى نغم أن تتبعه

كانت إشارة باردة وآمرة لا تحتمل الرفض فهمت نغم الإشارة ونهضت كظِلٍّ له وتبعته بهدوء جليدي إلى خارج غرفة الطعام.


سار بها عبر الردهة الفاخرة وخطواته الواثقة تدوي على الرخام المصقول، بينما خطواتها كانت خافتة تكاد لا تُسمع 

 توقف في بهو القصر الرئيسي، الذي كان يتسع ويتألق كقلب نابض من الكريستال والذهب تحت ثريا ضخمة بدت كشمسٍ متجمدة

وقف في المنتصف، وتفحص المكان بنظرة مالكٍ متفحصٍ لممتلكاته، ثم استدار إليها ببطء.

قال بصوت هادئ لكنه كان يحمل ثقل الأمر والسيطرة، صوتًا لا يُعلى عليه في هذا المكان. 

_شايفة كل ده؟ 

ده واچهة بيتي... واچهة قوة عيلة التهامي. 

ومينفعش ضيف ياجي ويلاجي فيه ذرة غبار. 

ومادام أنتي مرتي، يبجى لازما يكون المكان ده على مزاچي

والخدم دول... شغلهم مش عاجبني.


عقدت نغم حاجبيها باستفهام صامت، لا تفهم إلى أين يرمي لم يكن هناك خادم واحد في الأفق.

أكمل، وعيناه كالصقر مثبتتان عليها، تشرحان رد فعلها كعالمٍ يراقب حشرة تحت المجهر.

_ من النهاردة أنتي اللي هتشرفي على كل حاچة بنفسك.

مش بس تشرفي... أنتي اللي هتشتغلي بيدك.

 أنا أمرت الخدم كلهم ياخدوا إجازة مفتوحة من الچناح ده.

صمت للحظة ليعطي كلماته وقعًا أكبر، وليجعلها تستوعب عزلتها الكاملة.

أشار إلى الأعلى

_ الثريا الكريستال دي.

عايزها بتلمع كيف الشمس هتطلعي وتنضفيها بيدك قطعة... قطعة.


اتسعت عينا نغم قليلاً بالصدمة الثريا كانت ضخمة ومعلقة على ارتفاع شاهق تنظيفها يتطلب سلمًا عاليًا، ومجهودًا بدنيًا شاقًا وخطيرًا. 

لم تكن مهمة لامرأة، بل لعمال متخصصين.

تابع دون أن يعطيها فرصة للرد، وصوته يقطر سادية هادئة

_ وبعد ما تخلصي كل التحف والتماثيل دي، هتتلمع واحدة واحدة والأرضيات الرخام دي... عايز أشوف وشي فيها مش عايز ولا خدش ولا بقعة تراب.


كانت أوامره ليست مجرد طلبات للعمل، بل كانت خطة مدروسة للإذلال المطلق

 كان يريد أن يراها تتعرق، تتعب، تتسخ، أن يحولها من "نغم الرفاعي" الهانم إلى خادمة وحيدة في قصره الشاسع

 كان يريد أن يكسر كبرياءها من خلال تحطيم جسدها بالإرهاق وأن يثبت لنفسه أنها لم تعد سوى شيء من ممتلكاته كان يتوقع منها أن تعترض، أن تصرخ، أن ترفض. 

كان ينتظر منها أي رد فعل ليستخدمه ضدها، ليقول لها ببرود: 

"ألم تقبلي بشروطي؟ هذا هو ثمن وجودك هنا."

لكن نغم فاجأته مرة أخرى

نظرت إلى الثريا الشاهقة، ثم إلى التحف اللامعة، ثم إلى الرخام الممتد كبحرٍ من الجليد، وأخيراً إليه. 

لم يكن في عينيها تحدي ولا غضب، ولا حتى خوف أو يأس. 

كان فيهما قبول بارد، وفراغ تام ومخيف.

_ حاضر.

قالتها بكلمة واحدة، بصوتٍ مستوى وخالي من أي شعور، ثم استدارت واتجهت نحو غرفة الخدم لتبحث عن أدوات التنظيف والسلم، دون أي كلمة إضافية، وكأنها آلة تلقت برمجتها للتو


وقف جاسر في مكانه، يشعر بمزيج غريب من الانتصار المطلق والفراغ المرير.

