رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 22 - جـ 1 - السبت 6/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الثاني والعشرون
الحزء الأول
تم النشر السبت
6/9/2025
كان ضوء الصباح الشاحب يتسلل من نافذة غرفة المستشفى، ويرسم مربعًا باهتًا على الجدار الأبيض في الغرفة، لم يكن هناك سوى صوت جهاز مراقبة القلب الذي كان يصدر صفيرًا منتظمًا، وصوت أنفاس متعبة لامرأة لم تغمض لها عين طوال الليل.
كانت أم روح تجلس على مقعد بجانب سرير ابنتها، تمسك بيدها الباردة بين يديها، وتتلو بصوتٍ خفيض ما تيسر من القرآن.
بجانب النافذة كان يقف شقيقها، خال روح يراقب المشهد بعينين يملؤهما الحزن والعجز.
لقد أصر على البقاء مع أخته، ليكون سندًا لها في هذه المحنة التي أتت لتضاف إلى مصيبة موت عدي.
فجأة، شعرت الأم بحركة طفيفة جدًا في اليد التي تمسكها
حركة بالكاد تُذكر، كرفرفة جناح فراشة.
رفعت رأسها بسرعة ونظرت إلى وجه ابنتها الشاحب.
همست بصوتٍ يرتجف من الأمل والخوف.
_روح... يا بنتي، سامعاني؟
تحركت جفون روح ببطء شديد، كأنها تحمل ثقلاً هائلاً.
حاولت أن تفتح عينيها، ثم أغمضتهما مرة أخرى، كأن الضوء يؤلمها.
نادى الخال بصوتٍ مكتوم، وهو يركض إلى خارج الغرفة.
_يا دكتور.
عادت ليل تركز على ابنتها.
_فتحي عيونك يا روح... عشان خاطري يا جلب أمك.
مرة أخرى، وبمجهود بدا جبارًا، فتحت روح عينيها.
كانت نظراتها ضائعة
تائهة، تتحرك ببطء في أرجاء الغرفة البيضاء وكأنها تستكشف مكانًا غريبًا لأول مرة.
استقرت نظراتها أخيرًا على وجه والدتها.
حاولت أن تتكلم، لكن لم يخرج من فمها سوى همهمة ضعيفة وغير مفهومة.
قالت ليل والدموع تترقرق في عينيها، وهي تمسح على شعرها بحنان
_اششش... متتعبيش نفسك يا بنيتي.. متتكلميش واصل المهم إنك فوقتي ورجعتيلنا.
دخل الطبيب وخالها بسرعة.
بدأ الطبيب في إجراء فحوصاته السريعة، وهو يوجه ضوءًا صغيرًا في عينيها ويسألها أسئلة بسيطة وهو يمسك يدها المصابة
_اضغطي على إيدي.
شعر بالضغط الخفيف من يدها فظهر الارتياح على وجهه
_الحمد لله الاضرار بسيطة وهتروح مع العلاج.
حمد لله على سلامتها.
شكره خالها وخرج الطبيب من الغرفة
لكن روح، ورغم أنها كانت لا تزال في حالة ضبابية، بدأت تستعيد وعيها بالمكان والزمان.
بدأت تتذكر
تذكرت عدي، وصرخاته، وكلماته القاسية التي كانت كالسياط.
تذكرت دفعه لها وسقوطها، والألم الذي مزقها قبل أن يبتلعها الظلام.
تجمعت العبرات بعينيها وهي تردد اسمه ومدى احتياجها له الآن أكثر من أي وقت مضى.
مـ..مـ..الك...
بدأت عيناها تتحرك في الغرفة بقلق، تبحث عن وجوه أخرى.
تبحث عن عمها عن جدها عن... مالك لم تجد أحدًا لم تجد سوى والدتها وخالها.
نظرت إلى والدتها مرة أخرى، وفي عينيها سؤال واضح وصامت
_مـــا..لـــك.
