رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 18 - جـ 2 - الأربعاء 3/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الثامن عشر
الحزء الثاني
تم النشر الأربعاء
3/9/2025
كانت نغم تمسح الغبار عن الكتب في مكتب جاسر الضخم، لم تكن مجرد عملية تنظيف بل كانت هروباً.
كل كتاب تمسحه كل رف ترتبه، كان يبعدها عن التفكير في واقعها المر.
كانت رائحة الورق القديم والجلد أهون عليها من رائحة سجنها الذهبي.
فُتح الباب بهدوء ودخلت الخادمة فرح، وفي عينيها نظرة شفقة لم تستطع إخفاءها.
_ست نغم العشا جاهز، جاسر بيه والكل مستنيين على السفرة.
نظرت نغم إلى الطاولة التي لا تزال مغطاة بالأتربة، وقالت بصوتٍ هادئ ومنهك دون أن تلتفت.
_لسة مخلصتش، خلينم ياكلوا هما.
حاولت فرح الإصرار برفق.
_بس يا ست هانم...
قاطعتها نغم بنبرة حادة لم تعتدها على نفسها، نبرة ولدت من رحم القهر.
_جولتلك لسة.
تراجعت فرح، وتأثرت بشدة لحالها.
هذه الفتاة التي كانت "هانم" في بيت أهلها، التي كانت تُخدم ولا تَخدم، أصبحت الآن تقوم بعمل الخدم في بيت زوجها، بل وترفض حتى أن تجلس معهم على مائدة واحدة.
خرجت فرح بصمت، وقلبها يعتصر ألماً عليها.
على مائدة العشاء
كانت المائدة تجمع العائلة في صمت متوتر.
جاسر يجلس على رأس الطاولة كملك على عرشه.
عن يمينه أمه، وعن يساره مكان نغم الفارغ
وقبالته عمه صخر وبجانب صخر جلست زوجته، ثم شروق التي كانت ترمق مكان نغم الفارغ بنظرات تشفي.
وصلت فرح إلى غرفة الطعام، ووقفت بتردد.
_جاسر بيه، ست نغم بتجول إنها مش هتتعشى لسة بتنضف المكتب.
قبل أن يرد جاسر، تحدثت شروق بصوتٍ عالي فيه نبرة شماتة واضحة.
_أحسن أصلاً الواحد مبيعرفش ياخد راحته في الأكل وهي جاعدة مكانها الطبيعي مع الخدم مش وسطينا.
ساد صمت جليدي فجأة تجمدت الشوكة في يد صخر، بينما نظرت زوجته إلى شروق نظرة حانقة.
أما ونس، فأغلقت عينيها في استياء صامت.
لم يرفع جاسر عينيه عن طبقه.
أكمل قطع اللحم ببطء شديد وهدوء مخيف
ثم وضع الملعبة بجانب طبقه بدقة متناهية، وأصدر صوتهما المعدني على الصحن صدى كطلقة رصاص في الصمت المطبق.
رفع رأسه ببطء، ولم ينظر إلى شروق، بل وجه نظره الحادة كالصقيع إلى عمه صخر مباشرة.
_علم بنتك الأصول يا عمي، علمها إمتى تتكلم، وإمتى تسكت.
تجمد صخر في مكانه كانت كلمات جاسر الهادئة تحمل إهانة وسلطة مطلقة، تتجاوزه لتصل إلى ابنته وكأنه هو المسؤول عن خطئها.
تدخلت زوجة صخر، محاولة الدفاع عن ابنتها وتصويب الموقف من وجهة نظرها.
_وإيه الغلط اللي جالته يا جاسر؟ أنت نفسك عاملها خدامة في البيت، وسايبها تنضف بدل ما تجعد ويانا.
هنا، استدارت نظرات جاسر الحارقة نحوها.
لم يرفع صوته، بل تحدث بنبرة جليدية قاطعة، كل كلمة فيها تفرض قانوناً لا يمكن كسره.
_مراتي هنا لخدمتي أني وبس، أني اللي أقرر تشتغل إيه، وتاكل إمتى، وتنام فين.
هي تحت رحمتي أني، مش تحت رحمة أي حد تاني في البيت ده.
ثم أضاف، وعيناه تتنقلان بين شروق وزوجة عمه، في تهديد واضح ومباشر.
