-->

رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 43 - جـ 1 - الأربعاء 24/9/2025

 

قراءة رواية ثنايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ثنايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا الخولي


الفصل الثالث والأربعون

الحزء الأول 

تم النشر الأربعاء  

24/9/2025



كانت قاعة الامتحان أشبه بساحة معركة صامتة بالنسبة لصبر، كانت الحرب داخلية حرب ضروس بين عقلها الذي يحاول استدعاء المعلومات، وجسدها الذي بدأ يتمرد عليها بعنف

بدأت بآلام خفيفة في الظهر، تجاهلتها بعناد معتبرة إياها مجرد إرهاق طبيعي كما يحدث كل مرة لكن مع مرور الوقت، تحولت الآلام إلى طعنات حادة كسكاكين ملتهبة تغرس في أسفل ظهرها وتلتف حول بطنها.

عضت على شفتها السفلى بقوة حتى شعرت بطعم الدم المعدني في فمها

كانت يداها ترتعشان وهي تمسك بالقلم، وكلمات الأسئلة بدأت ترقص أمام عينيها وتفقد معناها. 

لم يعد همها الإجابة بشكل مثالي بل مجرد كتابة أي شيء، أي شيء يثبت أنها أكملت المهمة أنها لم تخذل ثقة أكمل. 

كانت كل دقيقة تمر بمثابة دهر من العذاب، وكل نفس تأخذه كان يخرج معه أنين مكتوم.


في الخارج كان أكمل أكثر من مجرد زوج ينتظر. 

كان حارساً سجيناً لقلقه، كان يسير ذهاباً وإياباً في الردهة وعيناه مثبتتان على باب القاعة المغلق، كأنه يستطيع اختراقه بقوة نظراته. 

كلما طال الوقت زاد شعوره بأن هناك خطباً ما، كان حدسه الذي تدرب لسنوات على الوثوق به في قاعات المحاكم يصرخ بأن هناك خطراً وشيكاً.


أخيراً انفتح الباب رأى الطلاب يخرجون لكن عينيه كانتا تبحثان عنها هي فقط

ثم رآها كانت تسير ببطء شديد تستند على الحائط ووجهها شاحب بلون الموت ومغطى بطبقة لامعة من العرق البارد.


في تلك اللحظة توقف العالم بالنسبة لأكمل انطلق نحوها كالسهم، ولم يكد يصل إليها حتى رأى ركبتيها تخونها وجسدها ينهار التقطها بين ذراعيه قبل أن ترتطم بالأرض وشعر بجسدها يرتجف بلا توقف.

_ صبر ردي عليا! مالك؟!

صرخ باسمها وصوته يرتجف بهلع لم يعرفه في حياته.


لم تستطع الرد كل ما استطاعت فعله هو التشبث بياقة قميصه بأصابع متشنجة بينما انطلقت صرخة ألم حادة ومكتومة من بين شفتيها صرخة هزت كيانه وصوت متهدج

_الحقني يا أكمل.....

لم يعد هناك وقت للتفكير حملها بين ذراعيه وشعر بخفة وزنها المقلقة وركض بها لم ير أحداً في طريقه، لم يسمع دهشة الطلاب كل حواسه كانت مركزة على هذا الجسد المتألم بين يديه وضعها برفق في مقعد السيارة وانطلق كالصاروخ، بيد واحدة على عجلة القيادة والأخرى يمسك بها هاتفه ويتصل بوالدته والدكتور مجدي في آن واحد، وصوته المذعور يخبرهما بما حدث.

_صبر تعبانة اوي شكلها المرة ولادة.

رد الدكتور مجدي بقلق

_طيب اسبقني على المستشفي وانا جيلكم حالا.

أغلق واتصل على والدته ليخبرها

قالت نسرين بلهفة

_اطمن يا حبيبي ان شاء الله هتقوم بالسلامة، انا وباباك جايين حالا.

اغلق أكمل الهاتف والقاه أمامه ثم نظر لصبر الذي كانت تضع يدها على بطنها وتكتم ألمها بشكل أرهق قلبه.

