-->

رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 32 - جـ 1 - الإثنين 15/9/2025

 

قراءة رواية ثنايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ثنايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا الخولي


الفصل الثاني والثلاثون

الحزء الأول 

تم النشر الإثنين  

15/9/2025



لم تكن الأشهر الستة الماضية سهلة على صبر لكنها كانت ضرورية

لقد عاشت في شقة صديقتها ليان التي فتحت لها بيتها وقلبها دون تردد 

كانت هذه الشقة هي ملجأها الآمن، شاهدة على دموعها في الليالي الأولى، ثم على صمودها وقوتها التي بدأت تنمو يوماً بعد يوم. 

وشهدت الشقة أيضاً على فرحة ليان التي لا توصف عندما تصالحت أخيراً مع زوجها حازم الذي أثبت حبه لها وعاد ليحتويها ويحتوي صديقتها معها، مقدماً لهما كل الدعم.


في إحدى الأمسيات عادت صبر إلى الشقة وخطواتها أصبحت أبطأ وأثقل من المعتاد كانت تعمل بدوام جزئي في أتيليه صغير لتصميم الأزياء، عملاً وجدته لها ليان لتساعدها على تغطية مصاريفها وتشغل وقتها. 

كان العمل يرهقها خاصة وأنها الآن في شهرها السابع من الحمل، وبطنها المستديرة أصبحت دليلاً واضحاً على السر الذي تحمله بداخلها. 

كان الإجهاد والتعب قد بدآ يتركان بصماتهما الواضحة على وجهها الشاحب.


دخلت لتجد ليان تضع اللمسات الأخيرة على حقيبة سفرها استعداداً للانتقال والعودة إلى منزلها مع حازم بشكل نهائي. 

ما إن رأت ليان حالة صبر حتى تركت ما في يدها واقتربت منها بقلق.

_ صبر! وشك أصفر كده ليه؟ أنا مش قولتلك مية مرة بلاش شغل النهاردة؟ امتحاناتك آخر الأسبوع والمفروض تكوني مرتاحة.

جلست صبر على الأريكة بتعب، ووضعت يدها على ظهرها لتخفف الألم.

_ أنا كويسة يا ليان متجلجيش شوية إرهاق وهيروحوا وبعدين الشغل على الأجل بيشغلني شوية عن التفكير.


نظرت إليها ليان بعتاب.

_ بيشغلك عن التفكير ولا عشان الفلوس؟ أنا مش قلتلك إن حازم بيبعت فلوس زيادة كل شهر بتكفينا وتفيض، ليه مصممة تتعبي نفسك كده؟

قالت صبر بهدوء وإصرار.

_ عشان مش رايدة أبجى تجيلة على حدا يا ليان. 

كفاية جوي إنك فتحتيلي بيتك واستحملتيني كل الفترة دي لازم أعتمد على نفسي.


تنهدت ليان بيأس من عناد صديقتها.

_ طيب قومي دلوقتي ارتاحي في أوضتك وأنا هحضرلك العشا وأجيبهولك لحد عندك.

_ لأ خليكي إنتي كملي حاجتك أنا هجوم أعمل أي حاچة خفيفة إكده..

قالت ليان بحزم

_ مفيش قومان واللي انتي متعرفهوش إن حازم بعتلنا أكل جاهز وبزيادة كمان، قومي يلا اسمعي الكلام وارتاحي عشان خاطر اللي في بطنك ده على الاقل.

استسلمت صبر ونهضت ببطء لتتجه إلى غرفتها جلست ليان بجانبها على السرير وهي تشعر بالقلق عليها 

قالت بحنان

_ أنا قلقانة عليكي أوي يا صبر لما أمشي هتعملي إيه لوحدك؟ الشقة دي هتبقى كبيرة وفاضية عليكي.

ردت صبر وهي تمسك بيدها

_ متجلجيش عليا أنا هبجى زينه وبعدين إنتي مش هتسيبيني، هتفضلي تزوريني وتطمني عليا.

_ طبعاً هجيلك ومش هسيبك 

بس... 

