رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 49 - جـ 1 - الثلاثاء 30/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل التاسع والأربعون
الحزء الأول
تم النشر الثلاثاء
30/9/2025
كانت السيارة تسير بهدوء في شوارع القاهرة المزدحمة، لكن داخلها كان هناك عالم من السكينة.
يجلس أكمل خلف عجلة القيادة يلقي نظرات خاطفة بين الحين والآخر على زوجته الجالسة بجانبه.
كانت صبر تنظر من النافذة لكن نظراتها كانت شاردة كان ابنهما الصغير نائماً في كرسيه وأنفاسه المنتظمة هي الموسيقى التصويرية الهادئة لرحلتهم.
مد يده ووضعها فوق يدها التي تستقر على ساقها، شعرت بلمسته الدافئة فالتفتت إليه وابتسمت ابتسامة باهتة.
_ أنا عارف إنك مش مبسوطة أوي بالروحة عند ماما.
تنهدت صبر برفق.
_ مش القصد يا أكمل أمي ربنا يديها الصحة عمرها مزعلتني من وقت ما شوفتها، صحيح أول يومين مكنتش متقبلاني بس بعدها حسيت بحبها الحقيقي
لكن... أنا بحب بيتنا بحب أكون معاك.
ضغط على يدها برفق.
_ وأنا مقدرش أعيش من غيركم بس أنا شايفك بتتعبى إزاي اليومين دول الحمل تقيل عليكي ومحتاجة اللي ياخد باله منك ومن الولد طول الوقت
وأنا للأسف دماغي مشتتة في القضية دي ومش عارف أساعدك.
نظر إليها بحب عميق.
_ كلها كام يوم بس يا حبيبتي أوعدك أول ما أخلص من الملف ده، هاخد أجازة طويلة ومش هعمل حاجة في الدنيا دي غير إني أقعد جانبكم أخدمك إنتي والباشا الصغير اللي نايم ومش دريان بحاجة ده.
ابتسمت صبر ابتسامة حقيقية هذه المرة، وشعرت بالاطمئنان يغمر قلبها.
_ ربنا يخليك لينا يا حبيبي وميحرمنيش من حنيتك دي.
_ ويخليكي ليا يا كل دنيتي أنا بس عايزك ترتاحي، وماتفكريش في أي حاجة سيبي كل حاجة على ماما وهي هتدلعك آخر دلع وبعدين الفيلا خلاص بتتشطب وأول ما تخلص هننقل كلنا فيها.
وصلوا إلى بناية والدته وركن السيارة نزل وفتح لها الباب وساعدها على النزول برفق ثم اتجه ليحمل ابنه النائم.
صعدوا إلى شقة والدته التي استقبلتهم بحفاوة وفرحة، وأخذت الطفل من ذراعي أكمل على الفور.
بعد أن اطمأن على أنهم استقروا، وأن والدته قد بدأت بالفعل في تدليل صبر وإعداد كل ما تحبه، وقف أكمل ليستئذن بالرحيل.
احتضن صبر بقوة وهمس في أذنها.
_ هتوحشيني.
_ وأنت كمان متتأخرش عليا.
_ عيوني ليكي.
قبّل رأسها ورأس ابنه، ثم استدار ليغادر.
بينما كان يسير عائداً إلى سيارته، كان يشعر بمزيج من الوحشة والفراغ لأنه سيبيت في شقتهما وحيداً الليلة.
لكنه في نفس الوقت كان يشعر بالراحة لأنهم في أيدٍ أمينة.
الآن، يمكنه أن يتفرغ تماماً لتلك العاصفة التي تنتظره في أوراق القضية، أن يغوص في تفاصيلها المعقدة وينهيها بأسرع وقت ممكن، ليعود إلى ملاذه الحقيقي إلى حضن عائلته الصغيرة.
❈-❈-❈
كانت شروق.
لكنها لم تكن شروق التي يعرفانها
لم تكن هناك نظرة متعجرفة أو ابتسامة ساخرة كانت تقف هناك مرتدية ملابس بسيطة، ويداها متشابكتان أمامها بتوتر كان رأسها منخفضاً
كانت هالة من الندم والكسوف تحيط بها، هالة غريبة لم ترها عليها من قبل.
منذ أن سمعت تلك المكالمة المشؤومة، وذلك الصوت البارد لوالدها وهو يأمر بقتل جاسر انهار كل شيء بداخلها.
لقد أدركت في تلك اللحظة أنها كانت مجرد أداة في لعبة أكبر وأقذر بكثير مما تخيلت.