_أني جبتها إهنه عشان أذل بيها أهلها، مش عشان أخليكم تتسلوا بإذلالها.
محدش فيكم ليه حكم عليها، محدش يوجهلها كلمة، ولا يأمرها بحاجة، ولا حتى يتنفس في وشها من غير إذني.
اللي هيعمل كده، هعتبره بيتدخل في شؤوني الخاصة... وبيتحَداني.
كانت كلماته الأخيرة بمثابة إعلان حرب على أي شخص يفكر في تجاوز حدوده.
أمام قوة جاسر المطلقة، لم يستطع صخر أن ينطق بحرف لقد ألجمه ابن أخيه تماماً، وأشعره بصغر حجمه أمام الجميع.
كل ما فعله هو أن نظر إلى ابنته نظرة غاضبة، بينما طأطأت زوجته رأسها في صمت مهين.
نهض جاسر من على الطاولة، وقال بصوتٍ لا يقبل النقاش وهو ينظر إلى فرح التي كانت ترتجف في مكانها.
_الكلام ده هعيده تاني.
ثم استدار وغادر غرفة الطعام، تاركاً خلفه جواً من الخوف والإذلال، ومؤكداً للجميع حقيقة واحدة: نغم قد تكون سجينته، لكنها "ملكيته الخاصة"، وهو الوحيد الذي يملك مفتاح هذا السجن.
ما إن نهض جاسر وغادر غرفة الطعام كإعصار هادئ، حتى وضعت أمه ونس منديلها على الطاولة ونهضت بهدوء لتلحق به، تاركة وراءها جواً مشحوناً بالصمت والإهانة.
في اللحظة التي اختفيا فيها، استدارت شروق نحو أبيها صخر، وعيناها تطلقان شرراً من الغضب والاستياء.
لم تعد تهمس، بل تحدثت بصوتٍ عالي ومرير.
_عچبك إكدة؟ شوفت بيدافع عنها كيف جدام الكل؟ بيهزأني أني عشان خاطرها!
لم يرد صخر على الفور.
كان ينظر إلى الكرسي الفارغ الذي كان يجلس عليه جاسر، وشعر ببرودة تسري في أوصاله، لم تكن المشكلة في دفاع جاسر عن زوجته، بل في الطريقة التي فعل بها ذلك.
الطريقة التي ألجمه بها هو شخصياً، وأمر "عمه" بأن يؤدب ابنته.
لقد شعر بأن كل شيء يفلت من بين يديه.
جاسر لم يعد ذلك الشاب الذي يأتمر بأمره ويستشيره في كل صغيرة وكبيرة.
لم يعد مجرد امتداد لسلطته، لقد كبر... كبر كثيراً، وأصبح يرى نفسه فوق الجميع، حتى فوقه هو.
تدخلت زوجة صخر، وهي لا تزال تشعر بمرارة الإهانة، وقالت بصوتٍ حاد
_زودها جوي يا صخر لازمن تحطله حد.
كيف يتكلم معاي بالطريجة دي؟ ده نسى نفسه خالص، لازم تفكره بمجامه، وتعرفه إنك لسة كبير العيلة.
أخذ صخر نفساً عميقاً، وأعاد الملعقة إلى مكانهما ببطء شديد، كأنه يحاول السيطرة على غضب يغلي بداخله.
رفع رأسه، وفي عينيه كانت هناك نظرة قاسية ومظلمة، نظرة رجل أُهين في عقر داره وقرر أن يستعيد سلطته بأي ثمن.
لم ينظر إلى زوجته أو ابنته، بل ظل يحدق في الكرسي الفارغ، كأنه يتحدث إلى جاسر نفسه.
_هيحصل.
صمت للحظة، ثم أكمل بنبرة هادئة ومخيفة، نبرة تحمل وعداً بالانتقام.
_وهيحصل جريب... جريب جوي.
أدركت زوجته وشروق أن الأمر لم يعد مجرد خلاف عائلي.
لقد تحول إلى صراع على القوة والنفوذ.
صخر لن يسمح لابن أخيه بأن يسلبه مكانته وسلطته التي بناها على مدار سنوات والهدوء الذي يتحدث به الآن، هو هدوء الصياد الذي يراقب فريسته، وينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض. لقد دقت ساعة المواجهة بين العم وابن أخيه.
