رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 17 - جـ 1 - الثلاثاء 2/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل السابع عشر
الحزء الأول
تم النشر الثلاثاء
2/9/2025
مالك، كان غارقًا في حزنه الخاص، رفع عينيه والتقط نظرتها
شعر على الفور بأن شيئًا ما خطأ، رأى الانكسار خلف ابتسامتها المصطنعة، ورأى عمقًا من الألم في عينيها لم يره من قبل، لم يفهم السبب لكن قلبه انقبض من أجلها.
في تلك الأثناء، كانت وعد تحاول جاهدة أن تلعب دور الزوجة السعيدة.
أرادت أن تظهر للجميع، ولسند على وجه الخصوص أنها راضية.
مالت نحو روح بابتسامة ودودة، في محاولة لخلق حديث جانبي بين العروستين.
_لو سمحتي يا روح، ناوليني الطبج اللي چامبك.
وبحركة عفوية تمامًا، مدت وعد يدها وأمسكت بذراع روح لتلفت انتباهها عندما لم تجد منها رد.
لم تكن قبضتها قوية، لكنها جاءت بالضبط فوق مكان الجرح الخفي تحت الأكمام الطويلة.
"آآه!"
انطلقت من روح صرخة ألم حادة ومكتومة، لم تكن عالية لكنها كانت كافية لتقطع الصمت المطبق على المائدة.
سحبت ذراعها بسرعة، وظهر على وجهها تعابير الألم الحقيقي قبل أن تتمكن من إخفائها خلف قناع من الارتباك.
سألت وعد بقلق حقيقي، وهي تسحب يدها بسرعة.
_مالك يا روح؟ في إيه؟
تمتمت روح بسرعة، وهي تفرك ذراعها من فوق الفستان.
_م... مفيش.
بس... دراعي تقريبا نايمة عليه غلط، فبيوجعني شوية، مفيش حاجة.
الجميع نظر إليهما للحظات، ثم عادوا إلى طعامهم متقبلين التفسير السطحي.
الجميع، إلا شخصين.
عدي الذي كان يجلس بجانبها، تجمد في مكانه.
لقد سمع صرختها وعرف مصدرها.
شعر بوخزة من الذنب الحارق، لكنه لم يجرؤ على النظر إليها أو حتى لمسها.
لقد كان هو سبب هذا الألم، وعجزه جعله يظل صامتًا.
ومالك.
لم يقتنع مالك بالتفسير أبدًا.
لقد سمع الصرخة ورأى نظرة الهلع التي ظهرت في عيني روح للحظة، ورأى كيف سحبت ذراعها بطريقة دفاعية.
لقد كانت صرخة ألم حقيقي، لا مجرد تنميل.
شكوكه التي بدأت بنظرتها الحزينة، تعمقت الآن، شيء ما حدث لروح في ليلتها، شيء مؤلم.
شيء لا يريد أحد التحدث عنه.
ظل يراقبها طوال فترة الإفطار، يرى كيف تحمي ذراعها، وكيف تتجنب النظر إلى زوجها، وبدأ لغز جديد ومقلق يتشكل في ذهنه، لغز يضاف إلى كل الألغاز والأحزان التي تحيط بعائلته.
ما إن انتهت وجبة الإفطار المشحونة، وبدأ الجميع في التفرق، حتى نهض مالك بهدوء واتجه نحو عدي.
_عدي عايزك في كلمة على انفراد.
قال بنبرة هادئة لكنها لا تقبل الرفض.
نظر إليه عدي بوجه خالٍ من التعبير، ثم أومأ برأسه بصمت وتبعه.
لم يتبادلا كلمة واحدة وهما يصعدان الدرج، كل منهما غارق في أفكاره.
دخل مالك إلى غرفته، وأشار لعدي بالدخول، ثم أغلق الباب خلفهما عازلاً إياهما عن بقية العالم.
وقف مالك في منتصف الغرفة، ويداه داخل جيبه وعيناه مثبتتان على عدي بنظرة حادة وفاحصة.
_إيه اللي حصل لروح؟
سأل مباشرة دون أي مقدمات.
رفع عدي حاجبيه بتصنع للدهشة. _جصدك إيه؟ محصلش حاچة.
قال مالك بحدة، وقد بدأ صبره ينفد. _متستعبطش يا عدي أنا شوفتها على الفطار وشوفت صرختها لما وعد مسكت دراعها.
الصرخة دي مش صرخة واحدة دراعها نامت عليه دي صرخة ألم ألم بجد.