 لقد أطاعت، وهذا انتصار ساحق لكنها أطاعت بطريقة سلبته لذة هذا الانتصار. 

لم تمنحه رده الفعل الذي أراده لم تتوسل، ولم تتذمر

 لقد قبلت الإهانة وكأنها شيء عادي، وكأن روحها قد ماتت بالفعل ولم يعد هناك ما يمكن كسره

أدرك في تلك اللحظة أن معركته معها قد تغيرت، لم تعد معركة لكسر الكبرياء، فالكبرياء قد تبخر

 لقد أصبحت معركة لإعادة إشعال أي شيء... أي شعور... حتى لو كان الألم الصريح. 

لأنه أدرك أن فراغها هذا وصمتها، وقبولها المطلق هو أقوى سلاح تملكه ضده الآن. 

لقد تحولت إلى شبح في قلعته، شبح يطيعه لكنه لا يراه أبدًا. 

وهذا كان أكثر إثارة للجنون من أي تمرد صاخب.

كان يتوقع منها أن تنهار أن تتوسل، أن تصرخ بأنها لا تعرف بأن هذا مستحيل. 

كان ينتظر منها أي شرارة تمرد ليطفئها بقسوة، ليقول لها: 

"هذا مكانك هنا، مجرد خادمة"

لكن نغم فاجأته مرة أخرى، وكسرت انتصاره.


❈-❈-❈


وصل أكمل إلى شقته في القاهرة وهو يجر جسده وروحه كان إرهاق السفر الطويل يثقل جفنيه، لكن القلق الحقيقي الذي كان ينهش روحه هو صورة جده الرجل الذي تركه وحيدًا في الصعيد، والذي يمثل كل ما هو أصيل في حياته

لم يكد يلقي بجسده المنهك على الأريكة ويغمض عينيه، حتى رن هاتفه بنغمة مخصصة لها كانت ليلى. 

تنهد بعمق، وجمع ما تبقى من طاقته ليرد.

جاء صوتها عاتبًا وحادًا، يخلو من أي قلق حقيقي، ومليئًا بالاستياء الأناني

_ أكمل أخيرًا! كل ده عشان ترد عليا؟أنا كنت هموت من القلق عليك نزلت ستوري إني قلقانة والكل بيسألني


رد بصوت متعب، بالكاد يخرج

_ معلش يا ليلى، كنت في الطريق والدنيا كانت صعبة و مفيش شبكة.


قالت بإصرار لم يراعِ تعبه، وكأنها لم تسمع كلماته

_طيب بما إنك وصلت بالسلامة، لازم أشوفك النهاردة وحشتني جدًا. وحجزت لنا في 'لا سييل'، لازم نحتفل برجوعك.


حاول الاعتذار، فالذهاب لمطعم فاخر هو آخر ما يريده الآن. 

_ليلى، أنا مهدود وعايز أنام...

قاطعته بحسم

_لأ يا أكمل أنا مجهزة نفسي ولابسة ومستنياك مش معقول تكسفني لتاني مرة نص ساعة وتكون عندي


استسلم في النهاية، مدركًا أن المقاومة ستفتح بابًا للجدال لا يطيقه

بعد ساعات قليلة، كان يجلس أمامها كانت جميلة وأنيقة كعادتها، ترتدي فستان بأكمام قصيرة رافضة الرضوخ لطلبه بألا ترتدي مثل تلك الملابسة وتضع مكياجًا متقنًا، لكن أكمل شعر بأن هناك شيئًا مختلفًا، أو ربما هو الذي نزع عن عينيه الغشاوة وبدأ يرى الأمور على حقيقتها.

بدأت الحديث بحماس، وهي تلتقط صورة لهما قبل أن تلتفت إليه. 

_تصدق يا حبيبي امبارح كنت قاعدة مع شيرين ومي، صحباتي كانوا بيقولولي لازم تخلي بالك من أكمل، مركز وكيل النيابة ده مش أي حد بياخده، والمستقبل قدامه كبير دي حاجة ترفع الراس بجد.


ثم ضحكت ضحكة رنانة ومصطنعة. _حسيت بغيرتهم وهما عاملين نفسهم بينصحوني شيرين بتقولي إن البنات هيموتوا عليك.


