-->

رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 38 - جـ 1 - السبت 120/9/2025

 

قراءة رواية ثنايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ثنايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا الخولي


الفصل الثامن والثلاثون

الحزء الأول 

تم النشر السبت  

20/9/2025



استيقظ مالك على ألم حاد يخترق جسده وجد نفسه مستلقياً في وضع غير مريح على الأريكة الجلدية القاسية في مكتبه، وقد شعر بتيبس في كل عضلة من عضلاته لكن ألم جسده لم يكن شيئاً يذكر أمام الألم الذي كان يعتصر روحه.


عادت إليه ذكريات الليلة الماضية بكل قسوتها، كشريط سينمائي مرعب يُعاد عرضه في ذهنه كلماتها، نظراتها، صرختها... 

"لو راجل... تطلقني"

كانت تلك الكلمات تتردد في أذنيه كطنين مؤذي، تذبحه ببطء هل تستطيع حقاً فعلها؟ هل يمكن أن تتركه وتطلب الخلع وتنفذ تهديدها؟ أم كان ذلك مجرد انفجار لكرامتها المجروحة، صرخة ألم ستهدئ مع الوقت؟


شعر بعالمه ينهار كل أحلامه الهانئة التي بناها معها، كل لحظة سعادة سرقها من الزمن تحولت في ليلة واحدة إلى كابوس أسود لم يعد يدري ماذا يفعل هل يذهب إليها ويعتذر مرة أخرى؟ لكن كبرياءه كان لا يزال ينزف من جرح كلماتها. 

كيف يعود إليها وقد اتهمته بالخيانة والغش، وساوته بأخيه الذي لم يحبها يوماً؟


ظل حائراً، ممزقاً بين حبه وخوفه من فقدانها وبين كبريائه الجريح. 

لكن الخوف انتصر في النهاية قرر أن يصعد إليها، أن يواجهها أن يعرف ما تود فعله حقاً.

خرج من المكتب فتفاجئ بوالدته ورد تنزل على الدرج. 

اندهشت عندما وجدته يخرج في هذا الوقت المبكر من المكتب، ويبدو عليه بوضوح أنه قضى ليلته فيه.

_ مالك؟ أنت كنت بايت في المكتب؟

حاول مالك أن يرسم ابتسامة على وجهه كي لا يقلقها، وقال بكذبة واهية.

_ لأ يا أمي بس في حاجة كنت ناسيها ونازل أجيبها وهطلع تاني.

لم تقتنع ورد بإجابته خاصة عندما لاحظت أنه ما زال يرتدي نفس الملابس التي صعد بها إلى غرفته بالأمس. 

نظرت إليه بعيني الأم الخبيرة التي تقرأ ما تخفيه القلوب.

_ في حاجة يا عمري؟ أنت زعلان مع روح؟

هز رأسه بنفي متجنباً النظر في عينيها.

_ لأ صدقيني مفيش حاجة زي ما قولتلك، نزلت أتأكد من حاجة وطالع تاني بعد إذنك.


صعد الدرج بسرعة تاركاً خلفه والدته التي كانت تراقبه بعينين قلقين حتى اختفى في الرواق.

دلف إلى غرفته بهدوء، فوجدها كما تركها بالأمس كانت تجلس على الفراش ظهرها مستند إلى اللوح الأمامي وعيناها حمراوان متورمتان من شدة البكاء الذي لم يتوقف طوال الليل.

عندما رآها بهذه الحالة رق قلبه لها ونسي كل شيء في لحظة. 

نسي كبرياءه ونسي كلماتها الجارحة ولم يعد يرى أمامه سوى حبيبته التي تتألم بسببه.


ساقته قدماه نحوها، وجلس على ركبتيه بجوار الفراش، وتطلع إليها بألم وحب وندم.

_ روح... أنا آسف.

بدأ حديثه بصوت مكسور وهو يحاول أن يجد الكلمات التي قد تداوي جرحها.

_ زي ما جولتلك كنت ضايع في الوجت ده كنت بدور على أي شيء يخفف عني الألم بس وحياتك عندي، وحياة بنتي، ما في حد دخل جلبي غيرك ولا عمري سمحتلها تتعدى الحدود اللي سمحتلك أنتِ تتعديها. 