❈-❈-❈
عادت نغم إلى الجناح، خطواتها ثقيلة بالكاد تحملها لقد انتهت أخيراً من تنظيف المكتبة وغرفة المعيشة الملحقة بالجناح، تاركة كل شيء يلمع تحت الأضواء الخافتة.
أغلقت الباب خلفها، واستندت عليه للحظة مغمضة عينيها، شعرت وكأنها ركضت لمسافات طويلة دون توقف.
سارت نحو السرير وجلست على حافته، وشعرت بكل عضلة في جسدها تصرخ من الألم.
ظهرها يؤلمها من الانحناء، وذراعاها ترتجفان من الإرهاق، نظرت إلى يديها كانتا حمراوين ومتعبتين.
لم تكن معتادة على مثل هذا المجهود البدني الشاق، كل ما كانت تحتاجه الآن هو أن تغمر جسدها بالماء الدافئ وتنام، ربما لدهر كامل.
لم تكد تنهض لتتجه إلى الحمام، حتى سمعت طرقة خفيفة على الباب، تلتها دخول ونس، والدة جاسر.
كانت تحمل صينية فضية تفوح منها رائحة طعام شهي.
تحركت ونس بخطواتها الهادئة وابتسامتها الدافئة التي لم تفارق وجهها، ووضعت الصينية على الطاولة الصغيرة بجانب الأريكة.
_جولت لفرح تسيبك ترتاحي، وأني اللي هطلعلك العشا.
نظرت إليها نغم بتعب.
_مليش نفس، شكراً أني بس عايزة أرتاح.
جلست ونس بجانبها على السرير، ومدت يدها بحنان ومسحت على ظهر نغم المتألم كانت لمستها كبلسم، لمسة أم حنون تدرك حجم التعب الذي تشعر به.
_كيف يعني ملكيش نفس؟ وشك بجى قد إكدة، مش هينفع تفضلي من غير أكل، جسمك مش هيستحمل.
تنهدت نغم، وشعرت بأن مقاومتها تتلاشى أمام هذا الحنان غير المتوقع.
_الشغل كتير جوي، وتعبانة.
قالت ونس بنبرة لوم رقيقة، لكنها موجهة لابنها الغائب.
_خابرة يا بتي، خابرة ربنا يهديه بس لحد ما يهديه، لازم تاكلي عشان تجدري تجفي على حيلك.
أني مش هجدر أساعدك في شغل البيت عشان جاسر ميجولش إني بتدخل، بس محدش يجدر يمنعني أهتم بأكلك وصحتك.
نهضت ونس، وأمسكت بيد نغم وسحبتها برفق نحو الطاولة.
_يلا، كلي لجمة واحدة بس عشان خاطري أني اللي طبختهولك بيدي.
نظرت نغم إلى وجه السيدة الطيب، وإلى عينيها اللتين تحملان قلقاً حقيقياً، في تلك اللحظة لم ترى فيها والدة عدوها، بل رأت فيها أماً
شعرت بقلبها يدفأ قليلاً، وبدمعة امتنان تتجمع في طرف عينها.
أومأت برأسها بصمت، وجلست أمام الصينية
بدأت تأكل ببطء، ليس لأنها جائعة، بل لأنها لم ترد أن تكسر خاطر هذه السيدة التي أصبحت تمثل لها النقطة المضيئة الوحيدة في هذا الظلام الحالك.
وقفت ونس بجانبها، تتابعها بنظرات راضية، وهي تربت على شعرها بحنان، وكأنها تحاول أن تعوضها بلمساتها عن قسوة ابنها وجبروت هذا العالم الجديد الذي أُلقيت فيه.
❈-❈-❈
كانت طاولة العشاء في منزل آل الرفاعي تبدو وكأنها مسرح مقسوم إلى نصفين، كل نصف يعرض مسرحية مختلفة تمامًا.
على أحد الجانبين، وضعت وعد الطعام في طبق سند وهي تقول بود به بعض الخجل
_دوج البطاطس دي وجولي رأيك، أني اللي عملتها.
هتعچبك لإني خابرة انك بتحبها بالطريجة دي.
ابتسم سند بود مماثل
_كفاية انك تعبتي حالك وعملتيها، كله زين.