ابتسم أكمل ابتسامة باهتة، شعر فيها بطعم المرارة.

أكملت وهي تمسك بيده فوق الطاولة، وأظافرها المطلية بعناية تضغط على جلده

_بصراحة يا أكمل، أنا طول عمري كنت بحلم أتجوز راجل له مكانته، له هيبته يعني مش أي حد والسلام والحمد لله ربنا رزقني بيك أنت البراند بتاعي اللي بتباهى بيه.

شعر أكمل وكأن دلوًا من الماء المتجمد قد سُكب فوق رأسه. كلمة "براند" ظلت تدوي في أذنيه.

حاول أن يكتم انفعاله وقال 

_شكلهم لو شافوني باللبس الصعيدي مش هيقولوا كدة.

_وانت ايه اللي هيوديك الصعيد، حياتك هنا ملكش حد هناك.

رفع حاجبيه مندهشا

_وجدي..

تركت يده واسندت ظهرها على ظهر المقعد

_ماله جدك هو عايش حياته هناك ومبسوط بيها، انت اللي مصر تروح هناك وبتسيب شغلك عشانه وده اسمه تهور

قال بصوت هادئ ومبحوح.

_تهور؟ إني أروح أطمن على جدي اللي ملوش غيري في الدنيا بقى اسمه تهور؟

حاولت تدارك الموقف بسرعة عندما رأت نظرته المتغيرة، لكنها زادت الطين بلة

_لأ طبعًا مش قصدي، قصدي يعني... لازم توازن متخليش عواطفك تأثر على مكانتك وصورتك قدام الناس أنت وكيل نيابة يا أكمل، يعني أي غلطة محسوبة عليك السفر المفاجئ ده ممكن يتفسر غلط ممكن يقولوا مش متحمل المسؤولية لازم تحافظ على منصبك ده بكل قوتك ده تذكرتنا لحياة تانية خالص


في تلك اللحظة، رأى أكمل ليلى على حقيقتها لأول مرة لم تكن تحبه هو، أكمل الإنسان، بكل تعقيداته وجذوره كانت تحب 

"أكمل بيه وكيل النيابة"

الواجهة الاجتماعية اللامعة

كانت تحب المنصب، الهيبة والمستقبل الواعد الذي يمثله

 جده عائلته، أصله... كل هذا كان في نظرها مجرد "عواطف" و"تهور" يعيق مسيرة "البراند" الذي استثمرت فيه.


شعر بغربة شديدة وكأنه يجلس مع شخص لا يعرفه لقد عاد من الصعيد تاركًا خلفه حبًا أصيلاً، نقيًا، وغير مشروط متمثلاً في تجاعيد وجه جده وقلقه الصادق، ليجد في انتظاره في القاهرة حبًا مزيفًا مشروطًا بالمنصب والمكانة الاجتماعية.


انطفأت آخر بقايا الدفء في عينيه، وحل محلها برود جليدي

 أكمل الغداء وهو يستمع إليها تتحدث بحماس عن خططهما المستقبلية، عن الشقة التي تريدها في "الكومباوند" ، وعن نوع المدعوين الذين يجب أن يحضروا حفل زفافهما كان جسده حاضرًا، لكن عقله وروحه كانا يخططان في صمت لإعادة تقييم كل شيء في حياته، وأول قرار اتخذه بصمت هو أن هذه المرأة لن تكون جزءًا من مستقبله الحقيقي.


❈-❈-❈


كانت نغم تقف على درجات السلم الخشبي العالية، جسدها الصغير يتمايل بخفة مع كل حركة كانت تمسك بقطعة قماش مبللة، وتمررها ببطء ومنهجية على كل واحدة من كريستالات الثريا الضخمة. 

لم تكن تنظر إلى الأسفل، حيث كان جاسر يقف، يراقبها كصقر يراقب فريسته.


مرت ساعة، ثم ساعتان. 

العرق يتصبب من جبينها وذراعاها ترتجفان من الإرهاق كانت المهمة شاقة وخطيرة مصممة لإجبارها على الصراخ، على طلب المساعدة، على التوسل. 

لكنها لم تفعل كانت صامتة

حركاتها آلية، وعيناها فارغتان.


نفد صبر جاسر من هذا الصمت، من هذا الاستسلام الذي كان أشبه بالهزيمة له. 

