-->

رواية جديدة أرهقته حر با لتوتا محمود - الفصل 26 - جـ1 - الأحد 12/10/2025

 

رواية أرهقته حربًا الجزء الثاني من رواية عشق بعد وهم كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية أرهقته حر با الجزء الثاني من رواية عشق بعد وهم

رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة توتا محمود


الفصل السادس والعشرون

الجزء الأول 


تم النشر بتاريخ الأحد

12/10/2025


شخص يراقب الثنائي بعينين داميتين من الحقد، عيناه لا تتحركان يمينًا أو يسارًا بل تلتهمان المشهد التهامًا كما تفعل النار بالحطب، يختبئ في ظل عمود رخامي شاهق عند أطراف القاعة الكبيرة التي تلمع أرضيتها كالمرايا بفعل انعكاس الثريات المعلقة في السقف. 


يمسك هاتفه بيدين مرتجفتين من الغيظ، وأصابعه حمراء من شدة القبض عليه تكاد تحطم حوافه، ويوجه عدسته نحوهم في هدوء قاتل، يلتقط اللحظة لا ليحتفظ بها، بل ليجعلها سلاحًا، ذخيرةً يفرغها وقتما يشاء.


كان الهواء حوله كثيفًا كأنه مشبع بالغبار والنيكوتين، والقاعة تموج بالضحكات والتصفيق، لكن في أذنه لم يكن يصل إلا صدى نبض قلبه، وضغط أنفاسه المتسارعة، ورعشة الغِلّ في صدره. 


شفتاه ارتجفتا وهو يتمتم بغِلٍّ متفجر:


ـ جيتلك يا نور وهندمك علي اللي عملتيه غالي اوي.


الكلمات خرجت من بين أسنانه كصفير ثعبان سامّ، اختلطت بالهواء المشبع بروائح العطور الفاخرة وزهور القاعة المتناثرة على الطاولات المستديرة.


وكانت الصدمة أن هذا الشخص لم يكن غريبًا، بل كان…


كانت الصدمة أنها خالد …


وجهه شاحب تحت الأضواء، عروقه في عنقه بارزة من التوتر، أنفاسه حادة كالسكاكين.


خرج من السجن بالأمس وظل يراقب " نور " عده ساعات ، يتعقب خطواتها كالظل في وضح النهار.


اشتد يـ ـده على الزناد بالمسدس المختبئ تحت معطفه الأسود، يده الأخرى ترتعش لكنها ثابتة على قبضته، وهو يتوعد لها بأشد الأنتقام.


ومن الناحيه الاخرى كانت تبتسم وتنظر بفخر لزوجها انه حصل علي جائزه افضل رجل اعمال.


القاعة كلها تصفق، الأضواء تلمع، فلاشات الكاميرات تتوهج، لكنه بالنسبة لها كان مجرد ضوء في عينيه هو، كان هو كل ما تراه.


ظل يعانـ ـقها بمحبه كبيره لها، ذراعيه يحيطان بها بحنان عاصف كأنهما سياج من دفء وأمان، ولا يبالي بشئ من حوله، لا الجميع ولا اي شئ اخر يفسد لحظته تلك. 


أضواء القاعة، أصوات الموسيقى، خطوات النادلين، كلها بدت له كأنها بعيدة جدًا، كل ما يهمه أن " نور " حبيبه قلبه في اعنـ ـاقه وبين يـ ـده الأن.


ومن الناحيه الاخرى كان يمسك المسدس وعلي وشك اطلاق هذا الزناد، أصابعه تتقلص على الزناد كأنها مخالب وحش يريد أن يغرسها، لكن رأها مبتسمه وهي في اعنـ ـاق زوجـ ـها مما ابتسم بجنون وهوس، ضحكة صامتة تخللت وجهه وهو يخفض يـ ـده التي كان يرفعها للمسدس.


