-->

رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 25 - جـ 1 - الثلاثاء 9/9/2025

 

قراءة رواية ثنايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ثنايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا الخولي


الفصل الخامس والعشرون 

الحزء الأول

تم النشر الثلاثاء  

9/9/2025



دلف مالك إلى غرفة جده، حاملاً على كتفيه همًا أثقل من كل المشاريع الهندسية التي أدارها في حياته. 

وجد وهدان جالسًا في شرفته كعادته منذ موت عدي، يحدق في الفراغ، وكأنه يبحث في الأفق عن وجه حفيده الراحل كان الصمت في الغرفة كثيفًا، مشبعًا بالحزن والذكريات.

_جدي...


التفت وهدان ببطء، وارتسم على وجهه ظل ابتسامة متعبة عند رؤية مالك.

_أهلاً يا مالك تعالى يا ابني اقعد.


جلس مالك على المقعد المقابل لجده، لكنه لم يستطع أن ينظر في عينيه مباشرة بدلاً من ذلك ثبت نظره على يديه المتشابكتين، يبحث عن الكلمات الصحيحة، عن المدخل المناسب لموضوع شائك وحساس كيف يبدأ؟ كيف يطلب يد أرملة أخيه الذي لم يمر على وفاته ثلاثة أشهر؟ شعر بأن طلبه مهما كان نبيلًا في دوافعه، قد يبدو كأنه انتهازيًا أو قلة احترام لحرمة الموت. 

كل كلمة حضّرها في عقله بدت الآن إما متسرعة أو غير لائقة.


لاحظ وهدان ارتباكه وصمته الطويل نظر إليه باهتمام، بصيرة السنين الطويلة جعلته يقرأ ما وراء الصمت.

_مالك يا مالك؟ شايفك مش على بعضك فيك إيه يا ولدي؟


أخذ مالك نفسًا عميقًا، كمن يستعد للقفز في مياه عميقة ومجهولة. 

قرر أن المواجهة المباشرة مهما كانت صعبة، هي الطريق الوحيد رفع رأسه ونظر في عيني جده.


_جدي، أنا عايز أتكلم مع حضرتك في موضوع... موضوع مهم يخصني، ويخص... روح.


عند ذكر اسمها، تغيرت نظرة وهدان لم تكن دهشة، بل كانت ترقبًا حذرًا التزم الصمت، مشجعًا مالك بنظرته على إكمال ما بدأه.

شعر مالك بأن الأرضية أصبحت أكثر صلابة تحت قدميه.

_أنا خابر... خابر إن الوجت يمكن مش مناسب، وإن عدتها لسه مخلصتش، وإن چرحنا كلنا لسه مفتوح

والله وحده عالم باللي في جلبي، وعالم إني بفكر في الموضوع ده بجالي ليالي ومعرفش أنام بس أنا مش جادر أستنى أكتر من كده عشان أفاتح حضرتك في الموضوع.


توقف للحظة، يبتلع ريقه الذي شعر بجفافه.

_حضرتك عارف زين اللي في جلبي ناحية روح من سنين والإحساس ده عمره ما مات يا جدي، بالعكس، كان بيكبر وبيوچع كل يوم عن اللي جبله، ولما حصل اللي حصل... وشفتها وحيدة ومكسورة... حسيت إن واچبي وحجي وحلمي، كلهم بجوا حاچة واحدة.


اشتدت نبرته قوة وصدقًا.

_أنا رايد أتجوز روح يا جدي عايز أبجى سندها وضهرها، وأعوضها عن كل اللي شافته، روح متستاهلش تعيش لوحدها وهي في السن ده وميصحش، ولا يرضي ربنا، نسيبها كده للناس وكلامهم اللي مبيرحمش. 

أنا مش هعمل أي خطوة ولا هتكلم في أي حاچة رسمية إلا بعد ما عدتها تخلص باليوم والدجيجة، بس كان لازم آچي لحضرتك الأول، عشان لو اللي بفكر فيه ده غلط أو عيب، حضرتك تجولي وأدفن الفكرة دي دلوجت.


