رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 26 - جـ 1 - الأربعاء 10/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل السادس والعشرون
الحزء الأول
تم النشر الأربعاء
10/9/2025
بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير
كانت هذه هي الكلمات الأخيرة التي نطق بها المأذون، لتعلن رسمياً عن عقد قران أكمل وصبر.
ما إن انتهى الرجل من دعائه، حتى سحب أكمل يده من يد حسان بضيق واضح، وكأنه لُدغ للتو.
لم يطق حتى النظر في وجه الرجل الذي ابتسم ابتسامة صفراء عريضة، ابتسامة المنتصر الذي فرض شروطه ونجح في مسعاه.
كان الحضور قليل، اقتصر على مالك وبعض كبار العائلة الذين استدعاهم حسان ليكونوا شهوداً، في كتابة العقد ليضمن ثباته
_ألف مبروك يا أكمل بيه
_مبروك يا ولدي.
كان أكمل يرد بكلمات مقتضبة ورأس مثقل، بينما وقف مالك بجانبه، يربت على كتفه بين الحين والآخر، كأنه يقول له
"أنا أشعر بك، لكن هذا كان ضرورياً".
بعد أن انفض الجمع وغادر آخر المهنئين، بمن فيهم حسان الذي خرج وكأنه يمتلك الدنيا، ساد صمت ثقيل في المنزل لمح أكمل صبر تجلس في زاوية بعيدة من الصالة، منكمشة على نفسها، ورأسها مطأطئ.
كان الحزن يلفها كوشاح أسود، وبدت أصغر وأكثر هشاشة من أي وقت مضى.
للحظة شعر بوخزة حادة من الندم.
لقد جرحها أهانها بكلماته القاسية وبطريقته الفظة في عرض هذا الزواج كان يعلم أنه بالغ في ردة فعله، لكنه كان غاضباً ومضغوطاً.
والآن، وهو يراها في حالة الانكسار هذه، أدرك حجم الأذى الذي سببه لها.
نهضت صبر بهدوء، وبدأت تتحرك بخطى وئيدة نحو غرفتها الصغيرة الملحقة بالدور الأرضي.
سألها أكمل بصوت أكثر هدوءاً من ذي قبل.
_ رايحة فين؟
أجابت بصوت خافت دون أن تلتفت إليه.
_ رايحة أوضتي.
تنهد أكمل وقال بنبرة تحمل أمراً خفياً
_ لأ. مينفعش تنامي فيها بعد النهاردة.
توقفت مكانها، واستدارت نحوه ببطء، وعيناها تسأله بصمت عن معنى كلامه.
_ إنتي خلاص بقيتي مراتي.
أكمل وهو يشير إلى الطابق العلوي.
_ اطلعي فوق، اختاري أي أوضة من الأوض الفاضية، انما دي مينفعش تبقى أوضتك بعد النهاردة.
كانت هذه أول بادرة منه للاعتراف بوضعها الجديد، لكن بالنسبة لصبر، لم تكن الكلمات لتداوي الجرح العميق الذي حفره في كرامتها.
أومأت برأسها بصمت، وبداخلها كان شيء ما يتبدل.
لقد أهانها، عاملها كصفقة بغيضة كحل مؤقت لمشكلة.
لن تنسى إهانته، لكنها لن تواجهه بالدموع والضعف ستواجهه بقوتها الخاصة.
ستجعله يرى ما لم يكن يراه، ستجعله يندم على كل كلمة قالها.
صعدت إلى الطابق العلوي، وفي كل خطوة كانت ترسم خطة جديدة.
ستكمل تعليمها، ستذهب إلى الجامعة التي حُرمت منها
ستظهر له صبر الأخرى الواثقة، المتعلمة الجميلة
ستجعله يرى الجوهرة التي عاملها كحجر عادي.
وبالفعل في صباح اليوم التالي، حين كان أكمل يستعد للذهاب إلى عمله، وجدها تنتظره في الصالة.
لم تكن ترتدي ملابسها المنزلية البسيطة، بل كانت ترتدي ملابس أنيقة ومحتشمة، وتحمل في يدها الكتب التي طلبها إليها.
كانت تبدو مختلفة، أكثر إشراقاً وكأن نوراً داخلياً قد أضيء فجأة.
قالت ببساطة.
_ أنا جاهزة.
نظر إليها باستغراب.
