رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 44 - جـ 1 - الخميس 25/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الرابع والأربعون
الحزء الأول
تم النشر الخميس
25/9/2025
كان الليل هادئاً في سرايا الرفاعي والجميع يغط في نوم عميق
لكن فى غرفة مالك وروح كان الهدوء مختلفاً كان هدوءاً دافئاً مشبعاً بالحب والمصالحة.
كانت روح نائمة بعمق في حضن مالك ويدها على بطنها المنتفخ قليلاً كأنها تحمي كنزها الثمين حتى في أحلامها
لكن هذا السلام تمزق فجأة.
فتحت روح عينيها على ألم حاد غادر بدأ في أسفل ظهرها ثم زحف ببطء ليلتف حول بطنها كحزام من نار.
حبست أنفاسها وحاولت تغيير وضعية نومها على أمل أن يكون مجرد تقلص عابر، أغمضت عينيها بقوة وهي تتمتم في سرها "هيروح دلوج هيروح"
لكن الألم لم يذهب بل عاد مرة أخرى أقوى وأكثر قسوة، شعرت ببرودة تسري في أطرافها رغم حرارة جسدها حاولت أن تتنفس بهدوء لكن الألم كان يخطف أنفاسها.
لم تعد قادرة على التحمل هذا ليس ألماً عادياً.
تحركت بضعف ووضعت يدها المرتجفة على كتف مالك الذي كان يغط في نوم عميق بجانبها
_ مالك.
لم يستيقظ كان نومه عميقاً بعد ليالي من القلق والأرق، هزته بقوة أكبر وصوتها خرج متقطعاً ومبحوحاً من الألم
_ مالك اصحى.
شعر مالك بالهزة وفتح عينيه ببطء ولا يزال في حالة ما بين النوم واليقظة.
_ همم فيه إيه يا حبيبتي.
لكنه استيقظ تماماً عندما رأى وجهها في ضوء القمر الخافت المتسلل من النافذة، كان وجهها شاحباً ومتغضناً من الألم وعيناها مليئتان بالدموع والخوف.
_ روح مالك فيه إيه
اعتدل في جلسته بسرعة البرق والقلق ينهش قلبه.
_ بطني وضهري مش جادرة.
قالتها وهي تتلوى من موجة ألم جديدة ضربتها بقسوة
_ نادي... ناديلي أمي بسرعة.
لم يسأل أي سؤال آخر قفز من السرير كالملسوع وبدون حتى أن يفكر في ارتداء أي شيء فوق بنطال نومه انطلق خارج الغرفة حافي القدمين وقلبه يدق في حلقه بعنف.
ركض في الممر المظلم وفتح باب غرفة والدته بقوة دون أن يطرق
_ أمى أمى اصحي الله يرضى عليك.
انتفضت ورد من نومها مذعورة على صوته.
_ مالك فيه إيه يا ولدى؟
_ روح روح تعبانة جوي.
لم تحتاج ورد لأكثر من ذلك، نهض سالم بدوره
_في ايه يا مالك.
ردت ورد بسرعة
_روح شكلها بتولد، جهز العربية لحد ما انادي ليل بسرعة
دخلوا جميعاً إلى الغرفة ليجدوا روح تبكي بصمت وهي متمسكة ببطنها
اقتربت منها ليل بسرعة وسألتها بجلج
_مالك يا روح...
تمتمت روح من بين بكاءها
_ألم شديد جوي مش جادرة اتحمله..
قالت ورد بتعاطف
_ اهدي يا روح يا حبيبتي خدي نفس واهدي.... الألم بييجي ويروح؟
أومأت روح برأسها بصعوبة.
كان مالك يقف على الجانب الآخر يشعر بعجز تام يرى زوجته تتألم أمامه ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، كان وجهه شاحباً وعيناه زائغتين ويداه ترتجفان
_ هنعمل إيه نوديها المستشفى؟
قالت ورد وهي تربت على كتف مالك في محاولة لتهدئته
_ اهدى يا مالك لسة بدري متجلجش.
