-->

رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 34 - جـ 1 - الثلاثاء 16/9/2025

 

قراءة رواية ثنايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ثنايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا الخولي


الفصل الرابع والثلاثون

الحزء الاول 

تم النشر الثلاثاء  

16/9/2025



كانت الغرفة هادئة إلا من صوت طي الملابس الذي كان يصدر عن مالك وهو يضعها بعناية في حقيبة سفره. 

كل قطعة يضعها كانت تبدو وكأنها حجر يلقيه في قلب روح التي كانت تجلس على حافة السرير، تراقبه في صمت وعيناها معلقتان بكل حركة من حركاته.


لم تعد قادرة على التحمل أكثر. انهمرت دموعها بصمت وخرج صوتها مخنوقاً ومبحوحاً من البكاء المكتوم.

_ يعني لازم تسافر برضك يا مالك؟


توقف مالك عن ترتيب الحقيبة فور سماعه لصوتها المنهار، استدار نحوها ببطء وقلبه يعتصر ألماً لرؤية دموعها التي كانت أغلى شيء عنده اقترب وجلس القرفصاء أمامها ومسح دموعها بأطراف أصابعه بحنان بالغ.

_ حبيبتي إنتي عارفة إنه ضروري لازم أروح أخلص كل أوراجي وحاچتي اللي هناك ده مجرد إجراء، وهكون هنا جنبك جبل ما تاخدي بالك إني مشيت.


نظرت إليه بعينين متوسلتين وتشبثت بيده كغريق يتعلق بقشة نجاة.

_ طب خدني معاك مجدرش أجعد إهنه لى حاللى من غيرك.

ابتسم مالك ابتسامة حنونة وهز رأسه برفق.

_ يا روح جلبي إزاي بس؟ السفر دلوجت متعب وخطر عليكي وعلى اللي في بطنك أنا مجدرش أخاطر بيكوا أبداً كلها يومين واعاود وهتلاجيني جدامك أوعدك.


لكن كلماته لم تهدئها بل زادت من بكائها شعرت بالخوف من فكرة ابتعاده عنها حتى لو لساعات.

_ لاه... متسبنيش أنا بخاف وأنت مش چارى.


هنا لم يعد مالك قادراً على المقاومة ضعف أمام دموعها كما يضعف دائماً ترك الحقيبة المفتوحة وكل ما كان يفعله ونهض ليجلس بجانبها على السرير، سحبها برفق إلى حضنه وضمها بقوة كأنه يريد أن يخبئها عن العالم كله داخل ضلوعه.


دفن وجهه في شعرها يستنشق رائحتها التي أصبحت إدمانه وهمس في أذنها بصوتٍ عميق ودافئ

_ ششش... اهدي يا عمري أنا جارك أهه ومستحيل أهملك إنتي فاهمة؟ كل دجة جلب فيا بتنادي باسمك كل نفس باخده عشانك، السفر ده مچرد خطوة عشان نجفل صفحة جديمة، ونبتدي صفحتنا إحنا على أرضنا ووسط أهلنا.

رفع وجهها بيديه وجعلها تنظر في عينيه مباشرة كانت نظراته بحراً من العشق والحنان، نظرات قادرة على إغراقها في عالم من الأمان.

_ كل يوم بيعدي حبي ليكي بيكبر أكتر، بجيت مش بس بحبك، أنا بتنفس حبك إنتي الهوا اللي بعيش بيه.

لم تستطع روح أن تنطق بكلمة كانت غارقة في عينيه في صدق مشاعره التي لم تعد الكلمات قادرة على وصفها.

انحنى مالك ببطء وقبّلها. 

لم تكن قبلة عادية كانت وعداً بالأمان وعهداً بالبقاء. 

كانت قبلة طويلة عميقة ورومانسية، تحمل كل الشوق الذي يشعر به وكل الخوف من أن يفقدها. 

نسي أمر السفر ونسي الحقيبة ونسي العالم الخارجي لم يعد في عالمه سوى هي.


بين ذراعيه شعرت روح بأنها في حصنها المنيع، وأن كل مخاوفها تذوب وتتلاشى استسلمت لمشاعره الجارفة وبادلته قبلته بنفس الشغف، مدركةً في تلك اللحظة أن حب مالك أصبح هو وطنها الذي لا يمكن أن تبتعد عنه أبداً.