_مش عاجبني.

قال ببرود. 

_لسه فيه تراب انزلي، وغيري الماية واطلعي تاني من الأول.


لم تلتفت إليه أكملت مسح الكريستالة التي في يدها، ثم بدأت في النزول ببطء بنفس الهدوء القاتل. 

مرت من أمامه وكأنه غير موجود، واتجهت لتغيير الماء.


هذا التجاهل هذا الانصياع الخالي من أي عاطفة كان يثير جنونه. 

تبعها إلى حيث كانت تفرغ الدلو.

_مبتسمعيش لما بكلمك؟

أمسك بذراعها ولفها لتواجهه.


رفعت عينيها إليه كانتا صافيتين، خاليتين من أي شعور لا غضب لا كراهية، لا خوف لا شيء.

قالت بصوتٍ هادئ.

_سمعت وهعيد الشغل تاني.


ضيق عينيه بشك ولم يعد يفهم سبب ذلك الاستسلام 

لم ترفض شيء أمرها به

وكلما ضغط عليها كلما اطاعته

سألها بشك

_في ايه؟ ايه سبب الاستسلام ده اومال فين نغم الرفاعي...


"ماتت" 

قالتها ببساطة كأنها تذكر حقيقة علمية وتابعت بهدوء مزيف يخفي خلفه عاصفة مدمرة

_أهلها قتلوها، وأنت دفنتها. 

اللي واقفة قدامك دي مجرد واحدة بتنفذ أوامرك عشان تسيبها في حالها.


عايزني ألمع الثريا عشر مرات، هلمعها عايزني أمسح الأرض مية مرة، همسحها. 

بس متتوقعش مني أي حاجة تانية لأني خلاص...


كانت كلماتها كصفعة جليدية

لقد اعترفت بهزيمتها، لكنها في نفس الوقت سلبته كل متعته في النصر. 

لقد أراد أن يكسر روحها، لكنه وجد أنها مجرد قوقعة فارغة. 

أراد أن يشعل فيها النار، لكنه وجد كومة من الرماد البارد.


ترك ذراعها ببطء، ونظر إليها وهي تعود لتملأ الدلو من جديد، وكأن هذا الحوار لم يحدث. 

أدرك برعب أن أقسى أنواع العذاب التي خطط لها لن تؤثر فيها. 

كيف تعذب شخصًا لا يشعر بشيء؟ كيف تكسر شخصًا محطمًا بالفعل؟


لأول مرة منذ أن بدأ هذه اللعبة، شعر جاسر بالهزيمة. 

لم يهزمها بل هزمته هي بفراغها

 لقد فاز بالمعركة لكنه خسر الحرب، لأنه اكتشف أن الجائزة التي قاتل من أجلها... لم تعد موجودة


❈-❈-❈


مر يومان آخران في منزل التهامي على نفس المنوال. 

جاسر يصدر أوامر شاقة ومُهينة، ونغم تنفذها بهدوء آلي كأنها آلة لا روح فيها 

كان يراقبها وهي تنظف الجناح الواسع، أول تصعد للأعلى كي تضع الملابس تحت الشمس الحارقة، أو تلمّع شيء في ساعة متأخرة من الليل.

 كان ينتظر منها أن تنهار، أن تبكي، أن تصرخ... لكنها لم تفعل. 

هذا الصمود السلبي، هذا الفراغ في عينيها، كان يستنزفه هو أكثر مما يستنزفها

 لقد أصبح سجينًا لرد فعلها الذي لا يأتي أبدًا.


في مساء اليوم الثالث، وبعد أن أنهت نغم ترتيب مكتبه الضخم دون أن تنطق بكلمة، وقبل أن تخرج، أوقفها صوته فجأة.

_استني.


توقفت وأعطته ظهرها، تنتظر الأمر التالي.


_بكرة الصبح... حضري نفسك.

 قال بنبرة مختلفة، نبرة لم تسمعها من قبل، فيها شيء من القرار الحاسم الذي يغير مسار الأمور.


لم ترد، فاستدارت لتنظر إليه بعينيها الفارغتين، في انتظار بقية الأمر.

كانت هذه هي المرة الأولى التي يتغير فيها تعبير وجهها منذ أيام. 