_معلش يا حبيبتي اتحملي، دقيقتين بالظبط وهنكون في المستشفى.

المسافة كانت قريبة لكنه شعر بها أبعد ما يكون.

كان يمسك يدها لا ليشعرها بالأمان بل ليستمد منها الامان الذي طغى عليه الخوف.

المستشفى كان دوامة من الفوضى المنظمة ما إن وصل، حتى كانت والدته وفريق من الممرضين في انتظاره بالنقالة وبعد دقائق بدت كأنها قرون في غرفة الطوارئ، نظر له الدكتور مجدي بوجه لا يبشر بالخير.

_للأسف مينفعش نستنى لحظة واحدة يا أكمل، ده تسمم حمل الوضع خطر عليها وعلى الجنين لازم تدخل عمليات فوراً.


شعر أكمل بأن الأرض قد انشقت وابتلعته وكيل النيابة القوي الذي يواجه عتاة المجرمين ببرود، شعر بأنه طفل ضائع نظر إلى صبر التي كانت تتلوى من الألم على السرير، وتشبثت بيده كأنها طوق نجاتها الأخير.

_ أكمل...

همست بصوت متقطع، وبالكاد يُسمع.

_ لو... لو جرالي حاجة... ابننا... أمانة في رقبتك.

شعر بسكين بارد يغرس في قلبه حتى مقبضه. 

انحنى عليها وقبل جبينها المبلل بالعرق محاولاً أن يزرع فيها قوة لا يملكها هو نفسه.

_هششش متقوليش كده! هتقومي بالسلامة وهتربي ابنك معايا أنتِ قوية، وهتخرجيلي أنتِ وهو بألف خير سامعاني؟

قالت برجاء يقطع نياط القلب، ودموعها تسيل على خديها.

_ متسبنيش...خليك معايا جوه.


كان هذا الطلب هو الجحيم بعينه فكرة أن يراها على طاولة العمليات، عاجزة بين أيدي الجراحين، كانت تفوق قدرته على التحمل لكنه نظر في عينيها المذعورتين وعرف أنه لا يستطيع أن يخذلها.

_ عمري ما هسيبك أنا معاكي لآخر لحظة.


بعد دقائق معدودة كان يقف بجانبها في غرفة العمليات البيضاء المعقمة وقد ارتدى ملابس معقمة فوق ملابسه أمسك بيدها الباردة بقوة، بينما كانت الأضواء الساطعة فوق رأسه، والأصوات المعدنية الحادة للأدوات، وصوت الأجهزة الإلكترونية، كلها تتجمع لتصنع جواً من الرعب النقي شعر بأنه ضعيف، عاجز، لا يملك من أمره شيئاً سوى أن يسلم روح حبيبته وطفله الذي لم يولد بعد إلى الله، ثم إلى أيدي هؤلاء الأطباء.


أغمض عينيه بقوة وبدأ يتمتم بآيات قرآنية ودعوات لم يكن يعرف حتى أنه يحفظها. 

كانت كل ثانية تمر كأنها عام من العذاب، الوقت تجمد ولم يعد يسمع شيئاً سوى صوت دقات قلبه التي كانت تقرع في أذنيه كطبول الحرب.


كانت نائمة مستسلمة وتركته هو في ذلك العذاب الذي لا يرحم.

كان الطبيب يشعر به وبحالته فكان يطمئنه باستمرار

وفجأة في خضم هذا الصمت المشحون بالتوتر انطلق صوت صوت بكاء حاد قوي، مليء بالحياة والغضب والإصرار.


فتح أكمل عينيه على الفور كأن صعقة كهربائية قد أصابته لقد كان صوت ابنه.

في تلك اللحظة تبدد كل الخوف والرعب والقلق، وحلت محله موجة عارمة جارفة من الفرح النقي الذي أغرق روحه وجعله يترنح، رأى الممرضة وهي تحمل كائناً صغيراً يلوح بقبضتيه الصغيرتين في الهواء، ويصرخ معلناً وجوده للعالم.