❈-❈-❈


كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب تلقي بظلال طويلة على الأرض الزراعية الخصبة وقف جاسر هناك، متكئاً على سيارته ينتظر في المكان المتفق عليه مكان محايد بعيد عن أعين العائلتين لم يطل انتظاره فقد ظهرت سيارة مالك من بعيد، تقترب بسرعة ثم تتوقف على بعد أمتار قليلة مثيرة سحابة من الغبار.


ترجل مالك من سيارته ووجهه متجهم كصخرة صوان.

سار نحو جاسر بخطوات ثابتة، وكل خطوة كانت تنضح بالرفض المسبق.

بدأ مالك الحديث مباشرة دون مقدمات وصوته جاف كأرض عطشى.

_خير يا جاسر؟

وقف جاسر مستقيماً وتحدث بقوة

_كل خير ان شاء الله، عايزك تساعدني أرچع مرتي.

قطب مالك جبينه بصدمة كأنه لم يسمع جيداً.

_ أساعدك في إيه؟

_ أخطفها.

قالها جاسر ببرود تام كأنه يطلب كوباً من الماء.

هنا انفجر مالك ولم يعد يستطيع التحكم باعصابه التي يثيرها ذلك الرجل

تقدم خطوة بغضب وصاح في وجهه بصوت لا يصدق صوت ممزوج بالاشمئزاز والغضب.

_ إنت اتهبلت في نفوخك ياك ؟! عايزني أساعدك توخطف بت عمي؟! بت الرفاعي؟!


لم يهتز جاسر رد بفتوره المعتاد وكأن ما يطلبه حق مكتسب لا نقاش فيه.

_ مبجتش بنت عمك وبس هى كمان بجت مرتي.


رد مالك بحدة وعيناه تقدحان شرراً.

_ بالجوة مش بالرضا

جوازك منيها كان غصبت عنيها وخطفك ليها مش برضاها ولا برضا أهلها!


رد جاسر بلهجة يشوبها بعض من الهدوء المنطقي، كمعلم يشرح لتلميذ غاضب

_ بس ده ميمنعش إنها بجت مرتي شرعاً وقانوناً ومن حجي أطالب بيها.

تابع بمغزى

_ واللي حوصل بينا يخليني أجولك أنها قولاً وفعلاً مرتي.


قطب مالك جبينه بصدمة أشد محاولاً فهم التلميح الخفي في كلمات جاسر.

_ كيف يعني؟ جصدك إيه؟

اقترب جاسر خطوة وعيناه الباردتان تحدقان مباشرة في عيني مالك المشتعلتين.

_ يعني زي ما فهمتها أو زي ما مش رايد تفهمها، أنا ونغم... زوجين عاديين.


كانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير لم يستطع مالك تحمل هذه الإهانة، هذه الصورة التي رسمها جاسر بكلماته. 

اندفع بغيرة عمياء على شرف ابنة عمه، ورفع قبضته ليوجهها بكل قوته إلى وجه جاسر البارد.


لكن جاسر كان أسرع وبحركة خاطفة أمسك بقبضة مالك في الهواء، قبل أن تصيبه بسنتيمترات كانت قبضته فولاذية، أوقفت اندفاع مالك تماماً اشتد الصراع بينهما للحظات، كل منهما يختبر قوة الآخر في صمت.

فقط قوة النظرات 

قال جاسر بشدة ونبرته تحمل تحذيراً واضحاً وهو مازال ممسكاً بقبضة مالك

_ مش هحاسبك على اللي عملته ده لإني مجدر غيرتك على بنت عمك.

ثم وبقوة مفاجئة دفع يد مالك بعيداً عنه، وتقدم منه خطوة أخرى ليصبح صدره يكاد يلامس صدر مالك وقال بثقة وهدوء قاتل

_ بس الغيرة دي مش من چوزها

فاهم حاچة زي دي؟ 

أنا جلبي جاسي صحيح واتربيت على الجسوة بس في نفس الوجت اتربيت على الأصول ومرتي... خط أحمر.

تطلع إليه مالك بازدراء ونفض يده من قبضته وهو يقول باتهام

_وهي الأصول برضك تخليك تسمح تتعدى عليها.

_انا متعدتش عليها ولا انا ممكن أجبر واحدة على حاچة زي دي، الموضوع ده كان برضى بينا.

وبما انك السبب فانت مجبر تساعدني.


قطب مالك جبينه بدهشة

_أني السبب في ايه؟

رفع جاسر حاجبيه بسخرية

_انت خابر زين اني أجصد ايه، نغم سابت البيت لما عرفت بچوازي من بت عمي...مين بجا كان السبب في الچوازة دي.