في تلك اللحظة كان المكان كله يلمع ويخفت في عينيه، كل صوت كان يتلاشى إلا صدى ضحكته الهستيرية، وكان يبتسم ويخاطب نفسه بحقد :


ـ مش هتموتي غير لما تتعذبي الاول يا بنت عدلي السيوفي، و يا انا يا انتي.


بينما اكمل بحقد أكبر وعينيه يشتعلون من نـ ـار الانتقام فقط، النور في القاعة ينعكس في حدقتيه فيجعلهما كالجمر المشتعل، شفتيه تتحركان كأنها تعوي، والعرق يتصبب من جبينه رغم برودة المكان :


ـ ورحمه نورمان لـ خليكي تتمني الموت ومطولهوش.


الهواء حوله صار خانقًا كأن القاعة كلها تنكمش عليه، أنفاسه تتقطع، أصابعه تلعب في المسدس بحركة هوسية، وعينيه لا تفارقان جسد " نور " التي كانت في تلك اللحظة تضحك للكاميرات. 


اشاحت " كاميليا " بنظرها بعيداً وهي تشتعل من نـ ـار الغيرة، عينيها كانت كجمرتين ملتهبتين تحت أهداب كثيفة ترتجف كأجنحة طائر محبوس.


الهواء حولها صار خانقًا كأنه يغلي فوق صدرها، أنفاسها تتقطع، أصابعها تنقبض وتنفرج على كأس البلّور الذي بين يديها حتى كادت تحطمه من شدة القبض.


كانت الموسيقى في القاعة تعلو وتنخفض، الأضواء تتراقص على وجوه الحضور، ضحكات الناس تتناثر كحبات زجاج، لكنها بالنسبة لها كانت ضجيجًا صاخبًا يضغط على رأسها ويزيد من جنونها.


تلمع الثريات المعلقة فوقها كالنجوم، والجدران المكسوة بالمرايا تعكس صورتها من كل زاوية، كل انعكاس يزيدها غضبًا وكأنها ترى نفسها في كل مرآة تقف في الصف الثاني، بينما " نور " في الصف الأول تتصدر المشهد.


يكون من المفترض هي التي تكون بمكان " نور " الأن، كانت هذه الفكرة تضرب رأسها كالمطارق، تدوي داخلها بصوت أعلى من الموسيقى، أكثر من التصفيق، أكثر من أي شيء. لكن يشاء القدر وتكون هي " نور "


نظرت لهيئتها، ولوجهها، نظرت ليديها الناعمتين المرتجفتين، وتفحصت وجهها في المرآة المقابلة لها، فـ " كاميليا " الاجمل والأفضل منها بكثير، هذا اليقين كان يشتعل داخلها كالبركان، و" نور " لا شئ، لا شيء على الإطلاق سوى ظل رخيص يلتصق بـ" نوح ".


تحاول أن تتحكم في عصبيتها، ضغطت على أسنانها خلف ابتسامة مزيفة وهي تبتلع لعابها بصعوبة، وتحركت أصابعها على الطاولة بحركات سريعة تكشف عن توترها الداخلي، وبهدوء، وستفكر في خطه ما.


عطرها الفاخر يختلط مع دخان الشموع المشتعلة على الطاولات، ورائحة الزهور البيضاء التي تملأ القاعة تزيدها اختناقًا.


تجعل " نور " تبتعد عن " نوح " فوراً، هذه الجملة كانت تتكرر داخل عقلها كتعويذة، تتردد بين قلبها وأذنيها، كأنها موسيقى خفية لا يسمعها سواها. 


عليها أن تفكر بهدوء كيف تبعد هذه الحشره عن " نوح " بسرعه.


كانت أصابعها على الطاولة تتحرك كأنها ترسم خطة، عيناها تتبع كل حركة لـ" نور " و" نوح " في الطرف الآخر من القاعة، تدرس ابتسامتها، نظراتها، لمسة يديها، حتى الطريقة التي تضحك بها وهي تلتصق به. 


كل التفاصيل كانت تتسجل في عقلها بدقة قاتلة؛ فهنا لم تعد مجرد غيرة، بل حرب صامتة تتغذى على كل حركة وصوت وضوء في هذا المكان الفخم.


