-->

رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 42 - جـ 1 - الثلاثاء 23/9/2025

 

قراءة رواية ثنايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ثنايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا الخولي


الفصل الثاني والأربعون

الحزء الأول 

تم النشر الثلاثاء  

23/9/2025



في منزل الرفاعي....

كانت رائحة الطعام الصعيدي الأصيل تملأ أرجاء المطبخ الواسع في قصر الرفاعي ممزوجة بضحكات النساء وزغاريدهن الخافتة فرحاً بصباحية نغم. 

كانت روح تتحرك بخفة ونشاط، رغم بطنها المستدير الذي دخل شهوره الأخيرة تساعد والدتها ليل وورد في تحضير "فطور العروس" الفاخر الذي سيحملونه إلى جناح نغم وجاسر.


لاحظت ورد أن روح بدأت تضع يدها على ظهرها بين الحين والآخر وتأخذ نفساً عميقاً. 

اقتربت منها بحنان ووضعت يدها على كتفها.

_ كفاية عليكي إكده يا روح يا بتي اطلعي ارتاحي شوية، وشك باين عليه التعب.


ابتسمت روح ابتسامة واسعة وصادقة وعيناها تلمعان بسعادة.

_ تعب إيه بس يا مرات عمي؟ ده أحلى يوم في حياتي وأنا بچهز الأكل لأختي بيدي. 

دي فرحة متتعوضش.


ردت ليل وهي تقلب في إحدى الأواني الكبيرة

_ ربنا يفرح جلبك دايماً يا بنتي، بس برضه صحتك واللي في بطنك بالدنيا.


أصرت روح على البقاء فحبها لأختها كان يمنحها طاقة استثنائية كانت تتخيل فرحة نغم وهي ترى كل هذا الاهتمام، وتدعو في سرها أن يكون جاسر هو السند والأمان الذي تستحقه. 

لكن بعد فترة وبينما كانت تحمل صينية ثقيلة شعرت بألم حاد ومفاجئ أسفل بطنها، جعلها تتوقف وتغمض عينيها بقوة.


رأتها ورد وليل في نفس اللحظة هرعت ورد وأخذت منها الصينية، بينما سندتها ليل بقلق.

_ شوفتي! مش بنجولك ارتاحي!

قالت ليل بحزم أمومي لا يقبل الجدال. 

_ يالا، على أوضتك دلوجت إحنا هنكمل كل حاچة ومرات عمك وسعدة معانا.


لم تجد روح مفراً من الموافقة هذه المرة صعدت السلم ببطء، تتنفس بصعوبة وكل ما تريده هو أن تستلقي قليلاً حتى يهدأ هذا الألم.


فتحت باب جناحها ودخلت لتجد مالك يخرج من الحمام للتو، يرتدي بنطالاً قطنياً مريحاً ومنشفة حول عنقه وهو يجفف شعره.

 ما إن رآها حتى اختفت ابتسامته الهادئة وحل محلها القلق العميق ألقى بالمنشفة من يده وهرع نحوها في خطوتين.

_ روح مالك؟ وشك أصفر ليه؟


لم تستطع الرد فقط هزت رأسها بتعب وهي تتكئ عليه لم يسأل سؤالاً آخر أحاط خصرها بذراعه القوية، وسندها بحرص شديد كأنها كنز هش قابل للكسر. 

قادها بخطوات بطيئة نحو السرير وساعدها على الاستلقاء برفق.


جلس بجانبها على حافة السرير ومرر يده على جبينها ليتأكد من حرارتها.

_ حاسة بإيه؟ الألم لسة موجود؟


قالت بابتسامة 

_ أنا بجيت زينة متجلجش.


نظر إليها بعينين تفيضان حباً وحناناً.

_ مجلجش كيف؟ لما بشوفك بتتألمي روحي بتتسحب مني.


انحنى وقبل جبينها قبلة طويلة ثم نزل بنظره إلى بطنها المستدير، ووضع يده الكبيرة عليه بحنان بالغ.

_ وأنتِ يا چميلة اهدى على ماما شوية مش كفاية واخد كل الدلع والحب لوحدك.


ابتسمت روح من بين ألمها، ووضعت يدها فوق يده.

_ هي بتسمع كلامك أول ما حطيت إيدك هديت.