علم مالك أن ذلك الرجل يملك من الذكاء ما لا يستهان به وعليه أن يكون حذر معه.

_حتى لو، مينفعش تطلب مني اساعدك تخطفها.

تحدث جاسر بثقة

_ورد التهامي، هديها حقها في أملاك چدي وحتى في السرايا اللي جاعدين فيها، وهجبر عمي يعلن مسامحته لها جدام البلد كلايتها، وهمحي تهديده لها، يعني هتجدر تعيش بأمان بعد النهاردة، بالنسبة لنغم

أني هأمنلها حياتها معايا زين وكل شروطها هنفذها أيا كانت 

ده كل اللي أجدر اجدمه دلوجت، فكر زين ورد عليا.

فتح جاسر باب سيارته واستقل بها ثم تحدث بثقة

_اني جد كلمتي وانت خابر إكدة زين.

انطلق جاسر بسيارته تاركاً مالك يفكر في عرضه.


❈-❈-❈


بدأت نغم تخرج من قوقعتها شيئاً فشيئاً أصبحت تحمل عدي الصغير معظم الوقت كأنه تعويذة تحميها من أفكارها ومرساة تربطها بالحاضر كانت رائحته، أنفاسه الصغيرة، دفء جسده بين ذراعيها كل ذلك كان يمنحها شعوراً بالسلام لم تعرفه منذ زمن.

بدأت تنزل وتجلس مع جدها وعمها تتبادل معهم كلمات قليلة لكن عينيها كانتا تحملان دائماً ذلك العتاب الصامت، عتاب من شعر بأنه تُرك وحيداً في مواجهة مصيره.

مهما برروا مواقفهم

سيظل ما حدث نقطة سوداء في حياتها

لذلك تصغط على جاسر كي ترى إلى متى هيستكر في تمسكه بها 

لاحظ سالم هذا العتاب كان يراقبها كل يوم يرى كيف تحاول أن تكون قوية ويرى أيضاً كيف ينكسر هذا القناع عندما تظن أن لا أحد يراها.

وفي إحدى الأمسيات بعد أن صعدت إلى غرفتها، قرر أن الوقت قد حان لكسر هذا الحاجز الجليدي


صعد خلفها وطرق على باب غرفتها طرقاً خفيفاً

_ نغم ممكن أتكلم معاكي شوية


فتحت الباب وهي لا تزال تحمل عدي الذي كان يغفو بين ذراعيها رحبت به بالطبع، فعمها سالم كان دائماً الأقرب إلى قلبها هو الذي رباها بعد وفاة والدها وله مكانة خاصة لا ينازعه فيها أحد.


دخل سالم وجلس على طرف الأريكة، بينما جلست هي أمامه تعدل من وضع عدي في حضنها بحنان أمومي فطري، نظر إليها سالم بابتسامة حانية وهو يرى كيف تتعلق بالصغير

_ شايفك خدتي الواد من أمه وأبوه، عقبالك يا بنت الغالي لما أشيل ولدك إكده.


سقطت الكلمة على قلب نغم كقطعة جمر "عقبالك" أي عقبال هذا؟ لقد انتهى كل شيء.

شعرت بغصة حارقة في حلقها وانكسرت نظرتها وهربت عيناها إلى وجه الرضيع النائم لتخفي حزناً عميقاً مر في ملامحها.

كيف لها أن تتزوج أو تنجب بعد أن سلمت نفسها لجاسر، لقد حكمت على نفسها بالوحدة الأبدية.


لم يفت هذا الانكسار على سالم لقد رآه بوضوح وتأثر قلبه لألمها الذي تحاول إخفاءه تنهد تنهيدة طويلة وقرر أن يفتح قلبه ويكشف كل الأوراق.

_ نغم بصيلي.

رفعت عينيها إليه بتردد

قال بنبرة جادة وحنونة 

_ أنا خابر إنتي بتفكري كيف

وخابر إنك شايلة في جلبك مني ومن جدك، حاسه إننا اتخلينا عنيكى بس وحياة الغالي اللي راح ده ماحوصول.

صمت للحظة يجمع كلماته

_كل الحكاية يا بنتي إننا كنا في موقف صعب كان لازم أطاطي في الوقت ده، لو كنت دخلت معاه في تحدي وجتها كان صخر هياخدها حجة ويشهر بالموضوع في البلد كلايتها، كان هيعند وكان هيخلي سيرتك على كل لسان، عشان يكسرنا بيكي.

