رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 31 - جـ 1 - السبت 14/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الواحد والثلاثون
الحزء الأول
تم النشر الأحد
14/9/2025
عادت روح إلى جناحهما في وقت متأخر من الليل، كانت تشعر بالإرهاق بعد جلستها الطويلة مع نغم
فتحت باب الغرفة بهدوء، تتوقع أن تجد مالك نائماً.
لكن ما إن خطت خطوتها الأولى إلى الداخل وأغلقت الباب، حتى شعرت بيدين قويتين تلتفان حول خصرها وتسحبها بقوة إلى الخلف لتصطدم بجسد صلب.
صرخت صرخة مكتومة من الخضة المفاجئة، لكن الصوت تحول إلى همسة عندما شعرت بأنفاسه الدافئة على عنقها وسمعت صوته العميق يهمس في أذنها بمكر.
_ سلامتك من الخضة يا روح جلب مالك.
وضعت يدها على صدرها تحاول تهدئة دقات قلبها المتسارعة.
_ مالك! حرام عليك، خضتني.
أدارها ببطء لتواجهه وظلت ذراعاه تحيطان بخصرها بقوة كانت عيناه تلمعان في الضوء الخافت ببريق مرح ورغبة.
_ وأنا مجدرش اسيبك مخضوضة إكده الخضة دي مشكلتها واعرة جوي، وليها علاچ خاص جداً... ومحدش يجدر يجوم بيه غيري أنا.
فهمت مقصده على الفور وشعرت بالحرارة تتسلل إلى خديها لكنها قررت أن تجاريه في لعبته.
_ علاچ؟ علاچ إيه ده اللي بيجي في نص الليل؟
ازداد المكر في عينيه، واقترب منها أكثر حتى كادت أنفاسهما تختلط.
_ ده علاچ فعال ومفعوله فوري
بس شرحه صعب شوية... لازم تطبيق عملي.
حاولت التلاعب وهي تبتسم.
_ لأ بجد مش فاهمة إيه هو العلاج ده؟
انحنى نحو أذنها، وهمس ببضع كلمات جريئة وواضحة وصفاً تفصيلياً "لعلاجه" المقترح.
لم تستطع روح تمالك نفسها فانفجرت في ضحكة عالية ومجنونة ضحكة رنت في سكون الغرفة.
وضع مالك يده على فمها بسرعة وهو يضحك معها.
_ بس اسكتي هتفضحينا هيجولوا الواد اتهبل هو ومرته.
أبعدت يده وهي تحاول التقاط أنفاسها من الضحك.
_ مكنتش أعرف إنك شجي إكده! طول عمري بشوفك مالك العاجل المؤدب بزيادة.
رفع حاجبه بابتسامة ساحرة.
_ أنا طبعاً مؤدب... بس الحاچات دي بالذات، مفيهاش أدب يا روح مالك.
لم يمنحها فرصة أخرى للحديث
حملها بين ذراعيه فجأة، فتشبثت بعنقه وهي تضحك اتجه بها نحو الفراش وأنزلها برفق فوق الملاءات الحريرية، ثم انضم إليها محاصراً إياها بجسده.
كانت عيناه تتجولان على وجهها بشغف وهو متوهج تحت نظراته
كانت روح تراقبه، وقلبها يخفق بقوة مزيج من الخجل والترقب.
مال عليها، وبدأ يطبع قبلات حارقة على عنقها وكتفيها
كانت قبلاته تحمل جوعاً ولهفة، كأنه يرتوي من نبع ماء بعد عطش طويل.
لم تعد روح مجرد متلقية لهذا العشق
كانت سعادتها وشغفها يفيضان
مدت يديها المرتعشتين وأمسكت بعنقه ، كانت تريد أن تشعر به أن تلمسه أن تكون جزءاً منه كما هو جزء منها.
في تلك اللحظة لم يكن هناك سوى جسدين وروح واحدة، يرقصان على إيقاع الحب في عالم خاص بهما، حيث كل لمسة هي قصيدة وكل قبلة هي وعد بالبقاء الأبدي.
❈-❈-❈
في إحدى الليالي دخل أكمل إلى غرفة نومهما وهو يخفي شيئاً خلف ظهره وعلى وجهه ابتسامة غامضة.
كانت صبر تجلس على السرير تقرأ في أحد كتبها فرفعت عينيها إليه بفضول
سألها وهو يقترب منها.