ترددت ليان فيما تود قوله

لكن صبر كانت تعلم ما تود التحدث بها فقالت برفض

_مبسش..أكمل خلاص خرچ نفسه من حياتي، مينفعش اروح له وأفرض نفسي عليه، ابسط ما فيها هيجول إني عملت إكدة عشان استعطفه بابنه وده اللي مستحيل اجبله عليا وعلى ابني.


_بس ده حقه...من حقه يعرف بابنه.

تغيرت ملامح صبر وظهر عليها الحزن.

_عايزاني أجوله إيه يا ليان؟ أجوله إني حامل منه وهو طردني من بيته وجالي إنه بيكرهني؟ 

هو نسيني وعايش حياته في القاهرة 

أنا وابني هنعيش لوحدنا، بكرامتنا مش محتاجين شفجة من حد.


قالت ليان بروية

_بس هو معذور أي حد مكانه كان هيعمل كدة..

ردت صبر بوجع

_كان على الاجل واجهني...كان اتأكد مني وسمعني وبعدها مكنتش هلومه او أعتب عليه لو رماني في الشارع، بس كان اداني فرصة ادافع عن نفسي.


انتهى حديثها بنحيب ثم تابعت 

_مش محتاچة شفجة منيه مش محتاچة يا ليان

احتضنتها ليان بقوة.

_ إنتي مش محتاجة شفقة من حد يا حبيبتي، وانا معاكي ومش هسيبك..

ابعدتها عنها قليلاً ومسحت دموعها بابتسامة داعمة

_إنتي أقوى ست أنا عرفتها يا صبر بس كل الحكاية إني خايفة عليكي من اللي جاي.

الولادة والمسؤولية... الموضوع مش سهل.

قالت صبر بيقين هادئ

_ ربنا معايا زي ما كان معايا الست شهور اللي فاتوا، هيبجى معايا في اللي چاي.

ابتعدت صبر قليلاً لتمسح دموعها.

_ ربنا ما يحرمني منيكى يا ليان.

ابتسمت ليان بحب

_ولا يحرمني منك يا صبر وهفضل دايمًا جانبك وفي ضهرك.


ابتسمت صبر بامتنان.

_احنا جلبناها حزن ليه إنتي لازم تفرحي دلوجت عشان هتروحي لبنتك ولچوزك.

أنا هبجى زينه بوعدك.


كان وعداً نطقت به لسانها، لكن قلبها كان يعلم أن الطريق أمامها لا يزال طويلاً وشاقاً، وأن قوتها ستُختبر مرات ومرات.


❈-❈-❈


عاد أكمل إلى حياته القديمة، أو على الأقل هذا ما كان يحاول إقناع نفسه والجميع به.

ارتدى قناع وكيل النيابة البارد والعملي وعاد ليظهر في المناسبات الاجتماعية بجانب خطيبته السابقة ليلى التي استقبلت عودته بانتصار لم تحاول إخفاءه.


كان يجلس في أحد المطاعم الفاخرة مع مالك الذي كان في زيارة عمل سريعة للقاهرة

كانت ليلى قد غادرت لتوها بعد عشاء ممل لم يتبادلا فيه سوى كلمات قليلة ومجاملات باردة.


نظر إليه مالك مباشرة، لم يكن من النوع الذي يدور حول الموضوع.

_ ليه رجعتلها يا أكمل؟


رفع أكمل عينيه عن فنجان قهوته، وكانت نظرته فارغة.

_ رجعت لمين؟

قال مالك بوضوح.

_ لـ ليلى إنت خابر زين جوي هي عايزة منيك إيه. 

خابر إنها مش بتبص لشخصك، جد ما بتبص لمنصبك للواجهة الاجتماعية اللي بتاخدها من وچودها جنبك، ليه رچعتلها تاني بعد كل اللي حو صل؟


أخذ أكمل نفساً عميقاً، وأشعل سيجارة وهي عادة لم يمارسها إلا عندما يشعر بالاختناق.