قالت ليل والجلج الذي كان واضحاً في عينيها
_ مش هنستنى لازم نروح المستشفى دلوج ورد ساعديني ألبسها حاچة تجيله عليها من البرد وأنت يا مالك غير هدومك بسرعة وشغل العربية.
تحرك الجميع ورد تساعد روح على ارتداء عباءة واسعة وليل تشعر بصعوبة في التحكم باعصابها من شدة خوفها على طفلتها، ومالك يرتدي ملابسه بسرعة جنونية ويداه لا تكادان تطاوعانه.
كان يقف هناك الرجل القوي المهندس الذكي الذي لا يهزه شيء، لكنه الآن مجرد زوج خائف مرعوب من فكرة أن يفقد أغلى ما في حياته، نظرت إليه ورد بحنان أموي.
_ متخافش يا ولدى إجمد إكده إن شاء الله خير روح جوية وهتجوم بالسلامة.
لكن كلماتها لم تستطع أن تزيل الرعب من عينيه، لقد حارب العالم كله من أجلها والآن عدوه هو ألم غامض لا يراه ولا يعرف كيف يحاربه، وكل ما يستطيع فعله هو أن يكون بجانبها ويدعو من كل قلبه أن تمر هذه الليلة بسلام.
❈-❈-❈
في هدوء الفجر حيث كان الضوء الرمادي الخافت يتسلل عبر ستائر الشرفة، اهتز الهاتف على المنضدة بجانب السرير برنين متواصل ومكتوم
فتحت نغم عينيها بنعاس وشعرت بجسدها دافئاً ومسترخياً.
التفتت لتجد جاسر نائماً بعمق بجانبها وجهه هادئ ومطمئن وذراعه ممتدة برفق بالقرب منها، كأنه حتى في نومه يحاول حمايتها.
مدت يدها بحذر وأمسكت بالهاتف، فرأت اسم "مالك" يضيء الشاشة. انقبض قلبها على الفور بقلق حاد
مالك لا يتصل في مثل هذا الوقت إلا لسبب طارئ
نظرت إلى جاسر النائم ولم ترد أن يوقظه رنين الهاتف أو صوتها القلق بحركة بطيئة وحذرة أزاحت الغطاء الثقيل، ونهضت من السرير ثم خرجت من الغرفة على أطراف أصابعها وأغلقت الباب خلفها بهدوء تام.
وقفت في الصالة الفسيحة التي كانت غارقة في الظلال وأجابت بصوتٍ يملؤه القلق والهمس
_ألو... مالك؟ خير؟ فيه حاچة؟
جاءها صوته من الطرف الآخر متعباً لكنه يحمل نبرة من الفرح الخفيض.
_متخافيش يا نغم خير، روح ولدت من ساعة وچابت بنوتة زي الجمر. وهي... هي عايزة تشوفك.
في لحظة تبدد كل القلق وحلت محله موجة عارمة من السعادة النقية التي جعلتها تشهق بفرحة.
شعرت بالدموع تتجمع في عينيها دموع فرح خالصة.
_بجد؟! الحمد لله! الحمد لله وهي كيفها؟ زينة؟ طمني.
_كويسين الحمد لله هي في المستشفى دلوجت، بس هتخرچ اخر النهاردة إن شاء الله.
_أنا چاية حالاً مسافة السكة وهكون عندك متتحركوش من غيري.
أنهت المكالمة وظلت واقفة في مكانها للحظات تتنفس بعمق، تحاول استيعاب فرحتها.
لقد انجبت شقيقتها روحها
شعرت بابتسامة واسعة وصادقة ترتسم على وجهها رغماً عنها.
لكن وسط هذه السعادة الطاغية، تسلل إلى قلبها شعور آخر... شعور دافئ وحالم حنين غريب لم تعرفه من قبل.