ظل وهدان صامتًا، ونظراته تتفحص دواخل حفيده لم يرى في عينيه طمعًا أو استعجالًا، بل رأى حبًا قديمًا وناضجًا، ورغبة صادقة في الحماية والستر، هو نفسه يعلم بحب مالك لروح، بل ورأى في الآونة الأخيرة كيف تغيرت نظرات روح أيضًا إليه، كيف أصبحت تبحث عنه بعينيها، وكيف تجد في وجوده الأمان الذي فقدته.


أخيرًا، تحدث وهدان بهدوء، وصوته كان يحمل دفئًا أبويًا.

_طب وأنت فتحت روح في الموضوع ده؟ لمحت لها حتى؟


هز مالك رأسه بالنفي سريعًا.

_لأ يا جدي، مجدرش أتخطى حضرتك أبدًا، وكمان كنت رايد أحترم حزنها ومشاعرها. 

أنا چيت لحضرتك لول عشان أطلب الإذن، أطلب موافجتك ومباركتك. 

لو حضرتك شايف إن ده صوح، هستنى الوجت المناسب بعد عدتها، وهكلمها لو شايفه غلط، يبجى كأني متكلمتش.


هز وهدان رأسه ببطء، وابتسامة حقيقية، وإن كانت حزينة، ارتسمت على شفتيه.

_طول عمرك راچل يا مالك، راچل حكيم صوح، اللي بتجوله ده هو عين العقل والأصول

روح بنتنا، جبل ما تكون مرات الغالي الله يرحمه، ومش هنلاجي لها أحسن منك يصونها ويحافظ عليها.


شعر مالك بأن جبلًا من القلق قد أُزيل عن كاهله، وتنفس بعمق لأول مرة منذ دخوله الغرفة.

لكن وهدان أكمل بنبرة جادة.

_بس الموضوع كله في إيد روح دلوجتي إحنا خلاص زمن الجبر انتهى يا ولدي، بعد ما عدتها تخلص اجعد معاها واتكلم، شوف اللي في جلبها إيه لو وافجت، يبجى ليك مني كل الدعم والمباركة، والفرح يتعمل تاني يوم إحنا مش هنسيبها فريسة للوحدة ولا للقيل والقال، وخصوصًا إن البيت فيه شاب متچوزش أنت عندك حج، واجبنا نحميها ونسترها.


نهض مالك، وانحنى على جده وقبّل رأسه بقوة، قبلة تحمل كل الامتنان والحب.

_شكرًا يا جدي شكرًا، عمري ما هخذلك ولا هخذلها.


ابتسم الجد وربت على كتفه.

_أنا خابر يا ابني، دلوجت سيبها على الله، وكل حاچة هتيچي في وجتها الصبر يا مالك... الصبر مفتاح كل شيء.


❈-❈-❈


في المساء، كان جاسر يعمل في مكتبه الصغير في البيت. 

كانت والدته قد ذهبت لتنام

سمع صوت خطوات تقترب، وظن أنها الخادمة التي ستحضر له قهوته المعتادة. 

لكن الباب انفتح ودخلت نغم، تحمل هي القهوة.


كانت ترتدي عباءة بسيطة من الحرير،  وكان شعرها جافًا الآن، ينسدل على ظهرها.

قالت ببرودها المعتاد، كأن ما تفعله هو الشيء الأكثر طبيعية في العالم. 

_سامية تعبت شويه جولتلها ترتاح وانا هعملها.


اقتربت من مكتبه

ثم انحنت لتضع الفنجان أمامه، وتعمدت أن تميل بجسدها أكثر من اللازم، مما جعل خصلات من شعرها الطويل تلامس يده التي كانت تستقر على المكتب. 

انتفض جاسر من لمستها الخفيفة، وشعر بقشعريرة تسري في جسده رائحة شعرها، رائحة أنثوية، ملأت أنفه.


رفعت رأسها، ونظرت إليه مباشرة، لكن عينيها كانتا باردتين كالعادة. 

لم تكن هناك ابتسامة، لم يكن هناك إغواء صريح. 

كان هذا هو ما يجعله يفقد عقله: هذا التناقض بين جسدها الذي أصبح فجأة متاحًا للنظر، وعينيها وروحها اللتين لا تزالان بعيدتين ومنيعتين كقلعة محصنة.

