رواية جديدة أرهقته حر با لتوتا محمود - الفصل 26 - جـ2 - الأحد 12/10/2025
رواية أرهقته حربًا الجزء الثاني من رواية عشق بعد وهم كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية أرهقته حر با الجزء الثاني من رواية عشق بعد وهم
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة توتا محمود
الفصل السادس والعشرون
الجزء الثاني
تم النشر بتاريخ الأحد
12/10/2025
كانت تمشي "كاميليا" بخطواتٍ سريعةٍ وغاضبة، وصوت حذائها العالي كان يرنّ في أرجاء القصر كما لو أنّه طبول حرب تُعلن غضبها.
كل طرقة من كعبها على الأرض كانت تصرخ: "أنا غاضبة!"، وكل جدار في القصر العريق ارتجف من حِدّة خطواتها.
الهواء نفسه كان يختنق من شدّة التوتر، والخدم تبادلوا النظرات في صمت، يخشون أن يلتقي أحدهم بعينيها المشتعلتين.
كانت "وعد" و"راندة" تتبعانها بخوفٍ واضح، تترددان بين اللحاق بها وتركها في حالها، وهي لاحظت ذلك تمامًا، فالتفتت نحوهما قبل أن تطأ أولى درجات السّلم الكبير، وعروق عنقها بارزة، وصوتها العالي اخترق صمت القصر:
ـ مش عايزه حد معايا سبوني لوحدي.
تردّد صدى صوتها في الأرجاء، كأنه أمر ملكي لا يقبل النقاش.
من الأعلى، كانت "حميدة" تراقب المشهد من شرفتها الرخامية، يديها متشابكتان على صـ ـدرها، وعيناها تعلمان جيدًا ما وراء هذا الغضب؛ تعرف أن الغيرة هي ما تُشعل "كاميليا" الآن، وأن النار بداخلها قد لا تنطفئ بسهولة.
أما "نوح"، فكان واقفًا أسفل الدرج، يراقبها بعينين غامضتين لا تفصحان عن شيء، وما زال يمسك يـ ـد "نور" بثباتٍ متعمّد، وكأنه يسكب الزيت فوق نار الغيرة المشتعلة.
لم يترك يدها لحظة واحدة، بل شدّها نحوه أكثر قليلًا، وكأن في إمساكه بها تحديًا صامتًا.
وحين ختمت "كاميليا" جملتها، صعدت خطوتين بغضبٍ أكبر، ولحظت أن "وعد" ما زالت خلفها تسرع لتسبقها بخطوةٍ، وكأنها تحاول تهدئتها، لكن ذلك زادها اشتعالًا.
توقفت فجأة، التفتت نحوها بحدة، وصرخت بصوتٍ أكثر حِدّةً مما قبل، والعِرق في جبهتها ينبض من الغضب:
ـ قولت سبوني لوحدي
ارتجّ المكان من شدّة صوتها، حتى الطيور على الأشجار المحيطة بالقصر طارت في لحظة فزع.
ثم التفتت بسرعة، وصعدت باقي الدرج بخطواتٍ متلاحقةٍ، وعندما وصلت لأعلى السّلم، كانت "حميدة" في وجهها تمامًا، واقفة بهدوء مهيب، تنظر إليها بعينين مليئتين بحكمةٍ وصمتٍ عميق.
لكن "كاميليا" لم ترفع عينيها نحوها، مرّت من جانبها متجاهلةً وجودها، وكأن الغضب أعماها عن كل شيء.
وبعد لحظاتٍ قليلة، وصلَت إلى غرفتها، فتحت الباب بعصبيةٍ، ثم أغلقته بحدّةٍ عنيفةٍ جعلت صوت ارتطام الخشب بالحائط يُسمَع في كل أرجاء القصر.
