رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 48 - جـ 2 - الإثنين 29/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الثامن والأربعون
الحزء الأول
تم النشر الإثنين
29/9/2025
كانت صبر تجلس على الأريكة في غرفة المعيشة الهادئة، تحتضن وسادة بقوة كأنها تستمد منها بعض الدفء المفقود.
كانت قد أنهت للتو من مكالمة هاتفية مع حماتها نسرين، المكالمة التي أصبحت طقساً يومياً منذ أن غادرت هي وحسين المنزل.
كان صوت نسرين الحنون لا يزال يرن في أذنيها
_ "يا حبيبتي والله وإنتو وحشتوني أكتر بس أنا مش برتاح غير في شقتي وفي سريري وبعدين أنا مشغولة دلوقتي في العيادة اللي سبتها الفترة اللي فاتت، وهي واخدة كل وقتي يا دوب بلحق أرجع أعمل لقمة لحسين."
أغلقت صبر الهاتف وشعرت بفراغ كبير يملأ قلبها لقد اعتادت على وجودهما، على صوت حسين وهو يناقشها في دروسها وعلى حنان نسرين ورعايتها التي لم تشعر بها من قبل أصبح البيت صامتاً وبارداً بدونهما.
في تلك اللحظة دخل أكمل من الباب عائداً من يوم عمل طويل.
ما إن رآها على هذه الحالة حتى شعر بالقلق فوراً، ملامحها كانت منطفئة وعيناها شاردتان
ألقى بحقيبته ومفاتيحه على أقرب طاولة وتوجه نحوها مباشرة وجلس بجانبها.
_ حبيبتي... مالك؟
رفعت إليه عينيها الذابلتين وحاولت أن تبتسم لكنها لم تستطع.
_ مفيش.
وضع يده على خدها برفق وأدار وجهها إليه ليتفحصها عن قرب.
_ لأ فيه أنا حافظك أكتر من نفسي وشك بيقول إنك مضايقة قاسم كويس؟
هزت رأسها.
_ قاسم نايم وكويس أنا بس...
صمتت للحظة تبحث عن الكلمات المناسبة.
_ من يوم ما والدك وولدتك مشيوا وأنا حاسة إن البيت فاضي أوي حاسة بوحشة.
ثم قالت بحرقة صادقة كشفت عن عمق مشاعرها.
_ أنا عايزة أعيش معاهم يا أكمل.
نظر إليها أكمل بدهشة وسعادة غامرة لم يكن يتوقع أبداً أن يسمع منها هذا الكلام.
كان يظن أنها قد تشعر بالراحة في الحصول على خصوصيتها لكنها فاجأته بعمق حبها وأصالتها.
اتسعت ابتسامته وشعر بموجة من الحب والفخر تجاهها.
_ للدرجة دي وحشوكي؟
قالت بعينين دامعتين
_ أنا حبيبتهم أوي يا أكمل حبيت وجودهم وصوتهم في البيت مش قادرة أتقبل فكرة إنهم يعيشوا لوحدهم بعد العمر ده كله.
مين هياخد باله منهم؟ باباك ساعات بينسى ياخد دوا الضغط وماما نسرين بترجع من العيادة تعبانة ومحتاجة اللي يساعدها مكانهم مش في شقة لوحدهم، مكانهم وسطينا.
لم يستطع أكمل أن يخفي سعادته ضمها إليه بقوة وقبل رأسها بحب عميق.
_ يا حبيبة قلبي إنتي، تعرفي أنا كمان كنت بفكر في إيه طول الفترة اللي فاتت؟
نظرت إليه بفضول.
_ كنت بفكر نشتري بيت أكبر فيلا صغيرة كده وناخدهم يعيشوا معانا فيها كل واحد له جناحه الخاص عشان راحته، بس نكون كلنا تحت سقف واحد نصحى الصبح نفطر مع بعض ونتعشى مع بعض وقاسم يكبر وسط جده وجدته.
تهلل وجه صبر بفرحة حقيقية، لمعت عيناها ببريق الأمل.
_ بجد يا أكمل؟ هتعمل كده؟
_ لو ده اللي هيريحك ويبسطك، أعمل أي حاجة في الدنيا أنا كمان نفسي أكون جنبهم وأطمن عليهم كل يوم.
ارتمت في حضنه بسعادة وشعرت بأن كل الوحشة قد تلاشت لم تكن تحلم يوماً بأن تجد عائلة بهذا الدفء، ولم تكن تتخيل أنها ستحبهم إلى هذا الحد الذي يجعلها لا تطيق فراقهم.