_ جاهزة لإيه؟
_ للچامعة النهاردة أول يوم ليا وحضرتك اللي هتوصلني.
وقف أكمل متفاجئاً للحظات
لقد نسي أمر جامعتها تماماً.
نظر إليها مرة أخرى، لكن هذه المرة بتمعن.
رأى جمالاً هادئاً لم يلتفت له من قبل، ورأى في عينيها بريقاً من التحدي والإصرار لم يره فيهما أبداً.
وشعر لأول مرة، بشيء غريب تجاهها... شيء يشبه الفضول، وربما... بداية الاهتمام.
❈-❈-❈
بدأ نور خافت يتسلل إلى أركان القصر الذي طالما غلفه الحزن.
كان هذا النور ينبعث بشكل خاص من جناح "سند" و"وعد".
حبهما الذي وُلد من رحم الألم، أزهر ليصبح ملاذاً دافئاً لكليهما.
كان سند عائداً إلى غرفتهما، ليجد وعد تنتظره على غير عادتها.
لم تكن تجلس شاردة، بل كانت تقف في منتصف الغرفة وعلى وجهها ابتسامة غريبة مزيج من الخجل والترقب، وفرحة تكاد تفيض من عينيها.
قال سند وهو يقترب منها ليحتضنها،
_وحشتيني.
لكنها أوقفته بيدها برفق
وقالت بصوت هامس.
_استنى، فيه حاجة عايزة أجولهالك لول.
عقد حاجبيه بقلق مصطنع.
_ خير؟ عملتي مصيبة إيه تاني؟
ضحكت وعد ضحكة رنّانة، ضحكة لم يسمعها منذ وقت طويل بهذا الصفاء أمسكت يده ووضعتها برفق على بطنها بخجل
نظر إليها سند باستفهام، لم يفهم مقصدها بعد.
قالت وعيناها تلمعان بدموع الفرح.
_ أنا حامل.
تجمد سند في مكانه للحظة وكأن العالم كله قد توقف.
نظر من عينيها إلى يده المستقرة على بطنها، ثم عاد إلى وجهها مرة أخرى، كأنه يتأكد من أن ما سمعه حقيقي.
_حامل؟
كرر الكلمة بصوت خافت، كأنه يتذوقها لأول مرة.
أومأت وعد برأسها والدموع تسيل على خديها.
في تلك اللحظة، انفجرت فرحة
سند التي لم يكن لها مثيل.
رفعها بين ذراعيه ودار بها في الغرفة وهو يضحك بصوت عالي، ضحكة صافية وقوية تردد صداها في المكان.
_ بحبك بحبك يا وعد، ياه أحلى خبر في الدنيا!
أنزلها برفق وعاد ليحتضنها بقوة، هامساً في أذنها
_ هتجيبيلي حتة منك ومني هتملي البيت ده حياة من تاني.
كانت فرحة عارمة فرحة حقيقية طال انتظارها.
لأول مرة منذ شهور، شعر سند بأن السعادة ليست مجرد ذكرى بعيدة، بل هي واقع يعيشه ومستقبل ينتظره.
لم يطيق احد منهم الصبر انتشر الخبر في القصر كانتشار النار في الهشيم الحاج وهدان لم تسعه الفرحة،
وورد ورغم حزنها الذي لم يغادر قلبها على ابنها عدي إلا أن خبر حفيدها القادم كان كبلسم شافي
رسم على وجهها أول ابتسامة صادقة منذ وقت طويل لقد أخرجها حمل ابنتها قليلاً من قوقعة أحزانها، وأعطاها سبباً جديداً لتتمسك بالحياة.
وفي وسط هذه الأجواء السعيدة، وأثناء تجمع العائلة في المساء، وجد مالك أنها اللحظة المناسبة لقد انتهت عدة روح بالأمس، ولم يعد هناك ما يمنعه.
وقف مالك بثقة وهدوء، ونظر إلى جده ثم إلى الجميع.
_ بما إن الفرح رجع بيتنا تاني، حبيت أكمله.
التفتت إليه كل الأنظار.
_ جدي، وابوي وعمي... بعد إذنكم جميعاً، وبما إن العدة خلصت... أنا بطلب إيد روح على سنة الله ورسوله.
ساد صمت مهيب للحظات، ثم تهللت الوجوه.