رفع مالك نظره إليها مرة أخرى وكانت عيناه تحملان كل عشق العالم.

_ عشان خابرة إني مستعد أعمل أي حاچة في الدنيا عشانكم، راحتكم عندي بالدنيا كلها.


ظل جالساً بجانبها يده على بطنها ويده الأخرى تمسح على شعرها، يهمس لها بكلمات هادئة ومطمئنة حتى شعرت بالألم يتبدد تدريجياً ويحل محله شعور دافئ بالسكينة والأمان 

في حضرة حبه واهتمامه كانت تعرف أنها في حصنها المنيع، وأن لا شيء في العالم يمكن أن يؤذيها طالما هو بجانبها.

........


كان المطبخ يضج بالحياة والنشاط ورائحة الأكل الشهي تمتزج بضحكات النساء. كانت وعد تتحرك بخفة بينهن تساعد في تقطيع الخضروات وتجهيز الأطباق وقلبها يرقص فرحاً لأجل نغم.


فجأة دخل سند إلى المطبخ وهو يحمل ابنهما "عدي" الذي كان يصرخ بأعلى صوته ووجهه الصغير أحمر من شدة البكاء، كان سند يهزه برفق ويحاول تهدئته دون جدوى.


نظر حوله حتى وجد وعد فتوجه نحوها مباشرة.

_ وعد... يا وعد تعالى شوفيلنا حل في الأستاذ ده.


تركت وعد السكين من يدها ومسحت يديها بسرعة ثم اقتربت منهما بقلق.

_ ماله يا سند؟ ليه بيعيط اكده؟


أخذت ابنها منه وبدأت تهدهده بحنان أمومي فطري لكن الصغير استمر في البكاء.


سحبها سند من ذراعها برفق وأخذها إلى خارج المطبخ في زاوية هادئة بعيداً عن ضجة الأواني وأحاديث النساء. 

انحنى وهمس في أذنها بنبرة ماكرة وعيناه تلمعان بخبث مرح.

_ شكله زعلان عشاني مش راضي يسكت خالص.


نظرت إليه وعد باستغراب.

_ زعلان عشانك؟ ليه يعني؟


اتسعت ابتسامته الماكرة وهو ينظر إليها نظرة ذات معنى.

_ عقاب، ده عقابك عشان نمتي امبارح وسيبتيني الواد حاسس بيا وبياخد حجي.


فهمت وعد تلميحه على الفور، فانفجرت في ضحكة خافتة وحاولت إخفاءها بكف يدها، واحمرت وجنتاها.

_ يا سلام! بجى هو ده السبب؟ تطلعت إليه بغيظ

_حرام عليك يا سند اليوم كان طويل ومتعب، وكنت محتاچة أنام عشان أجدر أجوم معاهم بدري وأحضر حاچات نغم.


لم تذب ملامحه الماكرة بل اقترب أكثر حتى كاد يلامسها، وهمس بصوتٍ أعمق وأكثر إغواءً.

_ وأنا ذنبي إيه؟


نظرت إليه بعينين تملؤهما السعادة والخجل وقالت بدلال

_ ذنبك إنك حلو زيادة عن اللزوم.


ضحك بخفة ثم أصبح جاداً فجأة ونظر في عينيها مباشرة بنظرة حب صافية.

_ طيب... بما إنك عارفة ذنبي، يبقى لازم تكفّري عنه.


_ وأكفّر عنه كيف بجا إن شاء الله؟


مرر إبهامه على خدها برقة، وعيناه معلقتان بعينيها.

_ تعوضيني الليلة.


في تلك اللحظة وكأنها معجزة هدئ الصغير عن البكاء فجأة وأطلق تنهيدة صغيرة ثم أغلق عينيه ليستسلم للنوم بين ذراعي والدته.


نظر سند إلى ابنه النائم ثم إلى وعد بابتسامة منتصرة.

_ شوفتي؟ حتى الواد موافق مستني التعويض بتاعي.


هزت وعد رأسها بيأس مصطنع، لكن قلبها كان يرقص من فرط حبه ودلاله أعطته قبلة سريعة على خده وهمست

_ مجنون.


أخذ منها الطفل النائم بحرص وقبل جبينها قبلة عميقة.

_ مجنون بيكي يالا روحي كملي اللي بتعمليه، وأنا هاخده أنيمه في الأوضة بس متنسيش... اتفاقنا.