وقال بمرارة واضحة

_ عشان مبقاش عندي ثقة في أي حد يا مالك، على الأقل ليلى واضحة

أنا عارف هي عايزة إيه، وعارف نواياها

مفيش مفاجآت مفيش أقنعة ممكن تقع

يعني اللي أعرفه... بقى أحسن من اللي معرفوش.


صمت مالك مدركاً حجم الجرح الذي لم يندمل بعد في قلب صديقه.

كانت هذه هي حياة أكمل الجديدة

نهاراً، كان وكيل النيابة الذي لا يرحم يغرق نفسه في أكوام القضايا، يعمل بضراوة لساعات طويلة يتخذ من العمل درعاً يحتمي به من ذكرياته. 


ومساءً كان يؤدي دوره الاجتماعي، يظهر مع ليلى في المناسبات ويصافح الناس لكن عينيه كانتا ميتتين.

لكن الكابوس الحقيقي كان يبدأ عندما يختلي بنفسه.

عندما يعود إلى غرفته الفارغة ويجلس وحيداً في الظلام، كانت كل دفاعاته تنهار

كان يغمض عينيه فيرى وجه صبر

يرى خجلها ابتسامتها، نظرة الحب في عينيها

يتذكر ملمس شعرها دفء جسدها بجانبه صوت ضحكتها

يتذكر كيف كانت تشاركه شغفه بالكتب، وكيف كانت تستمع إليه باهتمام وهو يتحدث عن عمله

ثم كالعادة تأتي الطعنة.


يتذكر صوت والدها وهو يبتزها في ظلام الفجر. 

يتذكر اعترافه بأنه هو من دبر كل شيء

يتذكر نظرة الصدمة والرعب على وجهها عندما رأته. 

هذه الصورة الأخيرة كانت تمحو كل الذكريات الجميلة، وتحولها إلى سم يسري في عروقه.


كان أحياناً ينزل الصعيد لأشياء ضرورية يجلس على حافة سريره، نفس السرير الذي شهد على حبهما، ويمسك رأسه بين يديه يشعر بأنه سيفقد عقله. 

كيف يمكن للحب أن يكون بهذا القدر من الخداع؟ كيف يمكن للبراءة أن تخفي كل هذا القدر من الدهاء؟


في إحدى الليالي وبينما كان يقلب في أوراقه سقطت عينه على قضية نصب واحتيال، بطلتها فتاة استغلت ثقة رجل أعمال وأخذت منه أمواله

وجد نفسه يقرأ تفاصيل القضية بغضب شخصي وكأن كل قضية خيانة تمر عليه هي قضية صبر. 

أصبح أكثر قسوة في أحكامه، وأكثر تشككاً في نوايا الجميع.

لقد بنى أكمل سجناً حول قلبه وألقى بمفتاحه بعيداً. 

كان يعيش، يتنفس، ويعمل، لكنه في الحقيقة لم يكن حياً كان مجرد رجل يؤدي دوره في الحياة بينما روحه لا تزال عالقة هناك في تلك اللحظة المظلمة عند باب بيته في البلدة، اللحظة التي تحطمت فيها ثقته في الحب... وفي كل شيء.


❈-❈-❈

كانت حقائب ليان تقف عند الباب، شاهدة صامتة على نهاية فصل وبداية آخر. 

وقفت الصديقتان في بهو الشقة الصغير تتعانقان في وداع أخير كان كل منهما يؤجله طوال الصباح كانت صبر تبكي بصمت، دموعها تنزل بغزارة على كتف صديقتها، بينما كانت ليان نفسها تكافح لحبس دموعها، تشعر بقلبها يتمزق وهي تترك صبر في هذه الحالة.

قالت ليان بصوت مختنق وهي تربت على ظهرها.

_ خلاص بقى يا صبر هتقطعيلي قلبي والله ما كنتيش عايزة أسيبك، بس إنتي عارفة... حازم جهز كل حاجة ومينفعش أفضل بعيد عن بيتي أكتر من كده.


ابتعدت صبر عنها ومسحت دموعها بكف يدها محاولة أن تبدو قوية.

_ أنا... أنا خابره متجلجيش عليا أنا بس...