_ خلصتي مذاكرة ولا لسه؟
قالت وهي تغلق الكتاب
_ خلاص خلصت كنت بتسلى بس لحد ما ترجع
جلس بجانبها وأخرج من خلف ظهره علبة قطيفة حمراء أنيقة وقدمها لها.
_ دي ليكي.
نظرت إلى العلبة ثم إليه بحيرة.
_ إيه دي؟
_ افتحي وإنتي تعرفي.
فتحت صبر العلبة ببطء لتشهق بصدمة عندما رأت ما بداخلها.
كان طقماً من الذهب اللامع تصميمه فخم وراقي يصرخ بالثراء كان عقداً ضخماً وأقراطاً متدلية وسواراً عريضاً.
رفعت إليه عيناها بعدم تصديق
لم تتلقى هداية طوال عمرها وعندما جاءتها تكون بتلك الفخامة
لكنها لن تقبلها، هي لا تستحقها
أغلقت العلبة بسرعة وأعادتها إليه وهي تقول بحزن
_ لأ... لأ يا أكمل مجدرش أجبل دي دي... دي شكلها غالية جوي.
أخذ العلبة من يدها وفتحها مرة أخرى وقال بنبرة حنونة وحازمة
_ مفيش حاجة تغلى عليكي يا صبر إنتي مراتي، وده أقل واجب أعمله اعتبريها هدية جوازنا اللي متأخرة شوية.
نظرت إليها بحيرة
_ بس ده كتير جوي... كتير بجد.
أخرج العقد من العلبة وأشار لها أن تستدير.
استدارت وهي لا تزال تشعر بالصدمة فوضع العقد البارد حول عنقها الدافئ وأغلقه برفق.
ثم مال وهمس في أذنها
_ مفيش حاجة في الدنيا دي كلها كتير عليكي.
استدارت إليه مرة أخرى وعيناها تلمعان بالدموع.
لم تكن دموع حزن، بل دموع فرح لا تصدق.
قالت بصوت مختنق.
_ أنا ساعات بحس إني بحلم وبحسد نفسي عليك
بحسد نفسي إني حبيتك، وإن ربنا استچاب لدعائي وخلاك ليا
أنا سعيدة معاك جوي يا أكمل... سعيدة لدرجة الخوف.
نظر إليها بعمق وقد لمست كلماتها وتراً حساساً في قلبه.
_ متخافيش أنا اللي المفروض أحسد نفسي إني لقيتك.
لم يعد هناك حاجة للمزيد من الكلمات جذبها إليه في حضن دافئ، يطمئنها ويمحو مخاوفها.
ثم تحول الحضن إلى قبلات شغوفة، يروي بها عطشه الذي لا يرتوي منها أبداً مؤكداً لها في كل لمسة أنها تستحق كل شيء، وأنها أثمن من كل كنوز العالم في عينيه.
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي، كانت صبر تستعد للذهاب إلى الجامعة.
وقفت أمامه قبل أن تخرج وقالت بتردد
_ أكمل... أنا... كنت محتاچة فلوس.
نظر إليها أكمل باستغراب خفيف.
_ فلوس؟ انتي خلصتي الفلوس اللي ادتهالك؟
ارتبكت قليلاً وقالت بسرعة
_ آه... بس... بس احتجت كتب وملازم غالية وصرفتهم.
لم يشك فيها بل ابتسم وأشار إلى درج مكتبه.
_ طيب الدرج ده فيه فلوس خدي منه اللي تحتاجيه.
اعتبري الدرج ده بتاعك، كل ما تحتاجي حاجة خدي منه على طول من غير ما تقوليلي.
قالت بامتنان وقبلته بسرعة على خده ثم خرجت.
_ شكراً يا أكمل.
تكرر هذا الموقف عدة مرات خلال الشهر التالي
كانت تطلب مبلغ أو تأخذ من الدرج بشكل متكرر بدأ أكمل يلاحظ أن المبالغ التي تصرفها كبيرة جداً بالنسبة لطالبة جامعية.
في خلال شهر واحد من زواجهما، كانت قد صرفت مبلغاً كبيراً لا يتناسب أبداً مع احتياجاتها.
كان يستغرب، أين تذهب كل هذه الأموال؟ لم تظهر عليها أي مظاهر بذخ، لم تشترى اي ملابس جديدة باهظة أو مجوهرات.