في الأسفل، رفع الجميع رؤوسهم في لحظةٍ واحدةٍ نحو مصدر الصوت، والدهشة تملأ ملامحهم…
بينما في الأعلى، كانت "كاميليا" وحدها، خلف الباب المغلق، تغلي كالبركان الذي لم يجد بعد فُرصته للانفجار.
عقدت "نور" حاجبيها بحيرةٍ واضحة، نظراتها تتنقّل بين الوجوه كأنها تبحث عن تفسيرٍ لما يحدث، عقلها لا يستوعب تصرّفات "كاميليا" الغريبة.
كانت تشعر أن هناك شيئًا غير مفهوم، شيئًا يشتعل في الهواء من حولهم، لكنها لا تعرف مصدره.
نظرت نحو "نوح"، الذي بدا شارداً، وجهه جامد الملامح، لكنه ما زال يمسك يـ ـدها، كأنّه يتمسّك بها دون وعي.
صوتها خرج منها ببراءةٍ متسائلةٍ، وسط الصمت الذي خيّم على المكان :
ـ هي مالها كاميليا؟؟
تردّد السؤال في أرجاء القاعة كصدى خافت، لكن لم يجرؤ أحد على الرد.
الجميع أدرك الحقيقة في لحظةٍ واحدة، تلك الحقيقة التي لم تعد تخفى على أحد، "كاميليا" تغار… وتغار من "نور" كثيرًا.
لهذا خيّم الصمت، صمتٌ ثقيلٌ كأنّ الهواء ذاته توقف عن الحركة.
هبطت "حميدة" الدرج بخطواتٍ هادئةٍ، وهي تضع يدها على الدرابزين المصنوع من الخشب العتيق، وابتسامة صغيرة مرهقة على وجهها.
تقدّمت نحو "نوح" ببطءٍ، والحنان واضح في نبرتها حين قالت:
ـ انت عارف إن مفيش حد بيهدي كاميليا غيرك.
كانت كلماتها كأنها أمر واقعٍ لا يحتاج إلى تأكيد.
هزّ رأسه في صمتٍ، لم يتحدث، لأنّه يعلم صدقها جيداً.
هو الوحيد القادر على تهدئتها، على كبح جماح عصبيتها وحدّتها.
كاميليا لا تخضع إلا له، ولا تهدأ إلا بصوته، ولا تستكين إلا حين يشعرها أنه بجانبها.
نظر إلى "نور"، التي بان الغضب على وجهها الصغير دون أن تفهم السبب، وشرارة الغيرة انعكست على عينيها.
اقترب منها، أحاط خـ ـصرها بذراعه بخفةٍ، واتجه بها إلى غرفتهما دون كلمة، وسط أنظارٍ متعجّبةٍ تلاحقهما.
وما إن أغلق الباب خلفهما، حتى ابتعدت "نور" عنه بحدّة، وصوتها خرج مرتفعًا كأنها تطلق ما حُبس بداخلها:
ـ وانت مين انت عشان تخلي الست هانم تهدا؟؟
كانت نبرتها مشتعلة، وملامحها مليئة بالغيرة والخذلان.
أكملت بحدةٍ أكبر، خطواتها تتحرك في الغرفة جيئة وذهابًا:
ـ وبعدين ثواني كده، هي مش كانت تعبانة؟، إيه اللي عصبها أوي مش فاهمة؟؟
أغمض "نوح" عينيه ببطءٍ، يأخذ نفسًا عميقًا محاولاً السيطرة على أعصابه.
اقترب منها بهدوءٍ، وصوته خرج منخفضًا، دافئًا رغم كل الغضب الذي يعتمل بداخله.
مدّ ذراعيه، أحاط كتفيها بخفّةٍ، اقترب منها حتى صارت أنفاسه الساخـ ـنة تلامس بشرتها الباردة، في لحظةٍ جعلت قلبها يرتجف رغم عنادها:
ـ بصي يا حبيبتي، أنا أقرب واحد لـ كاميليا، فـ أنا متعود أسيطر على عصبيتها وأفكارها.