خرجت من احضـ ـانه وهي تخجل من نظرات الناس، قلبها يخفق بقوة تحت ثوبها وكأن كل نظرة تصفعها على وجهها، العيون الموجهة نحوها من كل اتجاه كانت كالسهام، تُلقي عليها ألوانًا من الأحكام؛ فابتلعت ريقها بصعوبة وهي تشعر بالحرارة تصعد إلى وجنتيها.


الأضواء المبهرة في القاعة تتراقص فوق وجوه الحاضرين كالنجوم المشتعلة، الموسيقى تملأ المكان برنينها البعيد، تداخل أصوات الكؤوس مع همسات الناس وتبادل النظرات جعل الهواء حولها أثقل، لكن رغم هذا جلست بجانب " وعد " حتي صفقت لهم بحراره هي " وراندة  و " ريما " التي كانت بعيدة عنهم بقليل، تصفيقهن كان يشق الصخب ويضيف له معنى آخر من الفخر والانبهار.


وثواني حتي جلس بجانبها، ظلت تتهرب بعينيها ولا تنظر نحوه من الخجل، تتعلق أصابعها بحافة الفستان كأنها تبحث عن مأوى من ارتباكها، ولكنه امسك يـ ـديها وقبـ ـلها بحنان مُفرط، قبلة حملت معها الطمأنينة والامتلاك في الوقت ذاته، قبلة جعلت الدهشة تسرى في عروقها كتيار كهرباء، وجعلت الأنفاس تختنق في صدر كل من كان يراقب.


وهنا لم تعد " كاميليا " تتحمل، كانت نظراتها تشتعل كالجمـر خلف أهدابها الثقيلة، أنفاسها ساخنة، شفتيها ترتجفان وكأنها تكاد تصرخ، وهنا هتفت بعصبيه لـ " نوح " :


ـ نوح انا همشي، انا تعبت ومش قادره اقعد اكتر من كده  .


نظر " نوح " لهيئتها ولوجهها بقلق، وهو يراقبها، لمعت عيناه بقلق صادق، حواجبه انعقدت وهو يتأمل لون وجهها الذي بهت فجأة، وصوته خرج حاملاً نبرة خوف خفيف:


ـ مالك، طيب انتي حاسه بـ اي؟؟  .


امسكت رأسها مدعية ان راسها تؤلمها، وضغطت أصابعها على صدغيها كأنها تحاول منع ألم متخيل، وهتفت بحده، نبرة صوتها تصطدم بجدران القاعة:


ـ راسي وجعاني ومش قادره استحمل اي دوشه حواليا  .


وقف وهو يهتف يساندها بقلق، وهو ينظر لها باهتمام، عينيه تتنقل بين وجهها ويدها المرتجفة، ملامحه تنطق بالحرص عليها:


ـ طيب خلاص تعالي اوصلك، وتاخدي مُسكن يسكن الالم ده.


كادت أن تضع يـ ـدها على يـ ـده الممدوه اتجاها، كأن اللحظة تتوقف والهواء بينهما يثقل، حتى قطع هذه اللحظه، صوت " نور " وهي تهتف بقلق، صوتها جاء كنسمة لكنها انقلبت إعصارًا في صدر " كاميليا " :


ـ انا هروح معاك يا نوح.


لعنتها الف اللعنات التي على الأرض، كانت أصابعها تشد على حقيبتها حتى كادت تمزقها، وعينيها تكاد تخرج من محجريها، وهي تهتف بغيظ وتصك على اسنانها، صوت أسنانها يكاد يُسمع تحت همسات القاعة:


ـ ليه جايه بس يا نور ، خليكي قاعده واتبسطي مع وعد وراندة  .