سألت بنفس البرود.

_عايز حاچة تاني.


قال بصوتٍ أجش، وهو يحاول السيطرة على ردة فعله.

_لأ

استدارت وخرجت من الغرفة بهدوء، تاركة إياه مع قهوته التي بردت، ونار جديدة اشتعلت في داخله.


لقد ايقن جاسر أنها تفعل ذلك عن قصد.

لم تكن هذه الأفعال عفوية

كانت تلعب معه لعبة خطيرة، لعبة تستخدم فيها أنوثتها كسلاح. 

لكن معرفته هذه لم تساعده. 

ففي كل مرة، كان يقع في فخها. 

كان عقله يصرخ فيه بأنها خدعة، لكن جسده وروحه كانا يخونانه.


لقد بدأت نغم حربها الصامتة، وكانت تفوز في كل جولة، مستمتعة برؤية هذا الرجل القوي الذي حطمها، يبدأ في التحطم ببطء أمامها، ضحية لحبٍ هي نفسها من قررت أن تغذيه... لتقتله به في النهاية.


صعدت إلى غرفتها وأغلقت تلك المرة الباب وراءها بعنف

لقد ملت ولن تستطيع الضغط على نفسها أكثر من ذلك 

لكن ليس أمامها سوى تلك الطريقة مع ذلك الرجل


❈-❈-❈


منذ أن غيّب الموت عدي، 

انسحبت وعد داخل قوقعة من الحزن الصامت. 

ابتعدت عن الجميع، وحتى عن سند الذي كان أقرب الناس إليها. 

هذا البُعد لم يقلل من مكانتها في قلبه، بل على العكس، جعله يشتاق إليها أكثر يشتاق لضحكتها، لكلامها، لوجودها الذي كان يملأ عليه حياته.


في ذلك المساء، تركت وعد أمها غارقة في دموعها التي لم تجف بعد، وتسللت إلى غرفتها تبحث عن مهرب في النوم. 

ألقت بجسدها المنهك على السرير وأغمضت عينيها، تتمنى لو أن الظلام يبتلع أفكارها. 

لكن قبل أن تغوص في عالم الأحلام، شعرت به يجلس على حافة السرير، وسمعت صوته الهادئ الذي اخترق صمتها.

_ وعد... ممكن نتحدت شوية؟


فتحت عينيها ببطء، لتجد سند ينظر إليها بعينين مليئتين بالشوق والعتاب 

لم يمنعها من النوم هذه المرة، بل منع وحدتها من أن تبتلعها بالكامل.


جلسَت باعتدال وهي تسأله بصوت متعب

_في إيه يا سند؟


قالها بنبرة حنونة وهو يقترب منها أكثر. 

_ إنتي اللي فيكي إيه؟  ليه بعيدة عني اكده يا وعد؟ أنا عملت حاجة زعلتك؟


سؤاله كان بمثابة المفتاح الذي فتح كل السدود المنهارة بداخلها. 

هي أيضاً كانت تحتاجه، تحتاج لصدره الحنون، لأمان وجوده. 

لم تجد الكلمات لترد بها، فكانت دموعها أسرع.

انهمرت بلا توقف، ووجدت نفسها، دون وعي ترتمي في حضنه، تدفن وجهها في صدره وتبكي.


بكت أخاها، بكت وحدتها، بكت ألم أمها وأبيها، بكت كل الأيام الثقيلة التي مرت عليها

لم يقول سند شيئاً، فقط شدد من احتضانه لها، يتركها تفرغ كل ما في قلبها من وجع. 

يده كانت تمسح على شعرها بحنان لا نهائي، بينما قلبه كان يعتصر ألماً لألمها.


وفي تلك اللحظة، وهو يستنشق عبير شعرها ويشعر بارتجاف جسدها بين ذراعيه، اعترف لنفسه بالحقيقة التي كان يهرب منها.

أنه أحبها.


لم يكن مجرد حب عادي، كان شعوراً جارفاً، مختلفاً تماماً عن أي شيء شعر به من قبل حتى حبه لـ نغم، الذي كان يظنه حب حياته، بدا باهتاً الآن، مجرد ذكرى. 

