رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 20 - جـ 1 - الخميس 4/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل العشرون
الحزء الأول
تم النشر الخميس
4/9/2025
كان الليل قد حل على منزل جد أكمل، حاملاً معه سكونًا ثقيلاً لم يكسره سوى صوت النخيل.
جلس أكمل ومالك في الحديقة الصغيرة أمام البيت
كان مالك يتحدث في مواضيع شتى، عن ذكريات الطفولة، وعن بعض المواقف المضحكة التي جمعتهم، محاولًا ببراعة أن ينتشل صديقه من بئر الحزن الذي غرق فيه.
كان أكمل يشاركه بابتسامات باهتة وإجابات مقتضبة، مقدرًا محاولة صديقه، لكن روحه كانت لا تزال معلقة في مكان آخر.
بعد فترة من الصمت، كان أكمل هو من بدأ الحديث هذه المرة، لكن نبرته تغيرت، أصبحت أكثر جدية وحدة، نبرة وكيل النيابة التي لم تفارقه تمامًا.
قال وهو يضع كوب الشاي جانباً.
_مالك فيه موضوع لازم نتكلم فيه.
انتبه مالك على الفور، وشعر أن الحديث قد أخذ منحى آخر.
_خير يا أكمل؟
_قبل ما عم صالح يتصل بيا... قبل ما أعرف خبر جدي... جاتلي مكالمة تانية.
عقد مالك حاجبيه بقلق.
_مكالمة إيه؟
_واحد اسمه فواز، بيقول إنه شغال عند ناس ليهم علاقة ببيت التهامي، وإنه اخد نمرتي من حد قريب.
نظر أكمل إلى عيني مالك مباشرة، وقرر أن يلقي بالقنبلة ليرى رد فعله. _قالي إن صخر التهامي... اتهجم على نغم.
تغيرت ملامح مالك في لحظة، ظهر على وجهه مزيج من الغضب والقهر والألم، وغمغم بغضب
_إللى واكل ناسه دى مابيستحى من حاچه واصل، كيف ياعنى يتهچم على مرت ابن اخوه؟
وكيف انت تعرف حاچة زي دي ومتجولش يا أكمل؟
وهو نفس رد الفعل الذي توقعه أكمل لكن أكمل لم يترك له فرصة للرد.
_اسمعني للآخر قبل ما تتكلم.
قال أكمل بحزم هادئ.
_أنا فكرت في الكلام ده كتير اليومين اللي فاتوا فكرت فيه بعقلي، مش بقلبي والموضوع ده... مش راكب على بعضه.
قال مالك بحدة مكتومة.
_مش راكب كيف، الراجل سمعته عفشه وكلب فلوس، وإيه اللي يمنعه يعمل إكده؟!
رد أكمل بثقة
_اللي يمنعه هو جاسر.
يا مالك، إحنا بنتكلم عن صخر التهامي أكبر همه في الدنيا دي هو الفلوس والسلطة ونغم، بكل المقاييس، هي ملكية خاصة لجاسر.
صخر أجبن وأخبث من إنه يتعدى على حاجة تخص ابن أخوه اللي هو دراعه اليمين وسنده.
لو جاسر اتقلب عليه، صخر هيخسر كل حاجة.
صمت مالك، يفكر في منطق كلام أكمل.
_طيب... أومال إيه تفسيرك؟
_أنا عندي نظرية تانية خالص.
نظر إليه مالك باهتمام.
_أنا شايف إن دي لعبة، لعبة حقيرة من صخر نفسه.
صخر عارف إن فيه عيون بتراقب من طرفنا ممكن يكون هو اللي سرّب الإشاعة دي بنفسه ممكن يكون قاصد إن الكلام يوصلنا.
سأل مالك بحيرة
_ليه؟! ليه يعمل إكده؟!
قال أكمل ببرود
_عشان يولعها.
_عشان يخلي واحد فيكم يتهور. عشان يخلي واحد دمه حامي... يسمع خبر زي ده، فيقوم رايح يعمل مصيبة وساعتها، يبقى هو اللي له الحق، وهو اللي يرد علينا، ويقدر الطب الشرعي يثبت ان كل ده محصلش
وتبقى حجة عشان يخلص منكم كلكم بحق القانون والعرف.