أنا كنت وحيد بمعنى الكلمة، وكل مكالمة بيني وبينك كانت نار بتكوي جلبي ومشاعري، وهي... هي لجتها جدامي بتجدملي كل حاچة، بسطتلي كل شيء، وجلت يمكن تكون مهدئ، يمكن مع الوجت تجدر تنسيني...


كلما نطق بحرف يذكرها به، كانت روح تغمض عينيها بألم وكأن كلماته سكاكين صغيرة تغرس في جسدها. 


كانت تتخيل حياته معها هل كان يقبلها كما يقبلها هي؟ هل كان يبتسم لها في لحظاتهما معاً كما يبتسم لها؟ هل كان يقبلها بذلك الشغف الذي يمحو العالم بعد كل مرة كما يفعل معها؟


لم تعد تحتمل وضعت يديها على أذنيها وهي تبكي بقهر، تهز رأسها بعنف.

_ مش عايزة أسمع حاجة مش عايزة أسمع أنت دمرتني يا مالك... دمرتني

أمسك يديها برفق ورجاء يمنعها من إغلاق أذنيها ويجبرها على سماعه.

_ والله يا روح علاقتنا كانت باردة كانت زي صفقة، زي بيزنس مكنش فيها الدفا اللي بينا، ولا الحنية اللي في حضنك لا عمري حبيتها، ولا هي حبتني، صحيح حاولت اجاريها بس مقدرتش، حاولت اقرب منها بس صورتك كانت بتبعدني 

جوازي منها كان جواز مصلحة مش أكتر.

قرب يديها من فمه وقبّلهما بحرارة، وتابع برجاء يذيب الصخر.

_ أرجوكي يا روح... عشان خاطر بنتنا... عشان خاطر كل يوم حلو عشناه مع بعض اطوي معايا الصفحة دي وننساها. 

خلينا نبدأ من جديد.


لكن روح سحبت يديها منه ونظرت إليه بعينين فارغتين من كل شيء إلا الألم.

_ أنسى؟ أنسى كيف؟ كل ما هتبصلي كل ما هتلمسني هفتكر إن فيه واحدة غيري كانت في مكانى هفتكر إنك كنت معاها وإنك كدبت عليا.

هزت رأسها ببطء وقد اتخذت قرارها.

_ أنا مجدرش أعيش معاك دلوجت يا مالك مجدرش.

تطلع إليها برعب خوفاً من أن تنطق بالكلمة التي يخشاها.

_ عايزة إيه يا روح؟

_ عايزك تسبني، مش تطلجني... بس تسبني تسبني لوحدي لحد ما أجدر أستوعب اللي حصل لحد ما أقرر إذا كنت هجدر أكمل معاك ولا لأ.

ومتخافش محدش هيعرف حاجة، برة الاوضة دي احنا سعده ومبسوطين 

جوه الاوضة كل واحد فينا في مكان.


كان طلبها بمثابة حكم مؤبد بالوحدة عليه، لكنه كان أفضل من حكم الإعدام بالطلاق رأى في عينيها إصراراً لا يمكن كسره. 

أومأ برأسه ببطء وقلبه يتمزق.

_ حاضر يا روح اللي أنتِ عايزاه هيكون، هسيبك... بس مش هبعد هفضل جريب وهنفضل مع بعض في نفس الاوضة مستنيكي تسامحيني.


❈-❈-❈


كانت صبر تجلس على حافة السرير تمسك بأحد كتبها الجامعية لكن عينيها كانتا تائهتين، لا تقرأ الكلمات حقاً. 

كان جسدها لا يزال ضعيفاً لكن عقلها كان مشغولاً بمستقبلها الذي شعرت بأنه يضيع منها. 

نظر إليها أكمل الذي كان قد دخل للتو إلى الغرفة حاملاً لها كوباً من عصير الفواكه الطازج.

_ بتفكري في إيه؟

سألها برفق وهو يضع الكوب على المنضدة بجانبها.

تنهدت بعمق وأغلقت الكتاب ووضعته جانباً.

_ الامتحان بكرة يا أكمل.