وقبل أن يأخذوه إلى الحضانة، اقتربت الممرضة منه بابتسامة.

_ مبروك يا سيادة الوكيل ولد زي القمر.

تردد أكمل للحظة ثم مد يديه المرتجفتين وحمله.

لم يصدق نفسه كان ينظر إلى وجه ابنه الصغير، إلى شعره الأسود الكثيف إلى أصابعه الدقيقة التي تتحرك بعشوائية إلى فمه المفتوح وهو يبكي شعر بحب فوري، ساحق، حب لم يكن يعرف بوجوده نسي كل شيء نسي ألمه وخوفه وغرق في ملامح هذا الصغير الذي هو قطعة منه ومن حبيبته همس في أذنه: 

"أهلاً بك في الدنيا يا بطل"

ثم أذن له بصوت خاشع..

لكن هذه اللحظة السماوية لم تدم طويلاً.

قاطعه صوت الدكتور مجدي الجاد وهو يوجه حديثه للممرضات

_ جهزوها فوراً للنقل على العناية المركزة.


انتفض أكمل وعاد قلبه ليسقط من السماء السابعة إلى أعمق حفرة في الأرض. 

أعاد الطفل للممرضة بحركة آلية، واقترب من الطبيب بسرعة، وصوته عاد ليرتجف من جديد.

_ عناية مركزة؟! ليه؟! في حاجة؟!


وضع الدكتور يده على كتف أكمل ليطمئنه محاولاً أن يكون حازماً وهادئاً.

_ اهدى يا أكمل واسمعني العملية نجحت وابنك بخير، لكن صبر نزفت شوية والضغط لسه مش مستقر ده إجراء احترازي ضروري هنحطها تحت الملاحظة الدقيقة والمستمرة لمدة 24 ساعة عشان نضمن إن كل وظائفها الحيوية رجعت لطبيعتها ده أفضل وأأمن ليها.


تنفس أكمل الصعداء لكنه كان نفساً ناقصاً، لم يملأ رئتيه بالكامل. 

بذرة القلق لم تذهب بل نمت لتصبح شجرة مرعبة لقد خرج ابنه إلى النور، لكن حبيبته والدة ابنه لا تزال تقاتل في معركة أخرى خلف جدار زجاجي. 

وقف هناك في منتصف الردهة ممزقاً بين فرحته الأبوية التي لم تكتمل، ورعبه الشديد على روح حياته التي ترقد فاقدة للوعي معلقة بين الحياة والموت.


❈-❈-❈


كانت أشعة الشمس الذهبية تودع الأفق، وتلقي بظلال طويلة دافئة على الطريق الصحراوي المؤدي إلى البلدة. 

داخل السيارة كان الصمت مريحاً، لا يقطعه سوى صوت المحرك الهادئ وموسيقى كلاسيكية ناعمة تنبعث من الجهاز.


ألقت نغم رأسها على مسند المقعد وأطلقت تنهيدة عميقة، تنهيدة تحمل في طياتها كل إرهاق الشهور الماضية، وكل راحة الانتهاء من هذا الهم الكبير لقد انتهت الامتحانات أخيراً.


التفت إليها جاسر وابتسامة حنونة تزين شفتيه، مد يده وأمسك بيدها، وشابك أصابعه بأصابعها.

_ مبروك يا استاذة نغم.

ضحكت نغم ضحكة صافية وشعرت بأن جبلاً قد أزيح عن صدرها.

_ الله يبارك فيك مش مصدجة إني خلصت الترم الأول.

_ أنا اللي مش مصدج إنك جدرتي تعمليها في وسط كل اللي حصل ده، بجد اثبتي انك جدها.

قالها بصدق وضغط على يدها برفق.


ساد الصمت مرة أخرى، لكنه كان صمتاً مليئاً بالترقب شعرت نغم بأن هناك شيئاً مهماً على وشك أن يقال.

وبالفعل بعد لحظات تحدث جاسر بصوت هادئ وجاد دون أن يرفع عينيه عن الطريق أمامه.