وهنا تدخلت " وعد " و " راندة " التي كانوا يتابعون الموقف، كانت أنفاسهما متوترة من حدة المشهد، وحين نطقت " كاميليا " هذا الحديث حتي تدخلت " وعد " بحده، صوتها حاد كالسكين يقطع التوتر:


ـ انتِ اتجننتي عايزنا ازاي ننبسط يعني وانتِ تعبانه؟؟  .


بينما أكملت " راندة " وهي تعقد ساعديها امام صـ ـدرها، وهي تهتف بحده هي الأخرى، نظرتها صارمة ووقفتها تحدٍ:


ـ رجلنا على رجلك.


هتفت هي بغيظ وعصبيه منهم وتصك على اسنانها، كانت أنفاسها سريعة، يداها ترتجفان، صوتها خرج مهتزًا لكنه حاد:


ـ انا عندي شويه صداع، صداع بس، وهاخد مُسكن زي ما قال نوح وهبقي كويسه اي لازمه الدراما دي، وكمان عشان خاطر تكونوا جنب نور  .


هتفت " نور " بهدوء وهي تمسك يـ ـد " نوح " بحنان، نظرتها تحمل دفءً لا تحتمله " كاميليا " :


ـ لا انا همشي مع نوح  .


اغمضت عينيها وقد وصلت لذروتها للغيره، شفتاها ترتجفان، أصابعها تتحرك بعصبية على حافة الفستان، تريد أن تجذب شعر " نور " وتقتلها على يـ ـدها ولكن تستحيل أن تفعل هكذا أمام الجميع لذلك تركت الجميع وغادرت بخطوات متسارعة تحمل كل ما في قلبها من غلّ، والهواء من حولها يزداد ثقلًا كلما ابتعدت.


و " وعد " و " راندة " و " نوح " الذي يمسك يـ ـد " نور " ولم يتركها ذهبوا جميعاً خلفها.


العيون تتبعهم، الهمسات تتناقل بينهم، الموسيقى في الخلفية صارت مجرد ضوضاء لا معنى لها.


اما هي هي تشبه أن تركض، كعب حذائها يطرق على أرض القاعة الرخامية كأنه دقات قلبها المتسارعة، فهي كانت تريد " نوح " ان تقضي معه اغلب الوقت وحدهم، ان تنعم باهتمامه وحدها، كل حركة من جسدها تصرخ بما لم تنطق به شفتيها.


فـ " نوح " ملكها وسيظل ملكها للابد.


وتحاول أن تفكر جيداً حتي تبعد " نور " عن طريق " نوح " الى الابد، عقلها يشتعل، عيناها تلمعان بخطط سوداء، خطواتها تتسارع وكأنها تخرج من قاعة مليئة بالأضواء والذهب إلى ظلام داخلها لا نهاية له.



❈-❈-❈


كانت "حميدة" تجلس على أريكتها الوثيرة في غرفة المعيشة الواسعة، الغرفة التي تعبق برائحة الماضي، بأثاثها الكلاسيكي العتيق، وصور العائلة التي تملأ الجدران، وجهاز التلفاز الذي يعرض الآن لقطة حفيدها، ووريث عائلة النويري… ناجح.


لم تكن مجرد ابتسامة عابرة تلك التي ارتسمت على ملامحها، بل كانت ابتسامة ممزوجة بالفخر، والحنين، وبريق الدموع الذي لمع في عينيها المتجعدتين من أثر السنين.


كانت تتأمله وكأنها ترى فيه ابنها الذي رحل، ملامحه، طريقته، صلابته… كل شيء يذكّرها به.


هو ليس أول مرة يتوّج فيها بالنجاح، لقد حصد العديد من الجوائز من قبل، لكنها هذه المرة شعرت بأن الإنجاز له طعم مختلف، كأنها تراه يُكرّم روح أبيه الغائب.


وضعت يدها المرتجفة على صدرها، تحاول تهدئة دقات قلبها المتسارعة وهي تهمس لنفسها بفخرٍ خافت:

“ربنا يحميك يا ضنايا.”


وقفت ببطء، مستندة على عصاها الخشبية، واتجهت نحو الشرفة بخطواتٍ ثقيلة، كأنها تحمل على كتفيها عبء عمرٍ كامل.