سقطت كلمات أكمل على مالك كالصخر، لقد كان تحليلاً منطقياً بشكل مخيف لقد كانوا هم الضحية المثالية لهذه اللعبة.
تابع أكمل
_صخر رمالكم الطعم، ومستني حد يبلعه.
سند مالك ظهره للخلف، وهو يشعر بالمرارة والغضب والعجز. لقد بدت الأمور أوضح الآن، وأكثر قذارة.
قال مالك بحزم
_لازم نتأكد يا أكمل، لازم نعرف الحقيقة.
رد أكمل، وعيناه تلمعان بتصميم فولاذي.
_هنعرف بس مش بالتهور هنلعبها بعقل.
حق نغم، هيرجع بس هيرجع بطريقتنا إحنا... بطريقة القانون وهخليهم يندموا على اليوم اللي فكروا يلعبوا فيه مع عيلة الرفاعي.
لقد بدت الأمور أوضح الآن، وأكثر قذارة لكن هذا الوضوح لم يهدئ من غضبه.
_حتى لو لعبة يا أكمل! حتى لو مجرد إشاعة! مجرد التفكير في الموضوع ده يخلي الدم يغلي في عروجي مش هسكت.
وقف أكمل أخيراً وواجه صديقه وعيناه تلمعان بتصميم فولاذي.
_ومين قال إننا هنسكت؟ حق نغم هيرجع بس مش بالتهور هنلعبها بعقل.
لم يتقبل مالك خطة أكمل الهادئة.
_بعقل؟! بنت عمي بتتهان ويمكن تكون في خطر، وأنت بتجولي بعقل؟! لازم نعمل حاچة، ودلوجت
اقترب منه أكمل، ووضع يده على كتفه بقوة، وأجبره على النظر في عينيه.
_هنعمل بس مش بالطريقة اللي هما عايزينها مش هنكون أغبياء ونمشي في الفخ اللي نصبوه.
طالما أنا هنا، مش هسمح لحد تاني يقع في نفس الغلط.
صمت للحظة، ثم قال بنبرة غامضة ومخيفة، نبرة تحمل وعداً بشيء أعمق من مجرد الانتقام.
_قولتلك حق نغم هيرجع.
عندي خطة... خطة هتخليهم هما اللي يتمنوا لو إن الإشاعة دي كانت حقيقية، عشان تكون أهون من اللي هيحصلهم.
ترك أكمل صديقه واقفاً في حيرته وغضبه، واتجه نحو هاتفه.
لم يكشف عن تفاصيل خطته، لكن نظرته كانت كافية لتؤكد لمالك أن أكمل لن يكتفي برد الحق، بل سيهدم المعبد على رؤوس من فيه، ولكن بهدوء، وبضربات محسوبة وقانونية، وهذا ما يجعله أكثر خطورة.
❈-❈-❈
تبعته كظله إلى السيارة الفاخرة التي انطلقت بهما نحو إحدى المحلات الشهيرة في تلك المنطقة
كان المكان يعج بالحياة والأضواء والموسيقى، عالمٌ صاخب يتناقض بشكل صارخ مع الصمت المطبق الذي تعيش فيه استقبلتهم مديرة المحل بترحاب مبالغ فيه فور أن رأت جاسر، وكأن المكان كله قد توقف عن التنفس في حضوره.
_ جاسر بيه! يا ألف أهلا وسهلا المكان كله تحت أمرك.
أشار جاسر ببرود إلى كرسي أنيق من القطيفة في زاوية منعزلة من المحل، كملكٍ يشير إلى مكان خادمه.
_ اجعدي هنه.
قالها لنغم، ثم التفت إلى المديرة. _هاتيلها حاجة تشربها ومتتحركش من مكانها.
في تلك اللحظة، شيء ما داخل نغم تمزق لم تستطع الاستمرار في ذلك الاستسلام المطلق رفعت رأسها ببطء، ووجهت إليه نظرة حانقة، نظرة لم تكن صاخبة لكنها كانت مشتعلة بنار الكرامة المذبوحة كانت شرارة تمرد صغيرة في محيط من الرماد.