اقترب منه خطوة، وخفض صوته إلى نبرة اتهام واضحة.
_أنت عملتلها إيه امبارح؟
صمت عدي وأشاح بوجهه بعيدًا، ينظر من النافذة إلى أي شيء سوى عيني مالك هذا الصمت وهذا الهروب زادا من شكوك مالك وأشعل غضبه.
_كنت جاسي معاها مش إكدة؟
واصل مالك الضغط عليه، وهو يفسر صمت عدي بطريقته الخاصة، بناءً على ما يعرفه عن قسوة الرجال في مثل هذه المواقف.
_فاكر إنك لما تفرغ فيها غضبك من اللي حصلنا، ده هيريحك؟ هي ذنبها إيه في كل ده؟ دي مرتك، أمانة في رجبتك مش كيس ملاكمة تطلع فيه قهرك!
كانت كلمات مالك كالسياط، كل كلمة تجلد عدي وتصيب الهدف، ولكن ليس بالطريقة التي يظنها مالك.
لقد اتهمه بالقسوة في العلاقة، بينما الحقيقة كانت أقسى وأكثر إذلالاً الحقيقة هي أنه لم يقربها من الأساس، بل جرحها بيده ليزيف علاقة لم تحدث.
هذا الاتهام الخاطئ كان أكثر إهانة من الحقيقة نفسها.
استدار عدي فجأة وواجهه، وعيناه تشتعلان بمزيج من الألم والغضب والدفاع عن النفس.
_أنت مش فاهم حاچة!
صرخ في وجهه.
_مش فاهم أي حاجة خالص!
رد مالك بنفس الحدة.
_أفهم إيه؟!
أفهم إنك بدل ما تطبطب عليها وتكون سندها في يوم زي ده، كنت بتعذبها؟ أفهم إنك حولت ليلة فرحها لجحيم؟
انفجر عدي، وقد وصل إلى حافة الانهيار.
_أيوة! عملت إكده!
كنت جاسي وكنت زفت وعذبتها ارتحت إكده؟ ده اللي أنت رايد تسمعه؟
كانت كلماته اعترافًا صريحًا، لكنها كانت أيضًا درعًا يخفي خلفه الحقيقة الأكثر إيلامًا.
لقد فضل أن يظهر في عيني مالك كزوج قاسٍ، على أن يظهر كزوج عاجز جبان، لم يستطع حتى أن يمنح زوجته حقوقها الشرعية لأنه غارق في حبه لامرأة أخرى.
نظر مالك إليه بصدمة وخيبة أمل.
لم يكن يتوقع هذا الاعتراف الصريح تراجع خطوة إلى الوراء، وهو يهز رأسه بأسف.
_أنا مش مصدج، أنت مش عدي اللي أعرفه أنت اتغيرت.
_كلنا اتغيرنا يا مالك.
قال عدي بصوت مكسور، وقد خفت حدته فجأة وحل محلها يأس عميق.
_البيت ده كله اتغير ومبجاش فيه حد بريء.
استدار عدي واتجه نحو الباب. _سيبني في حالي يا مالك، وسيب روح في حالها، دي حياتنا إحنا، ومحدش له صالح بيها.
خرج من الغرفة وأغلق الباب بقوة، تاركًا مالك واقفًا في مكانه، يشعر بمزيج من الغضب والشفقة والعجز.
لقد تأكد من أن روح تتألم، لكنه أدرك أيضًا أن عدي يتألم هو الآخر، وأن الجرح الذي يجمع هذين الاثنين أعمق وأكثر تعقيدًا مما كان يتخيل.
وأدرك أن مهمة حماية روح أصبحت الآن أصعب بكثير.
❈-❈-❈
استيقظت نغم على شعور غريب بالأمان لم تعهده منذ أيام كانت مستلقية في حضن أم جاسر التي يبدو أنها قضت الليل كله جالسة بجانبها على الفراش شعرت بثقل في جفونها ورأسها من أثر البكاء الطويل الذي استنزف كل طاقتها.
تحركت قليلًا، فشعرت بها أم جاسر وفتحت عينيها على الفور، وتطلعت إليها بابتسامة دافئة وحنونة، ابتسامة كانت كأول شعاع شمس بعد ليلة عاصفة.
_صباح الخير يا نغم.
ردت نغم بصوت مبحوح وجاف من شدة البكاء، صوت بالكاد خرج من حنجرتها.
_صباح النور.