_ دلوجت... بما إنك جربتي تخلصي لازم نجرر


قطبت نغم حاجبيها باستفهام.

_ نجرر إيه؟


_ نجرر حياتنا اللي چاية هتكون فين.


التفت إليها للحظة وعاد لينظر إلى الطريق.

_ أنا شغلي كله في القاهرة، وشقتي هناك چاهزة زي ما انتِ خابرة ومستنيانا بس... أنا عارف إن أهلك هنا وحياتك كلها كانت هنا عشان اكده، الجرار ده بتاعك أنتِ لوحدك.

نظر إليها مرة أخرى وعيناه تحملان كل الجدية.

_ تحبي نرچع نعيش في القاهرة، ونبجى نزور البلد في الإچازات؟ ولا تحبي نخلي حياتنا الأساسية هنا في بيت الجبل وأنا أبجى أسافر كل فترة عشان أتابع الشغل؟


فاجأها سؤاله لم تكن تتوقع أنه سيمنحها حق الاختيار الكامل في قرار مصيري كهذا لقد وضع حياته ومستقبله بين يديها.

صمتت للحظات طويلة تفكر صورة حياتها في القاهرة مرت أمام عينيها مدينة جميلة، حياة سريعة شقة فاخرة لكنها ستكون بعيدة بعيدة عن ضحكات روح، وعن حكمة والدتها وعن دفء عائلتها التي استعادتها بصعوبة.


ثم فكرت في والدته ونس المرأة الهادئة التي احتوتها بحب فاق حب الأم أحياناً، المرأة التي وقفت بجانبها في أصعب الظروف والتي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من شعورها بالأمان، هل تستطيع أن تطلب منها أن تترك بيتها وذكرياتها وتأتي لتعيش معهما في القاهرة؟ الإجابة كانت "لا".

نظرت إليه، وعيناها تلمعان بقرار واضح.

_ هنا.

نظر إليها جاسر متفاجئاً بعض الشيء من سرعة وحسم إجابتها.

_ هنا؟ أنتِ متأكدة؟ القاهرة فيها كل حاچة، حياة مختلفة تماماً.

هزت رأسها بابتسامة واثقة.

_ أنا مش عايزة كل حاچة أنا عايزة "حاچاتي" أنا عايزة أصحى الصبح أشرب الجهوة مع امي ونس في المطبخ، عايزة لما أحس إني مخنوجة، أركب العربية نص ساعة وأكون في حضن أمي أو بهزر مع روح عايزة أحس إني لسه چنبهم.

ثم أصبحت نبرتها أكثر حناناً.

_ ومامتك... أنا اتعلجت بيها جوي يا جاسر مجدرش أطلب منها تسيب بيتها اللي عاشت فيه عمرها كله وتاچي معانا، مكانها هنا وأنا مكاني چنبها.


تأثر جاسر بشدة من كلماتها، ومن نضجها وتفكيرها في الجميع قبل نفسها أوقف السيارة على جانب الطريق الخالي وأطفأ المحرك ثم استدار ليواجهها بالكامل.

_ أنتِ خابرة ده معناه إيه؟ معناه إني هضطر أسافر كتير، وممكن أغيب عنك يومين تلاتة كل أسبوع.

تعلقت بذراعه وأسندت رأسها عليه.

_ وأنا هستناك كل مرة وهكون خابرة إنك بتعمل اكده عشاننا وهكون مطمنة إني مش لوحدي، إني وسط أهلي وأهلك.


لم يعد يستطع التحمل أوقف السيارة جانبا واقترب منها سحبًا إياها إلى حضن دافئ وقوي

وقبل جبينها بحب

_ كل يوم بتخليني أحبك أكتر كل يوم بكتشف فيكي حتة جديدة أچمل من اللي جبلها.


ابتعد قليلاً لينظر في عينيها.

_ أنا كنت مستعد أعيش معاكي في أي حتة تختاريها، حتى لو كانت في آخر الدنيا بس اختيارك ده... أثبتلي إنك مش بس مراتي وحبيبتي، أنتِ روحي وعجلي اللي بيفكر صح.