أدرك في تلك اللحظة أن ما كان بينه وبين نغم هو حب من نوع آخر، حب أخوي نشأ بسبب تقارب السن والصداقة القوية، حب جميل، لكنه ليس الحب الذي يجعل رجلاً مستعداً لفعل المستحيل.

حب وعد كان هو المستحيل.


عندما هدأت قليلاً ورفعت رأسها من على صدره، كانت عيناها حمراوين ومتورمتين، لكن نظرتهما كانت أقل حزناً.

أمسك وجهها بين كفيه، وأجبرَها على النظر في عينيه مباشرة.

_ وعد، اسمعيني زين... أنا خابر إن الوجت غير مناسب، بس لازم تعرفي.


صمت للحظة يجمع شجاعته، ثم أكمل بصوت صادق يخرج من أعماق روحه

_ مش جابل بعدك عني اكتر من إكدة، إنتي بجالك فترة طويلة بعيدة عني، بتدخلي اوضتك بس للنوم وتجومي الصبح تروحي لمرات عمي.

نظر إليها بصدق وتابع

_انا خابر انها محتچالك انتي اكتر واحدة، بس خلاص يا وعد مبجتش جادر اتحمل بعدك اكتر من إكدة.

تطلعت إليه من بين اهدابها المبللة

_بس اللي راح مكنش هين، ده أخوي.


_وأخوي انا كمان، وربنا وحده اللي يعلم بحرجت جلبي عليه، صحيح هو كان انطوائي وعايش في دنيا لخاله بس كان أخ وسند وعزوة، موته مكنش بالساهل علينا كلنا، بس الدنيا مش بتجف عند حد.

رفع انامله ليمحو الدموع المتعلقة بأهدابها وتمتم بصدق

_البُعد اللي كنتِ فيه ده كان بيجتلني. 

أنا بجيت مجدرش أعيش لحظة واحدة من غيرك. 

بس زي ما يكون فوجني لحاچة مكنتش واخد بالي منيها..

زمان كنت فاكر إني بحب نغم، بس النهاردة بس فهمت... اللي بيني وبينها كان حب أخوة، كان تعود... لكن إنتي... إنتي حاجة تانية خالص. 

إنتي الحب اللي يخليني أعمل أي حاجة في الدنيا، أي حاجة، بس عشان متضيعيش مني، عشان متكونيش بعيدة. 

أنا مستعد أعمل المستحيل عشانك، بس متعمليش فيا زي ما نغم عملت... متبعديش عني.


كانت كلماته كالمطر الذي يروي أرضاً عطشى، نظرت إليه وعد بصدمة ممزوجة بأمل خافت بدأ يولد في عينيها الدامعتين. 

رأت في عينيه صدقاً لم تره في حياتها، حباً قوياً كان قادراً على انتشالها من حزنها.


لم ينتظر رداً منها. 

كل المشاعر المكبوتة كل الشوق، كل الحب الذي اعترف به لنفسه للتو اندفع في لحظة واحدة. 

انحنى ببطء مقللاً المسافة بينهما، ولامست شفتاه شفتيها.


كانت قبلة لم تكن كأي قبلة بدأت رقيقة حنونة كأنها اعتذار عن كل لحظة ألم، ووعد بكل لحظة سعادة قادمة. 

كانت تحمل كل مشاعره، كل خوفه من فقدانها وكل أمله في مستقبل يجمعهما. 

تعمقت القبلة ببطء، لتصبح أكثر شغفاً، قبلة طويلة ورومانسية، سرقت أنفاسهما وذوبت كل الحواجز التي بناها الحزن بينهما. 

في تلك اللحظة، لم يكن هناك سوى "سند" و"وعد"، وقلبين وجدا طريقهما أخيراً إلى بعضهما البعض في وسط الظلام.


❈-❈-❈


في منزل اكمل..


منذ تلك الليلة تغير كل شيء

أصبح أكمل شخصاً آخر، وانسحب خلف جدار من الصمت والمسافة.

مشاعره تجاه صبر التي تفجرت فجأة، جعلته في حالة من الارتباك الدائم

بات يتجنبها، يتهرب من نظراتها ويختصر وجودها في حياته إلى أضيق الحدود. 