قامت أم جاسر بهدوء، وحركاتها كانت تحمل وقارًا وحنانًا.
_جومي بقى، أحضرلك الحمام، وأجيبلك هدوم من عندي تلبسيها، لحد ما أبعت البت فرح تنادي لأم سعيد تنجي منها اللي أنتِ رايداه.
انتبهت نغم في تلك اللحظة إلى أنها لم تغير ملابسها منذ أن جاءت إلى هذا المكان المشؤوم.
ملابس الجامعة التي شهدت انهيار عالمها لا تزال تلتصق بجسدها شعرت بالخجل والضيق، وقالت بامتنان خافت.
_تعبتك معايا.
ابتسمت أم جاسر بود حقيقي، وربتت على يدها.
_تعبك راحة يا غالية جومي بقى اتحممي، الماية السخنة هتريح جسمك.
وافقت نغم بصمت لم تكن تملك طاقة للرفض ولأول مرة، شعرت بأنها لا تريد أن ترفض لطف هذه المرأة.
دلفت إلى المرحاض الفسيح، ووقفت تحت زخات الماء الساخن، وأغمضت عينيها، متمنية لو أن الماء يستطيع أن يزيل عنها ما عانته، أن يغسل روحها من بصمات القهر والمهانة.
في الخارج، أحضرت لها أم جاسر ملابس نظيفة من ملابسها الخاصة، عباءة منزلية بسيطة ومحتشمة، وطرحة قطنية ناعمة كانت كل حركة تقوم بها تحمل رسالة صامتة:
"أنا هنا. أنا أفهم ما انتى فيه أنتِ في أمان معي".
وأثناء وجود نغم في المرحاض، انفتح باب الجناح فجأة.
عاد جاسر كان قد عاد لتوه من سفر قصير اضطر إليه، وقد ظهر عليه الإرهاق بوضوح
كانت عيناه محمرتين، وذقنه غير حليقة، وملابسه مجعدة دلفت والدته خلفه، متفاجئة بعودته في هذا الوقت المبكر.
_جاسر! حمد لله على السلامة يا ولدي.
التفت إليها وفي لحظة، ذاب قناع الجليد الذي يرتديه دائمًا، وظهرت لهجة دافئة لا تظهر إلا لها.
_الله يسلمك يا أمي.
عاد بنظره لداخل الغرفة، عيناه تمسحان المكان تبحثان عنها لم يجدها سأل والدته بصوت عاد لبروده المعتاد.
_هي فين؟
دلفت والدته وهي تحمل الملابس المطوية بعناية.
_بتتحمم جوه.
أشارت على الملابس التي في يدها، وقالت.
_أني جبتلها هدوم من عندي، لحد ما تجيب لها أنت ولا أخلي فرح تجيب أم سعيد تنجي منها اللي يريحها.
ابتسم جاسر ابتسامة خفيفة عند ذكر "أم سعيد"، تلك البائعة المتجولة التي تأتي إلى منزلهم منذ سنوات، وتبيع ما يناسب عمر والدته وزوجة عمه.
_لا، أني هتصرف وأجيب لها النهاردة.
نظر حوله، ثم قال وهو يخلع سترته ويرميها على أقرب مقعد.
_أني هدخل الحمام التاني أتحمم فيه هاتيلي هدومي هناك.
أومأت والدته، وعيناها تلمعان بحب لا حدود له لابنها الوحيد.
_من عينيه يا غالي.
انصرف جاسر إلى غرفة والدته المجاورة، بينما طرقت هي على باب المرحاض برفق.
_نغم... افتحي خدي الهدوم يا بتي.
فتحت نغم الباب بحذر، وأخرجت يدها فقط لتأخذ الملابس، ثم أغلقت الباب مرة أخرى، دون أن ترى أن من كان سبب مأساتها قد عاد، وأنه الآن على بعد أمتار قليلة منها، يفصل بينهما جدار واحد فقط.
خرجت نغم من المرحاض، كانت قد ارتدت العباءة البسيطة التي أحضرتها لها أم جاسر، والتي كانت تفوح منها رائحة هادئة بسيطة.
شعرت بأنها إنسانة مختلفة عن تلك التي دخلت قبل قليل، جسدها كان أكثر استرخاءً، لكن روحها كانت لا تزال جريحة.
وجدتها في انتظارها، وقد أعدت لها كوبًا من اللبن وبجانبه طبق فايش على صينية صغيرة ابتسمت لها بحنان.