انحنى وقبلها قبلة طويلة عميقة، تحمل كل الامتنان والحب والفخر قبلة في هدوء الصحراء، تحت سماء بدأت تتلون بألوان الغروب.

شعر بصعوبة في الابتعاد عنها لكن كان عليه أن يبتعد فهما على الطريق

همس على شفتيها.

_ يبجى اتفجنا....بيتنا هيكون في الجبل وحياتنا هتكون هنا.


أومأت برأسها بسعادة وشعرت بسلام يغمر روحها لقد اختارت، ليس فقط مكاناً بل اختارت حياة. 

حياة هادئة، دافئة، محاطة بكل من تحبهم ومع هذا الرجل الذي بجانبها كانت متأكدة أنها اختارت جنتها على الأرض.


❈-❈-❈


لم يكن استيقاظاً بل كان صعوداً مؤلماً من بئر سحيق من الظلام بدأت صبر تطفو ببطء نحو سطح الوعي مجذوبة بأصوات خافتة ومُنغّمة... صوت صفير منتظم لجهاز، وصوت آخر أقرب وأكثر دفئاً، صوت كان همساً ودعاءً في آن واحد.


فتحت عينيها ببطء شديد، وشعرت بثقل هائل يجثم على جفونها، كان الضوء خافتاً والرؤية مشوشة. استغرقت ثواني لتدرك أنها ليست في غرفتها، بل في مكان غريب أبيض ومعقم محاطة بأسلاك وأنابيب.

ثم قبل أن يستوعب عقلها ما يحدث ضربها الألم.

لم يكن ألماً عادياً كان موجة حارقة، وحشية، انطلقت من منتصف جسدها وانتشرت في كل خلية، شعرت كأن جسدها قد تم تمزيقه ثم إعادة خياطته بخيوط من نار انطلقت من حنجرتها شهقة حادة،  وتجمعت الدموع الحارقة في عينيها قبل أن تسيل على صدغيها.

_أ..كـ..مل...

في لحظة، كان هو بجانبها.


كان أكمل جالساً على مقعد بجوار سريرها، لم يغمض له جفن طوال الليل كان وجهه شاحباً وعيناه محمرتين من قلة النوم والقلق، وذقنه تحمل ظلاً خفيفاً من اللحية. 

ما إن سمع شهقتها ورأى جسدها يتلوى حتى انتفض واقفاً وأمسك بيدها برفق وحنان كأنه يخشى أن يكسرها.

_ صبر... حبيبتي... أنا هنا أنا جنبك.

قالها بصوت مكسور يرتجف من الألم الذي كان يراه يعتصرها كان كل أنين يصدر منها بمثابة سكين يغرس في قلبه هو.

نظرت إليه بعيون ضائعة، مليئة بالألم والارتباك.

_ آآه... أكمل... ألم...شديد

همست بصوت متقطع بالكاد يُسمع.

شعر بعجز ساحق عجز لم يشعر به في حياته

هو وكيل النيابة الذي يملك السلطة والقوة يقف الآن مكتوف الأيدي لا يستطيع فعل أي شيء ليخفف من عذاب حبيبته.

_ ششش... اهدي يا روحي ده طبيعي بعد العملية هينادوا الدكتور حالاً. 

هيدوكي مسكن وكل حاجة هتبقى كويسة.

ضغط على زر استدعاء الممرضة بقوة، ثم عاد لينحني عليها ويمسح دموعها بإبهامه برفق شديد.

_ استحملي عشاني... عشان ابننا أنتِ قوية يا صبر أقوى واحدة أنا شوفتها في حياتي.


كانت كلماته محاولة يائسة لزرع القوة فيها، لكنه كان يشعر بأنه هو من ينهار رؤيتها بهذا الضعف، بهذا الألم، كانت تمزقه من الداخل، كان يفضل أن يتحمل هذا الألم ألف مرة على أن يراها تتألم أمامه لدقيقة واحدة.