حتى طقس القهوة الصباحي، الذي كان مساحتهم الخاصة للحديث، لم يعد كما كان. 

يكتفي الآن بكلمة شكر مقتضبة دون أن يرفع عينيه عن أوراقه، تاركاً إياها تنسحب بصمت كما أتت.


صبر بقلبها الهادئ وحدسها النقي، لاحظت هذا التغيير لم يكن مجرد انشغال بالعمل، بل كان تجنبًا متعمدًا

كانت تشعر بنظراته الخاطفة التي يسرقها عندما يظن أنها لا تراه، وتشعر بالمسافة التي يضعها بينهما كلما اقتربت

آلمها هذا الجفاء، ليس لأنه سيدها، بل لأنه الشخص الذي فتح لها نافذة على عالم من الأفكار والكتب، وبدأ يمثل لها شيئًا أعمق لم تكن تعرف له اسمًا.


في إحدى الليالي وجدته جالسًا في الشرفة وحيدًا، 

لا يقرأ ولا يعمل فقط يحدق في ظلام الحديقة بشرود كان هذا هو الوقت المناسب

ترددت للحظات، ثم استجمعت شجاعتها الهادئة وتوجهت نحوه.


وقفت على بعد خطوات منه، ولم تتحدث حتى شعر بوجودها والتفت.

_يا بيه...

قال بصوت متجهم قليلاً، كمن تم إقلاقه من عزلة ضرورية.

_خير يا صبر؟ محتاجة حاجة؟


اقتربت خطوة أخرى، وصوتها كان يحمل قلقًا حقيقيًا ورجاءً.

_أنا... أنا اللي عايزة أسأل هو أنا عملت حاچة غلط ضايجت حضرتك؟


نظر إليها بدهشة وعلى ضوء القمر الخافت لاحظ لأول مرة تفاصيل وجهها بوضوح لم يره من قبل ملامحها الهادئة والرقيقة، عيناها الواسعتان اللتان تحملان براءة وصفاءً نادرين 

الطريقة التي تعقد بها حاجبيها بقلق طفولي. 

رأى فيها طيبة أصيلة وعفوية غير متكلفة في تلك اللحظة، شعر وكأن صورة فتاة أحلامه التي بحث عنها طويلاً ولم يجدها في ليلى، قد تجسدت أمامه في هذه الفتاة البسيطة.

تنهد وشعر بأن جدار دفاعه يتصدع.

_لأ يا صبر معملتيش أي حاجة غلط المشكلة فيا أنا، مش فيكي.


قالت بإصرار لطيف تريد أن تفهم.

_بس حضرتك بتتچنبني ومبجتش بتتكلم معايا زي لول لو في حاچة أنا جصرت فيها، جوللي وأنا أصلحها.


نظر إلى عينيها الصادقتين وقرر أن يمنحها جزءًا من الحقيقة مغلفًا بالغموض.


_أنتِ مقصرتيش بس أنا... في حاجة شغلتني حاجة كنت فاكرها بسيطة وعادية، ومكنتش مديها أي اهتمام ولما بصيت لها من زاوية تانية، لما ركزت فيها بجد... لقيتها أجمل وأعمق بكتير من كل الحاجات الكبيرة والمبهرة اللي كانت مالية عيني.

كان يتحدث عنها دون أن يذكر اسمها كان يصفها هي.

فهمت صبر ما يرمي إليه، أو على الأقل فهم قلبها، لم تشعر بالخجل أو الارتباك، بل ردت بهدوئها ورومانسيتها الفطرية التي تشبهها.

_وساعات يا بيه... الحاجات البسيطة دي بتكون زي النچوم طول ما نور المدينة والعالم كله شغال، محدش بياخد باله منها. 

بس لما الدنيا تضلم، والواحد يبجى لحاله... بيكتشف إن النور الحجيجي والهادي كان موچود طول الوجت في السما، مستني بس حد يطفي الأنوار المزيفة عشان يشوفه.


أذهلته مرة أخرى بكلماتها البسيطة، وصفت حالته بدقة مدهشة

لقد كانت هي نجمته الهادئة، ولم يرها إلا عندما أطفأ أنوار علاقته الصاخبة والمزيفة بليلى. 