كانت روح تجلس وقد تورد خداها، لكنها لم تخفض عينيها، بل نظرت إلى مالك بامتنان وحب.
فمنذ المواجهة التي حدثت بينهم وكل واحد منهم يمنع نفسه عن الآخر حتى تنتهي شهور العدة
فرحت ورد من أجل مالك ابنها، ومن أجل روح التي تستحق السعادة.
ورغم أن ذكرى ابنها لا تزال تؤلمها، إلا أنها رأت في هذا الزواج بداية جديدة وصحيحة للجميع.
نظر الحاج وهدان إلى روح وسألها بصوت حنون
_ إيه رأيك يا بنتي؟
أومأت روح برأسها موافقة بخجل، واخيرا عادت الحياة لذلك المنزل، معلنة أن الفرح حين يقرر أن يطرق باباً، فإنه يفتحه على مصراعيه.
❈-❈-❈
كانت بوابات الجامعة عالماً جديداً ومختلفاً تماماً عن كل ما عرفته صبر عالم واسع صاخب، ومليء بالوجوه الغريبة عنها.
بعد أن أوصلها أكمل بسيارته
أخرج هاتف من جيبه وقال
_خليه معاكي لما تخلصي رني عليا
اومأت له بصمت ثم تركها
وغادر بعد بضع كلمات مقتضبة، وجدت نفسها وحيدة في هذا الزحام.
أنهت محاضرتها الأولى بصعوبة، بالكاد استوعبت ما قاله الدكتور، فقد كان عقلها مشغولاً بمحاولة التكيف مع هذا المكان الضخم.
والآن، وهي تقف في وسط الساحة الرئيسية للكلية، تمسك بجدول المحاضرات في يدها وترمقه بنظرة تائهة، شعرت بالضياع التام.
أين هو المدرج رقم (ج)؟ وهل لديها وقت كافي للوصول إليه قبل بدء المحاضرة التالية؟
كانت حيرتها وارتباكها واضحين لدرجة أنها لفتت انتباه فتاة كانت تقف على مقربة منها، تتحدث مع مجموعة من صديقاتها.
كانت فتاة جميلة بشكل ملفت، ذات ملامح رقيقة وشعر أسود طويل ينسدل على كتفيها، ويبدو من ثقتها بنفسها أنها ليست غريبة عن هذا المكان.
لاحظت الفتاة نظرات صبر الحائرة، فاعتذرت من صديقاتها واقتربت منها بابتسامة ودودة.
_ شكلِك أول يوم ليكي هنا، صح؟
رفعت صبر رأسها متفاجئة من لطفها، وأجابت بصوت خافت مرتبك.
_ ايوة... أول يوم.
اتسعت ابتسامة الفتاة وهي تمد يدها لتصافحها.
_ أنا ليان متقلقيش، كلنا كنا كده في الأول وريني جدولك أشوف أقدر أساعدك إزاي.
شعرت صبر بارتياح فوري تجاهها ناولت ليان الجدول، فألقت عليه نظرة سريعة.
_ اااه، محاضرة دكتور شوقي دي في المدرج اللي في آخر المبنى هناك.
قالت وهي تشير بيدها.
_ متخافيش، لسه فاضل ربع ساعة هنلحق نوصل براحتنا تعالي معايا، أنا كمان عندي محاضرة في نفس المبنى.
وبينما كانتا تمشيان جنباً إلى جنب، بدأت ليان في كسر حاجز الصمت والارتباك.
_ على فكرة، نظام الحضور هنا مريح جداً يعني لو مش عايزة تيجي كل يوم، مش لازم أهم حاجة تحضري يوم في الأسبوع عشان العملي والسكاشن، والباقي ممكن تتابعينه أونلاين من البيت لو تحبي المحاضرات كلها بتتسجل وبتترفع على موقع الكلية.
كانت هذه المعلومة بمثابة طوق نجاة لـصبر فكرة أنها لن تضطر لمواجهة أكمل وطلب توصيلها كل يوم أراحتها كثيراً.
_ بجد؟ ده كويس أوي.
_ طبعاً.
أكملت ليان بحماس.
_ أنا عن نفسي بحب أجي عشان صحباتي، لكن فيه أيام بكسل وبحضر من البيت عادي إنتي في سنة كام؟
_ سنة أولى أنا كنت مأجلة... لظروف.