كرهها لنغم وغيرتها، كله تلاشى أمام حقيقة أن والدها حاول قتل ابن أخيه بدم بارد.
لم تجرؤ على الذهاب إلى المستشفى، كيف ستنظر في وجه جاسر أو نغم وهي تحمل هذا السر المروع؟ ولم تكن قادرة على المجيء إلى هنا، خوفاً من أن تزيد من ألم نغم.
لكنها لم تعد قادرة على التحمل كان يجب أن تراه، أن تتأكد أنه بخير بعينيها.
صُدمت نغم وونس من هيئتها، لم تكونا مستعدتين لهذه النسخة المنكسرة من شروق.
رفعت شروق عينيها بصعوبة بالغة، وتلاقت نظراتها بنظرات نغم المصدومة.
حاولت ونس رفع الاحراج عنها
_اهلا يا شروق نورتي البيت اتفضلي.
كان في عيني شروق مزيج من الخوف والرجاء والندم.
_ أنا... أنا آسفة إني چيت من غير ميعاد بس... إذا سمحتي... ممكن أشوف جاسر؟ عايزة بس أطمن عليه.
كان صوتها خافتاً مهزوزاً، خالياً من أي تحدي.
نظرت ونس إلى نغم، في إشارة صامتة تقول لها إن القرار قرارها هذا بيتها الآن، وهذا زوجها وهي سيدة الموقف.
شعرت نغم بوخزة من الغيرة وهذا طبيعي.
لكنها رأت شيئاً حقيقياً في انكسار شروق رأت ألماً لم تره من قبل
تذكرت كيف ضحى جاسر بحياته من أجلها، وأدركت أن القوة الحقيقية ليست في الانتقام بل في التسامي فوق الجراح.
تنهدت وتغلبت على مشاعرها، ورسمت على وجهها هدوءاً حزيناً.
_ أكيد طبعاً اتفضلي.
ثم التفتت إلى سامية.
_ جهزي حاچة تشربها
صُدمت شروق وونس من رد فعلها
لم تتوقعا هذا الرقي وهذه السماحة تقدمت شروق بخطوات مترددة وجلست على حافة أقرب مقعد، وما زالت غير قادرة على رفع عينيها بالكامل.
وقفت نغم.
_ أنا هطلع أجوله إنك اهنه.
صعدت نغم الدرج بهدوء وقلبها يخفق بقوة كانت مشاعرها متضاربة، لكنها كانت تعرف أنها فعلت الصواب وصلت إلى باب جناحهما وأخذت نفساً عميقاً قبل أن تفتحه.
كان جاسر قد استيقظ للتو ويحاول أن يعتدل في جلسته، عندما رآها ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة.
_ كنت لسه هندهلك وحشتيني....
كان على وشك أن يقول شيئاً آخر، لكنه توقف عندما رأى الجدية على ملامحها.
وقفت أمامه وقالت بصوت ثابت، هادئ لا يحمل أي تعبير.
_ شروق تحت وعايزة تشوفك.
❈-❈-❈
عاد أكمل إلى شقته وأغلق الباب خلفه، ليشعر على الفور بالصمت والفراغ الذي تركه غياب صبر وابنه.
كان البيت بارداً يفتقد لدفء وجودهما.
تنهد وخلع ملابسه الرسمية التي كانت تخنقه طوال اليوم، وارتدى بيجامة قطنية مريحة، محاولاً أن يتخلص من أعباء العالم الخارجي.
توجه إلى المطبخ وأعد لنفسه فنجان قهوة أسود قوي، ليكون رفيقه في الليلة الطويلة التي تنتظره مع أوراق القضية.
حمل فنجانه وتوجه إلى مكتبه الصغير حيث كانت الملفات مكدسة، تنتظر أن يغوص في تفاصيلها المعقدة.
جلس على كرسيه وأشعل مصباح المكتب الذي ألقى دائرة من الضوء على الأوراق تاركاً بقية الغرفة في شبه ظلام.
ما إن بدأ يقرأ أول سطر، حتى انقطع سكون الشقة بصوت جرس الباب الحاد المفاجئ.
عقد حاجبيه باستغراب من قد يأتي في هذا الوقت؟ هل نسيت صبر شيئاً؟ لكن والدته كانت ستتصل به بالتأكيد.
نهض من مكانه وتوجه نحو الباب وهو يشعر بشيء من القلق الغامض. نظر من العين السحرية وتجمد في مكانه للحظة.
ليلى.
ماذا تفعل هنا؟ فتح الباب ببطء ووقف يسد المدخل بجسده وملامحه جامدة لا تحمل أي تعبير.