فتحت باب الشرفة، واندفعت نسمة هواءٍ باردة داعبت خصلات شعرها البيضاء، جعلتها تغمض عينيها للحظة، تستشعر فيها دفء الذكريات التي كانت هنا… في هذا المكان تحديدًا.


أمامها، كان النيل ينساب بهدوءٍ أخّاذ، مياهه تعكس ضوء القمر بخيوطٍ فضية تلمع كالأحلام التي لم تكتمل بعد.


والرصيف بينهما كأنه حاجز بين حاضرها وماضيها، بين ما كان وما لم يعد.


وقفت هناك تحدّق في الأفق البعيد، تائهة بين ضوء المدينة الخافت وصوت المراكب الذي يتلاشى مع الموج.


كانت تفكر في الماضي… هل فعلت الصواب؟

هل كان ما قامت به حقًا قرارًا صحيحًا؟


كلما تذكرت تلك الأيام، تشعر بغصّة تخنق حلقها، كأن شيئًا ما ما زال عالقًا لم يُقال بعد.


الماضي موجع، يلسعها كلما حاولت نسيانه، ويذكّرها بخطاياها التي لم تُغفر بعد.


كم من مرة قالت لنفسها إن ما فعلته كان من أجل المصلحة، لكنها في أعماقها تعرف أن العناد هو من قادها لكل هذا الندم.


ابتسمت بمرارة وهي ترفع يدها تمسح دمعة خائنة نزلت على خدها:

فهي حتى الآن لا تعرف إن كان ابنها، والد "نوح"، حيًّا أم رحل للأبد.

رحيله الغامض ظلّ ندبةً لا تندمل في قلبها، وجعلها تتمنى لو أن الزمن يعود، لتحتضنه وتقول له كلمة واحدة: "سامحني".


كانت تتمنى لو أنه هنا الآن، يرى ابنه، يرى الفخر الذي يملأ قلبها، يرى كيف صار "نوح" رجلاً يُرفع له الرأس.

كانت تتمنى أن تراه بجانبه، يصفق له بفخر الأب الذي انتظر هذه اللحظة.


لكن القدر لم يمنحها تلك الرفاهية.

ابنها ترك كل شيء… ترك عائلته، ثروته، عالمه، والأهم من ذلك: ترك زوجته وابنه، فقط من أجل امرأة.


امرأة لا من عالمهم، ولا تشبههم في شيء.

كيف استطاعت أن تسلبه بهذا الشكل؟

كيف رضيت أن تكون سببًا في هدم بيتٍ كامل؟


رفعت "حميدة" رأسها نحو السماء، تتساءل بحرقةٍ مكتومة:


من هي تلك الفتاة المجنونة التي قبلت برجلٍ متزوجٍ وله ابن؟

أي قلبٍ هذا الذي لا يخاف من الظلم؟


أغمضت عينيها بقوة، والذكريات تتدفق داخلها كسيلٍ جارف…


ما زالت تتذكر تلك الليلة.


الليلة التي قلبت كل شيء رأسًا على عقب،

الليلة التي لم تنسها أبدًا… ولن تنساها ما حييت.




flaah back 


كانت الحديقة خلف القصر تبدو كأنها بقعة هادئة من الزمن؛ عشب أخضر ممتد بعناية، أحواض ورود متتالية تفوح بعطورها المخمليّة، ومقاعد من حديد منحوت تلمع تحت أشعة الشمس الخفيفة. 


كانت "حميدة" جالسة على كرسي خشبي متين، محاطة بأحفادها الذين يركضون ويلعبون حولها، تصفق لهم بين حين وآخر وتدخل يدها في جيبها لتبحث عن قطعة حلوى أو لعبة صغيرة تفرحهم بها. 


ضحكات الأطفال كانت تملأ المكان برقة، وكأنها تحاول أن تداوي فجوة في قلبها بنغمة طفولية بسيطة.