همس أكمل في أذنها وهو يضمها بقوة
_ ربنا رزقني بأحن وأجدع ست في الدنيا بحبك يا صبر.
في تلك اللحظة لم يكن البيت فارغاً أبداً بل كان ممتلئاً حتى آخره بحبهما وبأحلام مستقبل دافئ يجمع كل من يحبون تحت سقف واحد.
❈-❈-❈
بعد أن غادرت عائلة الرفاعي
ظل جاسر ينظر للفراغ أمامه
لم يتخيل يومًا أن يفعل عمه ذلك
تذكر عندما زاره بالمشفى
فلاش باك.....
كانت الإضاءة خافتة في غرفة العناية المركزة وصوت الأجهزة الطبية المنتظم هو الصوت الوحيد الذي يكسر الصمت الثقيل فتح جاسر عينيه ببطء وشعر بألم حاد في كل جزء من جسده، لكن عقله كان صافياً بشكل مخيف.
كان يحدق في السقف الأبيض لا يفكر في الحادث بل فيمن يقف خلفه.
في تلك اللحظة فُتح باب الغرفة بهدوء ودخل صخر.
سار بخطوات بطيئة ومدروسة وعلى وجهه قناع متقن من القلق والحزن الأبوي وقف بجانب السرير ونظر إلى ابن أخيه الممدد بين الأنابيب والأجهزة.
_حمد لله على السلامة يا ولدي جلجتني عليك.
لم يجب جاسر على الفور أدار رأسه ببطء شديد وهي حركة كلّفته ألماً هائلاً وثبّت عينيه في عيني عمه.
كانت نظراته هادئة لكنها حادة كشفرة جراح تخترق قناع القلق الزائف الذي يرتديه صخر.
_الله يسلمك... يا عمي.
قالها بصوتٍ أجش وضعيف لكن كل حرف كان يحمل وزناً وثقلاً.
جلس صخر على المقعد بجانب السرير وتنهد تنهيدة مسرحية.
_حادثة چوية... ربنا نچاك منيها بمعچزة البلد كلايتها مجلوبة.
صمت جاسر وظل يحدق فيه هذا الصمت كان أشد إزعاجاً لصخر من أي اتهام.
مال صخر إلى الأمام وخفض صوته وكأنه يشاركه سراً.
_عرفت... عرفت مين اللي عملها؟ مين الچبان اللي استجصدك بالشكل ده؟
هنا ارتسمت شبه ابتسامة باردة على شفتي جاسر المتشققتين ابتسامة لم تصل إلى عينيه.
_لسة.
كلمة واحدة، لكنها كانت كافية لزيادة التوتر في الغرفة.
واصل صخر لعبته، بنبرة غاضبة ومصطنعة.
_كيف يعني لسة؟ ده تار ولازمن يرچع اللي فكر يعمل أكده في كبير عيلة التهامي لازمن يتمحي من على وش الدنيا بس جولي... شاكك في حد؟
نظر جاسر إلى السقف مرة أخرى كأنه يفكر بعمق ثم أعاد نظره إلى عمه وكانت عيناه تلمعان ببريق خطير.
_شاكك.
توقف قلب صخر للحظة لكنه حافظ على رباطة جأشه.
_مين؟
قال جاسر ببطء وهو يختار كلماته كقطع زجاج حادة
_شاكك... إن اللي عملها... حد جريب حد مكنش عايزني أوصل لمكان معين... أو أعرف حاچة معينة حد... كان فاكر إن عربية النچل... هتخلص الحكاية.
كانت كل كلمة طعنة مباشرة وموجهة لم يذكر اسماً، لكنه وصف الفعل بدقة قاتلة.
شعر صخر ببرودة تسري في عموده الفقري هذا ليس ابن أخيه الجريح والضعيف هذا هو الوحش الذي رباه وقد استيقظ بالكامل.
حاول صخر أن يظهر الصدمة.
_جريب؟ معجول! مين ده اللي يبيع دمه ولحمه؟
ابتسم جاسر مرة أخرى بنفس الطريقة الجليدية.
_متجلجش يا عمي أول ما أجوم من اهنه بالسلامة... كل حاچة هتبان واللي ليه حج هياخده.
نهض صخر، مدركاً أن الزيارة قد انتهت وأن الرسالة قد وصلت ربّت على كتف جاسر (الكتف السليم) بحركة أبوية زائفة.
_جوم أنت بالسلامة بس وأني هجلبلك الدنيا عشان نعرف مين الكلب ده راحتك تهمنا.