غمز لها غمزته الأخيرة وخرج من الطرقة تاركاً إياها تبتسم بحب وتشعر بأنها أسعد امرأة في العالم مع هذا الزوج العاشق والمرح.


❈-❈-❈


قالت ونس وهي تضع طبقاً من الفطير الساخن أمامهما

_دوجي يا نغم الفطير ده، لسة سامية خابزاه.


أخذت نغم قطعة وقبل أن تأكلها نظرت إلى جاسر الذي كان يراقبها بابتسامة هادئة.

_طبعاً حلو كل حاچة من إيدك يما ونس حلوة.

كانت نغم تشعر براحة لم تعهدها هذا المطبخ الذي كان يمثل لها سجناً أصبح الآن مسرحاً لأجمل صباح في حياتها. 

وجود جاسر بجانبها وونس أمامها جعلها تشعر بأنها أخيراً في بيتها.


نظر جاسر إلى والدته وقال بمرح

_شوفتي يا ست الكل؟ خدت مكانتي في يوم وليلة مبجاش ليا طبيخ ولا فطير.


ضحكت ونس وهي تنظر لابنها بسعادة غامرة. كانت ترى في عينيه لمعة لم ترها من قبل، لمعة الحب والرضا.

_وأنت تطول إن القمر دي تاكل اكلك؟ وبعدين هي اللي هتاكل وأنت اللي هتشبع.


ضحكت نغم بخجل من تعليق حماتها بينما شد جاسر على يدها تحت الطاولة. 

كان يشعر وكأنه في حلم كل صباح كان يستيقظ على صراع أو خطة أو تهديد، واليوم يستيقظ على صوت ضحكة حبيبته ورائحة طعام والدته. 

لقد حارب العالم من أجل هذه اللحظة البسيطة، وشعر بأنها تستحق كل التعب.


قال جاسر وهو يوجه كلامه لنغم، لكن عينيه كانتا تبتسمان لوالدته

_هي شكلها هتدلع عليا جوي يا أما، وأنتي اللي هتشجعيها.


ردت ونس بثقة

_وأدلعها ليه لأ؟ دي اللي نورت البيت ورجعتلي ابني اللي كان غايب


كانت ونس تنظر إليهما وقلبها يفيض فرحاً. 

لقد رأت ابنها قاسياً ورأته قوياً ورأته حزيناً، لكنها لم تره "سعيداً" بهذا الشكل من قبل. 

وجود نغم لم يغيره فقط بل أعاده إلى الحياة.


قالت نغم بهدوء وهي تنظر إلى جاسر

_خلاص عشان متزعلش هدوقك.

وأخذت قطعة صغيرة من الفطير وقربتها من فمه بجرئة لم تشهدها في نفسها من قبل


فتح جاسر فمه وأخذ القطعة وعيناه لم تفارقا عينيها. 

كانت لقمة بسيطة لكنها في عالمهما كانت تعني كل شيء. 

كانت تعني القبول والمشاركة وبداية حياة حقيقية.


وهكذا على طاولة إفطار بسيطة بين ضحكات الأم وخجل الزوجة وعشق الزوج، اجتمعت ثلاث أرواح كل منها يعيش حلمه الخاص وكل منها يجد سعادته في وجود الآخرين، في مشهد عائلي دافئ كان بمثابة بداية حقيقية لحياة جديدة.


بعد أن أخذ جاسر اللقمة من يدها لم يبعد عينيه عنها بل همس بصوتٍ خفيض لم تسمعه سوى هي

_حتى الفطير طعمه أحلى من إيدك.


شعرت نغم بالحرارة تتصاعد إلى وجهها، فسحبت يدها بسرعة وهي تحاول إخفاء ابتسامتها الخجولة متظاهرة بالانهماك في كوب الشاي.


لاحظت ونس هذا الهمس وهذه النظرات فابتسمت ابتسامة عريضة وقررت أن تمنحهما بعض الخصوصية. 

نهضت وهي تقول

_أني هروح أخلي سامية تشوف الغسيل شكل السما مغيمة النهاردة كملوا فطاركم على مهلكم.


وما إن خرجت ونس وأغلقت باب المطبخ حتى استدار جاسر بجسده كله نحو نغم ترك يدها التي كان يمسكها تحت الطاولة ورفع يده ليمررها برفق على خدها الذي لا يزال متورداً.