نظر إليها بقلق وقد فهم على الفور ما ترمي إليه.

_ امتحان إيه يا صبر؟ أنتِ لسه تعبانة، والدكتور قال مفيش حركة خالص.


_ بس ده امتحان الترم، ولو مرحتوش السنة كلها هتروح عليا أنا ذاكرت وتعبت عشان أوصل.

قالته بصوت خافت لكنه يحمل إصراراً.

تصلبت ملامح أكمل وظهرت عليه لهجة وكيل النيابة الحازمة التي لا تقبل الجدال.

_مستحيل صحتك وصحة ابننا أهم من ألف امتحان وسنة دراسية الموضوع ده منتهي.


عندما سمعت كلمة "مستحيل"، شعرت بأن آخر خيط من الأمل قد انقطع. 

لم تعد قادرة على التحمل، فانفجرت في بكاء صامت دموعها تنهمر على خديها في صمت وهو بكاء كان أشد إيلاماً من أي صراخ. 

كانت تبكي على أحلامها التي تتبخر، وعلى تعبها الذي سيذهب هباءً.


عندما رآها تبكي بهذا الشكل، شعر بأن قلبه يتمزق

ضعف أمامها ونسي كل حزمه وقراراته لم يعد يحتمل رؤية دمعة واحدة تنزل من عينيها.

_بتعيطي ليه دلوقت؟

قالت بحزن

_مش هجدر يا أكمل، ده حلم عشت عمري كله احلم به.

تنهد بتعب وجلس بجوارها يمسك يدها ويقول بروية

_انا عارف بس احنا لسة قدامنا حياة طويلة لو السنة دي مقدرتيش هتقدري السنة الجاية وانا معاكي.

اشاحت بوجهها بعيدًا عنه لا تتقبل إصراره 

_يعني مش خايفة على نفسك وعلى ابننا؟

التفتت إليه بسرعة

_لأ طبعا خايفة عليه بس في نفس مش عايزة السنة دي تضيع مني، وانا الحمد لله اتحسنت كتير عن الأول.


تنهد بيأس

_ خلاص... خلاص يا صبر متعيطيش خليني اسأل دكتور مجدي الأول لو  قال مفيش خطر، هوصلك بنفسي.


اتصل بالطبيب وشرح له الموقف بالتفصيل، وبعد نقاش قصير، جاء الرد الذي كانت تتمناه صبر.

_ الدكتور وافق بس بشرط. 

تروحي الامتحان وأول ما ترجعي تنامي على ضهرك فوراً، ومتبذليش أي مجهود تاني خالص لبقية اليوم فاهمة؟


أومأت برأسها بسعادة ومسحت دموعها بسرعة، وابتسامة صغيرة شقت طريقها إلى شفتيها.


❈-❈-❈


استيقظت نغم على صمت غير معتاد فتحت عينيها ببطء، وشعرت بثقل لذيذ في أطرافها لم تجد جاسر في الغرفة نظرت في ساعة هاتفها، فاتسعت عيناها بصدمة عندما وجدت أن الساعة قد تجاوزت الثانية ظهراً لم تنم هكذا منذ زمن بعيد.


نهضت من الفراش وشعرت بألم خفيف في جسدها، ألم لم يكن مزعجاً بل كان تذكيراً حياً بكل ما حدث 

توجهت إلى المرحاض ودخلت تحت الماء الدافئ، وأغمضت عينيها لتترك ذكريات الليلة الماضية تجتاحها بلا مقاومة لم تكن مجرد صور، بل كانت أحاسيس، لمسات، همسات. 

كانت تتذكر قسوته الأولى التي ذابت لتتحول إلى لهفة، وخوفه من فقدانها الذي تحول إلى شغف وحنانه الذي غلف كل لمسة وقبلة.


لم تكن تصدق أن الرجل القاسي الذي حاول كسرها وإخضاعها بكل الطرق، هو نفس الشخص الذي كان يغدقها بحبه وحنانه الليلة الماضية، كأنه يروي أرضاً عطشى. 