كانت كما هي.
لكنه أسكت شكوكه قال لنفسه إنها ربما تحتاج لأشياء كثيرة في الجامعة لا يفهمها أو ربما بطيبتها تهادي صديقاتها أو تساعدهن.
قرر ألا يسألها وألا يضايقها بهذا الأمر واثقاً فيها وفي حسن تصرفها.
لكن بذرة صغيرة من الحيرة والشك قد زُرعت في عقله، تنتظر الوقت المناسب لتنمو.
❈-❈-❈
كان جاسر يعيش في حالة من الضياع التام.
كل مكان يذهب إليه كان يخنقه لأنها ليست فيه.
جناحه الفاخر أصبح سجناً بارداً، والسرير الذي شهدا فيه ليلتهما الوحيدة أصبح قطعة من الجمر.
كان يهرب من البيت، يهرب من الذكريات، لكنها كانت تلاحقه في كل مكان.
رائحتها، صوتها، ملمس بشرتها... كل شيء كان محفوراً في ذاكرته، يؤجج شعوره بالفقد والخواء.
في وسط هذا الجحيم الشخصي، كان ضغط عمه صخر يزداد يوماً بعد يوم، يطالبه بتحديد موعد حفل الزفاف من شروق وإتمام الزواج بشكل رسمي
وكان جاسر يتهرب في كل مرة، يتحجج بأي شيء؛ مرة بأعمال عالقة، ومرة بأن الوقت غير مناسب، ومرة بأن عليه السفر لإنهاء صفقة.
لكن في أحد الأيام لم يعد هناك مهرب
استدعاه عمه إلى السرايا، وكان حازماً هذه المرة.
بدأ صخر الحوار بنبرة لا تقبل الجدال
_ لحد ميتى يا جاسر؟ إنت كتبت كتابك على بت عمك، والبلد كلها مستنية الفرح.
كل يوم تأخير بيفتح علينا باب للكلام والجيل والجال.
جلس جاسر أمامه يحاول الحفاظ على قناعه البارد.
_ والناس دي معندهاش حاچة غير الكلام؟ عندي شغل أهم.
رد عمه بحدة.
_ شغلك مش هيطير لكن سمعة بتي على كل لسان لازم نحدد ميعاد للفرح السبوع ديتى.
_ مش هينفع.
قال جاسر ببرود قاطع.
_ يعني إيه مش هينفع؟! إنت عايز تجنني ياك؟ هتفضل معلق البنت إكده لحد ميتى؟ ولا لسه بتفكر في بت الرفاعي اللي رمتك ورجعت لأهلها؟
لم يرد جاسر، لكن صمته كان إجابة كافية.
_ اسمعني زين يا جاسر الموضوع ده انتهى هتتچوز شروق يعني هتتچوزها.
يا إما تحدد الميعاد بالذوق، يا إما أنا اللي هحدده وهحطك جدام الأمر الواجع زي المرة اللي فاتت.
نهض جاسر وقال بنبرة جليدية
_ اعمل اللي إنت عايزه.
خرج من المضيفة غاضباً يشعر بأنه محاصر.
عند الباب كانت شروق تنتظره وكأنها كانت تستمع للحوار.
حاولت أن ترسم ابتسامة رقيقة على وجهها.
_ جاسر... كنت عايزة أتكلم معاك.
لم يتوقف، بل أكمل طريقه متجاهلاً إياها تماماً.
_ جاسر وجف!
ركضت خلفه ومدت يدها لتمسك بذراعه في محاولة يائسة لإيقافه
هنا انفجر كل شيء.
في حركة خاطفة استدار جاسر وأمسكها ليس من ذراعها بل من شعرها وشده بقوة حتى صرخت من الألم.
قرب وجهه من وجهها، وكانت عيناه تطلقان شرراً من السخط والغضب الخالص.
وهمس بصوت فحيح مرعب.
_ إياكي! إياكي تفكري تلمسيني تاني.
كانت شروق ترتجف من الخوف، والدموع تترقرق في عينيها.
وأكمل وهو يشد على شعرها أكثر.
_ اسمعيني زين عشان مش هعيد حديتي تاني حتى لو اتچوزنا، حتى لو بجيتي في بيتي وعلى اسمي أنا مش هلمسك هتعيشي زي قطعة الأثاث زي الهوا هتبجى دي حياتك معايا
سجن.