لاحظت مديرة المحل تلك النظرة الخاطفة، وشعرت بالتوتر الكهربائي الذي ملأ الهواء فجأة شعرت بالإحراج الشديد، وحاولت تلطيف الأجواء باحترافية مصطنعة.
_اتفضل اختار اللي يعجب حضرتك، وأنا هطلب من البوفيه يقدم حاجة للمدام.
أومأ لها جاسر بصمت، وعيناه لم تفارقا نغم انتظر حتى ابتعدت الفتاة مسافة كافية، ثم تحرك
لم يصرخ، لم يتكلم كانت حركته أشد فتكًا من أي كلمة خطى نحوها ببطء قاتل، وانحنى عليها حتى أصبح وجهه على بعد سنتيمترات من وجهها لم يلمسها، لكن وجوده كان ثقيلاً كالصخر.
كشر عن أنيابه في ابتسامة باردة لم تصل إلى عينيه اللتين كانتا تقدحان شررًا همس بصوتٍ خفيض، كفحيح أفعى صوتٌ مخصص لها وحدها.
_ الكلب لما بيفكر يعض صاحبه اللي بياكله... صاحبة ميضروبهوشى جدام الناس.
صمت للحظة، وعيناه تجولان على وجهها المتجمد من الصدمة والخوف
_ بيدعس على رقبته لما يرجعوا البيت... عشان يفهمه مين سيده.
لم تكن كلماته مجرد تهديد، بل كانت وعدًا صريحًا ومرعبًا استقام ببطء، وعادت ملامحه إلى البرود الجليدي وكأن شيئًا لم يكن
أما نظرات نغم فقد كانت مثل فوهة بركان على وشك الانفجار وتحدثت بغضب مكتوم
_انت احقر انسان شوفته في حياتي.
رفع حاجبيه وعينيه تنذرها بغضب لكنها عميت عن الخطر لتجرح كبرياءه
فغمغم بلهجة رغم هدوءها إلا إنها تحمل غضب عارم وقوة لا يستهان بها
_جولتلك مش بيضرب جدام الناس، بس في حاچات تانية ممكن أعملها دلوجت هتخليكي تتمني إن الأرض تنشج وتبلعك، أحذري مني لإن غضبي واعر جوي.
نظر إلى مديرة المحل التي كانت تقترب بحذر وهي تحمل كوب عصير.
قال جاسر بصوتٍ عالٍ وواضح، ثم نظر إلى نغم نظرة أخيرة تحمل ألف معنى، كلها تدور حول العقاب القادم.
_ المدام غيرت رأيها مش هتشرب حاجة هتستناني هنا... زي ما أمرتها.
ثم استدار وبدأ جولته في المحل لاختيار الملابس، تاركًا نغم على كرسيها، ترتجف من الداخل لقد أطفأ شرارة التمرد الصغيرة تلك بفيضان من الجليد والتهديد، وجعلها تدرك أن أي محاولة لرفع رأسها أمامه في العلن، ستُقابل بعقابٍ قاسٍ ومذل في السر.
لقد تحولت تجربة التسوق إلى درسٍ آخر في القوة، درسٍ تعلمت فيه أن حتى نظراتها أصبحت تحت سيطرته.
جلست نغم على الكرسي، كقطعة أثاث تم وضعها في ركن.
لم تكن جزءًا من التجربة، بل كانت مجرد متفرج إجباري على مسرحية بطلها ومخرجها هو جاسر.
بدأ جاسر جولته في المحل لم يكن يختار بعشوائية، بل كان يتحرك بثقة ودراية، كقائد عسكري يتفقد ترسانته كان يمرر أصابعه على الأقمشة، يتفحص القصات، ويمزج بين القطع المختلفة بنظرة فنان قاسٍ.
لم يسألها عن رأيها، لم يلتفت ليرى ما قد يعجبها لم يستشرها في لون أو تصميم كان يلغي وجودها وذوقها وإرادتها تمامًا.
كان المشهد لرجل مهيب، يحيط به مساعدو المبيعات من كل جانب، يختار ملابس نسائية لزوجته الجالسة في الركن كشبح صامت اختار لها كل شيء: ملابس سهرة، ملابس نهارية، بناطيل، وحتى ملابس النوم كان يختار الألوان التي يفضلها هو، والتصاميم التي تعجبه هو، والأقمشة التي يراها مناسبة له هو.