من هو جاسر الحقيقي؟ هل هو الذئب الشرس، أم الحمل الوديع؟ أم أن حبه لها قد روّض الوحش الكامن بداخله؟


خرجت من المرحاض وهي تلف جسدها بمنشفة ثم ارتدت مئزره (روب الحمام)  الأسود الذي كان معلق جانباً وشعرت برائحته تحيط بها، مما أرسل قشعريرة خفيفة في جسدها توجهت إلى خزانة الملابس الضخمة لتختار شيئاً ترتديه. 

فتحت الجانب الذي اعتادت أن تأخذ منه ملابسها، لكن عينها وقعت على جانب آخر من الخزانة لم تكن قد انتبهت له من قبل.


دفعها الفضول لفتحه فتجمدت في مكانها

كان الجانب ممتلئاً عن آخره بملابس نسائية جديدة، بيجامات حريرية بألوان زاهية منامات قصيرة من الدانتيل، وأرواب شفافة كانت تجهيزات عروس كاملة تنتظر بصمت من يرتديها. 

أدركت أنه قد اشترى كل هذا من أجلها تحسباً للحظة كهذه. 

شعرت بمزيج من الغيظ والخجل لقد كان واثقاً إلى هذا الحد من أنه سينتصر في النهاية. 

أغلقت الجانب بعنف مكتوم، وعادت إلى ملابسها العادية.


لكنها توقفت هل ستظل خانقة نفسها بهذه الملابس الثقيلة؟ لقد تغير كل شيء. 

وهو فكر جيداً ولم يترك لها شيئاً وسطاً يمكن أن ترتديه، كأنه يجبرها على الاختيار بين العناد والاستسلام الكامل.


تنهدت باستسلام وعادت لتفتح الجانب "الجديد" مرة أخرى 

غصباً عنها بدأت يداها تبحث بين الملابس حتى استقرت على بيجامة حريرية بسيطة وأنيقة، لونها زهري هادئ، لون بدا لها مناسباً مع بشرتها البيضاء. 

ارتدتها وشعرت بنعومة الحرير تداعب بشرتها تركت شعرها الأسود الطويل منسدلاً على كتفيها ليجف في الهواء، ووقفت أمام المرآة الطويلة تمشك خصلاتها وتتأمل انعكاسها.


فجأة ضربها سؤال حاد.

معقول؟ هل نسيت كل شيء بهذه السرعة؟ هل نسيت الثأر، والدم، والكرامة التي أقسمت أن تستعيدها؟ هل مشت وراء قلبها بهذه السهولة مستسلمة لسحر سجّانها؟ شعرت بحيرة تمزقها. 

هل تكمل في هذا الطريق الذي يبدو حلواً بشكل خطير، أم تتراجع وتعود إلى قلعتها الحصينة؟


وبينما كانت غارقة في أفكارها انفتح باب الغرفة بهدوء دخل جاسر وفي عينيه نظرة لم ترها من قبل، نظرة رجل منتصر وراضٍ. 

كان يرتدي بنطالاً منزلياً مريحاً وقميصاً (تيشيرت) أبيض يبرز عضلات صدره ابتسم لها ابتسامة جانبية ساحرة عندما رآها ترتدي إحدى "هداياه".


اقترب منها بخطوات واثقة، خطوات الأسد في عرينه ووقف خلفها، وعيناهما تلتقيان في المرآة لم يقل شيئاً، فقط انحنى ببطء وقبّل عنقها قبلة دافئة وعميقة جعلت ساقيها ترتجفان.

_ ينفع القمر ده كله يكون نايم وأنا واقف بحضرلها الأكل لوحدي في المطبخ؟

قالها بصوت أجش يحمل مشاكسة رجولية وشموخاً لم يقلل اهتمامه بها من قوته وهيبته.


أمام نظرته الواثقة وحنانه الذي لم يعد يخفيه لم تستطع أن تقاوم. 

ذاب كل صراعها الداخلي ووجدت نفسها تبادله الابتسامة في المرآة. 

كان فيه شيء غريب، مزيج من القوة والحنان من التملك والاهتمام، يجعلها ترضخ أمامه بإرادتها الكاملة. 

لقد أدركت في تلك اللحظة أنها لم تعد تريد المقاومة.