_معجول لساتك مكسوفة مني؟


لم تجب بل اكتفت بهز رأسها بنفي بخفة وهي تنظر إلى طبقها. 

فرفع ذقنها بإصبعه برفق مجبراً إياها على النظر في عينيه.

_أني عايزك تبصيلي عايز أشوف السعادة في عينيكي عايز أتأكد إن كل ده مش حلم.


قالت بصوتٍ ناعم

_ولو حلم؟


_يبقى أحلى حلم حلمته في حياتي ومستعد أعمل أي حاچة عشان مَصحاش منيه أبداً.


صمت للحظة وعيناه تتفحصان كل تفصيل في وجهها ثم قال بنبرة جادة مليئة بالمشاعر

_عارفة يا نغم... أني عشت حياتي كلها بحارب، بحارب عشان أحافظ على مكانتي، بحارب عشان أنتقم، بحارب عشان أكون الأقوى

أول مرة في حياتي أحس إني مش عايز أحارب

أول مرة أحس بالسلام.


تأثرت نغم بصدق كلماته ومدت يدها ووضعتها فوق يده التي على خدها.

_وأني... أول مرة أحس بالأمان.


كانت هذه الكلمة "الأمان" هي كل ما يحتاجه جاسر ليسمعه لقد كانت اعترافاً منها بأنه لم يعد مصدر خوفها بل أصبح ملجأها.


انحنى نحوها ببطء وقبلها قبلة رقيقة وعميقة قبلة بنكهة الفطير ورائحة الشاي، قبلة صباحية تحمل كل وعود الأيام السعيدة القادمة.


ابتعد عنها قليلاً وأسند جبينه على جبينها.

_أوعدك... إن الإحساس ده عمره ما هيفارقك تاني طول ما أني بتنفس.


في تلك اللحظة لم يكن هناك جاسر التهامي القاسي، ولا نغم الرفاعي المخطوفة كان هناك فقط رجل وامرأة وجدا وطنهما في عيني بعضهما البعض على طاولة إفطار بسيطة، في صباح يوم جديد يحمل في طياته حياة كاملة من الحب.


بعد أن انتهيا من فطورهما الذي كان أشبه بجلسة اعترافات هادئة نهض جاسر وسحبها برفق من يدها.

_تعالي فيه حاچة عايز أوريهالك.


قادها عبر البهو الفسيح وفتح باباً زجاجياً كبيراً يؤدي إلى الحديقة الخلفية ما إن خطت نغم خطوتها الأولى للخارج، حتى توقفت مبهورة وشعرت بأنها دخلت عالماً آخر، جانب من الحديقة لم تراه من قبل.


لم تكن حديقة عادية كانت قطعة فنية طبيعية، مصممة بعناية لتكون امتداداً للجبل الذي بُني عليه البيت. 

لم تكن هناك صفوف من الزهور المنمقة بل كانت هناك صخور صغيرة تتخللها مسارات حجرية متعرجة، وأشجار فريدة تبدو وكأنها نمت هناك منذ زمن

كان الهواء نقياً ومنعشاً يحمل رائحة الأرض الرطبة والصنوبر.


سار جاسر بجانبها يده لا تزال متشابكة بيدها، وبدأ يعرفها على مملكته السرية.

_المكان ده... هو الحتة الوحيدة اللي كنت بهرب ليها من كل حاچة.


توقفا أمام شجرة ضخمة ذات جذع مائل وأوراق فضية اللون كانت تلمع تحت أشعة الشمس الخافتة.

_دي شجرة الأرز الأطلسي مش موجود منها كتير في مصر أصلها من جبال الأطلس وبتحب الأجواء الجبلية زي دي. 

شوفي إزاي جذعها قوي وثابت... كانت دايماً بتفكرني باللي المفروض أكون عليه.


استمعت نغم إليه باهتمام لم تكن تنظر إلى الشجرة بقدر ما كانت تنظر إليه. 

كانت ترى شغفاً حقيقياً في عينيه وهو يتحدث، شغفاً بعيداً كل البعد عن عالم الصراعات والثأر.


أكمل سيره بها نحو مجموعة من الشجيرات ذات الأزهار البنفسجية الداكنة.

