-->

رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 47 - جـ 1 - الأحد 28/9/2025

 

قراءة رواية ثنايا الروح كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية ثنايا الروح

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رانيا الخولي


الفصل السابع والأربعون

الحزء الأول 

تم النشر الأحد  

28/9/2025




كان أنهيار نغم يمزق القلوب

رأفت الممرضة بحالها وهي منهارة على سرير الرجل الذي يصارع من أجل حياته، اقتربت منها بهدوء ووضعت يدها على كتفها.

_ يا مدام نغم كفاية كده لازم تخرجي ترتاحي وجودك هنا غلط على صحتك وغلط عليه هو كمان.

رفعت نغم رأسها ونظرت إليها بعينين متورمتين تائهتين كأنها لا تفهم كلماتها.

_ أخرج؟ أسيبه لوحده؟ مستحيل أنا مش هتحرك من اهنه غير وهو معايا.


_بس كدة انتي بتضريه وتضري نفسك، انتي لازم ترتاحي.

هزت راسها برفض تام

_انا لو طلعت من هنا هموت، ولو انا مت هو مش هيجدر يعيش من غيري.


نظرت الممرضة إلى سالم من الزجاج الداخلي نظرة مستنجدة ففهم الإشارة، تقدم سالم نحوها ووضع يده على ذراعها برفق.

_ يلا يا نغم عشان خاطري لازم نخرج الدكتور جال الزيارة ممنوعة.

لكن بمجرد أن لمسها سالم تشبثت بيد جاسر الباردة بكل ما أوتيت من قوة، وصرخت صرخة ممزقة خرجت من أعماق روحها.

_ محدش هيخرجني من اهنه ابعدوا عني.

كانت تصرخ من الألم الحاد الذي انغرس في ضلوعها مع كل حركة وتصرخ من ألم أعمق في روحها لأنهم يريدون أن يفرقوها عنه مرة أخرى.


على صوت صراخها دخل الطبيب ورأى المنظر الفوضوي .

نغم متشبثة بجاسر وسالم يحاول تهدئتها والجميع ينظرون بعجز.

_ إيه اللي بيحصل بالظبط، دي مينفعش وجودها هنا، خطر على المريض وخطر عليها هي كمان، لازم تخرج حالًا.


أشار الطبيب للأمن بالتقدم، لكن سالم وقف بينهم وبين نغم كأنه جدار.

_ محدش يجرب منيها، انا هخرجها.


تقدم من نغم التي مازالت متشبثه بيد جاسر ودموعها تنزل بغزارة

_نغم الدكتور جال إن كدة خطر عليه لازم تخرچي عشان يخف.

وضعت يدها الأخرى على صدرها بألم شديد وتمتمت بعناد.

_مجدرش اسيبه لوحده انا زعلته مني ومش هسيبه إلا لما يجولي سامحتك.


_بس اكدة وبطرجتك دي مش هيفوج وحتى لو فاق هتكوني اكتر واحدة محتاچ لها چانبه، وانتي بحالتك دي مش هتجدري تكوني چانبه، سيبيه عشان يتحسن وانتي كمان تتحسني.


بدأ تنفسها يثقل من شدة الألم الذي لم يعد يطاق

لكنها واصلت عنادها، فقط يفتح عينيه ويخبرها انه سامحها لا تطلب أكثر من ذلك.

_لأ......لأ...يا عمي....لأ..خايفة اخرچ من اهنه يموت ويسبني.

رد الطبيب بحدة

_بطريقتك دي هتخليه يموت فعلا، دي مش عناية مركزة دي بقت طبونة.

نظر للأمن وقال بانفاعل 

_خرجوها بسرعة.

صاح سالم بقوة

_جلت محدش يجرب منها..

تراجع الأمن أمام قوته ونظر إلى نغم

_يلا معايا وانا اوعدك إني هچيبك عنده، هو دلوجت نايم ومش حاسس بشيء يلا دلوجت وأوعدك هچيبك عنديه تاني.

هزت راسها بنفي وهي تنظر لجاسر وكأنهما في عالم آخر 

_ مش هسيبه هو حماني بروحه، وأنا مش هسيبه لوحده ابعدوا.