كان لازمن نهدي اللعب عشان أنا عارف جاسر وعارف تفكيره، كنت عامل حساب يوم زي ده يوم هيرد فيه اللي حصله زمان، بس كنت فاكر إنه هيترد لوعد مش ليكي إنتي يا بنت الغالي، عشان إكده كنت موصي وعد ومفهمها إنه مش هيسكت إلا لما يردها.


أكمل بصوت يملؤه الأسف

_ خوفي كان عليكم كلكم مكنتش بخلي واحدة منكم تخرچ من باب السرايا من غير ما يكون حد من الرچالة معاها، واليوم الوحيد اللي رچعتي فيه لوحدك من الچامعة حوصل اللي حوصل كان ممكن لو چيتي وحكتيلي، كنت عملتلك حراسة تدخل معاكي جلب الچامعة لو لزم الأمر بس.

بس بنرجع نجول نصيب

أنا متخلتش عنك بمزاجي وإنتي خابرة غلاوتك عندي جد إيه، غلاوتك أكتر حتى من ولادي متفتكريش إن الأيام اللي عدت عليا وإنتي بعيدة كانت سهلة، ولا اللحظة اللي سبتك فيها لوحدك معاه ورچعت كانت هينة.

دي كسرت جلبي عليكي ألف حتة بس الحمد لله دعواتي ودعوات جدك ربنا استجاب ليها ورجعتي تاني لحضني.


كانت نغم تستمع ودموعها تتجمع في عينيها، لم تكن تعرف بكل هذه التفاصيل.

قال سالم وهو يغير نبرته إلى الجدية.

_ بس فيه كلمتين رايد أجولهم في حج جاسر، التهامية صحيح جلبهم جاسي وميعرفوش الرحمة بس جاسر غيرهم، جاسر راچل بجد ودي حاچة محدش يجدر ينكرها والدليل على إكده إنه رفض يدي الفرصة لعمه إنه يشهر بينا، ووجف جصاده بنفسه.

هو الوحيد فيهم اللي ممكن أآمن عليكي معاه.


انحنى سالم قليلاً ونظر في عينيها مباشرة

_ عارفة إنه بعد ما رچعتي! چاه تاني چاني وعرض عليا ينهي التار ويتنازل عن الأرض كلها في مجابل إنك ترچعيله ودي حاچة مش بالساهل عليه أبداً.

عارفة ده معناه إيه؟ معناه إنه هيفتح على نفسه نار چهنم مع عمه ومش بعيد صخر يجتله فيها.


شهقت نغم بخوف حقيقي ووضعت يدها على فمها وعيناها اتسعتا بصدمة.

_كان ممكن أوافق على نصيبنا من الأرض اللي جدنا شقي وتعب فيها، بس رفضت عشان خفت عليه.

صحيح غولط في حجنا كتير، بس هو اللي كان ضاغط على عمه يوجف التار.

تنهد سالم وهو يتابع

_وكفاية جوي انه تغاضى عن اللي عمله عدي، كان ممكن ياخدها فرصة ويكمل اللي بدأه واللي عمه سجاه له سنين طويلة، ورفض يبهدل عدي وأصر انه يتنازل.

لازمن زي ما بنفتكر العيوب نفتكر المواجف الزينة يا نغم.

لاحظ سالم التردد بعينيها

هنا في هذه اللحظة تأكد سالم من شكوكه، لقد رأى الحب والخوف الصادق على جاسر في عينيها


ابتسم سالم ابتسامة حزينة وتابع كي يتأكد أكثر

_ صخر بيستخدم جاسر يا نغم، بيستخدمه وسيلة عشان ينتجم مننا بيه عشان يخليه هو اللي في وش المدفع لو جاسر اتجتل في التار صخر هياخد كل حاجة، ولو عاش هيچوزه بته شروق وبرضك هياخد كل حاچة، ويبجى ضمن إن جاسر تحت چناحه.


قالت نغم بحرقة كأنها تدافع عن نفسها من أمل بدأ يتسلل إليها.

_ بس هو فعلاً اتچوزها.

هز سالم رأسه

_ ده مش چواز يا بنيتي، ده ورج على يد مأذون عشان يسكتوا بيه الناس، واللي عرفته من فرح هناك إن كل واحد منهم في أوضة ولما عمه معجبوش الحال بجى بينام على الكنبايه، الراجل بجاله شهور متجوزها على الورج ومهوبش نواحيها، وده في عرفنا إحنا قمة الوفاء ليكي.