اغمضت ليل عينيها وهي لا تعرف ماذا تقول لابنتها
كيف تخبرها؟ كيف تخبر ابنتها التي نجت للتو من الموت، أن زوجها قد مات محترقًا؟ وهذا ما جعل مالك غائباً كيف تخبرها أن العائلة كلها في البلد، في مأتم زوجها؟
أطرقت الأم رأسها، غير قادرة على مواجهة نظرات ابنتها المتسائلة.
قالت ليل بصوتٍ متحشرج.
_ارتاحي بس دلوقت يا روح،ارتاحي وكل حاجة هتبقى زينة.
لكن روح لم تكن غبية.
لقد رأت الحزن العميق في عيني والدتها، ورأت نظرة الأسى والشفقة في عيني خالها.
وأدركت من هذا الغياب الجماعي، ومن هذا الحزن المكتوم، أن كارثة أخرى قد وقعت بينما كانت هي غائبة عن الوعي.
حاولت أن ترفع يدها الأخرى، يدها السليمة لتلمس والدتها، لكن جسدها خانها لم تستطع سوى تحريك أصابعها قليلاً.
في تلك اللحظة، شعرت روح بوحدة قاسية وباردة.
لقد استيقظت من كابوس، لتجد نفسها في كابوس آخر.
فتجد نفسها في ظلام المرض، لتواجه ظلام الحقيقة المجهولة.
وحيدة في هذا السرير الأبيض، لا تملك سوى دموعها التي بدأت تنزل بصمت على خديها، دموع على ما حدث، ودموع على ما لا تعرفه بعد.
❈-❈-❈
وقف سالم، جسده يرتجف، أمام سيل المعزين كانت الكلمات تتدفق على مسامعه، لكنها لا تخترقه
كان يشعر وكأنه في عالم رمادي، لا ألوان فيه ولا أصوات حقيقية.
كانت الوجوه تمر أمامه كالأشباح، يرى شفاهًا تتحرك، لكنه لا يسمع شيئًا.
كان يبحث عن بصيص أمل، عن لمحة من ابنه الراحل، لكن لا شيء.
فقط هذا الفراغ الهائل الذي تركه عدي خلفه.
كان يشعر وكأن روحه قد انتزعت منه، وكأن جزءًا حيويًا من كيانه قد بتر.
الألم كان حادًا، لاذعًا، يمزق أحشاءه، لكنه كان يحاول أن يظهر تماسكًا، قويا من أجل من حوله، ومن أجل ذكرى ابنه.
تذكر سالم ابنه، منذ أن كان طفلًا صغيرًا، يملأ حياتهم ضحكًا وصخبًا.
تذكر شبابه، طموحاته، أحلامه التي لم تتحقق.
كل تلك الذكريات كانت تنهال عليه كالصواعق، تزيد من وطأة الألم.
كان يتمنى لو يستطيع أن يصرخ، أن يطلق العنان لحزنه، لكنه كان حبيسًا في جسده، محاطًا بالعزاء، وبنظرات الشفقة التي كانت تخنقه أكثر.
كانت يده ترتجف وهو يصافح المعزين، يشعر ببرودة أيديهم، وكأنها تزيد من برودة روحه.
وبحقيقة أن الحياة لن تكون كما كانت أبدًا.
كان وهدان شيخًا محطمًا، وعيناه تحدقان في الفراغ.
لم يكن يبكي لكن قلبه كان ينزف.
صورة حفيده الراحل، عدي، لا تفارق مخيلته.
تذكر كيف قسى عليه، حرمه من نغم، حبه الوحيد.
"لو وافقت على جوازه منها..."،
همس بصوت مبحوح،
"ما كان حوصل كل ده. كان زمانه عايش سعيد معها."
كان الندم يخنقه، يمزقه.
ذنب لا يغتفر وحسرة لا تنتهي فقدان عدي لم يكن مجرد فقدان حفيد، بل كان فقدانًا لروحه، لراحة ضميره.