لو عايزة تجبلي بالوضع ده إنتي حرة.
نظر في عينيها المرعوبتين ينتظر إجابة.
هزت رأسها بسرعة بالموافقة لا تستطيع النطق من شدة رعبها.
دفعها بعيداً عنه بقسوة حتى كادت أن تسقط ثم استدار وابتعد بخطوات واسعة تاركاً إياها واقفة بمفردها تتنفس بصعوبة وتتحسس رأسها بألم.
نظرت شروق في أثره، وتحول الخوف في عينيها تدريجياً إلى نظرة حقد وسخط.
همست لنفسها بمرارة.
_ ماشي يا جاسر... بس في النهاية، إنت هتبقى ليا ومش هااتركك لنغم أبداً... أبداً.
❈-❈-❈
في اليوم التالي وفي خطوة فاجأت الجميع ظهرت سيارة جاسر مرة أخرى أمام سرايا الرفاعي.
لكنه هذه المرة لم يأتي بصخب أو تهديد بل نزل من سيارته بهدوء وطلب مقابلة كبار العائلة.
استقبله وهدان وسالم ومالك في "المضيفة".
كانت وجوههم حذرة لا يعرفون ماذا يتوقعون من هذه الزيارة المفاجئة
سأله وهدان
_خير يا ابن التهامي.
جلس جاسر أمامهم ولم يكن في عينيه أثر للغطرسة أو التحدي بل كانتا تحملان ثقلاً من الإرهاق والتصميم
بدأ جاسر الحديث بصوت هادئ ورصين
_ أنا چاي النهاردة مش عشان أتخانق أنا چاي عشان أجولكم إني مستعد لكل شروطكم، مجابل حاچة واحدة بس... إن مراتي ترچعلي
نظر الرجال إلى بعضهم البعض في صمت، مندهشين من هذا التحول
أكمل جاسر موجهاً لهم ورقته الرابحة التي طالما كانت محور الصراع
_ أنا مستعد أتنازل عن نص الأرض هكتبلكم تنازل عرفي بيها، وهتبجى ملككم.
كان يتوقع أن تحدث كلماته صدى، أن تثير اهتمامهم.
لكنه تفاجئ برد فعلهم.
نظر إليه وهدان بحزن وقال
_ الأرض؟!
وإيه جيمة الأرض دلوجت يا ولدي؟ الأرض دي شربت دم ولادنا
من يوم ما مات عدي والأرض دي مبجتش تفرج معانا.
لو كانت كنوز الدنيا كلها، متساويش ضفر واحد من عيالنا.
كانت كلمات وهدان كصفعة له
كيف يرفض ذلك وعمه أخبره بأنهم متعطشين للدماء لأجل تلك الأرض
رأى في عينهم عدم اهتمام بها حتى انها لم تعد ذات قيمة.
هذه الأرض تساوي ملايين فلما يقوموا برفضها
لقد تغير كل شيء.
السلاح الذي كان يظن أنه يملكه، فقد قيمته تماماً.
شعر جاسر بأن الأرض تهتز من تحته لكنه حاول مرة أخرى مقدماً عرضه الأخير.
_ طيب... أنا مستعد أنهي العداوة دي كلايتها للأبد
ننسى اللي فات، ونفتح صفحة جديدة كل اللي بطلبه في المجابل، إن مرتي ترچع بيتها.
هنا تدخل مالك بهدوء لكن بكلمات حاسمة قطعت عليه الطريق.
_ الموضوع ده مبجاش في إيدينا يا جاسر إحنا ممكن ننهي العداوة وممكن ننسى التار لكن نغم... نغم مش ورجة في لعبة بنلعبها.
دي روح إنسان اتكسرت الموضوع دلوجت في إيدها هي وبس.
لو هي وافجت ترچعلك محدش فينا هيمنعها ولو رفضت، مفيش جوة على الأرض هتچبرها.
صمت جاسر لقد فهم، كل أوراقه احترقت كل أسلحته أصبحت بلا قيمة لم يعد هناك ما يقدمه، لم يعد هناك ما يساوم عليه.
_تمام أني همشي بس مش معنى إكدة إني هتخلى ولا أسيبها
نغم مرتي(تابع بمغزى لكنه يحمل شموخ وكبرياء)ولو وصلت إني أحارب الدنيا كلياتها عشان ترچعلي مش هتردد.