رد جاسر بهدوء مميت وعيناه لم تفارقا عيني عمه
_عارف... عارف زين إن راحتي تهمك... يا عمي.
خرج صخر من الغرفة وشعر بأنه بحاجة إلى الهواء.
لقد دخل ليرى ضحيته فخرج وهو يعلم أنه أصبح هو الفريسة لقد أعلن جاسر الحرب، حرباً صامتة وباردة ستكون أشد فتكاً من أي مواجهة سابقة فجاسر الآن لا يحارب من أجل ثأر قديم بل يحارب من أجل حياته التي حاولوا سلبها منه.
❈-❈-❈
ساعدت ونس نغم على صعود السلم ببطء، خطوة بخطوة حتى وصلتا إلى باب غرفتها.
فتحت ونس الباب بهدوء فكان جاسر راقدًا على السرير، وعيناه مثبتتان على الباب كأنه كان ينتظرها منذ دهر.
عندما رآها تدخل وهي تتسند على والدته ابتسم لكنها كانت ابتسامة ممزوجة بحزن عميق، حزن رجل يرى حبيبته تتألم وهو عاجز عن مساعدتها
لقد وعدها بأنه سيكون سندها في كل شيء، وأنه عندما تتعب هو من سيحملها بين ذراعيه، وها هو الآن لا يستطيع حتى أن ينهض من سريره ليمسك بيدها.
شعر بعجز لم يشعر به من قبل، عجز كان أشد إيلامًا من أي جرح جسدي.
ساعدت ونس نغم على الاستلقاء بجانب جاسر على السرير، مع ترك مسافة كافية بينهما حتى لا يتألم أحدهما.
مدت نغم يدها فورًا وأمسكت بيده شعر كلاهما براحة فورية بمجرد تلامس أصابعهما.
نظرت ونس إليهما بحب وحنان، وهما يرقدان جنبًا إلى جنب كأنهما طفلان متعبان بعد يوم طويل.
_ ناموا وارتاحوا شوية يا حبايبي على ما سامية تخلص الغدا وتجهزه.
لكنها لم تكد تنهي جملتها حتى سمعوا صوتًا قادمًا من أسفل، صوت يعرفونه جيدًا، صوت زينة وهي تنادي باسم ونس.
_مرت عمي انتي فين؟
تنهدت ونس وابتسمت ابتسامة متعبة.
_ أهي كملت دي أكيد زينة جاية تتخانق عشان خرجنا من المستشفى من غير ما نعرفها.
ضحكت نغم ضحكة خفيفة بينما ابتسم جاسر بيأس مصطنع.
_ سيبيها عليا أنا يا أمي.
قالت ونس وهي تتجه نحو الباب.
_ لأ خليك إنت في اللي إنت فيه أنا هنزل أشوف العاصفة دي عايزة إيه.
خرجت ونس وأغلقت الباب خلفها، وبقي جاسر ونغم وحدهما.
التفت إليها جاسر وقال بصوت خافت يملؤه الأسف.
_ أنا آسف.
نظرت إليه باستغراب.
_ آسف على إيه؟
_ آسف إني مش جادر أكون چارك زي ما وعدتك، مش جادر أشيلك وأسندك وإنتي تعبانة.
شدت على يده بقوة ونظرت في عينيه مباشرة.
_ مچرد وچودك چنبي بالدنيا كلها يا جاسر، إنت سندي حتى وإنت نايم على السرير اكده، كفاية عليا إنك رچعتلي بالسلامة.
لم يرد عليها، بل اكتفى بالنظر إليها بحب عميق، وشعر بأن هذا الحب هو القوة الوحيدة التي ستساعدهما على تجاوز هذه المحنة، وأن وعده لها لم يُكسر، بل هو فقط تأجل لوقت قصير.
❈-❈-❈
لم تكد ونس تغلق الباب خلفها حتى انفتح مرة أخرى بعنف ودخلت منه زينة كالإعصار، وعلى وجهها ابتسامة مرحة وعابثة كعادتها.
_ إيه يا عصافير الحب عاملين إيه النهاردة، سمعت إنكم هربتوا من المستشفى من غير ما تدفعوا الحساب جولت أچي أحصل الفاتورة.
ضحكت نغم ضحكة خفيفة رغم ألمها بينما اكتفى جاسر بابتسامة باهتة، فهو معتاد على هذا النوع من المرح مع زينة.
كيف ده؟ اومال الرسايل اللي شغالة من وجت ما فتحت الفون لحد دلوجت مين اللي أخدها.