وفجأة، تقطع تلك الموسيقى الرقيقة وقع أصوات ارتفعت من داخل الجناح؛ أصوات صراخ وحوار حاد. 


توقفت حميدة عن اللعب للحظة، انتبهت، وسمعت نبرة صوت ابنتها وقليلًا بعدها نبرة ما يبدو أنه ابنها. 


شيء في الإحساس جعل صدرها ينقبض: نزاع عائلي سريع، صراخ مختلط بآهات الموجع.


تركت الأحفاد لمربيتهم وعلى وجهها هدوء مجهري، همست للمربية بسرعة:


ـ خديهم بعيد عن هنا متخلهومش يسمعوا الصوت ده وبالذات نوح .


المربية لم تتردد، جمعت الأطفال بلطف وأبعدتهم عن نافذة الجناح حيث صوت الصراع يقوى. 


حميدة شعرت بعينها تدمع، لا بد أن تُقيّم الموقف بنفسها، فنهضت وهي تمسك بعصاها وتتحرك بخطوات متعبة لكنها سريعة نحو الداخل، كأن قلبها يجذبها إلى مصدر الألم.


دخلت الجناح من غير استئذان، الباب انغلق خلفها بصوتٍ خفي بينما هي ترى المشهد أمامها


"ماجد" واقفًا في منتصف الغرفة، صدره يتسع بالغضب، وعيناه تحدقان بحدة، ووالدته تقف أمامه بوجهٍ متألم، صوتها مرتفع، متأرجح بين الرجاء والغضب.


ـ انا مبحبكيش واستحاله احبك، انا قلبي ملكها مش ملكك، وهتجوزها غصب عن الكل، انتي فاهمه؟.


الجملة كالصاعقة.


" ماجد " يصرخ بصوتٍ متقطع، وكلماته تقصم ظهر الوقت. 


حميدة شعرت بالهواء ينقطع عن صدرها. 


لم تدرِ إن تدخلت أمّها بهذه الهجومية أم أن الهجوم من ولدها على قلبها أتى بهذه القوة. 


دقات قلبها تسارعت، ذاكراتها تُعيد ليلتها التي التهمت أمان العائلة.


أغلقت الباب خلفها بقوة وانطلقت كلماتها كنداء يفيض هى تصرخ بأسم ابنها حتى يتأدب أمام زوجته، لكن والد "نوح" يتألم من الكلام الجارح، و"نيفين" تزداد جرأة وتقترب منه بلا اكتراث بوجود حماتها في الغرفة.


ـ ده علي جثتي انك تتجوز البنى ادمه دي، علي جثتي، اعرف انك لو روحت فعلا مع الست دي، هتخسرني انا وابنك، انت سامع .


صوتها كان محشواً بكل حبٍ حائر وغيرةٍ تغلي، كل كلمة خرجت من فمها كانت تلهب مشاعرها القديمة من الخيانة والندم.


هي تتحدث عن رسائلٍ تحت الوسادة، عن مكالماتٍ ليلية، عن لعنةٍ رمت ببيتٍ كامل إلى حافة الانهيار. 


لقد اتخذت قرارًا ذات يوم


قرارٌ دفعها منذ وقت طويل إلى أن تكون صلبة، ولكنها الآن، وسط هذا الشجار، شعرت بالندم ينهشها.


ماجد، ووجهه مشحون بالعناد، يصرخ بحدة متفجرة:


ـ هختارها هي يا نيفين هختارها هي، لان بحبها وهي كل عيلتي وكل الاحباب، انا ماليش غيرها، اوعي ابداً تقارني نفسك بيها، لان هي متتقارنش ابداً.


الكلمات أدت دورها 


صدمة "حميدة" بدت كصمتٍ عاصف. 


توقفت أنفاسها، كأن العالم تراجع عن دورته. 


ذهبت كل توقعاتها في رمادٍ واحد؛ توقع أنها ستُقنعه، أن الرجوع للعائلة ممكن، أن الدم سيعلو على أي امرأة غريبة. 