لم تستطع إكمال الجملة، فقد خانها صوتها.

أمسكت ليان بوجهها بين يديها ونظرت في عينيها بحنان.

_ اسمعيني كويس الشقة دي إيجارها مدفوع لأربع شهور قدام بعتلك مبلغ كويس حطيته في الدولاب عشان مصاريفك ومصاريف الولادة.

رفضت صبر بإصرار 

_لأ مش هاخدهم انا عاملة حساب كل حاچة.

_أرجوكي يا صبر ريحيني وخليهم معاكي احتياطي، وبعدين انا مش هسيبك هجيلك على طول ووقت الولادة مش هسيبك لحظة واحدة

متفكريش في أي حاجة غير نفسك واللي في بطنك وأنا كل يومين هتلاقيني عندك، مش هسيبك ده وعد.


هزت صبر رأسها عاجزة عن الكلام كانت تعلم أن ليان لن تتخلى عنها، لكن فكرة البقاء وحيدة في هذه الشقة كانت ترعبها.


دق بوق سيارة حازم في الأسفل معلناً أن وقت الرحيل قد حان.

احتضنت ليان صديقتها مرة أخيرة قبلة سريعة على جبينها، ثم التقطت حقيبتها وخرجت بسرعة قبل أن تنهار هي الأخرى.


أغلقت صبر الباب خلفها واستندت عليه بظهرها. 

وفجأة، سقط عليها صمت المنزل كغطاء ثقيل

لم يعد هناك صوت ضحكات ليان، لم يعد هناك صوت التلفاز لم يعد هناك صوت خطواتها وهي تتحرك في الشقة

فقط صمت

صمت وموحش.

تجولت في الشقة الفارغة كل ركن فيها يذكرها بصديقتها التي رحلت

ثم، وكأن بوابات الذاكرة قد فُتحت على مصراعيها بدأت ذكرياتها مع أكمل تهاجمها بلا رحمة.


وقفت في المطبخ فتذكرت وقفته خلفها وهو يراقبها، نظراته الجائعة التي كانت ترعبها وتسعدها في آن واحد. 

مرت بجانب طاولة الطعام فتذكرت جلوسها للمذاكرة وفستانها القصير ونظرته المصدومة التي تحولت إلى رغبة. 

تذكرت كيف جذبها إليه، واعترافها الذي خرج رغماً عنها: "عايزة قلبك".


صعدت إلى غرفة نومها وجلست على حافة السرير. 

السرير الذي شهد على استسلامها له، على حنانه غير المتوقع، على لياليهما التي كانت تمحو كل ألم النهار. 

تذكرت كيف كان يحتضنها، وكيف كان يشرح لها دروسها بصبر وكيف كان يغار عليها من نسمة الهواء.


وضعت يدها على بطنها وبدأت تحدث نفسها بصوت مسموع، كأنها تحاول طرد الصمت.

_ ليه يا أكمل؟ ليه عملت فيا إكده؟ 

همست والدموع تعود لتغرق وجهها. 

_ أنا حبيتك... والله حبيتك من قبل ما تعرفني حبيتك وإنت وكيل النيابة الجاسي اللي البلد كلايتها بتخاف منيه، حبيتك وإنت الراجل الحنين اللي مكنش حد يعرفه غيري.


نظرت إلى بطنها مرة أخرى، وتحدثت إلى جنينها.

_ سابنا ومسألش فينا بس أنا مش هسيبك أنا هبجى ليك الأب والأم

وهربيك أحسن تربية، وهخليك تفتخر بيا مش هنحتاچله... مش هنحتاچ لحد.


كانت تقول الكلمات لتقوي نفسها، لكن في داخلها كان هناك فراغ كبير فراغ على شكل "أكمل"، فراغ كانت تعلم أنه لن يمتلئ أبداً. 

لقد أدركت في تلك اللحظة وهي وحيدة في شقة فارغة، أنها لم تخسر زوجها فقط بل خسرت حب حياتها، وخسرت الأمان وخسرت الحلم الذي عاشته لأشهر قليلة، قبل أن تستيقظ على هذا الواقع المؤلم.