_ ليلى؟ خير؟
كانت تقف أمامه ترتدي فستاناً أنيقاً وتفوح منها رائحة عطر قوي، غريب عن رائحة الياسمين الهادئة التي اعتاد عليها من صبر.
ارتبكت قليلاً من استقباله البارد لكنها تماسكت.
_ أكمل... أنا آسفة إني جيت كده من غير ميعاد أنا رحتلك مكتبك في النيابة بس الساعي قالي إنك مشيت بدري النهاردة.
المهم إني محتاجة أتكلم معاك ضروري الموضوع مهم أوي وميستحملش تأجيل.
نظر إليها بشك لم يكن مرتاحاً أبداً لوجودها هنا، في مكانه الخاص في بيته الذي يشاركه مع زوجته.
لكنه لم يستطع أن يطردها خاصة وهي تقول إن الأمر ضروري
تنهد وتراجع خطوة إلى الوراء، سامحاً لها بالدخول.
دخلت ليلى لكن ما أثار استغرابه وقلقه حقاً هو أنها مدت يدها خلفها وأغلقت باب الشقة، حركة صغيرة لكنها كانت كفيلة بإطلاق كل أجراس الإنذار في رأسه.
_ ممكن نقعد؟
أشار برأسه نحو الصالة بينما بقي هو واقفاً يراقبها بحذر
جلست على الأريكة وبدأت تتحدث لكن كلماتها كانت تدور في دوائر، تتحدث عن عملها وعن ضغوط الحياة وعن شعورها بالوحدة، وعن كيف أن النجاح ليس كل شيء.
كانت مقدمات طويلة ومشتتة، كأنها تحاول أن تجد المدخل الصحيح للموضوع الذي جاءت من أجله.
كان أكمل يستمع بصبر نافد، ويشعر بأن هناك شيئاً خاطئاً شيئاً خطيراً على وشك الحدوث.
فجأة صمتت ونظرت إليه مباشرة وفي عينيها نظرة يائسة لم يرها من قبل.
_ بصراحة يا أكمل أنا جاية اعترفلك بإني مش قادرة أعيش من غيرك.
وقع الكلام عليه كالصاعقة.
_ أنا عارفة إني غلطت... غلطت لما اخترت الشغل والمناصب بدالك اتخطبت لواحد عنده منصب كبير، معاه فلوس وسلطة... كل الحاجات اللي كنت فاكرة إنها هتسعدني.
بس محستش معاه بأي حاجة محستش بالأمان اللي كنت بحسه معاك.
محستش إن ليا ضهر وسند زيك.
اقترب صوتها من البكاء.
_ أنا كنت غبية والبعد عنك عرفني قيمة اللي كان في إيدي وخسرته.
لازم نرجع لبعض يا أكمل... أنا مستعدة أعمل أي حاجة.
لم يعد أكمل قادراً على الصمت وضع فنجان القهوة على أقرب طاولة بقوة، وانفجر فيها بغضب مكتوم.
_ ترجعي لمين؟ إنتي اتجننتي؟ إنتي ناسية إني متجوز؟ ناسية إن عندي ابن وزوجة؟ إيه الكلام الفارغ اللي بتقوليه ده؟
نهضت ليلى من مكانها واقتربت منه متجاهلة غضبه تماماً.
تحركت نحوه بطريقة مغرية مقصودة ومدت يدها لتحاول لمس صدره.
_ مراتك دي مجرد فلاحة بسيطة مش من مستواك ولا من مستوايا.
أنت تستاهل واحدة تانية... تستاهلني أنا وأنا مش هقدر أبعد عنك تاني أنا بحبك.
تراجع أكمل خطوة إلى الوراء مبتعداً عن لمستها كأنها نار.
_ إنتي مريضة! اطلعي بره بيتي حالاً.
لكنها لم تستمع تقدمت نحوه مرة أخرى وهي تهمس باسمه بنبرة لم تعد تحتمل هي رأته يدخل بزوجته منزل والدته وعاد وحيدًا وهذه فرصتها كي يضغط عليه.
❈-❈-❈
كانت روح تجلس أمام منضدة الزينة الكبيرة في غرفتها، تمرر الفرشاة في شعرها الطويل ببطء لكن عينيها لم تكونا تتابعان حركتها، بل كانتا مثبتتين على الانعكاس في المرآة.
كانت المرآة تعكس مشهداً أصبح يتكرر يومياً: مالك مستلقٍ على السرير على جانبه، وبجانبه ترقد ابنتهما الصغيرة "نور" التي لم تتجاوز الشهر، في نفس وضعيته كأنها صورته المصغرة كان يتحدث معها بصوتٍ عميق وحنون، كأنه يشاركها أسرار الدولة، ويناقشها في أمور الكبار.