كانت كل قطعة يختارها تحمل رسالة اختار فستانًا أسود، ضيقًا وبسيطًا.
_ ده عشان تبقي أنيقة في حزنك.
لم يقولها بلسانة اللاذع بل بعينيه التي توصل الرسالة بطريقة اشد فتكاً
كانت مديرة المحل والمساعدات يراقبن المشهد في صمت، منبهرات بقوته وذوقه، وغير مدركات للقسوة النفسية التي يمارسها.
أما نغم، فكانت تجلس في مكانها، عيناها فارغتان.
كانت ترى الملابس تتكدس، لكنها لا تشعر بشيء
لم تكن ملابسها، بل كانت زياً موحداً جديداً يفرضه عليها سجانها كانت هذه طريقته ليقول لها
"حتى جلدك الذي ترتدينه، أنا من يختاره لا تملكين شيئًا، ولا حتى ذوقك الخاص."
بعد أن انتهى، وأشار إلى كومة الملابس الهائلة، التفت إلى المديرة.
_ كل دول ابعتوهم على السرايا والمقاس... أنتم عارفينه.
يبدو أنه كان قد أرسل لهم مقاساتها مسبقًا، في خطوة أخرى تؤكد تخطيطه المسبق لإلغاء أي دور لها.
ثم نظر إلى نغم التي لا تزال جالسة في مكانها.
_ لسه جاعدة؟ جومي.
نهضت، وتبعته خارج المحل بنفس الصمت الذي دخلت به لم تحمل كيساً واحداً، ولم تختر قطعة واحدة لقد خرجت من تجربة شراء ملابس جديدة وهي تشعر بأنها أصبحت أكثر عريًا من أي وقت مضى.
لقد جردها من آخر معقل من معاقل هويتها الشخصية: اختيارها لما يغطي جسدها وأدركت أن سيطرته لن تكون جسدية فقط، بل ستتغلغل في كل تفصيله من تفاصيل حياتها، حتى تصبح مجرد دمية جميلة وحزينة في قصره الكبير.
❈-❈-❈
كان أكمل يجلس في شرفة منزل جده في الصعيد، يرتشف قهوة مرة طعمها كمرارة الفقد الذي يستقر في حلقه أصوات المعزيين خفتت، والليل بدأ يرخي سدوله على الدار التي بهتت أنوارها برحيل صاحبها. رن هاتفه، ورأى اسم "ليلى" على الشاشة.
تردد للحظة، ثم أجاب بصوتٍ مرهق.
جاء صوتها هادئًا ومُعدًا بعناية، كأنها تقرأ من نص محفوظ.
_ أكمل؟ حبيبي... البقاء لله.
أنا آسفة مكلمتكش من بدري، بس كنت عايزة أسيب لك مساحتك.
رد أكمل بفتور، وصمت ينتظر ما سيأتي بعد ذلك.
_ونعم بالله.
_ بابا وماما كانوا عند باباك ومامتك النهاردة في القاهرة وقدموا الواجب طبعًا أنت عارف إن صعب عليهم يسافروا الصعيد فجأة كده.
شعر أكمل بوخزة من الغضب البارد
"صعب عليهم".
كلمتان بسيطتان لكنهما كشفتا عن هوة سحيقة بين عالميهما.
قال بسخرية لم تخفَ عليه.
_ عارف يا ليلى، عارف المشوار طويل على بس اللي هما ميعرفوش إن جدي اللي مات ده كان كل عيلتي اللي باقية هنا كنت متوقع أشوف حد من أهلك جنبي.
ردت بسرعة، وبدأت نبرتها الحقيقية تتسلل.
_ يا حبيبي ما أنا قولتلك هما راحوا لباباك، وبعدين... يعني... الله يرحمه، هو كان راجل كبير وتعبان أكيد ارتاح دلوقتي وأنت كمان... اقصد... لازم ترتاح.
صمت أكمل، محاولاً استيعاب ما تقوله.
"أنت كمان لازم ترتاح".
_أرتاح من إيه بالظبط يا ليلى؟
هنا، كشفت عن نواياها دون أن تدرك مدى فداحة كلماتها.