اقتربت زينة منهما وجلست على طرف السرير
_ما انا عارفاك بخيل جلت للحاج سالم وهو بيحاسب المستشفى انك راچل شراني ولو عرف ان حد دفعله فلوس المستشفى هيجتلني أنا، وحلفتله بالطلاج ما هينفع لحد ما اقتنع.
سألتها نغم
_حلفتي لعمي بالطلاج؟
أكدت زينة
_أومال مع إن كان نفسي يوجعني في الطلاج عشان ارتاح من وليد وعياله، بس كنت هسيبهم وأرچع لشروق، فجلت نار وليد أفضل.
وتغيرت نبرتها إلى الجدية فجأة.
_ لأ بجد حمدلله على سلامتكم جلجتوني عليكم جوي، بس الحمد لله كلمت الدكتور وطمني إن كل حاچة تمام، وشوية كدمات ورضوض بسيطة وهترچعوا أحسن من الأول.
شعرت نغم وجاسر بالراحة لكلماتها لكن زينة أكملت حديثها بعفوية، محاولة التهوين عليهما دون أن تدرك أنها على وشك أن تلقي قنبلة في هدوء الغرفة.
_ وإن كان على الحمل اللي نزل فده جضاء ربنا، وبكرة ربنا يعوضكم بعشرة غيره المهم صحتكم إنتو الاتنين.
سقطت الكلمات في الغرفة لكنها لم تسقط ككلمات عادية، بل سقطت كصخرة حطمت كل شيء.
الحمل اللي نزل...
تجمدت ابتسامة نغم على شفتيها وتحولت ملامحها إلى قناع من الصدمة المطلقة وعدم الفهم.
نظرت إلى جاسر فرأت نفس الصدمة في عينيه التي اهتزت بصدمة واضحة، وكأن أحدهم طعنه في قلبه.
في تلك اللحظة، أدركت زينة من صمتهما المروع ومن نظراتهما الضائعة أنها ارتكبت خطأً فادحًا.
نظرت إلى ونس التي كانت تقف عند الباب وقد شحب وجهها هي الأخرى وأدركت أنها لم تخبرهما.
لقد كشفت هي عن السر بأكثر الطرق قسوة.
ارتبكت زينة وتلعثمت، محاولة إصلاح ما لا يمكن إصلاحه.
_ أنا أنا نسيت موبايلي تحت في العربية هنزل أجيبه وجاية
لم تنتظر ردًا، بل انسحبت من الغرفة بسرعة هاربة من العاصفة التي تسببت فيها تاركة خلفها دمارًا صامتًا.
بقيت نغم جامدة في مكانها لثواني تحاول استيعاب الكلمة.
"حمل"
لقد كان بداخلها حياة أخرى حياة صغيرة كانت ثمرة حبها هي وجاسر وقد رحلت قبل أن تعرف بوجودها حتى.
شعرت بألم جديد، ألم لا علاقة له بضلوعها المكسورة، بل ألم يمزق أحشاءها وروحها.
قامت من السرير ببطء بحركة آلية كأنها روبوت
_ أنا...أنا داخلة الحمام
لم تنظر إلى جاسر لم تستطع.
دخلت إلى الحمام وأغلقت الباب خلفها وبمجرد أن استندت بظهرها عليه، انزلقت على الأرض وانهارت.
لم تصرخ لم تبكي بصوت عالي بل كان بكاءً صامتًا ممزقًا يهز جسدها كله.
وضعت يدها على بطنها الفارغة وشعرت بخواء لم تشعر به من قبل خواء لا يمكن لأي شيء في العالم أن يملأه.
لقد فقدت ابنها، ابنها الذي لم تكن تعرفه.
أما جاسر فبقي مستلقيا على السرير يحدق في السقف لكنه لا يراه.
كانت الصدمة قد شلت تفكيره.
"ابن"
لقد كان سيصبح أبًا.
كان سيحمل طفلًا من المرأة التي يعشقها لكنه فقده وبسبب من؟ بسببه هو.
شعر بالذنب ينهشه كالوحوش الكاسرة
لولا تهوره، لولا غضبه الأعمى في ذلك اليوم لما حدثت كل ذلك
لولا أنه أصر على مواجهة الماضي، لما فقد مستقبله لقد قتل ابنه بيده قبل أن يولد.
كان يسمع صوت بكاء نغم المكتوم القادم من الحمام وكان كل شهقة منها كأنها سكين تُغرس في قلبه.
أراد أن ينهض أن يذهب إليها أن يكسر الباب ويأخذها في حضنه ويخبرها أنهم سيتجاوزون هذا معًا.