تشبثت بيده أكثر رغم الألم الذي هاجمها وصاحت بهم ان يبعدوا عنها

حينها لم يجد سالم سوى القوة

لكن نغم كانت قد فقدت السيطرة تمامًا كانت تصرخ وتقاوم أي يد تحاول لمسها.

أدرك الطبيب أن حالتها النفسية تنهار وأنها ليست في وعيها أمر بصوت حاسم.

_ لازم تخرج بالإجبار دي أوامر.


عندما رأى سالم أن الوضع سيخرج عن السيطرة وأنهم سيستخدمون القوة ضدها اتخذ قراره في لحظة، تجاهل الأمن وتجاهل الطبيب واقترب منها هو بنفسه لم يلمس ذراعها هذه المرة بل شدها بقوة مفاجئة إلى حضنه محتويًا جسدها المرتجف والمقاوم بين ذراعيه، وهمس في أذنها بصوت حاسم ومؤلم.

_ لو عايزاه يرجع لازم تخرچي، لو بتحبيه بچد اخرچي عشان تديله فرصة يعيش.


كانت كلماته هي الضربة القاضية فظلت تصرخ وتقاوم في حضنه لثواني أخيرة كأنها طفل يائس ثم فجأة توقفت حركتها وارتخى جسدها بالكامل بين ذراعيه 

لقد فقدت وعيها أخيرًا مستسلمة للألم الجسدي والنفسي الذي كان أكبر من أن يتحمله جسدها المحطم.


حملها سالم بين ذراعيه وخرج بها من غرفة العناية المركزة تاركًا خلفه جاسر راقدًا في سكونه، وصوت الأجهزة الذي أصبح فجأة أعلى وأكثر وحشة بعد أن غاب صوت صراخها المتألم.


مرت ثلاثة أيام كأنها ثلاثة دهور كانت الأيام تتشابه في ثقلها ورتابتها المؤلمة 


في غرفة نغم...

كانت تخوض حربها الخاصة، كلما بدأت تستعيد وعيها وتتلاشى آثار المهدئات كان أول اسم تنطق به هو "جاسر" وأول طلب لها هو أن تذهب إليه، وعندما كانوا يرفضون كانت تنهار بشكل كامل، تجبر الأطباء على إعطائها مهدئًا آخر لتهدأ وتنام وتهرب من واقعها المؤلم.

كان انهيارها المتكرر يؤخر شفاء جروحها الجسدية، لكن لا أحد كان يملك قلبًا ليمنعها من السؤال.


كان مالك يجلس على مقعد معدني بارد في الردهة يراقب باب العناية المركزة الذي لم يتغير شيء خلفه.

كان يرى حزن الجميع وقلقهم لكنه كان يشعر بشيء مختلف، كان يشعر بثقل سر يعرفه وحده سر يجعله ينظر إلى هذا الباب المغلق ويرى ما هو أبعد من مجرد رجل في غيبوبة.


تنهد مالك وأغمض عينيه للحظة فانسحب به الزمن إلى الوراء إلى ما قبل الحادثة بيومين 


فلاش باك


كانت الشمس تميل نحو الغروب عندما توقفت سيارة جاسر في مكان مقطوع على أطراف البلدة.

نزل منها ووقف ينتظر، وبعد دقائق وصلت سيارة مالك الذي نزل منها بحذر وهو لا يفهم سبب هذا اللقاء السري.

_ خير يا جاسر طلبت تجابلني ليه؟

لم يرد جاسر على الفور، بل ظل ينظر إلى الأفق البعيد، كأنه يرى شيئًا لا يراه مالك ثم التفت إليه وأعطاه مظروفًا سميكًا.

_ خد ده خليه معاك.

أخذ مالك المظروف وفتحه فوجد فيه أوراقًا رسمية، نظر إليها بصدمة وعدم فهم.

_ ده تنازل عن بيت الجبل والأرض اللي حواليه باسم نغم وباسم وأمي.


نظر جاسر إليه مباشرة وعيناه تحملان جدية لم يرها فيه من قبل.