استدارت نغم بين ذراعيه لتواجهه مباشرة، وقد تورد خداها حمرة خفيفة من الخجل والغيظ معاً. 

نظر جاسر إلى البيجامة الحريرية التي كانت تلتصق بجسدها بأناقة، ثم رفع عينيه إلى عينيها وابتسامة ماكرة ارتسمت على شفتيه.

وقالها بصوت هامس وعميق.

_ أخيراً.

أخيراً فتحتي الضلفة دي أنا كنت ابتديت أيأس إنك ممكن تفتحيها.


شعرت بالغيظ من ثقته الزائدة فقالت بتحدي خافت.

_ وأنت كنت واثق أوي إن اللحظة دي هتاچي؟

أومأ لها برأسه ببطء دون أن يزيح عينيه عن عينيها وفي نظرته جدية وحب عميقان.

_ اتأكدت إنها مسيرها تاچي من أول يوم شفتك فيه في بيت جدك بعد ما هربتي مني

شفت في عنيكي التردد، شوفت فيهم حيرة. 

حسيت كأنك بتجوليلي 

"الدنيا كلها اتخلت عني، ومحدش حارب عشاني... حارب أنت عشاني"


اقترب منها خطوة أخرى حتى لم يعد يفصلهما شيء وأكمل بصوت أصبح أكثر حناناً.

_ ووجتها جررت إني احارب عشانك ولما كل الطرج اتجفلت في وشي، ومجدرتش أوصلك خطفتك تاني

بس المرة دي كانت مختلفة 

المرة دي خطفتك عشان أحميكي، عشان أغرجك في حبي وعشقي واهتمامي، عشان أعوضك عن كل اللي فات.


كانت كلماته كفيلة بإذابة آخر ذرة من المقاومة بداخلها. 

لقد فهمها فهم صراعها الصامت، ورأى ما وراء قناع العناد الذي كانت ترتديه شعرت بقلبها يخفق بعنف، وبدفء يسري في أوصالها لم يكن سببه فقط قربه الجسدي، بل قربه من روحها.

رفع يده وتحسس وجنتها برقة ثم انحنى ليقبلها. 

كانت قبلة مختلفة عن كل ما سبق

لم تكن قبلة لهفة أو شغف جامح، بل كانت قبلة حنونة، بطيئة، تحمل في طياتها كل وعوده الصامتة. 

قبلة تقول "أنتِ في أمان الآن". تجاوبت معه وذابت بين ذراعيه مستسلمة تماماً لهذا الشعور الذي لم تعد تريد محاربته.


بدأت القبلة تتعمق، وتتحول من الحنان إلى الشغف مرة أخرى وبدأت يداه تجذبانها إليه بقوة أكبر شعرت بأنه سيكمل ما بدأه وأنها على وشك أن تضيع في عالمه مرة أخرى. 

لكن في تلك اللحظة، أصدرت معدتها صوتاً خفيفاً مذكرة إياها بأنها لم تأكل شيئاً منذ الأمس.

ابتعدت عنه فجأة وهي تضحك بخجل ووضعت يدها على شفتيه لتمنعه.

_ جاسر... استنى.

نظر إليها بعينين ضبابيتين من فرط الرغبة ولم يفهم سبب توقفها.

_ أنا جعانة.

قالتها ببراءة طفولية جعلته يضحك بصوت عالي، ضحكة رجولية صادقة هزت أركان الغرفة 

غصباً عنه ابتعد عنها، وأخذ نفساً عميقاً يحاول به أن يهدي من ثورة أنفاسه ومشاعره.

_ جعانة؟ بتفصلينا في اللحظة دي عشان جعانة؟

هز رأسه بيأس مصطنع ثم انحنى فجأة وحملها بين ذراعيه. 

شهقت نغم وتشبثت بعنقه.

_ بتعمل إيه؟

نظر إليها بمكر وعيناه تلمعان بمشاكسة.

_ مش أنتِ جعانة؟ يبقى لازم أتصرف وهأكلك بنفسي كمان، عشان أضمن إن مفيش حاجة تانية تعطّلنا بعد كده.