لكنه لم يستطع لقد خانه جسده وخانته قوته
شعر بعجز مطلق عجز جعله يكره نفسه أكثر من أي وقت مضى.
لأول مرة في حياته سمح لدموعه بالانطلاق الداخلي
لم تكن دموعًا تنهمر على خديه بل كانت دموعًا تحرق روحه من الداخل، دموع رجل قوي أدرك للتو أنه تسبب في تحطيم أغلى ما يملك وأنه لا يستطيع فعل أي شيء لإصلاح ذلك.
❈-❈-❈
مر الوقت في المرحاض كأنه لا يمر، كانت نغم لا تزال جالسة على الأرضية الباردة تحتضن ركبتيها ودموعها قد جفت على خديها لكن شهقاتها المتقطعة لم تتوقف، لم تكن تبكي فقط على الحلم الذي لم تعشه بل كانت تبكي على جاسر .
كانت تتخيل وقع الخبر عليه هو الذي بدأ للتو يرى النور في حياته كيف سيتحمل ذنبًا كهذا.
لقد كانت هي المخطئة هي التي خرجت من ورائه هي التي عرضت نفسها وهذا الكائن الصغير الذي لم تكن تعرفه للخطر، كان الذنب ينهشها ليس فقط حزن الأم بل ذنب الزوجة التي تشعر أنها خذلت زوجها بأبشع طريقة ممكنة.
في الغرفة كان جاسر لا يزال في نفس وضعيته يحدق في الفراغ، كان الصمت بينه وبين باب الحمام المغلق أثقل من أي صراخ، كان كل نفس يأخذه يشعر به كأنه يسرق الهواء من الغرفة، لقد قتل ابنه بتهوره وغضبه، لقد فشل في حماية عائلته فشل في حماية المرأة التي أقسم على أن يكون سندها، وفشل في حماية ثمرة حبهما.
كان يشعر بأنه لا يستحقها لا يستحق حبها ولا يستحق حتى أن يكون بجانبها في هذه اللحظة.
أخيرًا وبعد زمن بدا كأنه دهر انفتح باب المرحاض.
خرجت نغم كان وجهها شاحبًا وخاليًا من أي تعابير وعيناها حمراوين لكنهما جافتان، اتجهت إلى الجانب الآخر من السرير، وسارت ببطء حتى وقفت بجانبه
نظر إليها فرأى في عينيها حزنًا عميقًا كالمحيط لكنه لم ير لومًا أو عتابًا.
استلقت بجانبه بهدوء ووجهها يقابله لم تقل شيئًا فقط مدت يدها المرتجفة وأمسكت بيده بقوة كأنها تستمد منه الأمان وتمنحه إياه في نفس الوقت.
شعر جاسر بارتعاش يدها، وشعر بالدفء الذي تبعثه رغم برودتها، لقد جاءت إليه لم تبتعد في عمق حزنها كانت لا تزال تبحث عنه.
قال بصوت متحشرج صوت رجل محطم.
_ أنا السبب أنا اللي......
هزت رأسها بسرعة ودمعة جديدة هربت من عينيها وسقطت على الوسادة بينهما وهي تقاطعه.
_ لأ متجولش اكده، لو حد المفروض يتلام فهو أنا.
انا اللي اتسرعت وفكرت بغباء، بس صدجني كنت خايفة ازعلك لو اكتشفت اني عندي مشكلة وخصوصاً لما جولتلي انك عايز ولاد كتير مني.
ابتلعت غصة مؤلمة في حلقها
_كان نفسي افرحك، كان نفسي اطمن إني معنديش أي مشكلة والموضوع مسألة وجت.
نظر إليها بعينين يملؤهما الألم وقد رفض أن تتحمل هي الذنب لوحدها، هو أيضاً اخطأ بتهوره
_ المفروض في الوقت ده كنت سألتك الأول
أو كنت أخدتك البيت واتفاهمنا..
غامت عينيه بالألم
_على الأجل كنت هكون لوحدي..
شدت على يده بقوة أكبر وصوتها خرج متقطعًا بالبكاء، هي لم تفهم معنى جملته الأخيرة فظنت أنه سيتألم وحده
_ وإنت غضبت ليه؟ مش عشاني مش عشان خايف عليا، أنا اللي حولت خوفك وحبك ليا لكارثة.
كل واحد فيهم يبعد الغلط عن الآخر
فاحساس الذنب الذي يشعر به كلاهما يحاولون ابعاد ثقله عن بعضهم.
صمت كل منهما للحظات يغرقان في بحر من الذنب المشترك ثم قال جاسر بصوت مكسور