_ ترتاح من الشحططة دي يا أكمل من السفر كل شوية، والقلق اللي كان واكل دماغك بصراحة يا حبيبي، الموضوع ده كان معطلك أوي.
أخذت نفسًا وكأنها تقدم له بشرى سارة.
_دلوقتي خلاص... مفيش حاجة تشغلك تقدر تركز في مستقبلك 100%.
أنا وبابا كنا لسه بنتكلم، هو شايف إنك مش هتفضل وكيل نيابة كتير
بالتركيز ده قريب أوي هنبارك لك على منصب رئيس النيابة لازم تفكر في الخطوة الجاية من دلوقتي.
في تلك اللحظة، شعر أكمل وكأن الهواء قد سُحب من رئتيه لم تكن تعزيه، بل كانت تحتفل بإزالة "عقبة" من طريق مستقبلهما المهني والاجتماعي
جده، بتاريخه وحبه وذكرياته، تحول في حديثها إلى مجرد "شغلة" و"عطلة" وانتهت.
شعر بغضبٍ حارق يغلي في صدره، غضبٌ لم يشعر به من قبل.
_ عقبة؟ جدي كان عقبة يا ليلى؟
ارتبكت
_ لأ طبعًا مش قصدي
قصدي... قصدي إنك دلوقتي بقيت فاضي لمستقبلك... لينا.
لم يعد يحتمل
كل كلمة كانت تخرج منها كانت طعنة في حزنه وفي حبه لجده.
قال بصوتٍ مخنوق ومتحشرج من الغضب
_ مستقبل؟ أنا جدي لسه ترابه مبردش وانتي بتخططي للمنصب الجاي؟ بتقوليلي إنه ارتاح عشان أنا أرتاح من مسؤوليتي ناحيته؟
لم ينتظر ردها لم يعد هناك ما يمكن قوله.
_ سلام يا ليلى.
أغلق الخط في وجهها قبل أن تنطق بحرف واحد ألقى الهاتف بجانبه بقوة، ووقف يحدق في ظلام الليل، يشعر بأنه لم يفقد جده فقط، بل فقد آخر وهمٍ كان يتعلق به في عالمه الآخر... عالم القاهرة السطحي والبارد.
❈-❈-❈
كانت رحلة العودة إلى السرايا صامتة، لكن الصمت كان يصرخ بالتهديدات.
لم ينظر جاسر إليها، ولم ينطق بحرف، وهذا الهدوء المتعمد كان أشد رعباً من أي غضب معلن.
ما إن دخلا الجناح وأغلق جاسر الباب خلفهما، حتى سقط قناع البرود الجليدي عن وجهه.
لم يصرخ، لم يكسر شيئاً بل استدار نحوها ببطء شديد، وفي عينيه كانت هناك عاصفة هوجاء من الغضب المكتوم.
كانت نظراته وحدها كافية لجعل الهواء في الغرفة ثقيلاً وغير قابل للتنفس.
ألقى بالأكياس الفاخرة التي يحملها على الأرض بإهمال، كأنها قمامة لا قيمة لها.
_عچبتك التمثيلية اللي عملتيها جدام الناس؟
وقفت نغم في مكانها، وظهرها مستقيم، وذقنها مرفوع.
_أيوة عچبتني وكنت رايدة أكملها بس مش نغم الرفاعي اللي تنزل بمستواها جدام واحد زيك.
لم تعد تلك الفتاة الخائفة التي كانت ترتجف قبل قليل لقد وصلت إلى نقطة اللاعودة.
الإهانة في المحل لم تكسرها، بل أشعلت كل ما تبقى فيها من كبرياء.
اقترب منها خطوة، وصوته كان هادئاً بشكل مرعب، همس كفحيح أفعى.
_أني مش جولتلك إن الكلب لما بيعض صاحبه... بيتربى في البيت؟
هنا انفجرت نغم.
لم تعد قادرة على كتمان أي شيء.
ضحكت ضحكة عالية، ضحكة هستيرية خالية من أي مرح، ضحكة ولدت من رحم القهر.
_كلب؟!
وصاحب؟!
أنت فاكر نفسك إيه؟
قطبت جبينها بقهر
_أنت مجرد واحد مريض... ضعيف! بتستجوى عليا عشان تداري ضعفك وخوفك!