قالتها صبر بتحفظ، لكن ليان لم تضغط عليها أو تسألها عن تفاصيل، بل تفهمت الأمر ببساطة.
_ ولا يهمك، المهم إنك رجعتي ولو احتجتي أي حاجة أي ملازم، أو أي سؤال اعتبريني أختك ده رقمي، كلميني في أي وقت.
وصلتا إلى المدرج، ووقفت ليان معها حتى تأكدت أنها دخلت القاعة الصحيحة قبل أن تذهب، ابتسمت لها مرة أخرى.
_ مبسوطة إني اتعرفت عليكي يا صبر.
_ وأنا كمان يا ليان.
شكراً ليكي بجد.
في تلك اللحظة، شعرت صبر لأول مرة منذ وقت طويل بأنها ليست وحيدة تماماً.
لقد وجدت صديقة، شعاعاً من نور في عالمها الجديد
لقد ارتاحت لـليان بشكل لا يصدق، وشعرت بأن هذه الصداقة قد تكون هي البداية الحقيقية لحياة مختلفة طالما حلمت بها.
❈-❈-❈
بعد أن ترك صبر أمام بوابة الجامعة، لم يتجه أكمل إلى المحكمة مباشرة
قاده قلبه وشوقه إلى وجهة أخرى، إلى منزل والديه الذي لم تطأه قدماه منذ شهور.
أوقف سيارته في الشارع الهادئ الذي يحمل كل ذكرياته، وشعر بوخزة من الحنين والألم.
ما إن طرق الباب وفتح والده، حتى اتسعت عيناه بصدمة ممزوجة بفرحة عارمة.
_ أكمل!
صاح الأب باسمه، فخرجت والدته من المطبخ على صوته، وحين رأته واقفاً أمامها، لم تصدق عينيها.
وهرولت نحوه تحتضنه بقوة، كأنها تريد أن تتأكد أنه حقيقي وليس مجرد طيف.
_ ابني حبيبي وحشتني يا نور عيني
كان لقاءً حاراً مليئاً بالدموع والقبلات والأحضان.
أدخلاه إلى المنزل وجلسا حوله، لا يرفعان أعينهما عنه، يتأملان وجهه الذي اشتاقا إليه.
فرحتهما كانت لا توصف، فقد ظنا أن عودته هذه هي عودة نهائية، وأن كابوس ابتعاده عنهم قد انتهى.
بعد حديث طويل عن أحوالهم وأحواله، وسيل من الأسئلة التي لا تنتهي، وضعت نسرين يدها على يده بحنان، وسألته السؤال الأهم الذي كان يجول في خاطرها منذ أن رأته.
_ خلاص رجعت يا أكمل؟ مش هتسيبنا تاني؟
سقط السؤال في وسط فرحتهم كقطعة جليد تغيرت ملامح أكمل، وظهر الارتباك والإحراج على وجهه سحب يده بهدوء وقال بصوت خفيض
_ لأ يا أمي... أنا مش راجع أنا كنت في مشوار هنا قريب فقلت أعدي أشوفكم وأطمن عليكم... وشوية وماشي.
تبدلت ملامح والديه في لحظة. اختفت الفرحة وحل محلها خيبة الأمل والغضب قال والده بنبرة حادة
_ ماشي إيه؟ ماشي رايح فين تاني؟ بيتك هنا يا أكمل شغلك وحياتك المفروض يبقوا هنا وسطنا
انفعلت والدته هي الأخرى
_ يعني إيه جاي تشوفنا وماشي؟ هو إحنا بقينا محطة في طريقك؟ لازم ترجع يا أكمل، كفاية غربة بقى قلبي اتقطع عليك.
حاول أكمل أن يهدئهما، لكنهما كانا في قمة انفعالهما.
_ يا جماعة افهموني، انا قولتلكم محتاج وقت اكون لوحدي فيه. مقدرش دلوقت على الاقل.
صرخ والده.
_ وقت إيه وزفت إيه إنت وكيل نيابة، مكانك هنا مش هناك بترمي نفسك في بلد غريبة ليه؟
_دي مش بلد غريبة دي بلد جدي وبلدك وانا شايف راحتي هناك قولتلكم فترة وهرجع تاني.
استمر الجدال لدقائق، أكمل يصر على موقفه، ووالداه يضغطان عليه بكل ما أوتيا من قوة ليعود.