ابتسمت وقلبها يرقص فرحًا من هذه الكلمة البسيطة التي كانت تعني لها العالم.
على الجانب الآخر من الطاولة، كان الصقيع هو سيد الموقف.
كانت روح تجلس بجانب عدي، الذي كان يضع هاتفه بجانب طبقه، ووجهه لأسفل، يتفقده كل بضع ثواني.
قالت والدته محاولة كسر الجليد
_عدي، الأكل هيوبرود سيب التليفون ده من إيدك وكل.
رفع عدي عينيه للحظة، نظرة فارغة مرت على الجميع دون أن تستقر على أحد.
_باكل يا أمي.
قال بحدة طفيفة ثم عاد ليحدق في طبقه، يأكل ببطء دون أي اهتمام.
حاولت روح أن تخلق جسرًا للتواصل، أن تحصل على فتات الاهتمام الذي تراه عند وعد.
_الأكل عاجبك يا عدي؟
سألت بصوتٍ ناعم، فيه رجاء خفي.
لم يرفع رأسه، فقط قال كلمة واحدة، جافة، وقاطعة.
_كويس.
شعرت روح بوخزة الإهانة. "كويس" هذه كانت أبرد من صفعة على وجهها، نظرت خلسة إلى سند ووعد مرة أخرى.
كانا يتهامسان الآن حول شيء ما بصوت خافت.
شعرت بحرقة في صدرها
لم تكن غيرة، بل كانت حسرة، حسرة على الحلم الذي يموت أمام عينيها كل يوم.
أخيرًا لاحظت ليل شيء منذ رحيل ابنتها وسألت روح
_مالك يا روح يا بتي؟مش بتاكلي ليه؟
أجابت وابتسامة باهتة على وجهها ثم التفتت إلى عدي مرة أخرى، في محاولة يائسة أخيرة.
_باكل يا اما، الحمد لله...عدي، ممكن تناولني الملح؟
مد يده وأخذ المملحة ووضعها أمامها بقوة طفيفة دون أن ينظر إليها، ثم عاد ليمسك بهاتفه مرة أخرى.
هنا، لم تعد روح تحتمل
لقد أصبحت شفافة تمامًا من مجرد كرسي فارغ بجانبه.
نظرت إلى مالك الجالس في الجهة المقابلة، والذي كان يراقب المشهد كله بصمت.
التقت أعينهما للحظة، فرأت في عينيه الشفقة، وهذا زاد من شعورها بالمهانة.
هي لا تريد الشفقة، هي تريد حياة.
وضعت الملعقة بهدوء بجانب طبقها الذي لم تمس نصفه.
_الحمد لله.
قالت بصوتٍ مسموع، لكنه كان خاليًا من أي تعبير.
قالت والدتها بقلق.
_إيه يا بتي، ملحقتيش تاكلي.
_شبعت يا اما، الحمد لله.
وقفت، وسحبت كرسيها بهدوء.
_عن إذنكم، حاسة إني مصدعة شوية وهطلع أرتاح.
قال سالم بقلق
_خير يا بتي ألف سلامة.
حاولت الابتسام فخرجت باهتة
_مفيش يا عمي برد بسيط.
سألت وعد بلطف حقيقي.
_أطلع معاكي يا روح؟
هزت روح رأسها.
_لأ خليكي أنا هبجى زينة تصبحوا على خير.
قالتها للجميع، لكن عينيها لم تتجها ناحية عدي، الذي لم يرفع رأسه من هاتفه حتى ليودعها.
صعدت الدرج، وكل خطوة كانت تثقل قلبها أكثر.
سمعت صوت ضحكة خافتة من الأسفل، ربما من سند ووعد كانت ضحكة بريئة لكنها سقطت على روحها كقطعة من الجمر.
دخلت غرفتها وأغلقت الباب، واستندت عليه وأغمضت عينيها بقوة، لتمنع الدموع التي تهدد بالهطول.
لقد أدركت في تلك اللحظة أنها لا تعيش في جحيم صاخب، بل في فراغ بارد وهذا كان أشد إيلامًا.
❈-❈-❈
في اليوم التالي..
كان جاسر واقفًا أمام الشرفة الواسعة لمكتبه، يراقب ظلام الحديقة بالخارج ويداه في جيوبه.
لم يلتفت عندما سمع صوت الباب يُفتح، فقد كان يتوقع دخولها.