وضعت يدها على بطنها بشكل لا إرادي وبدأت تتخيل كيف سيكون شعورها حين تحمل طفلاً من جاسر؟ قطعة صغيرة تجمع بين ملامحها وملامحه، بين عنادها وقوته بين عينيها وعينيه ترى كيف ستكون فرحة جاسر حينها؟ هل ستلمع عيناه بنفس العشق الذي تراه فيهما الآن، أم أكثر؟ هل سيحمل طفله بنفس الحنان الذي يحيطها به، أم أن قلبه سيتسع ليصبح أباً حنوناً بشكل لم يتخيله أحد؟ لقد أصبح هذا الحلم فجأة هو أمنيتها الأغلى، هدفها القادم في رحلتها معه.
فجأة شهقت بخفة حين شعرت بذراعين قويتين تحيطان بخصرها من الخلف وشعرت بأنفاسه الدافئة على عنقها تلتها قبلة رقيقة وعميقة جعلت رعشة لذيذة تسري في كل جسدها.
جاء صوته الأجش كهمس في أذنها يحمل عتاباً حنوناً
_إيه اللي جومك من چارى وسيباني لحالى؟ صحيت ملجتش ريحتك جلجت.
استدارت بين ذراعيه وابتسمت بحب وهي تنظر في عينيه التي كانت لا تزال تحمل آثار النوم، مما يجعله يبدو وسيماً بشكل خطير.
_صباح الخير لول.
ابتسم وقبلها قبلة صباحية سريعة لكنها عميقة.
_صباح النور على عيونك اللي مصحياني من أحلى نومة.
رفعت له الهاتف وقالت بفرحة لا تزال تملأ صوتها
_روح ولدت چابت بنوتة، وبجيت خالة.
اتسعت ابتسامته على الفور ورأى السعادة الصافية تشع من وجهها كله.
_ألف مبروك يا حبيبتي ألف مبروك يا خالة تتربى في عزهم.
ثم قال على الفور دون تردد وكأن سعادتها هي أولويته المطلقة
_لو عايزة تروحي لها دلوجت، يلا نلبس وأوصلك.
أومأت برأسها بحماس فتركها وتوجها ليغيرا ملابسهما بسرعة.
عندما نزلا إلى الطابق السفلي وجدا ونس قد استيقظت وبدأت في تجهيز الفطور مع سامية
_صباح الخير على فين بدري اكدة؟
قال جاسر وهو يقبل رأس والدته
_روح أخت نغم ولدت وهوديها تباركلها في المستشفى.
أطلقت ونس زغرودة خافتة من فرط سعادتها، واحتضنت نغم بحرارة.
_ألف مبروك يا نغم، مبروك ما چاهم بس استنوا لازم تفطروا لول.
حاول جاسر الاعتراض قائلاً إن نغم تريد الذهاب بسرعة لكن ونس أصرت بحزمها الحنون.
_مفيش خروج من البيت ده على لحم بطنكم خمس دجايج بس تفطروا فيهم وجاسر يشرب جهوته وتروحوا الفرحة مبتاچيش على چوع.
استجابا لإصرارها وجلسا لتناول فطور سريع.
وبعد وقت قصير نهض جاسر وهو يقول
هچهز العربية لحد ما تخلصي
نهضت نغم بدورها
_انا كمان خلصت.
وفي غضون نصف ساعة توقفت سيارة جاسر أمام المستشفى
قالت نغم وهي تفك حزام الأمان وقد عادت إليها بعض الرسمية
_مش هتدخل معايا؟
نظر إليها بهدوء وقرأ ما بين سطور طلبها.
_ده چَو عائلي كلهم هيكونوا هناك دي لحظة خاصة بيهم مش هيكون ليا مكان وسطهم خليكي براحتك معاهم.
حاولت إقناعه وفي صوتها رجاء
_بس أنت بجيت من العيلة أنت چوزي أكيد هيفرحوا لو دخلت.
هز رأسه برفض لطيف لكنه حازم وفي عينيه حكمة لم تكن تتوقعها.
_هي فرحتهم بس فرحتهم ببتهم اللي ولدت مش عايز وجودي يلفت الانتباه أو يغير طبيعة اللحظة أني عندي مشوار ضروري لازم أخلصه هعدي عليكي بالليل آخدك خدي وجتك واشبعي منهم ومن بنت أختك.