حاولت أن تتحدث مرة أخرى، لكن الألم كان أقوى كل ما استطاعت فعله هو التشبث بيده بقوة، وكأنها تستمد منه القوة لتتنفس كانت عيناها تتوسل إليه، تطلب منه أن يوقف هذا العذاب

دخلت الممرضة بسرعة

_حمد لله على السلامة يا مدام صبر.


أومأت لها صبر ولم تستطع الرد عليها بدأت في تجهيز حقنة مسكن نظر إليها أكمل برجاء.

_ بسرعة أرجوكي هي بتتألم أوي.

أومأت الممرضة بتفهم وحقنت المسكن في المحلول المعلق.

_ دقايق يا فندم والمسكن هيبدأ يشتغل وهترتاح.

لكن هذه الدقائق بدت لأكمل كأنها دهر ظل واقفاً بجانبها ممسكاً بيدها، يهمس في أذنها بكلمات حب وتشجيع، ويقرأ عليها آيات قرآنية بصوت خافت. 

كان يشعر بكل تشنج في جسدها، وكل شهقة ألم تخرج منها وكأنها تصيبه هو.


ببطء بدأ مفعول المسكن يسري 

وبدأت عضلات جسدها ترتخي تدريجياً وهدأ تنفسها المتقطع، وبدأ الألم الحاد يتحول إلى وجع خافت ومحتمل. 

أغمضت عينيها بإرهاق لكنها لم تترك يده.

_ ابننا...

همست بصوت متعب.

_ متقلقيش هو كويس؟

انحنى أكمل وقبل جبينها قبلة طويلة، وشعر براحة تغمره لأنها بدأت تسأل.

_ كويس زي القمر ومستنيكي تقومي بالسلامة عشان تشوفيه.

ابتسمت ابتسامة باهتة، بالكاد ظهرت على شفتيها.

_ عايزة أشوفه.

_ هتشوفيه أوعدك أول ما تخرجي من الاوضة دي هجيبهولك بنفسي. 

بس دلوقتي ارتاحي.

ازدردت جفاف حلقها بصعوبة 

_خليك..... جانبي..... متسيبنيش...

_مش هسيبك لحظة واحدة.

ظل يمسح على شعرها بحنان حتى استسلمت للنوم مرة أخرى بفعل المسكن، نوماً هادئاً هذه المرة خالياً من الألم. 

لكن أكمل ظل جالساً في مكانه ينظر إلى وجهها الشاحب وقلبه يعتصر

لقد مرت العاصفة الأولى لكنه كان يعلم أن الطريق للشفاء لا يزال طويلاً، وأقسم في تلك اللحظة أنه سيكون ظلها وسندها وممرضها حتى تعود إليه صبر التي يعرفها، قوية، وعنيدة، ومليئة بالحياة.


❈-❈-❈


كانت شمس الصباح قد بدأت ترسم خيوطها الذهبية على شرفة غرفة مالك وروح كانا يجلسان معاً، يحتسيان القهوة في صمت مريح يستمتعان بلحظات الهدوء قبل أن يبدأ صخب اليوم رن هاتف مالك فابتسم ما إن رأى اسم المتصل.

_ أكمل باشا... ألف ألف مبروك يا صاحبي يتربى في عزك يا رب

قالها مالك بصوت مليء بالفرح الصادق.

على الجانب الآخر، كان صوت أكمل يحمل مزيجاً من الإرهاق والسعادة.

_ الله يبارك فيك يا مالك عقبال ما تشوف اللي انا شايفه.

اقتربت روح من مالك بفضول وفرحة، فلف مالك ذراعه حول خصرها وقربها منه ثم طبع قبلة حنونة على جبينها وهو يكمل حديثه مع أكمل.

_ روح جنبي وعايزة تباركلك أنت وصبر.

_ طب ثانية واحدة...

نظر إلى صبر فوجدها تفتح عينيها دلالة على استيقاظها

مال على صبر وقال بحنان

الصفحة التالية