دخلت فرح بارتباك واضح، ووقفت تنتظر أن يتحدث
الصمت في حضرة جاسر كان دائمًا ثقيلاً ومخيفاً.
بعد لحظة استدار جاسر ببطء، وكانت عيناه حادتين كالعادة سألها مباشرة بصوته الهادئ الذي لا يخلو من الأمر.
_التليفون اللي ادهولك مالك... معاكي؟
أومأت فرح برأسها بسرعة، وقالت بصوتٍ خافت
_أيوه يا بيه.
أخرجت الهاتف الصغير من جيبها ومدت يدها لتعطيه له، لكنه لم يأخذه بدلاً من ذلك، أشار برأسه نحو الأعلى.
_اطلعي إديها التليفون هي لوحدها دلوجت.
صمت للحظة ثم أضاف بنبرة تحذيرية واضحة، وكأنه يقرأ أفكارها.
_ومتعرفيهاش إني عارف حاچة ولا تجيبي سيرة.
سحبت فرح يدها بسرعة، وهي تضم الهاتف كأنه جمرة من نار.
فهمت على الفور أنها مجرد رسول في لعبة أكبر منها بكثير.
_حاضر يا بيه اللي تأمر بيه.
أومأ لها جاسر إيماءة قصيرة كإذن بالانصراف، ثم استدار مرة أخرى نحو الشرفة، عائداً إلى مراقبة مملكته المظلمة.
خرجت فرح من المكتب، وقلبها يدق بقوة لم تكن تفهم ما يحدث، لكنها كانت متأكدة من شيء واحد: هذا الهاتف ليس مجرد هاتف، بل هو طُعم، أو فخ أو ربما كلاهما معاً.
وجدت فرح الفرصة المناسبة وجدت نغم وحيدة في غرفتها للحظات قليلة، بينما كانت أم جاسر في الأسفل.
دخلت فرح بسرعة وأغلقت الباب خلفها.
_ست نغم
همست بسرعة، وهي تتقدم نحو نغم التي كانت تجلس على حافة السرير، تحدق في الحائط.
التفتت نغم إليها ببطء، بعينيها الفارغتين.
_عايزة حاچة يا فرح؟
_أيوه يا ستي
قالت فرح وهي تخرج الهاتف الصغير من ملابسها وتمد يدها به.
_ده... ده ليكي.
نظرت نغم إلى الهاتف دون أن تفهم. _من مين؟
_من مالك بيه.
قالت فرح بحماس خافت.
_أني جابلته امبارح هو جلجان عليكي جوي.
جالي أجولك إنه مش هيسيبك، وإنه هينقذك من هنا.
هو بس عايز يكلمك، عايز يطمن عليكي بصوته
كانت فرح تتوقع أن ترى بصيصًا من الأمل في عيني نغم، دمعة فرح، أي رد فعل لكنها لم تجد شيئًا.
نظرت نغم إلى الهاتف في يد فرح، ثم رفعت عينيها الباردتين إلى وجهها.
_مالك.
نطقت الاسم وكأنه من لغة غريبة لا تعرفها.
_أيوه يا ست هانم ابن عمك شكله بيعزك جوى وخايف عليكي.
ارتسمت شبه ابتسامة ساخرة ومريرة على شفتي نغم، كانت أول تعبير يظهر على وجهها منذ أيام، وكانت أكثر إخافة من فراغها.
_بيعزني؟
قالت بهدوء جليدي وهي
تنظر إلى الهاتف في يد فرح بنظرة تحمل مزيجًا من الشفقة والازدراء.
_رجعي التليفون ده لصاحبه، وجوليله... جوليله نغم ماتت وخليه ينسى إنه كان له بت عم بالاسم ده.
استدارت واتجهت نحو الشرفة، وأعطتها ظهرها، كإعلان بنهاية الحديث.
وقفت فرح في مكانها، والهاتف في يدها يبدو ثقيلاً كالجمر.
لقد أتت تحمل الأمل، لكنها وُوجهت بجدار من اليأس والرفض القاطع.
كان جاسر يستمع من خارج الغرفة بحيرة
لما رفضت تلك الفرصة
كان يظن أنها ستتشبث بها ويكون بصيص أمل لها
وعندما وجد فرح تخرج من الغرفة أشار لها بأن تنسحب.