قبل جبينها قبلة طويلة ثم راقبها وهي تنزل من السيارة وتدخل المستشفى بخطوات سريعة وسعيدة، وشعر بأن قراره كان صائباً.
لقد تعلم أخيراً أن الحب ليس فقط في الامتلاك والوجود، بل أحياناً يكون في الانسحاب قليلاً لمنح من نحب المساحة التي يحتاجها ليكون سعيداً.
..........
كانت غرفة روح في المشفى تشع بالدفء والحياة.
كانت روح مستلقية على السرير ويبدو عليها الإرهاق الممزوج بسعادة لا توصف ومحاطة بكل من تحب.
كانت روح تمسك بيد نغم بحب
وكان مالك يقف بجانب السرير يحمل طفلته الصغيرة بين ذراعيه بحذر وحب كأنه يحمل العالم كله.
كان يتأمل ملامحها الصغيرة وعلى وجهه ابتسامة بلهاء لم تفارقه منذ ولادتها.
_ بصي يا نغم خدت نفس غمازات أمها.
كانت نغم تجلس على حافة السرير بجانب روح وتنظر إلى الطفلة بسعادة غامرة.
_ لأ دي واخدة منك أنت عينيك يا مالك ربنا يحميها.
ضحكت ورد التي كانت تقف بجانب مالك وقالت بمرح
_ سيبكوا من كل ده المهم إنها حلوة
ضحك الجميع في الغرفة وكان الجو مليئاً بخفة الدم والسعادة.
هذا هو بيت الرفاعي في أبهى صوره، عندما يجتمعون حول فرحة جديدة، وتذوب كل الخلافات في بحر من الحب.
دخل سند إلى الغرفة وهو يحمل صينية من القهوة ووزعها على الجميع ثم اقترب من المهد ونظر إلى الطفلة النائمة بسلام وهز رأسه بابتسامة ماكرة.
_ لأ أنا جلبي مش مطمن البنت دي شكلها هتتعب عدي ابني من دلوجت.
ضحك الجميع من تعليقه وسأله مالك وهو يرفع حاجبه بمرح
_ ليه بجا إن شاء الله؟
أشار سند إلى الطفلة النائمة وقال بجدية مصطنعة
_ يعني مش كفاية چمالها اللي هيطلع عينه ده، لأ وكمان چاية تتولد في عز الشتا، وجبل الفچر كمان دي بنت مزاجها صعب من اول يوم
الواد ابني هيشوف أيام عنب.
انفجرت نغم في الضحك وقالت
_ يا سلام! وأنت كنت عايزها تستأذن من سي عدي جبل ما تتولد ولا إيه؟
رد سند وهو يغمز لوعد الواقفة بجانبه
_ على الأجل كانت تختار وجت مناسب، مش وجت عز البرد والنوم.
هنا تدخل سالم بصوته الهادئ والحاسم، وهو ينظر إلى سند نظرة ذات معنى.
_ هو إحنا هنعيده من تاني؟ سيبوا العيال لحالها كل واحد بعد إكده يختار بنفسه اللي جلبه يرتاحله
كفاية اللي شفناه.
ساد الصمت للحظة، حيث فهم الجميع عمق كلمات سالم، ثم ابتسم الحاج وهدان وقال بصوتٍ جهوري يملؤه الفرح
_ سالم معاه حق زمن الجبر خلص زمنهم ده زمن الحب والاختيار المهم يكبروا ويبجوا سند لبعض زي ما أنتم طول عمركم سند لبعض.
اقترب مالك من روح وانحنى وقبل جبينها قبلة طويلة، ثم همس لها
_ مبروك يا حبيبتي جبتيلنا جمر ينور دنيتنا.
نظرت إليه روح بعينين تملؤهما الدموع والسعادة وقالت بصوتٍ خفيض
_ مبروك علينا يا مالك.