لكن ماجد أعلن انتخابه بصوتٍ ارتفع أخيرًا، وكأن شيئًا انتهى داخلها.


شهقت، ووقعت يدها على فمها محاولة أن تكبح صوت الانهيار لم تتخيل أن الاب الذي ربّته بعرقها سيقول ذلك. 


الدهشة صنعت فراغًا تحت قدميها، عقلها يحاول مواكبة انهيار كل ما بنته.


ـ اي؟؟  ، هتختارها هي؟؟  ، هتسيب عيلتك كلها يا راجل العيلة ، وهتسيب ابنك ومراتك، عشان واحده متسواش??


الكلمات نزلت من فمها كصفعة إلى وجه الحقيقة. 


هي لم تستوعب أن الابن، وريثها، بادر لتمزيق خيط العائلة بهذه الخفة.


كانت الستار ينزلق، فتُرى حقيقة ما جرى بينه وبين تلك المرأة.


ماجد يرد بغضبٍ ممتلئ، كأنه لا يعرف أن أمامه والدته:


ـ إياكِ إياكِ تجيبها سيرتها علي لسانك.


وصار الصمت ثقيلاً لوهلة، حتى وجدت يدٌ تتأهب وتصفع خده؛ رفعت حميدة يدها بقوةٍ غير متوقعة، كأنها خلاص الغضب والكرامة التي لم يستطع الزمن أن يطفئها. 


الصفع وقع، صدى الخد ارتد في الغرفة. بعدها، صرخت هي بصوتٍ أطول وأقوى من أي بكاء سابق:


ـ انا دلوقتي اللي بخيرك يا ماجد، يا تختار عيلتك وترجع زي ما كنت معانا وتاخد بالك من مراتك وابنك وبينا، يا ما ترجع للبنت دي وتنسي اصلا ان ليك عيلة او ورث من الاساس.


كلماتها كانت كالسيف، لا ترحم. 


كانت تراهن على شيء واحد، أو يحصل توبه أو ينزوي خارج حياتهم.


توقعت في قرارة نفسها أن الابن سيملك قلبه، سيخاف من فقدان جذوره.


لكنها لم تكن تتوقع الجواب الذي جاء وكأنه يرسم لها النهاية:


ـ يبقي هختارها هي  .


العبارة الأخيرة كانت بمثل رصاصة؛ حميدة توقفت عن التنفس، صوت العالم الخارجي انقطع، كل شيء دار ببطء أمام عينيها. 


نظرتها تجمدت، الذهن تفرّغ، وتذكّرت كل الليالي التي كافحت فيها، كل التضحيات، كل الأمل الذي زرعته في ابنها. 


والآن، كل هذا يتبدد أمام امرأةٍ لا تعرفها حتى.


كانت الصدمة عميقة لدرجة أن الكلام بدا كأنما خرج من فمها بصوتٍ لا ينتمي لها.


انفجرت في وجهه بآخر صرخة:


ـ يبقي ملكش مكان هنا، وبرا البيت، ومشوفش خلقتك تاني، وانا لا مسامحاك ولا كلنا مسمحينك، انت بنسبالنا ميت  .


وقفت تمسك بمقبض الباب الغرفة وهي تفتحه وتشير اليه بالخروج ليست من الغرفة بل من القصر بأكمله ،و عينيها تلمعان بحقدٍ وكربٍ لا يخبُو، تفتح الباب وتؤشر إليه بحدّة غاضبة:


ـ بــرا  .


ثم دفعت الباب بقوة، خطوة واحدة منعت الألفة أن تعود؛ صوت الخشب على الإطار حمل معه مرارة النهاية.


في الخارج، الحديقة تهدأت مؤقتًا؛ الريح لامست وجنتيها، وورود الصباح يبدو أنها حزنت لها، ورائحة النيل عبرت المسافة، لكن داخل الجناح حدث ما يكفي ليقلب مجرى الحياة لعائلة بأكملها. 