_ لو چرالي حاچة الأوراج دي تظهر وتتنفذ فورًا، البيت ده والأرض دي حجهم ومحدش غيرهم ليه فيه حاچة.


اخرج مظروف آخر من سترته واعطاه له

_وده ورجة بملكية أرض لعمتي، ده حجها في أرض ابوها، انما السريا مش بايدي ورجها، لو چرالي حاچة خرچهم.


شعر مالك بقبضة باردة تعتصر قلبه

_ يچرالك حاچة؟ إيه اللي بتجوله ده يا جاسر؟ في إيه ومين اللي ممكن يأذيك؟

ابتسم جاسر ابتسامة باهتة خالية من أي تعبير 

_ الدنيا ملهاش أمان يا مالك، أنا بوصيك عليهم لو غبت نغم وأمي أمانة في رقبتك.

حاول مالك أن يستجوبه أكثر

_ جاسر أنا مش فاهم حاچة، أنت مخبي إيه؟


لكن جاسر لم يمنحه فرصة، استدار وركب سيارته دون أن ينطق بكلمة أخرى، وانطلق بها بسرعة تاركًا مالك واقفًا في مكانه والمظروف في يده يشعر بثقل الوصية وبأن هناك عاصفة قادمة لا محالة..


عودة إلى الحاضر


فتح مالك عينيه على صوت باب العناية المركزة وهو يُفتح.

خرج الطبيب وعلى وجهه ابتسامة مرهقة لكنها ابتسامة حقيقية هذه المرة.

تجمع الجميع حوله في لحظة واحدة وقد حبسوا أنفاسهم.

_ الحمد لله المريض فاق.

تعالت كلمة الحمد من الجميع 

لكن وسط هذه الفرحة العارمة، كان هناك رجل واحد لم يبتسم، رجل واحد تجمدت ملامحه وتحولت إلى قناع من الصدمة المطلقة.

صخر

لقد كان يقف بعيدًا كعادته، وعندما سمع كلمة "فاق" اتسعت عيناه برعب حقيقي، لم يكن هذا ما توقعه لم يكن هذا ما يخطط له، فعودة جاسر إلى الحياة الآن لا تعني انتهاء الخطر بل تعني بداية خطر من نوع آخر، خطر لا يهدد عائلة الرفاعي بل يهدده هو شخصيًا.


❈-❈-❈


كان جاسر يسبح في فراغ لا لون له ولا صوت، فراغ أسود كان يبتلعه بالكامل.

لم يكن هناك ألم ولا ذاكرة ولا حتى إحساس بالزمن كان مجرد وجود معلق في العدم.

لكن شيئًا ما بدأ يتغير

في البداية كان همسًا بعيدًا صوتًا مألوفًا يخترق جدار الصمت المحيط به

_ جاسر أنا آسفة.

كان الصوت مكسورًا ومبللًا بالدموع لكنه كان كخيط من نور تسلل إلى ظلمته، المطلقة تشبث بهذا الخيط كأنه طوق النجاة الوحيد.

_ ارچعلي يا جاسر أنا محتاچالك، ارچع عشاني.

لكنه شعر بأنه بعيد وبينهما هوة سحيقة لا يستطيع تجاوزها.

ويختفي كل شيء مرة أخرى


بدأ الظلام يتبدد ببطء شديد وحل محله ضباب رمادي كثيف، وبدأت حواسه تعود إليه واحدة تلو الأخرى.

شعر بثقل يضغط على جسده كله، وشعر ببرودة تخترق جلده وسمع صوتًا منتظمًا بجانب أذنه صفير حاد ومتكرر.

ثم جاء الألم..

بدأ كشرارة صغيرة في صدره..ثم انفجر فجأة ليتحول إلى حريق هائل يجتاح جسده كله ألم حاد ومميت جعله يئن دون وعي.

حاول أن يفتح عينيه لكن جفونه كانت ثقيلة كأنها مصنوعة من الرصاص.


قاوم بكل قوته المتبقية، حارب الظلام وحارب الضباب، وحارب الألم الذي كان يحاول إغراقه مرة أخرى.