كانت لحظة عائلية مثالية ضحكات ومزاح وحكمة الكبار، وحب يملأ الأجواء.
كانت ولادة هذه الطفلة الصغيرة ليست مجرد إضافة جديدة للعائلة، بل كانت تتويجاً لعهد جديد من السلام والتفاهم وتأكيداً على أن جذور الحب التي زرعوها ستنمو وتزهر في الأجيال القادمة.
في المساء ووسط هذه الأجواء رن هاتف نغم نظرت إلى الشاشة وابتسمت.
_ ده جاسر.
ردت عليه بسرعة وصوتها يقطر سعادة.
_ أيوه يا حبيبي...
لاحظ مالك المكالمة وبعد أن أنهت نغم حديثها السريع، سألها وهو يهز طفلته برفق.
_ هو سيادة المستشار مجاش يبارك لعديله ليه؟ ولا هو مجاطعنا؟
ضحكت نغم.
_ لأ والله كان عنده مشوار مهم ولسه راچع البلد حالاً.
لم يقتنع مالك اقترب منها وفي حركة سريعة ومرحة أخذ الهاتف من يدها وأعاد الاتصال بجاسر.
_ أيوه يا جاسر بيه...
لأ أنا مالك...
بجولك إيه، اطلع بارك لى خيك ومرته وبنت أخوك، وبطل بخل العواطف اللي أنت فيه ده مستنينك.
أغلق الخط قبل أن يسمع الرد وغمز لنغم التي كانت تضحك على تصرفه.
بعد دقائق قليلة طرق الباب فسمحوا له پالدخول، انفتح الباب ودخل جاسر.
لكن هذا لم يكن جاسر الذي تعرفه نغم في عزلتهما.
لم يكن الرجل الذي تذوب عيناه حباً وشوقاً لها.
هذا كان "جاسر التهامي" المحامي الرجل الذي تكسو ملامحه القوة والشموخ والاعتزاز بالنفس.
كانت نظراته حادة وخطواته واثقة وهالته تفرض احتراماً فورياً.
اقترب من السرير ونظر إلى مالك وروح.
_ مبارك عليكم تتربى في عزكم.
رد مالك وروح بحفاوة.
_الله يبارك فيك عقبالكم.
أومأ لهم بابتسامة ثم أخرج من جيبة علبة مخملية وقدمها لروح
_دي هدية صغيرة لـ.....
قالت نغم
_نورين
حاول الابتسام فخرجت باهتة
اقتربت منه ورد التي كانت تنظر إليه بسعادة وحفاوة.
_ إزيك يا جاسر يا ابني.
مدت يدها لتسلم عليه فصافحها باحترام.
_ يوم فرح نغم مالحجتش أسلم عليك ولا أباركلك ألف مبروك يا حبيبي، خللي بالك من بنتنا.
تلك المرة ظهرت ابتسامته صافية على وجهه وهو ينظر لعمته بحنين
_ نغم في عنيا متجلجيش.
كان جاسر يراقبهم جميعاً يرى مالك وهو يناول الطفلة لروح بحنان، ويرى نغم وهي تمسك يد أختها، ويرى ورد وهي تربت على كتف مالك بفخر.
رأى ترابطاً عائلياً حقيقياً دافئاً، لم يره في بيته قط.
في بيته لم يكن هناك سوى الرسميات، والمصالح ومؤخراً نظرات الحقد والكراهية الصريحة في عيني عمه.
شعر للحظة أنه غريب أنه دخيل على هذا العالم الدافئ.
بعد أن تبادل بضع كلمات أخرى، اقترب من نغم.
_ يلا بينا؟
نظرت نغم لروح باحراج
_خليني مع روح شوية..
قالت ليل برفض
_لا يا نغم لازم تروحي مع جوزك.. متخافيش على روح كلنا معها واحتمال نروح كلنا دلوجت.
أومأت نغم برأسها عندما لاحظت نظرات جاسر الشاردة، وودعت الجميع
بحب أخذ جاسر يدها، واستأذنا وغادرا الغرفة.