حميدة وقفت للحظة، صدرها يرتجف، عينها تدمع، لكنها مسحت الدموع بلا صوت، عاقدة العزم على أن هذا القرار لا رجعة فيه.


أفاقت "حميدة" على صوت سيارةٍ تتوقف أمام القصر، صوت الفرامل كسر سكون المكان في لحظة، جعلها تعقد حاجبيها بانزعاجٍ واضح. 


لم يكن هذا وقت عودتهم على الإطلاق، فالمساء ما زال في منتصفه، والهدوء ما زال يخيّم على كل زاوية من الحي الراقي الذي يحيط بالقصر.


رفعت رأسها ببطء من كرسيها الوثير المواجه للشرفة، وسحبت نظرتها ناحية البوابة الحديدية الكبيرة، حيث أضواء السيارة البيضاء كانت تلمع بقوة وسط عتمة الليل الهادئ.


حدّقت قليلاً، حتى رأت الباب الخلفي للسيارة يُفتح بعنف، ونزلت منه "كاميليا".


كانت ملامحها تنطق بكل شيء قبل حتى أن تنبس بكلمة واحدة؛ وجهها محمرّ من شدة الغضب، حاجباها مقطّبان بقسوة، أنفاسها سريعة متلاحقة، وكأنها عائدة من معركةٍ خسرتها كرامتها فيها. 


قبضت على حقيبتها بعصبيةٍ ظاهرة، وكعب حذائها يُحدث صوتًا حادًا على الأرض المرصوفة بالحجارة، يعلن أن العاصفة وصلت.


مما تأكدت "حميدة" أن "كاميليا" ليست بخير، بل تكاد تنفجر من الغيرة التي تأكلها حية.


لم تحتج إلى سؤال، فكل ما على وجهها كان يصرخ انها غارت.


أكد ظنونها أكثر المشهد الذي لمحتْه قبل قليل في الحفل عبر شاشات النقل المباشر


المشهد الذي ظهر فيه "نوح" وهو يمسك خـ ـصر "نور" برقةٍ ودفءٍ أمام الجميع، دون أن يعبأ بالعيون التي تراقبه. كان يبتسم لها بحبٍ صادق، ويميل برأسه نحوها كأنها العالم كله.


ذلك المشهد وحده كان كافيًا ليشعل الغيرة في قلب "كاميليا" حدّ الجنون، أما في قلب "حميدة"، فكان كجمرةٍ هادئة تتوهج تحت الرماد.


أغمضت عينيها لوهلة متجنبة ما يدور في رأسها، فمجرد تخيّل كيف ستتصرف "كاميليا" الليلة جعل معدتها تنقبض.


تعرف جيدًا طباعها النارية، وغضبها الذي لا يهدأ إلا بالخراب. 


همست لنفسها بخفوتٍ وهي تضع يـدها على صدرها تحاول تهدئة أنفاسها المرتجفة:

هذه الليلة لن تمرّ على خير، أبدًا…


بينما كانت الأضواء القادمة من الحديقة تتراقص على جدران القصر بفعل حركة الأشجار، دخلت "حميدة" إلى الشرفة.


كان الهواء الليلي عليلًا، تفوح منه رائحة الياسمين والبحر الممزوجة بنسيم النيل القريب.


وقفت هناك للحظة، تنظر إلى السماء التي امتلأت بنجومٍ تلمع بهدوءٍ غريب، وكأنها وحدها تراقب أسرار القصر الثقيلة.


وضعت كفيها على سور الشرفة البارد، وأخذت نفسًا عميقًا وهي تحاول أن تُخمد نيران عصبيتها بكل الطرق الممكنة، تحاول أن تُخفي ما بداخلها من قلق وغضبٍ مكبوت. 


كانت تعرف أن عليها أن تظل هادئة، قوية، متماسكة كما اعتادت دائمًا…

لكن قلب الأم كان يرفض الهدوء، وكأن الماضي عاد يطرق بابها من جديد.

الصفحة التالية