❈-❈-❈
كان بيت الجبل معزولاً عن العالم، تحيط به الأشجار الصامتة والسماء الواسعة فقط.
لم يكن هناك صوت سوى حفيف الريح وهمس الطبيعة في هذا المكان الهادئ، كان جاسر يحاول الهروب من ضجيج الكارثة التي صنعها، لكنه وجد نفسه سجينًا لصمتٍ أكثر إيلامًا:
صمت نغم.
أحضر لها أفضل طبيب نفسي من القاهرة.
بعد جلسة طويلة مع نغم الصامتة، خرج الطبيب إلى جاسر الذي كان ينتظره في الشرفة.
_يا جاسر بيه، الحالة دي اسمها صدمة نفسية حادة
اللي عرفته من حضرتك واللي هي شافته كان فوق طاقة تحمل أي إنسان
هي فصلت وعيها عن الواقع كآلية دفاع وبالتالي محتاجة رعاية مكثفة في مصحة نفسية متخصصة.
انتفض جاسر عند سماع كلمة
و قال بحدة.
_مستحيل أسيبها في مكان زي ده.
_لكن......
قاطعه جاسر بنبرة لا تقبل الجدال.
_قلت مستحيل، جولي هي محتاچة إيه وأنا هوفره اهنه
ممرضات أدوية أي حاجة بس مش هتخرج من البيت ده.
اضطر الطبيب للموافقة على مضض، ووضع له خطة علاجية صارمة، وترك له أرقام ممرضتين متخصصتين يمكن أن يتناوبا على رعايتها.
لكن جاسر لم يتصل بأحد.
لقد قرر، دون أن يعترف لنفسه بالسبب، أنه هو من سيتولى هذه المهمة.
بدأت الأيام تمر ببطء شديد كانت والدته هي المسؤولة عن رعايتها نهارًا.
كانت تطعمها بصبر، وتغير لها ملابسها، وتتحدث معها لساعات دون أن تتلقى أي رد، على أمل أن يخترق صوتها جدار الصمت الذي بنته نغم حول نفسها.
على الفراش بجوارها، يرفض أن يتركها وحدها
وفي كل ليلة، كان الكابوس يتكرر كانت نغم تستيقظ فجأة، ليس بصراخ عالي، بل بصرخة مكتومة ومبحوحة، صرخة ألم مطلق تخرج من أعماق روحها.
وجسدها يرتجف بعنف، كأنها ترى مشهد موت عدي يحترق أمامها مرة أخرى.
في المرة الأولى، تجمد جاسر في مكانه، لم يعرف ماذا يفعل.
لكن في المرة الثانية، تحرك بغريزة لم يعهدها في نفسه.
نهض من الأريكة، وجلس بجانبها على السرير، وبحركة حانية ومترددة، سحبها إلى حضنه.
_ششش... اهدي.
همس في أذنها، وصوته الذي طالما حمل الأمر والتهديد، خرج دافئًا ومطمئنًا.
_ده مجرد كابوس أنتي في أمان... أنا هنا.
لم تكن تستجيب له بوعي، لكن جسدها المرتجف كان يهدأ تدريجيًا بين ذراعيه.
كان يظل هكذا، يحتضنها بقوة، ويشعر بارتجافتها تخف شيئًا فشيئًا، حتى تنتظم أنفاسها وتعود إلى النوم مرة أخرى.
كان يعيدها إلى الفراش برفق، ويغطيها، ثم يعود إلى أريكته، لم يريد أن ينام بجوارها كي لا يسبب ضغطاً عليها وترك لها مساحتها لكنه لا ينام بعدها.
يظل مستيقظًا، يراقبها، ويشعر بمزيج من المشاعر المعقدة التي لم يجربها من قبل.
كان يشعر بالذنب.
ليس الندم، بل ذنب حقيقي وثقيل.
كان يرى نتيجة أفعاله مباشرة في جسدها المرتجف وصرخاتها المكتومة.