صمتت نغم تماماً وعقلها يدور يحاول استيعاب كل هذه الحقائق الجديدة، لقد تغيرت الصورة تماماً، الرجل الذي ظنته جلادها كان في الحقيقة سجينها وسجين حبه لها، وكان يحارب معارك لم تكن تعرف عنها شيئاً

_بس أني مستحيل أرچع على ضرة.

ابتسم سالم وهنا شكه أصبح يقين

نهض سالم وهو يقول

_حجك يابنيتى، بس اتكلمي معاه وافرضى شروطك، وافج عليها كان بها، موافجش يبجى هو اللي أختار، فكري زين جبل ما تخطي اي خطوة.


خرج سالم وتركها في حيرة من أمرها..

غدا اول امتحاناتها بعد عودتها من الامتحان ستطلب مقابلته وستضع شروطها..


❈-❈-❈


بعد ليلة طويلة من التردد والصراع الداخلي، وجدت نغم نفسها تحدق في اسم "جاسر" على شاشة هاتفها مع أولى خيوط الفجر. 

كان الاسم يضيء في الظلام كأنه منارة تدعوها أو جمرة توشك أن تحرقها، لا تعرف إذا كان ما تنوي فعله خطأً أم صواباً.


قلبها كان يتوسل إليها:

"اتصلي به، كلمة واحدة ستنهي هذا العذاب اسمعي صوته، اشعري بوجوده هو أمانك هو وطنك، مهما حدث، لم يتخلى الدا ويظل يسعى خلفك يتمنى نظرة واحدة منكِ، كفى عذاب"


وعقلها كان يصرخ بغضب:

"إياكي! هل نسيتِ؟ هل نسيتِ الخوف، الإهانة، السيطرة؟ هل نسيتِ أنه استخدم ألمك ورعبك كسلاح ضدك؟ الاتصال به هو استسلام، هو عودة إلى القفص الذهبي الذي كدتِ تموتين فيه."


ألقت الهاتف على الفراش بجوارها بعنف، كأنها تلقي بثعبان سام

لقد غلبها عقلها في هذه الجولة،

نهضت من الفراش وشعرت بأن الغرفة تضيق عليها، بأن الجدران تقترب لتهرسها توجهت إلى الشرفة، تبحث عن نسمة هواء عن أي شيء يزيح هذا الثقل الجاثم على صدرها.


وقفت في هواء الفجر البارد، الذي لف جسدها لكنه لم يستطع أن يبرد نيران روحها. 

نظرت إلى الحديقة الشاسعة بالأسفل، التي كانت لا تزال نائمة تحت طبقة خفيفة من الندى. 

وفجأة ودون سابق إنذار قفزت بها ذاكرتها إلى ذلك اليوم.


اليوم الذي جاء فيه إلى هنا، إلى هذا القصر ليرجوها أن تعود.


تخيلته واقفاً هناك بالأسفل بكامل هيبته وشموخه، لكن عينيه كانتا تحملان انكساراً لم تره إلا لها. 

تذكرت كلماته صوته الأجش وهو يتوسلها وكيف كان كل حرف ينطقه يهدم جزءاً من جدار كبريائه

ثم تذكرت اللحظة الأقسى لحظة رحيله.

رأته في المرة الثانية

رأته في ذاكرتها وهو يتجه إلى سيارته بخطوات ثقيلة، خطوات رجل خسر معركته الأخيرة وقبل أن يركب، توقف ورفع رأسه ببطء كأنه كان يعرف أنها تراقبه من هذه الشرفة بالذات. 

التقت أعينهما عبر المسافة وفي تلك اللحظة، شعرت بأن الزمن قد توقف.


لم تكن نظراته غاضبة لم تكن قاسية. 

كانت مزيجاً قاتلاً من العتاب والرجاء


عتاب صامت يسألها: 

"لماذا؟ كيف لقلبك أن يقسو هكذا؟ ألا ترين روحي وهي تحترق أمامك؟"

ورجاء يائس يتوسلها: 

"لا تتركيني لا تفعلي هذا بنا نظرة واحدة منكِ، كلمة واحدة وسأعود لأحارب العالم كله من أجلك."


كانت نظرات عارية تماماً، تكشف عن روح رجل قوي فخور لا ينحني لأحد، لكنه الآن جاثٍ على ركبتيه أمام حبها، متجرداً من كل أسلحته إلا من صدق مشاعره.

الصفحة التالية