كان الجو مشحوناً بالتوتر وخيبة الأمل.
وفي وسط هذا كله، رن هاتفه.
نظر إلى الشاشة، فوجد اسم صبر شعر بارتياح غريب، وكأنها كانت طوق نجاة له من هذا الموقف الصعب.
نهض واقفاً وقال بسرعة
_ أنا لازم أمشي دلوقتي عندي موضوع مهم.
نظرت إليه والدته بقلب مكسور.
_ موضوع إيه اللي أهم مننا؟
لم يرد انحنى وقبّل رأسها ورأس والده بسرعة، ثم اتجه نحو الباب دون أن يلتفت خلفه، تاركاً وراءه قلبين محطمين، والكثير من الأسئلة التي لم يجب عليها.
❈-❈-❈
وقف أكمل بسيارته الفاخرة أمام بوابة الجامعة، وهو يشعر بشعور لم يعتده التوتر.
لم يكن ينتظر شريك عمل بل كان ينتظر زوجته التي دفعها بنفسه إلى هذا العالم الجديد، ثم تخلى عنها في أولى خطواتها.
كلما مرت الدقائق، كان شعوره بالذنب ينمو ويثقل على صدره تذكر بروده في الصباح وكلماته المقتضبة، والطريقة التي تجنب بها النظر في عينيها
لقد جرحها وهو يعلم ذلك جرحها بعد أن منحها الأمل، وهذا أسوأ أنواع الجرح.
رآها تخرج من بين حشد الطلاب كانت تسير بهدوء تحمل كتبها لكن كان هناك انطفاء واضح في ملامحها.
لم تكن تبحث عنه بلهفة كما توقع، بل كانت تمسح المكان بعينيها كواجب، وعندما رأته لم تظهر على وجهها أي ابتسامة فقط إيماءة خفيفة قبل أن تتوجه نحو السيارة.
فتحت الباب وركبت بصمت أغلقت الباب خلفها ورائحة عطرها الهادئة ملأت السيارة لكن صمتها كان أعلى من أي عطر.
قال وهو يتحرك بالسيارة محاولًا كسر الجليد
_يومك كان عامل إيه؟
ردت بصوت خفيض دون أن تلتفت إليه
_كويس الحمد لله.
كانت إجابة مغلقة، لا تدعو لمزيد من الحديث
شعر بوخزة أخرى من الذنب لقد كان هو من علمها الصمت بعد أن كانا يتشاركان الكلام.
ساد الصمت لعدة دقائق، لم يقطعه سوى صوت محرك السيارة
لم يستطع أكمل التحمل أكثر أوقف السيارة على جانب الطريق فجأة، مما جعلها تلتفت إليه بدهشة.
_أنا آسف.
قالها بصدق، ونظر في عينيها مباشرة لأول مرة منذ أيام.
_آسف على طريقتي معاكي الفترة اللي فاتت مكنش المفروض أعاملك كده.
نظرت إليه، وكان في عينيها عتاب صامت، لكن لم يكن فيه لوم قالت بهدوء
_حضرتك مش محتاچ تتأسف أنا خابرة حدودي زين.
كلماتها كانت كالصفعة. "حدودي"
هو من رسم هذه الحدود بقسوته.
قال بنبرة أكثر دفئًا
_لأ محتاج اللي حصل مكنش له علاقة بالحدود، كان له علاقة بيا أنا
كنت متلخبط، ومشغول بحاجات كتير بس ده مش مبرر.
شغل السيارة مرة أخرى لكنه لم يتجه نحو المنزل
_إيه رأيك نتغدى بره النهاردة؟ نغير جو.
نظرت إليه بتردد لكنها رأت في عينيه صدقًا ورغبة حقيقية في إصلاح ما أفسده أومأت برأسها موافقة بصمت.
اختار مطعمًا فاخرًا يطل على النيل. كان المكان أنيقًا والناس فيه يرتدون ملابس باهظة ويتحدثون بصوت خفيض
للحظة، خشي أكمل أن تشعر صبر بالرهبة أو عدم الارتياح لكنه تفاجئ مرة أخرى.
جلست أمامه بثقة هادئة، تتأمل المكان بفضول لطيف، لا بانبهار أو شعور بالنقص لم تهزها نظرات الفضول التي رمقها بها البعض، ولم يلفت انتباهها بريق المجوهرات على الطاولات المجاورة
كانت حاضرة للحظتها، معه هو وكأن العالم الخارجي مجرد ديكور.