لقد أراد الانتقام، لكنه لم يتخيل أبدًا أن يكون الثمن هو تحطيم إنسان بهذا الشكل.
موت عدي حطم كل شيء
حبروته..
قوته..
شموخه...
كل شيء تبخر معه
شعر بألم حاد وفقد يسري في دماءه
ولم يكن حاله بأفضل من حالها لكنه تعود على الصمود الذي تبقى له.
وفي إحدى المرات، وجد والدته مرهقة وقد غلبها النعاس قبل أن تكمل نغم طعام العشاء
أخذ منها الطبق بهدوء.
_روحي ارتاحي يا أمي أنا هكمل.
جلس مكانها، وبدأ يطعمها
كانت تأكل ببطء، دون وعي، كأنها آلة
لكنه كان صبورًا
كان يرفع الملعقة إلى فمها، وينتظر، ويمسح حول فمها بمنديل برفق.
في تلك اللحظة، وهو قريب منها بهذا الشكل يراعيها، لاحظ تفاصيل لم يرها من قبل.
لاحظ رموشها الطويلة، وشحوب بشرتها، والضعف الذي حل محل القوة في ملامحها.
شعر بشيء غريب تجاهها.
لم تكن شفقة، ولم يكن مجرد ذنب كان شعورًا بالرغبة في حمايتها.
رغبة في أن يمحو الألم من عينيها، وأن يرى ابتسامتها مرة أخرى، حتى لو كانت ابتسامة تحدي موجهة له، كان يريدها أن تعود، حتى لو عادت لتكرهه.
هذا الشعور كان جديدًا عليه تمامًا.
هو جاسر التهامي، الذي لم يعرف سوى السيطرة والقوة والانتقام، بدأ يشعر بشيء دافئ وهش ينمو في صدره كلما نظر إليها.
لم يكن يعرف أن هذا هو الحب، لأنه لم يجربه من قبل.
كل ما عرفه هو أنه مستعد أن يفعل أي شيء ليعيد الروح إلى هذه العينين الفارغتين، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة أكبر أعدائه: نفسه.
❈-❈-❈
اجتمعوا في غرفة انتظار صغيرة، بعيدًا عن أعين المتطفلين.
روى أكمل كل شيء بهدوء قاتل: خطة عدي، استخدامه لذلك الخليط الحارق، إشعاله النار في الإسطبل عمدًا، موت الخيول الثمينة، إصابة عدد كبير من الحراس الذين حاولوا إطفاء الحريق بإصابات بالغة، الأضرار التي لحقت بالقصر نفسه
وأخيرًا، موته المأساوي نتيجة خطئه هو.
كان كل تفصيل يرويه أكمل بمثابة مسمار آخر يُدق في نعش كبرياء عائلة الرفاعي.
عندما انتهى أكمل من حديثه، ساد صمتٌ رهيب ومذل.
لم يكن صمت الحزن، بل صمت الألم.
كان سالم الأب المكلوم، أول من تكلم رفع رأسه من بين يديه، وفي عينيه نظرة مهزومة لم يرها أحد عليه من قبل.
قال بصوتٍ مكسور، وكأنه يسأل ليؤكد الحقيقة التي لا يريد تصديقها.
_يعني عدي... راحلهم معتدي؟
أومأ أكمل برأسه بأسى.
_راح يرجع نغم بطريقته، ومفكرش في العواقب.
هنا وقف الجد، كبير العائلة وسند جسده المرتعش على عصاه الخشبية، نظر إلى ابنه وحفيده، وفي عينيه بريق حاسم ولد من رحم الكارثة.
_مفيش تار.
قالها بصوتٍ أجش لكنه حازم كحد السيف.
نظر إليه سند ومالك بصدمة، ليس اعتراضًا بل لأن الكلمة خرجت بهذه السرعة وبهذا اليقين.