كلماتها لم تكن مجرد رد، بل كانت لمسة حانية على روحه المضطربة، اعترافًا بأنها تفهمه، وتشعر به.


في تلك اللحظة، وهو ينظر في عينيها التي تعكس ضوء القمر، اعترف لنفسه بالحقيقة كاملة، دون تردد أو خوف لقد أحبها

أحب هدوءها، وعمقها وروحها التي تشبه قصيدة جميلة. 

لقد وجد أخيرًا ما كان يبحث عنه، في المكان الذي لم يتوقع أبدًا أن يبحث فيه.


كان حائراً، ممزقاً بين قلبه الذي يضطرب لوجودها، وعقله الذي يخبره بمسؤوليته تجاهها.

لم يعد قادراً على تحمل بقائها في المنزل وسط هذه الفوضى من المشاعر، وفي الوقت ذاته، لم يكن ليقوى على إعادتها إلى والدها، ليدفع بها إلى جحيم يعرفه جيداً.


وفي صباح أحد الأيام، اخترقت سكون المنزل صرخة حادة ومذعورة كانت صرخة صبر.


قفز أكمل من فراشه فزعاً، وركض إلى أسفل السلم وقلبه يخفق بعنف. 

كان المشهد في الصالة السفلية كفيلاً بتجميد الدم في عروقه. 

كان حسان هناك، يمسك ابنته من ذراعها بعنف ويده الأخرى تهوي عليها بالضربات.


لم يفكر أكمل لثانية. 

اندفع نحوهما كالريح، وأمسك بذراع حسان المرفوعة في الهواء بقوة، وأبعده عنها جاعلاً من جسده درعاً يحميها.

_ إنت اتجننت؟ إزاي تمد إيدك عليها!


سحب صبر لتقف خلف ظهره، ثم واجه حسان بغضب جامح.

_ مالك ومالها؟ بتضربها ليه؟


رد حسان بصوت عالي يملؤه الحقد والغل.

_ الهانم چابتلي العار! فضحتني في البلد!


سقطت كلمة "العار" على مسامع أكمل كالصاعقة. 

التفت لا إرادياً إلى صبر التي كانت ترتجف خلفه، ومرت في عينيه نظرة شك خاطفة لم يستطع منعها. 

رأت هي تلك النظرة، فهزت رأسها بنفي متكرر ودموعها تنهمر، وكأن شكه فيها كان أشد إيلاماً من ضربات أبيها.


استعاد أكمل رباطة جأشه، وعاد ببصره الحاد إلى حسان

_ فضحَتك في إيه؟ انطق قول السبب!


صرخ حسان باحتقار وهو يشير بإصبعه إليهما معاً.

_ البلد كلها بتتكلم بيجولوا إنها شغالة عند وكيل النيابة وبتبات في بيته لوحدها معاه 

يعني إيه ده؟ يعني فيه بينكم حاچة عفشة.


هنا، انفجر بركان الغضب المكتوم في صدر أكمل.

لم يكن غضبه بسبب كلام الناس، بل بسبب دناءة هذا الأب الذي يتهم ابنته في شرفها بدلاً من أن يكون سندها.

_ انت اتجننت ازاي تصدق كلام زي ده على بنتك.

نظر الرجل لأكمل بجانب عينيه وقال بخبث

_الناس اللي بتجول، وكدة سمعتها بجيت في الحضيض ودي بنت

مين اللي هيجبل يتچوزها بسمعتها دي. 


انفعل أكمل اكثر منه 

تقدم منه خطوة، وأمسكه من ياقة جلبابه الرث بقوة.

_ اطلع بره بيتي ولو شفت وشك هنا تاني أو قربت منها، قسماً بالله لادفنك مكانك.


دفعه أكمل بكل قوته نحو الباب وطرده، ثم أغلقه خلفه بعنف محدثاً صوتاً مدوياً تردد في أرجاء المنزل الذي عاد ليسكنه صمت ثقيل.

ثم نظر إلى صبر وقال بأنفعال

_واقفة كدة ليه يلا على جوه.


انصرفت صبر وهي تخفي وجهها بين كفيها ودلفت الغرفة تبكي بشدة

الصفحة التالية