❈-❈-❈


كانت روح تقف أمام خزانة ملابسها المفتوحة وقد تحولت الغرفة إلى معرض صغير من الفساتين الملقاة على السرير والكرسي. 

كانت تقف أمام المرآة الطويلة تمسك بفستان أزرق رقيق وتقارنه بجسدها، ثم تعيده إلى كومة "المرفوضات" بتجهم.


تنهدت بعمق وشعرت بأن الدموع بدأت تتجمع في عينيها

لم يعد أي شيء يناسبها. 

كل الفساتين التي كانت تحبها أصبحت ضيقة وتلك التي تناسبها تجعلها تشعر بأنها ضخمة وغير جميلة

شعرت بالاختناق ليس فقط من تغير جسدها بل من فكرة أنها فقدت نفسها القديمة.

كان مالك يراقبها وهو مستلقي بأريحية على السرير وابتسامة سعيدة وهادئة مرسومة على شفتيه. 

كان يستمتع بحيرتها الطفولية ويرى في هذا التغير جمالاً لم تره هي بعد منذ أن طلب منها أن يخرجا لتناول الغداء في مطعم هادئ بالخارج، وهي في هذه الدوامة لأكثر من نصف ساعة.


رأى كتفيها يرتجفان قليلاً، وأدرك أنها على وشك البكاء. 

نهض بهدوء واقترب منها من الخلف، ثم أحاطها بذراعيه برفق، واضعاً يديه على بطنها المنتفخة بحنان. 

أسند ذقنه على كتفها ونظر إلى انعكاسهما معًا في المرآة.

همس في أذنها بصوت دافئ

_ زعلانة ليه ياأجمل واحدة في الدنيا؟


قالت بصوت مخنوق وهي تشير بيدها إلى الفساتين

_ مفيش حاجة راضية تيجي على مجاسي بجيت شبه البالونة وكل اللبس شكله وحش عليا.

ابتسم مالك وقبّل خدها برقة.

_ بالعكس أني شايف إنك بجيتي بطايه أحلى من الاول وشك نور أكتر، وبجيتي شايلة چواكي أغلى حاچة في حياتنا إزاي متكونيش حلوة؟


أدارها برفق لتواجهه ومسح دمعة هاربة من عينها بإبهامه.

_ الفساتين دي هي اللي مبجتش تليج عليكي مش العكس إنتِ اللي كبرتي وبجيتي أحلى منيهم.


تركها للحظة واتجه نحو الخزانة وبدأ يقلب في الملابس بثقة وهدوء. 

سحب فستانًا بسيطًا بلون أخضر فاتح، مصنوعًا من قماش ناعم ومنسدل، بقصة واسعة تبدأ من تحت الصدر.

قدمه لها وهو يقول

_ جربي ده هيخليكي زي الأميرات.


نظرت إلى الفستان بتردد، لكنها أخذته منه وقامت بارتداءه

بعد الانتهاء نظرت إلى نفسها في المرآة بدهشة. 

كان الفستان مثالياً لقد أبرز جمال وجهها، وانسدل بنعومة على بطنها دون أن يجعلها تبدو ضخمة، بل أعطاها مظهراً أنثوياً حالماً.


التفتت إليه بابتسامة حقيقية هي الأولى منذ بدأت معركتها مع الملابس.

_ إزاي عرفت؟

اقترب منها مرة أخرى ومرر يده على شعرها.

_ لأني بشوفك بجلبي يا روح جلبى مش بعيني بس.

ثم أضاف بمرح

_ وبعدين متنسيش إن عندي خبرة في اختيار الهدايا ليكي من وإحنا صغيرين.

ضحكت بخفة وشعرت بأن كل الضيق قد تبخر.

أمسك بيدها وهو يقول

_ وعشان متتعبيش نفسيكى تاني، بعد الغدا هنروح على محل كبير، وهنختار مع بعض أحلى فستان عشان تحضري بيه فرح أكمل وليلى عايزك يومها تكوني أجمل واحدة في الفرح كله.