قال سند باستنكار
_كيف ده يا چدي، هنسيب تار عدي زي ما سيبنا جبليه نغم؟
أكمل الجد، وصوته بدأ يعلو قليلاً، مشوبًا بالمرارة والألم، عليه أن يتنازل مرة أخرى لأجل البقية
_نطالب بدم ولدنا وهو اللي راحلهم بجهنم في إيده؟ نطالب بحقه وهو اللي حرق حالهم، وأذى رجالهم، وروّع حريمهم؟
سار خطوتين في الغرفة، وعصاه تدق على الأرض مع كل خطوة.
_ التهاميه لو جتلوا كل رجالنا دلوجت، يبجى ليهم الحج.
لم يكن يدافع عنهم بل كان يهدئ من غضب عائلته كي لا يعيش مرارة الفقد
_ابننا هو اللي رفع السلاح لول... هو اللي بدأ الحرب.
موته ده... مش غدر منيهم، ده تمن تهوره وجنونه.
جلس وهدان مرة أخرى، يشعر بالألم يلتهمه.
لقد مات حفيده، وبدلاً من أن يكون موته سببًا للمطالبة بالحق، أصبح دينًا في رقبة عائلته.
هكذا اقنع عائلته كل يحاجي عليهم من غضبهم
أكمل الجد بنبرة نهائية لا تقبل الجدال
_الموضوع ده اتجفل.
عدي الله يرحمه ويغفرله، عزانا خدناه في ولدنا، وهنجفل عليه.
لكن مفيش كلمة واحدة هتتجال عن التار.
لو حد سأل، هنقول قضاء وقدر.
ابننا راح في حادثة.
اسودت الدنيا في عين مالك وسأل جده بغضب
_تاني يا چدي؟ بتعيده من تاني وتتغاضى؟
لم يشعر أحد بالنار التي تلتهم جسد وهدان لقد احترق قلبه مع حرق عدي وشعوره بالذنب الذي لا يرحم.
لم تكتفي الدنيا بأخذ ولده وزادته بقسوتها بأخذ قطعة أخرى من روحه
عدي.
لكن سيفعل أي شيء حفاظا على ما تبقى من عائلته
رفع وهدان نظره إلى مالك وقال بأمر
_اللي عندي جولته انا مبجاش حيلتي غيركم دلوجت ولازمن احافظ عليكم.
صرخ مالك
_وحج أخوي؟
ضغط على عصاه يستمد منها قوته التي بدأت تضعف.
_عند ربنا، حفيدي اللي غولط وكسر جلبي عليه، ومش مستعد اخسر حد تاني منيكم.
لو كان هما اللي عملوا إكدة كنت سلمتهم للحكومة زي ما عملت مع ولدي جبل سابج
أكد مالك رأي وهدان قائلاً
_للأسف رأي جدي صح في كل كلمة
عدي اللي عتدى عليهم، وقانونياً يعتبر مجرم ولو كان عايش كان ممكن الحكم يصدر ما بين عشر سنين لمؤبد، وفي حاجة برضه، المتضررين من الحادث يحق لهم انهم يطالبوا بتعويض عن كل الخسائر اللي نتجت عن الحادث.
وخصوصاً إن في ضحايا كتير.
استخدام المسحوق ده نفسه جريمة كبيرة أوي لإن المايه مش بتقدر تطفيها وخسايرها بتكون مدمرة.
شرعًا وقانوناً وعرفاً ملناش حق.
نقل وهدان بصرة بين مالك وسند وتابع بأمر
_ياريت الكلام ده يخليكم تهدوا وبلاش تعور، وخلاص أنتو اللي باجيلي من شباب العيلة دي.
إياك أشوف في عينكم نظرة غل أو انتجام.
اللي حوصل ده درس لينا كليتنا درس إن الغضب بيعمي، وإن اللي بيبدأ بالنار... بيتحرج بيها.
چدي بدأها زمان وعشت عمري كله اهديها.