أومأت بهدوء ودلف هو للداخل فيجدها جالسة على الأريكة التي تستخدمها كملاذ لها.
كانت شاحبة منطفئة، لم تعد تلك الفتاة التي تملك ثقة العالم بنفسها وبأهلها بل أصبحت منطوية ومنكسرة
والعجيب في الأمر بأنه لم يشعر بلذة الإنتصار
تقدم منها يسألها
_چاهزة؟
هزت له رأسها وكأنها تعلم بوجوده، لن تقبل تلك المرة
_مش النهاردة.
نهضت لتدلف المرحاض تاركة إياه ينظر في اثرها بنظرة حائرة
❈-❈-❈
غداء اخر اكثر فتور مع ليلى، عاد أكمل منه إلى شقته وهو يشعر بخيبة أمل عميقة.
لم يعد يرى مستقبله معها بنفس الوضوح.
كان يجلس في شرفة شقته، يفكر في جده، وفي مالك، وفي كل هذه الفوضى، عندما رن هاتفه كان رقمًا غريبًا. تردد في الرد، ثم رد.
_ألو؟
_أكمل بيه؟
جاءه صوت رجل حذر.
_أيوه، مين؟
_جنابك متعرفنيش بس اني خابرك زين، انت حفيد الحچ قاسم
انتفض قلب أكمل وسأله بلهفة
_ماله جدي في حاجة؟
رد الرجل مسرعًا
_هو كويس يا بيه، متقلقش.
أنا اسمي فواز، بشتغل عند ناس ليهم علاقة بآل التهامي
مالك بيه طلب مني أراقب الأمور من بعيد وأعرف أخبار الست نغم.
شعر أكمل بقلبه ينقبض.
_وعرفت حاجة؟
صمت الرجل للحظة، وكأنه يختار كلماته.
_الوضع صعب يا بيه صعب جوي الست هانم... بيعاملوها أسوأ من الخدم.
جاسر بيه بيخليها تشتغل بإيدها شغل محدش يستحمله، بيحاول يكسرها بكل طريجة.
أغمض أكمل عينيه بألم كان يتوقع هذا.
أكمل فواز بصوتٍ أكثر انخفاضًا وحذرًا.
_بس ده مش المهم.
المهم... إن فيه حاچة تانية حصلت. حاچة كبيرة.
قال أكمل بنفاد صبر.
_حاچة إيه؟ اتكلم!
همس الرجل
_صخر التهامي... عم جاسر
الخدامين اللي جوه بيجولوا إنه... إنه اتهجم على الست نغم في أوضتها وهي لوحدها محدش عارف إيه اللي حصل بالظبط، بس من يومها والست هانم بجت واحدة تانية خالص بقت زي اللي روحها مسحوبة منها.
سقطت الكلمات على أكمل كالصاعقة شعر بغضب عارم وبغثيان يجتاحانه صخر... هذا الوحش.
لقد تجاوز كل الخطوط.
لم يعد الأمر مجرد ثأر أو إذلال، لقد أصبح انتهاكًا شنيعًا.
_أنت متأكد من الكلام ده؟
سأل أكمل بصوت متحشرج.
_زي ما أنا متأكد إني بكلمك يا بيه.
الخبر ده متكتّم عليه جوه القصر، بس الخدامين شافوه وهو طالع من أوضتها وكان سكران طينة والست أم جاسر من يومها مبتسيبهاش لحظة واحدة.
سأله أكمل فطنة
_وانت ليه مقولتش لمالك، ليه بتكلمني انا.
_عشان لما احلف إني مجلتش لحد من الرفاعية ابجى صادج
لم يعد يستطيع الوقوف متفرجًا لقد تحولت القضية من قضية عائلية إلى قضية جنائية.
نظر من شرفته إلى أضواء القاهرة، لكنه لم يعد يراها.
كل ما كان يراه هو وجه نغم، ووجه صخر التهامي.
وفي تلك اللحظة، اتخذ قرارًا.
لم يعد أكمل صديق العائلة، بل أصبح "أكمل وكيل النيابة"
وهذه المرة، لن يستخدم منصبه ليحافظ عليه كما تريد ليلى، بل سيستخدمه ليحقق العدالة، مهما كان الثمن.
يتبع...