نظرت إليه بحب وامتنان وأدركت أنها محظوظة ليس فقط لأنه زوجها، بل لأنه الرجل الذي يفهمها ويحتويها ويرى الجمال فيها حتى عندما تعجز هي عن رؤيته.


❈-❈-❈


كان الفجر قد بدأ يزيح ستائر الليل عن سماء الصعيد، عندما خرج جاسر من بيت الجبل

لم يتجه نحو سيارته، بل سار بخطوات ثابتة نحو الإسطبل الصغير الذي أقامه خصيصًا هنا

كانت هذه عادته كل صباح عادة لم يغيرها حتى بعد كل ما حدث.

عندما فتح باب الإسطبل استقبله صهيل خافت صهيل يحمل في طياته قوة مكبوتة. 

كان بركان الحصان الأسود الفاحم الذي كان ذات يوم رمزًا للقوة والجمال الجامح، والذي كاد أن يفقده في تلك الليلة المشؤومة

اقترب جاسر منه ببطء، ومد يده ليلمس عنقه القوي كانت الندوب واضحة على جسد بركان، خطوط حمراء داكنة تشوه لمعان فرائه الأسود ندوب الحريق الذي كاد أن يلتهمه ندوب تشبه تلك التي يحملها جاسر في روحه وإن كانت غير مرئية.


تذكر جاسر كلمات الأطباء البيطريين في تلك الليلة. "الشفاء منه ميؤوس منه يا جاسر بيه الحروق عميقة، والتهابات شديدة الأفضل إننا نريحه." 

كانت كلماتهم باردة، عملية، خالية من أي أمل. 

لكن جاسر لم يستسلم لم يكن يعرف الاستسلام.

بعد إن وافق عاد إليهم 

"مفيش حاجة اسمها ميؤوس منيه."


قالها لهم بصوتٍ حازم وهو ينظر إلى بركان الذي كان يئن من الألم.

"هتجيبوا لي أحسن دكتور بيطري في البلد دي كلها وهتعملوا كل اللي تجدروا عليه لو محتاچين تچيبوا دكاترة من بره، هتچيبوا

بركان هيرچع يجف على رچليه تاني."


وبالفعل لم يدخر جاسر جهدًا ولا مالًا أحضر أفضل الأطباء وأشرف بنفسه على علاجه. 

كان يقضي ساعات طويلة في الإسطبل، يتحدث إلى بركان يمسح على فرائه يهمس له بكلمات التشجيع كان يرى في بركان انعكاسًا لنفسه؛ كلاهما أصيب بجروح عميقة، وكلاهما كان يرفض الانكسار.


 جروب نسائم روائية جروب رانيا الخولي 


كانت العلاقة بينهما تجاوزت علاقة فارس بحصانة. 

بركان لم يكن مجرد حيوان، بل كان رفيقًا، شاهدًا صامتًا على قسوة الحياة، وعلى إصرار جاسر على البقاء شامخًا. 

كان بركان يمثل جزءًا من روحه جزءًا من كبريائه الذي رفض أن ينحني.


اليوم وبعد أشهر من العلاج المكثف والرعاية المستمرة، عاد بركان. 

الندوب كانت لا تزال موجودة تذكيرًا دائمًا بما حدث لكنه عاد بنفس القوة بنفس الروح الجامحة.


وضع جاسر السرج على ظهر بركان وامتطاه بخفة. 

شعر بقوة الحصان تحت جسده، بقوة العضلات التي عادت لتنبض بالحياة، انطلق به في الصحراء الواسعة وصهيل بركان يمزق سكون الفجر. 

كان يركض بأقصى سرعة، يشعر بالرياح تصفع وجهه وبقوة بركان تندمج مع قوته.

في تلك اللحظات كان جاسر ينسى كل شيء ينسى نغم ينسى الثأر ينسى كل الأعباء. 

لم يكن هناك سوى هو وبركان، روحان جامحتان ترفضان الانكسار وتصران على الحياة مهما كانت الندوب عميقة كان بركان دليلاً حيًا على أن الإرادة، إرادة جاسر يمكنها أن تصنع المعجزات.

الصفحة التالية