لقد كان هناك صوت يناديه صوت يجب أن يعود من أجله.

أخيرًا وبعد صراع بدا كأنه استمر دهرًا تمكن من فتح عينيه.

كان كل شيء أبيض ومبهرًا بشكل مؤلم، سقف أبيض جدران بيضاء أضواء بيضاء ساطعة.

أغمض عينيه وأعادهما مرة أخرى محاولًا التأقلم مع هذا العالم الجديد.


حرك رأسه ببطء شديد فشعر بألم حاد في صدغه 

نظر إلى جانبه بوهن فرأى أجهزة غريبة وأنابيب تخرج من ذراعه .

أين هو؟ ما هذا المكان؟


حاول أن يتكلم لكن لم يخرج من حنجرته سوى هواء جاف ومؤلم .

شعر بحلقه كأنه صحراء قاحلة، حاول أن يبلع ريقه فلم يجد.


في تلك اللحظة دخلت ممرضة إلى الغرفة لتفحص الأجهزة، فتجمدت في مكانها عندما رأته وعيناه مفتوحتان.

اتسعت عيناها بدهشة ثم ابتسمت وركضت إلى خارج الغرفة وهي تصرخ

_ دكتور أحمد المريض فاج، مريض العناية فاج.

لم يفهم جاسر ما يحدث لكنه رأى وجوهًا تطل عليه من زجاج الغرفة ثم انفتح الباب ودخل طبيب ومعه ممرضتان.

اقترب الطبيب منه ووضع ضوءًا صغيرًا في عينيه.

_ حمدلله على السلامة يا جاسر....

إنت عارف إنت فين؟

هز جاسر رأسه ببطء شديد نافيًا وهو لا يزال يحاول فهم ما يجري.

_ إنت في المستشفى، عملت حادثة كبيرة بس الحمد لله ربنا نجاك.

حادثة....

عندما نطق الطبيب بالكلمة انفجر كل شيء في رأسه فجأة، عادت إليه الصور كأنها ومضات برق خاطفة

صوت صراخ نغم صوت ارتطام المعدن، صوت الزجاج وهو يتحطم أمامه، ثم صورته وهو يرمي نفسه فوقها ليحميها من الاصطدام الأخير.


نغم..

انتفض جسده فجأة محاولًا النهوض، لكن الألم في صدره كان كطعنة سكين أجبرته على التراجع وهو يلهث، والأجهزة من حوله بدأت تطلق صفيرًا عاليًا.

_ نغم...هي....فين؟ هي.....كويسة؟


حاول الطبيب تهدئته.

_ اهدى يا جاسر مينفعش تتحرك، المدام كويسة وفي أمان.

لكنه لم يصدقه لم يصدق أحدًا، كانت عيناه زائغتين تبحثان عنها في كل مكان كأنه مجنون.

_ عايز أشوفها......لازم أشوفها.....دلوجت.

كان صوته أجشًا ومتقطعًا لكنه كان يحمل أمرًا لا يقبل النقاش.

رأى الطبيب الإصرار في عينيه وأدرك أنه لن يهدأ قبل أن يراها فأشار للممرضة.

_ جهزوا المدام نغم عشان تشوفه بس خمس دقايق مش أكتر.


خرج الطبيب والممرضات وبقي جاسر وحده مرة أخرى مع صوت الأجهزة، ومع ألمه ومع صورها التي لا تفارق عقله، لقد عاد من الموت لكنه لن يشعر بأنه حي حقًا إلا عندما يرى وجهها، ويتأكد أنها بخير.

فكل هذا الألم وكل هذا الصراع لم يكن من أجله بل كان من أجلها هي فقط.


فاقت نغم هذه المرة بهدوء غريب، لم تصرخ ولم تحاول النهوض مثل كل مرة تعود لوعيها.

كانت عيناها مفتوحتين تحدقان في سقف الغرفة الأبيض الفارغ كأنها استسلمت أخيرًا، كأن روحها قد انطفأت وتركت خلفها جسدًا فارغًا ينتظر النهاية بصمت.