ثم أضاف بوهن، وكأن كل كلمة تستنزف ما تبقى من قوته وهو يدافع عن ألد أعداءه لأجل البقية
_ده غير الخساير... خسايرهم هما، اللي لو جاسر التهامي فكر يطالبنا بحج الخيل اللي اتحرج ولا السرايا اللي باظت، مش هنجدر نفتح بقنا بكلمة، إحنا اللي بجينا مديونين... مديونين بالدم وبلفلوس.
وفي تلك اللحظة، أدرك الجميع الحقيقة المرة.
موت عدي لم يكن خسارة مأساوية فحسب، بل كان هزيمة ساحقة.
لقد حوّل عائلته من موقف الضحية التي يمكن أن تطالب بحقها، إلى موقف المعتدي المديون الذي عليه أن يصمت ويقبل مصيره.
لقد أطفأ بموته أي فرصة للأخذ بالثأر، وترك عائلته في موقف ضعف وعار لم تعرفه من قبل.
في ذلك الممر البارد والمعقم، وجد الأب والابن نفسيهما محاصرين في قلب مأساة مزدوجة.
لقد خسروا كل شيء في ليلة واحدة.
لم يكن هناك مكان للغضب أو للثأر، لم يكن هناك سوى فراغ هائل، وحزن أثقل من أن يحتمله قلب بشر، وصوت الصمت الذي يصرخ بخسارتهم التي لا تعوض.
لم يتحمل مالك البقاء
وخرج من الغرفة و من القصر كالإعصار، صافعاً الباب خلفه بقوة جعلت جدران البيت العتيق ترتج.
كانت عيناه حمراوين كجمرتين مشتعلتين، وعروق رقبته نافرة، وكل عضلة في جسده متشنجة من الغضب المكتوم.
لقد وصل إلى أقصى درجات غضبه في حديثه مع جده، الذي رفض رفضاً قاطعاً فكرة الأخذ بالثأر، وربطه بقواعد العائلة وتقاليدها التي رآها مالك في هذه اللحظة مجرد قيود بالية أمام حقه في دم أخيه.
قاد سيارته بسرعة جنونية، لا يرى أمامه والطريق يتراقص أمام عينيه الغائمتين بالغضب والدموع المحبوسة.
لم يكن يعرف إلى أين يذهب، لكن قدمه كانت تقوده غريزياً إلى مكان واحد... المكان الذي يرقد فيه نصف روحه.
وصل إلى المقابر مع غروب الشمس، التي كانت تلقي بأشعتها الحمراء الأخيرة على شواهد القبور، كأنها تبكي دماً على الراحلين.
ترجل من السيارة وسار بخطوات ثقيلة بين القبور الصامتة، حتى وصل إلى قبر حديث، لا يزال ترابه ندياً.
"عدي سالم الرفاعي"
قرأ الاسم المحفور على الشاهد، وشعر بسكين بارد يغرس في قلبه.
وقف هناك، شامخاً كالجبل، صامتاً كالصخر، لا تظهر على ملامحه أي تعابير.
كان هذا هو مالك الذي يعرفه الجميع، القوي، الصلب، الذي لا يهتز.
لكن من الداخل كان ينهار.
كانت روحه تصرخ كل تفاصيل آخر لقاء بينهما تعود لتجلده بسياط من الندم.
صوتهما المرتفع كلماتهما القاسية، اتهامات عدي له، وغضب مالك من تهور أخيه.
انتهى اللقاء بخلاف بخصام، بقطيعة لم يتخيل أبداً أنها ستكون الأخيرة.
_ زعلان مني، صح؟
همس مالك بصوتٍ أجش ومبحوح، كأنه يكلمه.
_ عارف إنك زعلان وعارف إني غلطت لما عليت صوتي عليك.
بس كنت خايف عليك يا عدي... كنت خايف عليك من نفسك.
تنهد تنهيدة طويلة، خرجت معها كل ذرات الهواء من رئتيه، وشعر بفراغ قاتل.
_ نفسي... نفسي ترچع مش عشان تعيش... لأ.
بس عشان ترچع لحظة واحدة بس لحظة واحدة أجولك فيها حقك عليا.