ظهرت لمحة خفيفة من الارتباك في عينيها لماذا؟

_هنروح المركز تچيبي هدوم بدل الهدم اللي بتلبسيها دي.


لم يكن هذا هو السبب الحقيقي السبب الحقيقي هو أنه أدرك أن هذا القصر، بكل أدوات التعذيب النفسي التي فيه، لم يعد يؤثر عليها. 

لقد تحصنت داخل فراغها

 ربما كما فكر إذا أخرجها من هذا المكان إذا تمر أمام بيئة مختلفة، غريبة وصاخبة قد يتصدع هذا الجدار الجليدي الذي بنته حول نفسها. 


لقد كانت خطوة يائسة ومحاولة أخيرة منه لاستعادة السيطرة على اللعبة، وإيجاد طريقة لإعادة "نغم" التي يريد كسرها، لا الشبح الذي أصبحت عليه.


❈-❈-❈


عاد مالك في المساء إلى منزل الخادمة السابقة، أم فرح كان قلبه يخفق بقلق وترقب. 

هذه المرة وجد ابنتها "فرح" قد عادت من عملها في منزل التهامي. 

كانت فتاة صغيرة في مقتبل العمر، تبدو عليها علامات الإرهاق والخوف.


جلسا في غرفة متواضعة، وأم سعيد تحوم حولهما بقلق.

_خير يا مالك بيه؟

سألت فرح بصوت خافت، وهي تتجنب النظر في عينيه مباشرة. 

_أمي جالتلي إنك عايزني.


قال مالك بنبرة هادئة ليطمئنها. 

_أيوة يا فرح أنا عارف إن طلبي صعب، وممكن يعرضك للخطر بس أنتي أملي الوحيد عايز أعرف كل حاجة عن نغم كل حاجة.

ارتبكت فرح وقالت

_بس والدك جاني من فترة وطلب مني نفس الطلب.

حتى جاسر به عرف ومتكلمش معاي زي ما يكون مش فارج معاه

ضغط مالك على قبضته بغضب

وتابعت فرح بتأثر حقيقي

_الوضع صعب جوي يا بيه أصعب مما أي حد يتخيل. 

جاسر بيه... بيعاملها بجسوة متتوصفش بيخليها تشتغل شغل الخدم بإيدها.

 تنضف وتلمع وشيل وحط وبيرفض حد يساعدها.


انقبض وجه مالك من الألم والغضب. 

_وهي... هي عاملة إيه؟ بترد عليه؟ بتقاوم؟


هزت فرح رأسها بأسى. 

_هي دي المشكلة يا بيه مبتعملش أي حاچة واصل، ساكتة بتنفذ كل أوامره وهي ساكتة

 عينيها فاضية، كأنها مش هنا، كأنها بتموت بالبطيء قدام عنينا كلنا.


 لقد كان جاسر يلعب بهم جميعًا. 

إذًا لم يكن يكتفي بتعذيب نغم، بل كان يستخدم هذا التعذيب ليعذب والده عن بعد، مستمتعًا بعجزهم وقهرهم.



كانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر مالك. 

شعر بغضب عارم ورغبة في القتل

أخرج من جيبه هاتفًا صغيرًا، ووضعه على الطاولة أمام فرح.

قال بصوت مصمم

_ده... ده لنغم عايزك تديهولها بأي طريجة جوليلها ده من مالك

وجوليلها إني مش هسيبها

وإني هعمل أي حاچة عشان أخرجها من الچحيم ده

بس أنا محتاج أسمع صوتها

محتاج أتكلم معاها وأطمن عليها بنفسي.


نظرت فرح إلى الهاتف بخوف. 

_دي مخاطرة كبيرة يا بيه لو جاسر بيه عرف...


_مش هيعرف.

قاطعها مالك بحزم. 

_انا واثق فيكي يا فرح أنتي الوحيدة اللي تجدري توصليلها أرجوكي.


نظرت فرح إلى وجهه المليء بالألم والرجاء، فهزت رأسها بموافقة صامتة، وأخذت الهاتف وخبأته في ملابسها

بعد ذهابه أخرجت هاتفها من جيبها وقالت 

_ايوة يا بيه لسة ماشي دلوجت وعملت زي ما جولتلي.


_........


_ايوة واداني تليفون ادهولها.


_.......


_تحت امرك يا بيه..

الصفحة التالية