_تعالي يا بتي، اقعدي نشفي شعرك.
جلست نغم بصمت على طرف السرير، وأخذت منها الكوب ويداها ترتجفان قليلًا.
بدأت أم جاسر في تجفيف شعرها بفوطة ناعمة، بحركات بطيئة وحنونة، حركات أمومية كانت نغم في أمس الحاجة إليها.
_بصراحة كان نفسي في بت اهتم بها وتهتم بيا واعمل معها زي ما بعمل دلوجت، بس نصيبي من الدنيا أخرج بإبن واحد.
ساد الصمت لعدة دقائق، لم يكن صمتًا محرجًا بل كان صمتًا مريحًا، كهدنة قصيرة في حرب طويلة حتى انتهت من تمشيط خصلاتها
ثم تحدثت بهدوء، وصوتها كان دافئًا كلمساتها وهي تجعل نغم تستدير إليها
_عارفة إن الكلام دلوجت تجيل على جلبك، وعارفة إنك شايلة منه ومن الدنيا كلها.
لم ترد نغم، لكنها شعرت بغصة في حلقها.
تابعت أم جاسر، وكأنها تقرأ أفكارها.
_جاسر ولدي، وأنا أدرى الناس بيه طبعه واعر زي ما عمه الله يسامحه رباه، راسه يابسة واللي يحطه في دماغه لازم يعمله مهما كان التمن.
عشان إكدة، عايزة أجولك كلمتين تحطيهم حلجة في ودنك الكلمتين دول هما اللي هيخلوكي تعيشي أهنه.
كانت نغم تستمع، وقلبها يخفق بترقب.
_إياكِ... إياكِ تجفي جصاده.
قالتها بنبرة جادة، خالية من أي تهديد بل كانت نصيحة خالصة.
_جاسر عامل زي السيل، لو وجفتي في وشه، هيشيلك ويكسرك، هو بيستمد قوته من العناد والمقاومة كل ما تعاندي، كل ما هيزيد في جسوته عشان يثبت لنفسه إنه الأقوى وهو دايمًا لازم يكون الأقوى.
صدمت نغم من هذا الكلام هل تطلب منها أن تكون جارية؟ أن تمحو شخصيتها؟ رأت أم جاسر الحيرة والرفض في عينيها، فابتسمت ابتسامة حكيمة وتابعت.
_أني مخبراش إنك هتفهميني غلط.
أني مش بجولك خليكي ضعيفة، بالعكس أنا بجولك خليكي ذكية ذكية أكتر منه.
مالت عليها قليلًا، وخفضت صوتها كأنها تبوح لها بسر.
_طاوعيه لما يطلب حاچة، اعمليها
لما يجول يمين، جولي يمين
لما يجول شمال، جولي شمال.
اجتلي چواه الوحش اللي بيتغذى على العناد.
لو طاوعتيه في كل حاچة، مش هتديله الفرصة إنه يحس بجوته عليكي، لإنك ببساطة مش بتديله معركة عشان ينتصر فيها.
نظرت نغم إليها بعدم فهم.
_كيف يعني؟
_يعني لما يلاجيكي مش بتجاومي، هيبطل يهاجم
لما يلاجيكي هادية ومطيعة، سلاحه اللي هو الجسوة هيبجى ملوش لازمة وجتها بس، هيبدأ يشوفك أنتِ مش هيشوف فيكي بنت أعدائه اللي لازم يكسرها.
وجتها بس هتبدأي أنتِ اللي تسيطري، بهدوئك، مش بعنادك هتكوني زي الماية هادية وساكنة، بس قادرة تفتتي الصخر على مهل.
كانت نصيحة معقدة، وفلسفة غريبة في التعامل مع طاغية.
كانت أم جاسر تطلب منها أن تخوض حربًا نفسية، لا حربًا مباشرة.
أن تنتصر بالاستسلام الظاهري لا بالمواجهة الخاسرة.
صمتت نغم، تحاول استيعاب هذا المنطق هل تستطيع فعل ذلك؟ هل تستطيع أن تقتل كبرياءها وتطيع الرجل الذي دمر حياتها، على أمل أن تنتصر في النهاية؟
ربتت أم جاسر على يدها مرة أخرى.
_أنتِ دلوجت مرته، وده قدرك
يا تجبليه وتحاولي تنجي منيه، يا ترفضيه وتفضلي طول عمرك في حرب معاه، وحرب معاه؛ أنتِ بس اللي هتخسريها.