هذه نقطة جديدة أضيفت لها في عقله
قوتها الداخلية وثقتها الهادئة بنفسها كانت مذهلة.
كل مرة كان يكتشف فيها جانبًا جديدًا من شخصيتها وكلما اكتشف ذلك، كان يتعلق بها أكثر.
أدرك في تلك اللحظة أن ما يشعر به نحوها ليس مجرد افتتان عابر أو شفقة، بل هو حب حقيقي حب ينمو ويتجذر مع كل موقف.
بعد أن طلب لهما الطعام قال بهدوء
_عجبك اللي اختارته ولا أجبلك غيره؟
ابتسمت بخجل
_عجبني.
بادلها الابتسام وشعر بأنها أخيراً غفرت له على ما بدر منه
رفع حاجبيه متسائلاً بمكر وهو يقرب يده من يدها على الطاولة
_أفهم من كدة إنك خلاص مش زعلانة
شعرت بارتجافة خفيفة في يدها التي يمسكها.
رفعت عينيها إليه، وكانت تلك المرة الأولى التي ترى فيها ابتسامة حقيقية وصافية على وجهه منذ أيام.
هزت راسها بنفي.
_لأ مش زعلانة.
قالتها ببساطة، لكنها كانت تحمل كل معاني الأمل والبدايات الجديدة في تلك اللحظة، شعر أكمل بأن حملاً ثقيلاً قد أزيح عن كاهله، وأن الطريق أمامهما، وإن كان لا يزال طويلاً، إلا أنه أصبح مضاءً بنور جديد.
❈-❈-❈
في المساء...
جلس مالك بجوار جده، وعلى الجانب الاخر والده ، يضع يده في يد جده والمأذون يتلو كلمات عقد القران.
كان قلبه يخفق بجنون، وكل حواسه متوقفة في انتظار اللحظة التي طالما حلم بها.
لم يكن يرى أحداً حوله، لا أكمل الذي يجلس في الحضور ليبارك لصديقه، ولا باقي أفراد العائلة كان العالم كله قد اختفى، ولم يبق في مجال رؤيته سوى طيف روح التي تجلس في الغرفة المجاورة، وصوت المأذون الذي كان يقترب من الكلمات الحاسمة.
بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير.
ما إن انطلقت هذه الجملة في الهواء، حتى شعر مالك وكأن روحاً جديدة قد سكنت جسده لم يستطع، ولم يحاول حتى أن يخفي فرحته.
ابتسامة عريضة وصادقة ارتسمت على وجهه، وعيناه لمعتا ببريق لا يمكن وصفه.
نهض ليقبل يد جده وابيه وعمه، ثم استقبل تهاني الجميع وقلبه يرقص طرباً.
لقد تحقق حلمه، روح أصبحت زوجته، حبيبته على سنة الله ورسوله.
استأذن من جده ومن الحضور، وشق طريقه نحو الغرفة المجاورة
كل خطوة كان يخطوها كانت أثقل وأخف من سابقتها
كان يشعر وكأنه يسير نحو قدره عندما دخل وجدها
كانت تجلس وسط والدته وزوجات أعمامه، اللاتي كن يهنئنها ويحتضننها لكنها كانت كجزيرة من النور وسط بحر من الوجوه كانت ترتدي فستانًا أبيض بسيطًا، من قماش ناعم ينسدل على جسدها برقة، دون أي تكلف أو بهرجة شعرها البني الأسود كان منسدلاً على كتفيها في تموجات طبيعية، تزينه بعض الورود البيضاء الصغيرة. لم تكن تضع أي مساحيق تجميل تقريبًا، فقط لمسة خفيفة أظهرت جمالها الطبيعي النقي.
لم تكن عروسًا متكلفة بل كانت كحورية خرجت لتوها من البحر، هادئة، نقية وتخطف الأنفاس.
تجمد في مكانه للحظات مبهورًا بها، وكأنه يراها للمرة الأولى.
وجد قدميه تتحركان من تلقاء نفسيهما نحوها، يخترق تجمع النساء اللاتي أفسحن له الطريق بابتسامات متفهمة.
أما هي، فقد شعرت بوجوده قبل أن تراه رفعت عينيها والتقتا في نظرة طويلة حبست الأنفاس.