بينما كانا يسيران في الممر شد على يدها بقوة كأنه يستمد منها الدفء الذي رآه في تلك الغرفة.
لقد أدرك في تلك اللحظة أن نغم لم تكن مجرد زوجة، بل كانت جسره إلى عالم آخر عالم لم يكن يعرف بوجوده، عالم مليء بالحب الحقيقي الذي لا تشوبه المصالح.
❈-❈-❈
كانت رحلة العودة إلى بيت الجبل مختلفة هذه المرة، لم تكن هناك أحاديث دافئة أو ضحكات خافتة، كان جاسر يقود السيارة في صمت تام وعيناه مثبتتان على الطريق أمامه لكن عقله كان يبحر في مكان آخر مكان مظلم وبعيد.
شعرت نغم بهذا الصمت الثقيل يضغط على صدرها حاولت كسره.
_ جاسر... مالك؟
لم يلتفت إليها بل أجاب بنبرة محايدة خالية من أي عاطفة.
_ مفيش مجهد شوية من الطريج.
ثم أضاف كأنه يلقي بمعلومة عابرة
_ هسافر القاهرة بكرة الصبح، عندي شغل ضروري.
سكتت نغم لقد عرفت هذه النبرة هذا هو "جاسر التهامي" الذي قابلته أول مرة، الرجل الذي يرتدي قناعاً من الجليد ليخفي عواصفه الداخلية تعلمت أنه عندما يكون بهذه الحالة، لا فائدة من الضغط عليه لكن صمته تزامن مع أفكارها التي بدأت تعصف بها، مما جعلها تشعر بالوحدة أكثر.
كانت في أمس الحاجة إليه الآن ليس جاسر القوي الصامت، بل جاسر حبيبها
منذ أن رأت "نورين" ابنة مالك الصغيرة والناعمة، استيقظ شيء بداخلها.
حنين جارف للأمومة وبدأ السؤال المرعب يطرق باب عقلها:
لماذا لم تحمل حتى الآن؟
هل المشكلة فيها؟
هل لن تستطيع أن تنجب له طفلاً؟ وإذا كان هذا صحيحاً... ماذا سيفعل جاسر؟ هل حبه لها سيكون كافياً؟ أم أنه في يوم من الأيام... سيتزوج عليها ليحقق حلم الأبوة؟
هزت رأسها بعنف طاردة هذه الأفكار السامة من رأسها لا، جاسر ليس كأي رجل آخر.
عندما وصلوا أخيراً إلى بيت الجبل أوقف جاسر السيارة، لكنه لم ينزل على الفور نظر باتجاه الإسطبل المظلم.
_ ادخلي أنتِ هطمن على بركان وأچيلك.
أومأت برأسها في صمت ونزلت من السيارة لم يكن يريد رؤية الحصان، بل كان يريد بضع دقائق أخرى من العزلة.
دخلت نغم إلى المنزل فوجدت حماتها ونس تنتظرها بابتسامة دافئة، لكن الابتسامة تلاشت فوراً ما إن رأت ملامح نغم الشاحبة وعينيها القلقتين.
_ نغم؟ مالك يا بنيتي؟ فيكى إيه عاد؟
لم تستطع نغم أن تخفي مخاوفها أكثر أمام هذه المرأة الحنونة التي أصبحت لها أماً ثانية انهار سد كتمانها.
جلست بجانبها وحكت لها عن كل شيء.
عن صمت جاسر وعن قلقها من تأخر الحمل، وعن خوفها من المستقبل.
احتضنتها ونس بحب أموي وربتت على ظهرها.
_ يا حبيبتي كل دي أوهام، الحمل ده رزج من حدا ربنا، بياچي في وجته ساواعى عتيأخرهبابه من غير أي سبب.
ده مش معناه إن فيكم حاچة وحشة لاسمح الله جاسر بيعشقك مستحيل يفكر في أي حاچة من اللي بتجوليها دي.
هو بس أكيد فيه حاچة شغلاه في الشغل، وأنتِ عارفاه لما بيكون اكده