فكري في كلامي زين يا بتي فكري زين.
❈-❈-❈
خرج جاسر من غرفة الأخرى بعد أن أبدل ملابسه، مرتدياً جلباباً منزلياً مريحاً بلون داكن زاد من هيبته.
توجه إلى جناحه كعادته ودخل دون استئذان كأنه يقتحم قلعة يملكها
توقع أن يجد والدته بجانبها لكنه وجد نغم تجلس وحدها على حافة الفراش، ظهرها مستقيم، ويداها متشابكتان في حجرها بهدوء غريب.
توقف للحظة، عيناه تمسحان الغرفة، ثم استقرتا عليها.
سألها بفتوره المعتاد صوت خالٍ من أي عاطفة.
_أمي فين؟
ردت نغم بهدوء واستسلام، صوتها كان متساوي النبرة، لم يحمل تحدياً ولا انكساراً.
_بتحضر الفطار تحت.
ضيق عينيه الجليديتين بشك هذا الهدوء لم يكن طبيعياً أين ذهبت الفتاة التي كانت تصرخ وتنهار بالأمس؟ أخذ ينظر إليها بنظرات ثاقبة، يحاول أن يخترق قناعها لكنه لم يرى سوى استسلام حقيقي لم يستوعبه هل هو سلاح جديد تستخدمه ضده؟ فلتتحمل إذن عواقب لعبتها.
قال بسخرية لاذعة، محاولاً استفزازها.
_وأنتِ بجا، مستنية أمي تعملك الوكل وتجيبه لحد عندك؟
ردت على نفس وتيرة استسلامها، دون أن ترفع عينيها من على نقطة ثابتة على الأرض.
_لا أني كنت نازلة أساعدها.
قطب جبينه بحيرة وهو يراها تقوم بهدوء وتتجه نحو الباب حركتها كانت بطيئة، لكنها لم تكن مترددة.
_رايحة فين؟
توقفت عند الباب، واستدارت نحوه بجسدها فقط، وقالت بنفس الهدوء القاتل.
_رايحة أساعدها، في حاچة تاني؟
تأكد الآن هذا سلاحها الجديد هذا الهدوء ليس استسلاماً، بل هو شكل من أشكال الحرب الباردة
حسناً إذا كانت تريد أن تلعب، فهو سيضع قواعد اللعبة.
_في كلمتين لازم تعرفيهم جبل أي شيء.
تقدم منها خطوة، وسد عليها طريق الخروج اضطرت لرفع رأسها والنظر إليه.
_المفروض إنك دلوجت مرتي. والمفروض برضك، إنك تبجي مسؤولة عن كل حاچة تخصني، وتخص أمي يعني مينفعش أكون متچوز وآكل من يد الشغالين، ولا واحدة منهم تنضف أوضتي أو مكتبي، وحتى هدومي.
صمت للحظة وعيناه لم تفارق عينيها، يبحث عن أي ردة فعل.
_واللي أنتِ مخدتيش بالك منيه...
أشار برأسه إلى باب جانبي كبير، لم تكن قد انتبهت له من قبل.
_إن ده جناح، مش أوضة، فيه أوضة تانية وحمام تاني، ومطبخ تحضيري صغير.
كل ده هيكون مسؤول منك أنتِ من النهاردة، فرح أو غيرها ممنوع يدخلوا الجناح ده إلا بإذني مفهوم؟
كان ينتظر منها أن تعترض، أن تنهار، أن تصرخ لكنها فقط أومأت برأسها إيماءة خفيفة، وقالت بصوت خفيض.
_مفهوم.
ثم تنحت جانباً، منتظرة أن يفسح لها الطريق
حيرته تحولت إلى غضب مكبوت لقد سلبت منه متعة رؤية انكسارها تنحى هو عن الباب بحدة، وتركها تخرج.
❈-❈-❈
عندما دخلت نغم المطبخ السفلي على أم جاسر، سألتها بحيرة
_نغم، ايه اللي نزلك من اوضتك.
_بنفذ اللي جولتي عليه، طلب مني اعمل الفطار
ابتسمت ونس بروية
_عين العقل، تعالي بجا اجعدي اهنه و فرح هتعمل الفطور.
رفضت بإصرار
_لأ انا محتاچة اتوه شوية خليني اساعدكم.
كان جاسر يجلس على رأس طاولة الإفطار الضخمة بمفرده، يحتسي قهوته السوداء ويتصفح هاتفه.