نهض واقفاً وحافظ على كبريائه الذي لم يهتز ظاهرياً.
نظر إليهم نظرة أخيرة نظرة تحمل يأس وألم لم يظهره في كلماته المتحدية.
استدار وخرج من المضيفة ومن السرايا كلها.
لقد استنفد كل الطرق السلمية لقد حاول وتنازل، وتوسل بطريقته الخاصة لكن كل شيء فشل.
الآن لم يعد أمامه سوى طريق واحد
الطريق الذي يعرفه جيداً.
طريق القوة إذا لم تعد إليه برضاها، فسوف تعود رغماً عنها..
خرج من باب المنزل بهدوء حاسم، صوتٌ لا يعكس العاصفة التي تضطرب في صدره.
سار بخطوات ثابتة نحو سيارته رأسه مرفوع وكتفاه مشدودان في هيئة رجل لم يعد يملك زمام أمره، رجل لا ينظر إلى الوراء أبدًا وأصبح واقعه
لكن عاد مظهره يوحي بالشموخ واللامبالاة قناعٌ صلب نحته بعناية ليخفي حطام روحه.
وصل إلى سيارته وأخرج مفاتيحه ببطء مدروس لكن في تلك اللحظة، قبل أن يفتح الباب شعر بوخزة حادة في قلبه، إحساسٌ مغناطيسي لا يقاوم يجبره على النظر إلى الأعلى لم يكن قرارًا بل كان استسلامًا لقوة أكبر منه، قوة وجودها.
كانت هناك تقف خلف زجاج النافذة، ليست كشبحٍ حزين بل كملكة في برجها العاجي او هكذا رآها
وملامحها هادئة بشكل مؤلم.
لم تكن في عينيها دموع بل نظرة صافية وحادة كشفرة، نظرة امرأة استنفدت كل مشاعرها ولم يتبقَ لديها سوى الحقيقة الباردة.
كانت نظراتها تحمل قوة هادئة، لومًا صامتًا لا يصرخ بل يحكم بالإدانة.
في تلك اللحظة التي تلاقت فيها أعينهما، انهار حصنه المنيع.
كل ذلك الشموخ الذي تظاهر به تبخر في ثانية.
ارتخت كتفاه قليلًا وتلاشى البرود من عينيه ليحل محله ألمٌ خام ورجاءٌ طفولي.
قوته التي يواجه بها العالم بأسره، كانت تذوب تحت نظرتها كالثلج تحت أشعة الشمس لقد أصبح ضعيفًا أمامها، وهذه الحقيقة لن تتغير.
تحولت نظراته القوية إلى توسلٍ صامت.
كانت عيناه تقولان ما لم يجرؤ لسانه على نطقه:
"أنتِ على حق في كل شيء أنا المخطئ لكن انظري إلى ما فعلتِه بي بنظرة واحدة منكِ، يتحول كل كبريائي إلى رماد ارحميني"
كان يقف كرجلٍ مهزوم، كل قوته مجرد وهم تحطّم على صخرة صمتها.
هي من برجها رأت ذلك الانهيار
رأت الرجل الشامخ يتلاشى ليظهر الطفل النادم الذي تعرفه جيدًا.
لم يتغير تعبيرها، لكنها أغمضت عينيها ببطء شديد، كأنها تطوي الصفحة الأخيرة من كتاب مؤلم، ثم استدارت واختفت في ظلام الغرفة.
كانت تلك الإيماءة البسيطة أقسى من أي صرخة أو عتاب لقد كانت إعلانًا نهائيًا بأن قوته لم تعد تؤثر فيها، وضعفه لم يعد يستدعي شفقتها.
شعر ببرودة تجتاح جسده، برودة اليقين المطلق بالخسارة فتح باب سيارته، وانزلق إلى الداخل لم يعد رجلًا شامخًا، بل مجرد ظل باهت لنفسه.
❈-❈-❈
استيقظ أكمل على الفراغ البارد بجانبه مرة أخرى
فتح عينيه في ظلام الغرفة الخافت، ومد يده ليتأكد لكنه كان يعلم النتيجة مسبقاً.
لم تكن هناك.
هذه المرة لم يكن الأمر مجرد قلق أو حيرة لقد تحول الشك الذي كان يحاول كبته إلى يقين مرير
هناك شيء خاطئ، شيء كبير يحدث من وراء ظهره.