تجمدت ملامح جاسر، لم يتوقع هذا الانفجار، لم يتوقع هذه الكلمات لقد تجاوزت كل الخطوط الحمراء.
أكملت نغم بصراخ، والدموع تنهمر من عينيها بغزارة لكنها كانت دموع غضب لا ضعف.
_أيوة أنت فعلاً أحقر إنسان شوفته في حياتي
بتجتل الناس بدم بارد.
بتخطف واحدة من بيت أهلها وتچبرها تتچوزك
بتعاملها كأنها خدامة ولما تبصلك بصة فيها كرامة... بتهددها!
للأسف ده مش جبروت يا جاسر بيه... ده اسمه نقص!
تقدم نحوها وأمسك بذراعها بقوة، وعيناه تقدحان شرراً.
_اخرسي!
لكنها لم تخرس انتفضت لتخلص ذراعها منه، وضربته على صدره بكل ما أوتيت من قوة، ضربة لم تؤثر فيه جسدياً، لكنها كانت تحدياً صارخاً لسلطته.
_لأ مش هخرس! هتفضل لامتى تعيش في دور الشيطان ده؟!
بتعذبني عشان تنتجم من أهلي؟
طب ما تنتجم منهم هما!
روح واچههم راچل لراچل! لكنك أجبن من إنك تعملها!
أسهل لك تحبس واحدة ست وتستعرض عليها عضلاتك يا حقير.
وقف جاسر مصدوماً وحائراً، لم يكن غاضباً فقط، بل كان مرتبكاً.
هذه المرأة أمامه كانت لغزاً لا يستطيع حله.
مرة تكون مستسلمة وهادئة كالحمل الوديع، ومرة تنهار باكية في صمت، والآن... الآن هي بركان ثائر، تقف في وجهه، وتتهمه بالجبن، وتجرح كبرياءه في الصميم.
كان انهيارها هذه المرة مختلفاً، لم يكن انهيار ضحية، بل كان ثورة محارب يائس قرر أن يموت واقفاً على أن يعيش راكعاً.
ترك ذراعها فجأة، وتراجع خطوة إلى الخلف، وهو ينظر إليها وكأنه يراها لأول مرة.
يرى النار في عينيها، يرى القوة التي ولدت من عمق اليأس.
صرخت فيه مرة أخرى، وصوتها مبحوح من البكاء والصراخ.
_اجتلني! يلا! مش أنت بتجتل اللي بيعصاك؟! اجتلني وريحني وريح حالك
بس أعرف إنك لو معملتهاش... لو مخلصتش مني... أني اللي هخلص منك، هفضل شوكة في حلقك كل يوم، هفكرك كل لحظة إنك فاشل... وإنك مجدرتش تكسرني!
تجمعت الدموع التي لم تستطيع ردعها اكثر من ذلك وتابعت بقهر وقد سقطت دموعها
_دمرتني وضيعت مستجبلي وحرمتني من أهلي ومن چامعتي وحبستني لجل شيء مليش ذنب فيه.
مبسوط إكدة من اللي عملته؟
شايفه في عينيك قوة ونصر؟
تمام
انت انتصرت ودرتني ودمرتي عيلتي.
خلاص مبجاش فيا حيل لأي شيء
ثم سقطت على ركبتيها، وانفجرت في بكاء عنيف، بكاء من فرط الإرهاق العاطفي والجسدي.
وقف جاسر يراقبها، وفي داخله صراع عنيف.
جزء منه يريد أن ينفذ وعده، أن "يدعس على رقبتها" ليعلمها من هو سيدها.
لكن جزءاً آخر، جزء لم يكن يعلم بوجوده، كان يقف مشدوهاً أمام هذه القوة، أمام هذه الروح التي ترفض أن تنكسر رغم كل شيء.
لأول مرة في حياته، لم يعرف جاسر التهامي ماذا يفعل.
لقد واجه أعداءً ورجالاً أشداء، لكنه لم يواجه قط امرأة تحاربه بضعفها، وتنتصر عليه بدموعها الممزوجة بالتمرد.
خرج من الغرفة صافقًا الباب خلفه بعنف وهرب
هرب من كل شيء ولم يجد أمامه سواه
هو وحده من يستطيع فهمه ولا أحد آخر غيره.