كانت ونس تجلس بجانبها تحاول أن تبدو قوية من أجلها، لكن قناع القوة الذي كانت ترتديه بدأ يتشقق، لم تعد قادرة على التحمل أكثر من ذلك.

فهذا الذي يرقد في غرفة أخرى ليس مجرد رجل، إنه ابنها الوحيد ثمرة حياتها كلها ليس لها غيره في هذا العالم، وفكرة أنه قد يرحل كانت تحطمها من الداخل ببطء.

مر اسبوع ارهق قلبها وروحها تذهب إليه لتراه من خلف الزجاج فتعود بقلب ملتاع عليه.


أما ليل فكانت تجلس على الجانب الآخر تمسك بيد نغم الباردة وتنظر إلى ونس بعينين تحملان كل التعاطف. كانت تشعر بألمها لأنها أم مثلها.

كانت تتذكر بوضوح حزنها وغضبها من جاسر يوم أن خطف نغم لكن كل هذا تلاشى وتبخر في اللحظة التي جاء إلى منزلهم يعتذر منهم وأكثر حينما فداها بروحه، لقد أصبح غاليًا في قلبها كابنها مثل مالك وسند.


وفجأة انفتح الباب ودخلت الممرضة وعلى وجهها ابتسامة عريضة ومشرقة، كأنها تحمل معها شمس الصباح.

_ مدام نغم حمدلله على سلامة، الأستاذ جاسر فاج وعايز يشوفك.

سقطت الكلمات في صمت الغرفة كأنها قطرات مطر تسقط على أرض عطشى.

فاج..

كلمة واحدة كانت كفيلة بأن تعيد الحياة إلى الأرواح الميتة.


نظرت نغم إلى الممرضة بعينين غير مصدقتين لم تستطع أن تتكلم لم تستطع أن تتحرك، كل ما فعلته هو أنها بدأت تبكي، بكت بصمت ودموعها تنهمر على خديها كأنها نهر جارف يغسل كل الحزن واليأس الذي تراكم في الأيام الماضية، لم تكن دموع حزن بل كانت دموع فرح خالص، فرح نقي كأنه فرح طفل صغير.


أما ونس فقد شهقت ووضعت يدها على فمها، ثم انفجرت في بكاء عالي

لم تعد تحاول أن تكون قوية لقد عادت إليها روحها وعاد إليها ابنها.

اقتربت الممرضة من نغم وساعدتها على النهوض من السرير.

_ يلا عشان تشوفيه هو سأل عليكي أول واحدة.


كان الألم في ضلوع نغم قد خف قليلًا لكنه كان لا يزال موجودًا يذكرها بالحادث مع كل حركة.

ومع ذلك لم تهتم به تحاملت على نفسها وعلى ضعفها وسارت مستندة على الممرضة، وليل تسندها من الجانب الآخر.

كانت كل خطوة تقربها منه تمنحها قوة أكبر، وكل نفس تأخذه كان يملأ رئتيها بالأمل.


لم تعد تلك الفتاة المستسلمة التي كانت تحدق في السقف قبل دقائق، بل عادت نغم المحاربة التي ستفعل أي شيء من أجل الرجل الذي ينتظرها في الغرفة المجاورة، الرجل الذي عاد إليها من الموت.


انفتح باب الغرفة ببطء، فرفع جاسر رأسه بكل ما تبقى له من قوة.


دخلت نغم.


كانت تتسند على الممرضة، وخطواتها بطيئة ومترددة. 

كان الألم واضحًا على ملامحها مع كل حركة، لكن كانت هناك ابتسامة صغيرة مرتعشة تزين شفتيها، ابتسامة كانت بالنسبة له أجمل من شروق الشمس بعد ليل طويل.


في تلك اللحظة توقف الزمن. 

لم يعد هناك مستشفى ولا أجهزة، ولا ألم لم يكن هناك سوى هما الاثنان.


أومأ جاسر للممرضة إشارة صامتة لكنها واضحة بأن تتركها.

فهمت الإشارة وساعدت نغم على الوصول إلى الكرسي بجانب سريره، ثم انسحبت بهدوء وأغلقت الباب خلفها.