رفع عينيه عندما دخلتا كانت نظرته فاحصة، مرت على والدته بامتنان صامت، ثم استقرت على نغم كصقر يراقب فريسته.
رأى فيها شيئًا مختلفًا
لم تكن نظرة التحدي الساذج التي رآها في الجامعة، ولا نظرة الانكسار المهين التي رآها بالأمس.
كانت عيناها هادئتين، لكنه كان هدوءًا فارغًا، كهدوء ساحة معركة بعد انتهاء القتال.
لم تعد هناك مقاومة لكن لم يكن هناك استسلام حقيقي أيضًا كان هناك... قبول ولكنه قبول بارد للواقع، قبول كان أكثر استفزازًا من أي تمرد.
جلست بصمت على الكرسي الذي أشارت إليه أم جاسر، وبدأت في تناول طعامها ببطء، دون أن تنظر إليه
كان يشعر بأنه يراقب شبحًا، جسدًا يتحرك ويأكل، لكن روحه ليست هنا وهذا الهدوء هذا الصمت، كان يثير جنونه أكثر من أي صراخ.
لقد بدأت حرب الأعصاب، وكان عليه أن يعترف ولو لنفسه فقط أن خصمه ليس بالضعف الذي كان يتوقعه.
في تلك اللحظة، دخلت شروق، متألقة كعادتها، وعلى وجهها ابتسامة نصر مصطنعة.
_صباح الخير يا جماعة صباح الخير يا... حبيبي.
قالت الكلمة الأخيرة ببطء وتلذذ، وهي تنظر إلى نغم من أعلى إلى أسفل، ملاحظة ملابسها البسيطة التي لا تليق بفتاة بسنها
لم ترد نغم، ولم ترفع عينيها من طبقها الفارغ هذا التجاهل التام كان أكثر إثارة للغضب من أي رد.
_إيه ده يا مرت عمي هي محدش من أهلها بعتلها حتى هدمه تلبسها.
قبل أن ترد أم جاسر، جاء صوت جاسر حادًا وقاطعًا كالسيف دون أن يرفع عينيه عن طبقه
_شروق صوتك عالي على الصبح.
تجمدت شروق في مكانها، وابتلعت بقية كلماتها كانت رسالته واضحة
"النقاش انتهى"
لأول مرة، شعرت نغم بشيء غريب لم يكن امتنانًا، بل كان إدراكًا
إدراك أن حمايتها الوحيدة في هذا البيت بشكل مفارق، هي سلطة الرجل الذي دمر حياتها هو الوحيد الذي يستطيع أن يلجم الأفاعي الأخرى.
❈-❈-❈
قضى أكمل بقية الليلة مع جده، يتحدثان في شتى الأمور، محاولاً أن يملأ صمت المنزل بوجوده قدر الإمكان لكن مع بزوغ الفجر، حان وقت الرحيل نهض أكمل وبدأ في جمع أغراضه القليلة، وشعر بثقل يضغط على صدره مع كل حركة.
كان جده يراقبه في صمت من على كرسيه، ووجهه يحمل تعبيرًا من الحزن الهادئ.
_ما تخليك يا ولدي... يومين كمان.
قال الجد بصوتٍ فيه رجاء خفي.
_البيت بينور بوجودك يومين بس يطمنوا جلبي لحد ما ترچع تاني.
توقف أكمل ونظر إلى جده، وشعر بقلبه يتمزق.
_يا ريت يا جدي... يا ريت أقدر أنت عارف شغل النيابة، مفيش فيه يوم زيادة لازم أكون في مكتبي بكرة الصبح بدري.
تنهد الجد تنهيدة طويلة، وأشاح بوجهه نحو النافذة التي بدأت تستقبل ضوء الصباح الباهت.
_عارف يا ولدي... عارف ربنا يقويك.
ثم صمت للحظة، وأضاف بصوتٍ خافت كاد يكون همسًا،
_بس أني بخاف، بخاف يجي أجلي وأنت بعيد عني، بخاف أغمض عيني للمرة الأخيرة ومشوفش وشك جدامي.
كانت هذه الكلمات هي المطرقة التي حطمت رباطة جأش أكمل.
لقد عبر جده عن أعمق مخاوفه بصراحة مؤلمة، وهذا الخوف انتقل فورًا إلى قلب أكمل.
فكرة أن يأتيه خبر وفاة جده وهو بعيد عنه في القاهرة، فكرة أن يفوّت فرصة توديعه، كانت فكرة لا تطاق.