أجولك فيها إني آسف.
أبوس على راسك وأطلب منك السماح... وبعدها... بعدها روح.
بس روح وإنت راضي عني.
هنا، لم يعد قادراً على الصمود.
انهار الجبل، وتحطم الصخر سقط على ركبتيه بجانب القبر، وانهار تماماً.
لم يعد هذا مالك الصامد ، ولا مالك القوي، بل كان مجرد أخ فقد أخاه.
انحنى ووضع جبهته على القبر البارد، وانفجرت دموعه التي حبسها طويلاً.
لم يكن بكاءً عادياً، بل كان عويلاً مكتوماً، بكاء قهر الرجال الذي يهز الأبدان.
كانت شهقاته تخرج من أعماق روحه، ممزوجة بالندم والوجع والشعور بالضياع.
الأخ ليس مجرد قريب، بل هو امتداد للروح، هو الذاكرة المشتركة، والضحكة الصادقة، والكتف الذي لا يميل أبداً.
هو السند الذي لا يعوض، والجدار الذي يحمي من قسوة العالم.
وبدون هذا الجدار، شعر مالك بأنه عاري ووحيد في مواجهة عواصف الحياة.
ظل على هذا الحال وقتاً طويلاً، يبكي كطفل تائه، يفرغ كل ألمه وقهره وندمه على التراب البارد الذي يحتضن أخاه الوحيد، حتى غربت الشمس تماماً، وحل الظلام، ولم يبق في هذا المكان الموحش سوى رجل محطم، وقلب ينزف على فقدان نصفه الآخر.
❈-❈-❈
كان جاسر يجلس في مكتبه بسرايا التهامي، يراجع بعض الأوراق المتعلقة بالخسائر التي سببها حريق عدي.
كان الهدوء قد عاد إلى السرايا، لكنه كان هدوءًا مشوبًا بالترقب، كهدوء ما بعد العاصفة وقبل عاصفة أخرى أشد.
فُتح باب المكتب فجأة ودخل صخر، وعلى وجهه نظرة لا تبشر بالخير.
لم يستأذن، بل دخل وجلس على المقعد المقابل لمكتب جاسر، ووضع ساقًا فوق الأخرى بتعجرف.
_الخسارة كبيرة يا جاسر.
بدأ صخر الحديث بنبرة ساخرة، وهو ينظر حوله.
_واد الرفاعي ده جبل ما يولع في نفسه، ولع في فلوسنا.
رفع جاسر عينيه من على الأوراق، ونظر إلى عمه ببرود.
_الخيل اللي اتحرج هيتعوض، والحيطان اللي اسودت هتتدهن مش هى دى المشكلة.
سأل صخر وهو يميل إلى الأمام، وعيناه تلمعان بغضب
_أومال إيه المشكلة يا ابن أخوي؟
لم يرد جاسر، فتابع صخر هجومه.
_ساكت على اللي حوصل وكمان اخدت بنتهم بيت الچبل لجل ما تعالجها من الخضة، جلبك حن ولا ايه.
قالها بسخرية وهو ينظر في عين جاسر.
رد جاسر بحدة هادئة.
_دي حاچة متخصكش يا عمي، نغم مرتي، وأنا حر أوديها مطرح ما أوديها.
ضحك صخر ضحكة عالية ومجلجلة.
_مرتك! لساتك بتجول الكلمة دي؟ البنت دي لعنة يا جاسر
من يوم ما دخلت بيتنا والمصايب بتحل علينا.
موت وحرج وخسارة، دي مش وش نعمة.
المصايب دي هما اللي جابوها لنفسهم.
وهما لازم يدفعوا تمنها أكتر.
قال صخر، وهنا وصل إلى مبتغاه.
_لازم يعرفوا إن موتة ولدهم دي مش هترجعلهم كرامتهم اللي انداست لازمن نكسرهم كسرة تانية، كسرة تجطم وسطهم وميجوموش منيها تاني أبدًا.