بقيا وحدهما في صمت يتأملان بعضهما البعض، وعيونهما تحكي كل القصص التي لم تُقل. 

كانت عيناهما تحملان الشوق، والخوف، والندم، والراحة، والحب، حب عميق وقوي لدرجة أنه نجا من الموت نفسه.


مد جاسر يده التي لم تكن موصولة بالأنابيب نحوها. 

فوضعت يدها في يده على الفور وشعرت بدفء خفيف يعود إليها، دفء كانت تفتقده بشدة.

تشابكت أصابعهما معًا كأنهما قطعتان من روح واحدة وجدتا بعضهما أخيرًا.


كان هو أول من كسر الصمت، وصوته خرج أجشًا ومبحوحًا لكنه كان يحمل كل حنان العالم.

_ وحشتيني..

انفجرت دمعة هاربة من عينيها ومسحتها بسرعة.

_ إنت كمان يا جاسر، خوفتني عليك جوي.

شد على يدها برفق.

_ كنت خابر إنك مستنياني عشان اكده رچعت.

صمتت للحظة ثم قالت بصوت يملؤه الأسف والندم.

_ أنا آسفة يا جاسر أنا السبب في كل ده.

وضع إصبعه على شفتيها برفق ليمنعها من إكمال كلامها.

_ اوعي تجولي الكلمة دي تاني، اللي حوصل ده جضاء وجدر مش غلطتك إنتي.


نظرت إليه بحب وامتنان، وشعرت بأن قلبها سيتوقف من فرط المشاعر.

_ أنا كمان بحبك جوي يا جاسر.

اقتربت منه بوجهها رغم الألم الذي شعرت به في ضلوعها، وطبعت قبلة رقيقة على جبهته، ثم قبلة أخرى على صدغه حيث كانت الكدمة، كأنها تحاول أن تمحو كل أثر للألم الذي عانى منه.


ظل هو ينظر إليها يتأمل كل تفصيلة في وجهها الشاحب، يمرر إبهامه على يدها برقة لا نهائية.

_ لما كنت هناك في الضلمة دي كنت بسمع صوتك بينادي عليا صوتك هو اللي رچعني.

لم تعد تستطع حبس دموعها، فانهمرت بصمت وهي تبتسم من خلالها.

_ وعدتك إني مش هسيبك.

_ وأنا بوعدك إني عمري ما هسيبك تاني يا نغم، إنتي روحي ومن غيرك أنا ميت.


لم تكن هناك حاجة للمزيد من الكلمات. 

بقيا هكذا، يداهما متشابكتان وعيونهما تتحدثان بلغة لا يفهمها سواهما، لغة الأرواح التي كُتب لها أن تجد بعضها البعض في خضم العاصفة، وأن تنجو معًا، لتثبت أن الحب الحقيقي أقوى من الكراهية، وأقوى من الألم وأقوى حتى من الموت.


❈-❈-❈

كان صخر يقف في زاوية مهجورة من مواقف السيارات الخاصة بالمستشفى، تحت ضوء مصباح خافت كان يرمي بظلال طويلة ومخيفة. 

كان يتحدث في هاتفه بصوت منخفض حاد كأنه فحيح أفعى، حتى جاءه الرد

_ إزاي يعني فاق إزاي؟


_ هو ده اللي حوصل يا هاشم بيه فاج وبيتكلم كمان.

أتاه صوت هاشم من الطرف الآخر صوت غليظ يقطر غضبًا وعدم تصديق.

_أنا قولتلك نخلص عليه في المستشفى من أول يوم إنت اللي رفضت وقولت نصبر.


ضرب صخر بيده على الحائط الأسمنتي بجانبه بقوة مكتومة.

_ وأنا كان إيه يعرفني إنه زي الجطط بسبع أرواح كنت متخيل إنه هيموت لوحده في العناية من غير وش ولا حاچة، مكنتش عامل حسابي على المعچزات دي.


_ أنا صبري نفد يا صخر أنا صبرت كتير أوي ومستعد أصبر كمان بس الأرض دي أنا عايزها بأي شكل وبأي تمن، جاسر ده لازم يختفي من على وش الدنيا.

الصفحة التالية