نهض من السرير بهدوء حذر ولم يكلف نفسه عناء ارتداء حذاءه.
نزل على أطراف أصابعه حافي القدمين حتى لا يصدر أي صوت قد ينبهها إلى استيقاظه.
كل حواسه كانت متيقظة، تتحرك معه في صمت تترقب المجهول.
عندما وصل إلى الطابق السفلي، سمع همسات قادمة من الخارج بالقرب من الباب الخلفي للمنزل المؤدي إلى الحديقة.
تجمد في مكانه واقترب من النافذة بحذر شديد يختبئ خلف الستار.
كانت صبر تقف هناك ترتدي عباءة فوق ملابس نومها، وفي مواجهتها كان يقف والدها حسان
كان صوته منخفضاً لكنه حاد كالشفرة، وصوت آخر صوت يعرفه أكمل جيداً... صوت الجشع والابتزاز.
همس "حسان" بغضب مكتوم.
_ يعني إيه خلصوا؟ الفلوس اللي بتديهالي دي متكفيش يومين إنتي عايشة في عز وهو بخيل عليكي ولا إيه؟
ردت صبر بصوت يرتجف بالخوف واليأس
_ والله العظيم ده كل اللي قدرت آخده من غير ما يحس هو بدأ يستغرب الفلوس بتروح فين مبقاش ينفع أطلب تاني دلوق.
ضحك حسان ضحكة خبيثة وقصيرة.
_ ميحسش؟ ده أنا صاحب الفضل عليكي في كل ده نسيتي ولا إيه؟ أنا اللي حطيتك في سكته.
أنا اللي طلعت الإشاعة في البلد كلها عشان أجبره يتجوزك وتعيشي في النعيم ده لولايا كان زمانك لساتك خدامة حداه، أو رماكي في الشارع، إن متصرفتيش في فلوس من هنا لبكرة انا هحكيله على كل حاجة واجوله على حجيجتك..
كان أكمل يستمع، وكل كلمة كانت كالصاعقة تضرب رأسه، كالمطرقة تهشم قلبه.
شعر بالدماء تغلي في عروقه، وببرودة جليدية تسري في أوصاله في نفس الوقت.
إذن كل شيء كان خدعة.
زواجه، سمعتها التي خاف عليها، شرفها الذي حاول حمايته... كلها كانت أجزاء من مؤامرة دنيئة حبكها هذا الرجل الحقير.
أكمل حسان تهديده، غير مدرك للمستمع الثالث في الظلام
_ اتفجانا كان واضح أنا أسيبك معاه، وإنتي تديني اللي أطلبه من وراه ده تمن سكاتي، وتمن العيشة اللي إنتي فيها فمتجيش تقوليلي دلوجيتي خلصوا
اتصرفي اسرقيه لو لزم الأمر جدامك يوم تجيبيلي المبلغ اللي طلبته، وإلا جسماً بالله لأروحله وأحكيله كل حاجة، وساعتها هشوف هيعمل فيكي إيه.
لم يستطع أكمل سماع المزيد.
لقد سمع ما يكفي ليدمر كل شيء جميل بناه في خياله
الصورة التي رسمها لها الفتاة البريئة القوية التي حاربت من أجله، تحطمت في لحظة وتحولت إلى مجرد شريكة في مؤامرة قذرة.
تراجع ببطء إلى الخلف، بنفس الهدوء الذي نزل به لكن روحه كانت تصرخ.
صعد إلى غرفته، وجلس على حافة السرير في الظلام، ينتظر عودتها.
لم يعد أكمل الحنون العاشق
لقد عاد وكيل النيابة البارد، القاسي الذي ينظر إلى المتهمة التي خدعته، وينتظر اللحظة المناسبة ليبدأ استجوابه.
❈-❈-❈
كانت صدمة أكمل أكبر من أن توصف لم تكن مجرد خيانة، بل كانت انهياراً كاملاً لكل ما آمن به ووثق فيه خلال الأشهر الماضية.
كل لمسة كل كلمة حب، كل لحظة حميمية، أصبحت الآن ملوثة بكذبة كبيرة ومقززة.
جلس في الظلام لا يرى شيئاً، لا يشعر بشيء سوى غضب بارد كالثلج وألم حارق كالجمر.