_وده اللافندر الجبلي ريحته بتهدي الأعصاب كنت باچي أچمع منه لما أكون على مضايج


قطف زهرة صغيرة وفركها بين أصابعه ثم قربها من أنفها، أغمضت عينيها واستنشقت العطر العميق والمهدئ.


ثم أشار إلى شجرة أخرى ذات أوراق صغيرة لامعة وثمار حمراء صغيرة تشبه الكرز.

كل الانواع دي من الشجر مش بتصلح غير في الچبل

في منها شكل چميل وحلو بس سام

نظر إليها بابتسامة جانبية ماكرة.

_زي الدنيا إكدة... شكلها حلو ومغري بس جواها سم، لازم تعرفي إيه اللي تاخديه منيها وإيه اللي تبعدي عنيه.


كانت كل شجرة يحكي عنها قصة، وكل نبتة تحمل معنى لم يكن مجرد تعريف بأسماء نباتات، بل كان يكشف لها عن جزء خفي من روحه. 

كان يريها كيف يرى العالم من خلال هذه الأشجار: 

القوة، الصمود، الهدوء، والجمال الذي يختبئ خلف الخطر.


توقفا عند نقطة تطل على الوادي السحيق بالأسفل أحاطها بذراعه من خصرها وقربها إليه وأسند ذقنه على رأسها.

_كل الأشجار دي... أني اللي اشرفت على زرعتها بنفسي، كل واحدة فيهم كانت بتفكرني بحاچة.

 واحدة بالقوة، وواحدة بالصبر، وواحدة بالهدوء بس عارفة...


صمت للحظة ثم همس في أذنها

_من يوم ما دخلتي حياتي بجيت باچي اهنه وأبص عليهم كلهم، والاجيهم كلهم ناقصين حاچة واحدة.


نظرت إليه باستفهام فابتسم.

_ناقصين شجرة تشبهك، شجرة تكون رجيجة وچميلة، بس چذورها جوية ومتتشالش من مكانها مهما حصل، شجرة تكون هي الوحيدة اللي بتزهر طول السنة.


لم تعد قادرة على تحمل كل هذا العشق استدارت بين ذراعيه ودفنت وجهها في صدره تستنشق عطره الذي أصبح إدمانها. 

لم تكن بحاجة للرد فقد كان صمتها وحضنها هما أبلغ رد. 

وفي تلك الحديقة الجبلية بين الأشجار النادرة أدركت أنها لم تكن مجرد زوجة لجاسر، بل أصبحت هي الشجرة النادرة والأثمن في حديقته السرية.


بعد جولتهما في الحديقة لم يترك جاسر يدها، بل قادها نحو مبنى حجري أنيق يقع على بعد مسافة قصيرة.

_فيه حد تاني لازم تتعرفي عليه.

عندما فتح الباب الخشبي الضخم استقبلتهما رائحة القش النظيف والجلد، كان الإسطبل فخماً ومنظماً لكن عيني نغم اتجهت مباشرة إلى الحصان الوحيد الذي كان يقف في الحجرة الأكبر، حصان أسود فاحم ضخم الجثة يبدو كقطعة من الليل تم نحتها. 

كان قوياً ومهيباً لكن ما لفت انتباهها هو شيء آخر.


اقتربت ببطء ولاحظت ما لم تره من قبل بوضوح. 

كانت هناك ندوب قديمة علامات باهتة لكنها واضحة على أجزاء من ظهره وجانبه مناطق بدا فيها الجلد مشدوداً ولامعاً بشكل مختلف، كأثر لحروق قديمة شفيت بصعوبة.


نظرت إلى جاسر الذي كان يراقب رد فعلها وسألت بصوتٍ خفيض مليء بالتعاطف

_الحصان ده... اتصاب في الحريج؟

أومأ جاسر برأسه وتقدم نحو الحصان الذي صهل صهيلاً خفيفاً ما إن رآه.

_أيوه ده بركان، اتضرر جوي وجتها، كل الدكاترة اللي چابوهم جالوا إن مفيش أمل، وإن الحل الوحيد هو "القتل الرحيم" عشان نريحه من عذابه.


اقترب جاسر من "بركان" وبدأ يملس على وجهه بحنان فأسند الحصان رأسه على كتف سيده في ثقة مطلقة. 