سار بها خارج الغرفة وهي تضحك من قلبها على طريقته في تدليلها، وقد أدركت أنها وقعت في حبه بلا رجعة، وأن هذا الشموخ الذي يغلفه بحنان، هو الفخ الذي استسلمت له بكل رضا.


وصل بها إلى طاولة الطعام التي كانت قد أُعدت بعناية فائقة. 

لم يكن مجرد طعام لصنع يده كما أخبرها لكنه هو من حضره على السفرة بكل حب واهتمام 

كان وليمة صغيرة لشخصين.

أطباق متنوعة، عصائر طازجة، ووردة حمراء وحيدة موضوعة في كأس زجاجي صغير في منتصف الطاولة.

أنزلها برفق بجوار السفرة، لكنه لم يبتعد. 

ظل واقفاً أمامها وانحنى ليصبح وجهه في مستوى وجهها، ويداه تستندان على السفرة حاصراً إياها في عالمه الخاص.

همس بصوت عميق، وعيناه لم تفارقا شفتيها.

_ جبل الأكل... في حاچة أهم.

سألته بخجل يشوبه بعض الدلال الفطري.

_ايه هو؟

لم يجيب بل انحنى مرة أخرى وقبلها، قبلة بطيئة متذوقة، كأنه يريد أن يطبع طعمها في ذاكرته قبل طعم أي شيء آخر. 

كانت قبلة تحمل حلاوة الانتصار ولذة الاستسلام. 

شعرت نغم بأنفاسها تتسارع ووضعت يديها على كتفيه تستمد منه القوة التي كان يسلبها إياها.

ابتعد عنها ببطء شديد تاركاً شفتيه تلامسان شفتيها بالكاد.

_ دلوجت نجدر ناكل.

قالها بابتسامة ساحرة ثم جلس على المقعد المقابل لها بدأ يضع لها الطعام في طبقها بنفسه قطعة من كل صنف، عيناه تراقبان كل رد فعل على وجهها. 


لم يكن مجرد اهتمام بل كان طقساً من طقوس التملك الحنون.

_ كلي ولا تحبي أأكلك بإيدي، بصراحة انا كمان جعان.

ابتسمت بحنو

_لأ انا هاكل لوحدي.

قالتها بنبرة أمر لطيفة، ثم بدأ يأكل هو الآخر.

كان الصمت بينهما مختلفاً هذه المرة لم يكن صمت التحدي أو الحنق

بل كان صمت الرضا والألفة كانا يتبادلان النظرات من فوق الأطباق، نظرات تحمل كل الكلمات التي لم تُقل بعد. 

كانت ترى في عينيه حباً لم تكن لتتخيل وجوده، وكان يرى في عينيها بداية الثقة والاستسلام الذي حارب من أجله طويلاً بعد أن انتهت من تناول الطعام.

_هثواني هعملك القهوة.

رد بمزاح

_وانا اشيل الاطباق مش كدة؟

_تؤ أنا اللي هشيلها واعمل القهوة كمان، وبعد كدة مفيش أكل جاهز، مش بفضله..

قالتها وهي تحمل الاطباق للمطبخ فنهض هو بدوره

_وانا هعمل مكالمة مهمة لحد ما تخلصي.


❈-❈-❈


كانت أجواء الهدوء تخيم على شقة أكمل، لكنه كان هدوءاً دافئاً ومفعماً بالحياة. 

كانت صبر مستلقية على الفراش محاطة بالوسائد التي وضعها أكمل لضمان راحتها، وأمامها أحد كتبها الجامعية المفتوحة.

كانت تحاول التركيز في المراجعة، لكن الألم الخفيف والمستمر في ظهرها كان يشتت انتباهها.


بجوارها كان أكمل يجلس على الفراش  

كان غارقاً في أوراق قضية معقدة، يقلب صفحاتها بتركيز، لكن حواسه كلها كانت معها.

كان يرفع عينيه بين الحين والآخر، يراقبها من فوق نظارته الطبية التي لا يرتديها إلا للقراءة. 

لاحظ أنها تضغط على شفتيها بين الفينة والأخرى وتتململ في جلستها بشكل خفيف كأنها تحاول الهروب من إزعاج ما.

الصفحة التالية