كانت الصغيرة تناغيه بأصوات غير مفهومة، وهو يرد عليها بجدية مصطنعة كأنه يفهم كل كلمة تقولها.
شعرت روح بوخزة حادة من الغيرة لقد كانت هي طفلته المدللة، وأخته، وحبيبته، وكل عالمه والآن جاءت هذه الصغيرة لتستولي على كل الاهتمام لقد أصبح كل وقته، كل حنانه، كل كلماته موجهة لها.
لم تعد تحتمل ألقت بالفرشاة على المنضدة بعنف مكتوم ونهضت وتوجهت نحو الباب لتخرج من الغرفة.
ما إن فتحت الباب حتى جاء صوته الحاد من خلفها قاطعاً حديثه الهام مع ابنته.
_ على فين؟ وإنتي خارچة من أوضتك بشعرك اكده كيف؟
استدارت إليه بغيظ
_ خارجة أشم هوا! وسند مش اهنه عشان تجلج.
جلس على حافة السرير، ونظر إليها بصرامة لم تفقد حنانها.
_ برضه مينفعش متضمنيش ممكن يرچع في اي وجت.
أطلقت تنهيدة غيظ وجذبت أقرب طرحة من على الأريكة، ووضعتها على شعرها بإهمال وعنف ثم خرجت وصفقت الباب خلفها بقوة خفيفة.
في الردهة كانت على وشك النزول لكنها قابلت ورد التي كانت تخرج من جناحها في نفس اللحظة رأت ورد ملامح روح المتجهمة وحاجبيها المعقودين، فابتسمت بمكر.
_ مالك يا روح؟ جالبه وشك ليه؟
نظرت إليها روح بتذمر طفولي، كأنها تشتكي لأمها.
_ عاچبك اللي ابنك بيعمله ده؟
رفعت ورد حاجبها بدهشة مصطنعة.
_ ابني؟ عمل إيه مالك تاني؟
قالت روح بغيظ وهي تشير بيدها نحو باب غرفتها
_ من ساعة ما ست نور شرفت، وهو نسي إن له زوچة أصلاً! كل اهتمامه وحبه وكلامه بجى ليها هي وبس! وأنا كأني هوا!
انفجرت ورد في ضحكة مكتومة فهي تعرف روح جيدًا ومدى دلالها على مالك من طفولتها ثم اقتربت منها ووضعت ذراعها حول كتفها وقالت بنبرة خبيرة
_ عشان هبلة.
نظرت إليها روح بعدم فهم.
_ هبلة؟
_ أيوه هبلة عشان سيبتي حتة العيلة الصغيرة تاخده منك بالسهولة دي.
زادت حيرة روح.
_ مش فاهمة أعمل إيه يعني؟
مالت ورد عليها وهمست في أذنها بسر، كأنها تمنحها وصفة سحرية.
_ هو إنتي فاكرة إنك لما بتنشغلي بيها وتهتمي بها وتنسيه هو هيرچعلك؟ لأ يا ناصحة هو كمان بيغير.
_ بيغير؟ بيغير من إيه؟
_ بيغير من اهتمامك إنتي بيها إنتي كمان انشغلتي عنه بالبنت، وبجيتي أم وبس اسحبيه منيها تاني.
_ إزاي بس يا مرات عمي؟
ابتسمت ورد ابتسامتها الماكرة الواسعة.
_ خليكي ناصحة دلعي نفسك، البسي واتشيكي واعملي كإنك مش غيرانة منها خالص ولما تلاجيه بيلعب معاها، روحي اجعدي چنبه مش بعيد عنه ادخلي في حضنه وهو شايلها، وبوسيها إنتي كمان خليه يشوفك أم وحبيبة في نفس الوقت خليه يحس إنك بتشاركيه حبه ليها، مش بتنافسيه عليها وساعتها، هتلاقيه هو اللي بيدور عليكي عشان يثبتلك إنك لسة الأصل... وإنها هي مجرد صورة منك.
نظرت روح إلى عمتها بذهول كأنها كشفت لها عن سر من أسرار الكون لقد كانت تنظر للأمر من زاوية خاطئة تماماً.
ربتت ورد على كتفها.
_ يالا اسمعي نصيحة اللي أكبر منك، وارجعي أوضتك وابدأي الحرب بتاعتك بس بشطارة ودلع مش بغيظ وعصبية.