تابع جاسر بصوتٍ هادئ لكنه كان يحمل ثقل ذكريات مؤلمة

_أني فاكر الليلة دي كويس جوي...


صمت للحظة ثم التفت لينظر إليها وعيناه تحملان عمقاً لم تره من قبل.

_لأنها الليلة اللي شوفتيني فيها على حجيجتي الليلة اللي بانت لكِ فيها نجطة ضعفي.


عادت الذاكرة بنغم في لحظة تذكرت حالته في تلك الليلة، ليلة زواجهما القسري. 

تذكرت كيف عاد من الخارج وكيف رأت في عينيه ألماً حقيقياً، وهناً وضعفاً لم تكن تتخيل وجوده في جاسر التهامي. 

لقد كان حزنه على حصانه هو الشرخ الأول الذي رأته في قناعه الجليدي وهو ما جعلها في تلك الليلة تستسلم له، لأن حالته لم تكن تسمح بالرفض لقد رأت الإنسان خلف الوحش.


واصل جاسر حديثه وهو لا يزال يملس على حصانه

_رفضت أسمع كلامهم فضلت چمبه أسابيع، بعالج حروجه بإيدي وبأكّله، وبكلمه. 

كنت خابر إنه هيعيش لأنه مقاتل... زيي.


نظر إلى الندوب على جسد الحصان ثم نظر إلى نغم.

_بركان ده مش مجرد حصان عندي أني بشوف فيه نفسي. 

عنيد ومبيستسلمش وشكله من برة يوحي بالجوة والجبروت... بس من چوه لو اتچرح چرحه بيكون غويط ومبيلمش بسهولة. 

بيخبي وجعه ورا قوته ومبيسمحش لأي حد يشوف ضعفه... إلا اللي بيثق فيهم بس.


كان المشهد مؤثراً بشكل لا يصدق، جاسر الرجل الذي يرتجف منه الجميع يقف الآن كاشفاً عن روحه أمامها، مقارناً نفسه بحصان جريح نجا من الموت. 

أدركت نغم أن حبه لهذا الحصان ينبع من أنه يرى فيه انعكاساً لقصته هو: 

كائن قوي تعرض للأذى والحروق من الحياة لكنه رفض أن يموت وظل واقفاً بشموخ، يحمل ندوبه كجزء من تاريخه ولا يسمح بالاقتراب من روحه إلا لمن يستحق.


تقدمت نغم ببطء ومدت يدها وملست على وجه الحصان بجانب يد جاسر. 

لم يتحرك الحصان بل ظل هادئاً كأنه شعر بأن هذه المرأة أصبحت جزءاً من عالم سيده. 

وفي تلك اللحظة في صمت الإسطبل فهمت نغم جاسر أكثر من أي وقت مضى.


بعد لحظات من الصمت المؤثر في الإسطبل حيث كانت يداهما متجاورتين على وجه "بركان" استدار جاسر ليواجه نغم بالكامل. 

كانت المسافة بينهما شبه معدومة ورائحة القش الممزوجة بعطره الترابي تملأ الهواء.


لم يتكلم بل رفع يده ببطء وتتبع بإصبعه خط الندبة القديمة الباهتة على يدها، تلك التي تركها هروبها من السائق في ذلك اليوم. 

كانت لمسته رقيقة كهمس لكنها كانت تحمل ثقل العالم.

_الچرح ده...


قالها بصوت أجش كأنه يتحدث عن جرح في روحه هو.

_كل ما أشوفها بتفكرني باليوم اللي كان ممكن أخسرك فيه جبل ما ألاجيكي. 

وبتفكرني إني مستعد أحرج الدنيا باللي فيها، لو فكر أي مخلوق يلمسك تاني.


لم تكن كلماته تهديداً للعالم بل كانت عهداً لها

عهداً بالحماية المطلقة.


نظرت في عينيه ورأت فيهما الصدق الخام والعشق الذي لم يعد يحاول إخفاءه. 

مدت يدها هي الأخرى وبجرأة لم تكن تعتقد أنها تملكها لمست وجهه

_وأني... كل ما أبص لعينيك بتفكرني بالجوة اللي خلتك تحارب عشان توصل للي أنت عايزه. وبتفكرني بالراچل اللي كسر كل القواعد عشان ياخدني.

الصفحة التالية