ابتسمت روح ابتسامة واسعة لأول مرة منذ أيام وشعرت بأنها استعادت أسلحتها.
قبلت ورد على خدها بسرعة، وعادت إلى غرفتها بخطوات واثقة مستعدة لخوض معركة استعادة "مالك" من منافستها الصغيرة.
عادت روح إلى غرفتها لكنها لم تكن نفس المرأة التي خرجت منها قبل دقائق لم تعد تلك الزوجة الغاضبة المتذمرة، بل كانت أنثى واثقة تخطو أولى خطواتها في معركة محسوبة.
وجدته لا يزال على نفس وضعيته مستلقياً بجوار ابنتهما لكنه كان صامتاً الآن ويبدو أنه كان ينتظر عودتها.
لم ينظر إليها عندما دخلت متظاهراً بالانشغال بالصغيرة.
تجاهلت صمته تماماً خلعت الطرحة بهدوء وألقتها على الأريكة ثم توجهت إلى خزانة ملابسها.
فتحتها وبدأت تمرر يدها على الفساتين المعلقة، كأنها تبحث عن شيء محدد اختارت فستاناً حريرياً بسيطاً بلون هادئ من تلك التي يعرف مالك أنها تحبها.
دخلت إلى الحمام وبعد دقائق خرجت وقد تغيرت تماماً سرحت شعرها من جديد ليتموج على كتفيها ووضعت لمسة عطر خفيفة، ذلك العطر الذي أهداه لها في عيد ميلادها
كان مالك يراقبها بطرف عينه، متظاهراً بعدم الاهتمام لكنه لاحظ كل تفصيل لاحظ تغير ملابسها، ورائحة عطرها التي وصلت إليه وهدوءها غير المعتاد كان يتوقع عاصفة من الغضب، لكنه وجد سكوناً مقلقاً وجميلاً في نفس الوقت.
لم تتجه نحوه مباشرة بل توجهت إلى سرير الطفلة وأحضرت منه غطاءً خفيفاً ثم اقتربت من السرير بهدوء تام.
لم تقل "ابعد" أو "هاتها"
بدلاً من ذلك جلست على حافة السرير بجانبه تماماً حتى لامس كتفها ذراعه
انحنت فوق الصغيرة وقبلتها على جبينها برقة ثم غطتها بالغطاء الخفيف وهي تهمس بصوتٍ حنون
_ عشان متبرديش يا قلبي.
شعر مالك بالارتباك لقد توقع أي شيء إلا هذا.
ثم وبدلاً من أن تنهض وتبتعد فعلت شيئاً لم يتوقعه أبداً استندت برأسها على كتفه، وظلت تنظر إلى ابنتهما النائمة وقالت بصوتٍ هادئ ودافئ
_ شكلها شبهك أوي وهي نايمة نفس هدوءك.
تجمد مالك للحظة لقد حاصرته من كل الجهات لقد دخلت إلى عالمه الخاص مع ابنته، وشاركته فيه بدلاً من أن تحاربه عليه شعر بدفء رأسها على كتفه ورائحة عطرها تملأ أنفاسه.
لم يستطع المقاومة استدار قليلاً ليواجهها ورفع يده ومسح على شعرها برفق.
_ كنتي فين؟
نظرت إليه بعينين بريئتين كأنها لا تفهم سؤاله.
_ كنت بغير هدومي.
هز رأسه ببطء وابتسامة خفيفة بدأت ترتسم على شفتيه.
_ لأ. كنتي فين من زمان؟
لم تجب فقط ابتسمت ابتسامتها التي يعرفها الابتسامة التي تذيب كل دفاعاته.
في تلك اللحظة تحول اهتمامه بالكامل لم تعد الصغيرة "نور" هي محور الكون بل أصبحت مجرد خلفية جميلة في مشهد بطله هو وهذه المرأة التي تجلس بجانبه.
همس بصوتٍ عميق، وهو يقرب وجهه منها
_ وحشتيني.
ردت بهمس مماثل وعيناها لا تفارقان عينيه
_ وإنت كمان.
لم تكن هناك حاجة لكلمات أخرى انحنى وقبلها، قبلة كانت في البداية هادئة وحنونة ثم سرعان ما تعمقت لتصبح قبلة شغف وشوق، كأنه يعيد اكتشافها من جديد.
في خضم هذه اللحظة أدركت روح أن ورد كانت على حق لم تكن المعركة مع ابنتها بل كانت مع نفسها وعندما فهمت اللعبة فازت بها بسهولة، واستعادت عرشها كملكة متوجة على قلب "مالك" دون منازع.