عقدت حاجبيها أكثر، نظرتها اشتعلت كالنار، وابتعدت عنه بخطوةٍ غاضبةٍ، وصوتها علا وهي تهتف بانفعالٍ صريح:
ـ يعني إيه أقرب واحدة لـ كاميليا؟ حضرتك متجوز، يعني تصرفات اللي كنت بتعملها زمان متعملهاش دلوقتي!
نظر إليها بدهشةٍ وارتباكٍ، يحاول أن يفهم ثورتها، وصوته خرج هادئًا، ناعمًا كمن يحاول تهدئة موجةٍ غاضبةٍ:
ـ يا حبيبة قلبي، أنا الراجل الوحيد في العيلة، وأنا أخوهم الكبير، أنا أخ وأب ليهم، وكاميليا أخت ليا، فطبيعي لما تحتاجني أروح ليها واساعدها.
لكن "نور" لم تقتنع، اقتربت منه بشراسةٍ، عينيها تلمعان بالدموع والغضب معًا، وصوتها ارتفع أكثر دون أن تشعر، كل كلمة كانت كطعنةٍ تخرج من قلبها قبل فمها:
ـ يعني إيه؟؟ يعني أحط جزمة في بوقي وأسكت يعني ولا إيه؟ على فكرة، إنت متجوز، ومينفعش تروح لخطيبتك السابقة عشان خاطر تهديها.
ارتفع صوتها أكثر فأكثر، والغرفة الصغيرة أصبحت تضج بالتوتر.
"نوح" كان يحاول أن يهدأ، يحاول ألا يرفع صوته، فهو يكره الصراخ، لكن صوتها كان يعلو فوق كل محاولاته للسيطرة.
ولولا أن الغرفة عازلةٌ للصوت، لوصل صراخها لكل من في الأسفل.
كانت الكلمات تتطاير بينهما كشررٍ، والغضب يملأ المكان حتى كاد الهواء أن يشتعل.
وقبل أن يتحدث، قاطعته مرة أخرى، بنبرةٍ أكثر حدّةٍ، وهي لا تشعر بما تقول من شدة الغيرة:
ـ اسمع بقى يا نوح، كاميليا دي تنساها خالص، ومش هتروح يعني مش هتروح.
قالتها وكأنها تُعلن حربًا لا رجعة فيها، ووجهها يشتعل غضبًا.
لقد نجحت بالفعل في أن تثير عصبيته، فـ"نوح" لا يحتمل العند، ولا يحب أن يرفع أحد صوته فوق صوته، ولا أن يُروّض في الحوار، وصوتها الذي ارتفع فوق الحد المسموح به كان كمن يشعل النار في وقودٍ ينتظر لحظة الاشتعال.
وها هي قد أشعلتها
فـ أهلاً بها في مواجهة عصبيته.
اقترب منها بخطواتٍ ثقيلةٍ، ملامحه متصلّبة، عينيه تشتعلان بوميضٍ حادٍ يخترقها، وصوته خرج عميقًا غاضبًا يهز جدران الغرفة:
ـ نور، وطي صوتك وانتِ بتتكلمي معايا، وهقولهالك تاني يا بنت الناس، دول أخواتي البنات، ولو انتِ هتفكّري بالمنطق والتفكير ده يبقى هنتخانق كتير الفترة الجاية، وهقولهالك تاني، كاميليا أخت ليا، وهتفضل أخت ليا، سواء هي أو وعد أو راندة أو يمن… الأربع بنات إخواتي
كانت كلماته كالسياط، حادة، متتابعة، تقطع صمت الغرفة في ومضات غضبٍ متلاحقة، وكل خطوةٍ يقترب بها منها كانت تُشعل خوفها أكثر.
شعرت بارتجافٍ خفيفٍ في أطرافها، فالغضب في صوته لم يكن مجرد كلمات، بل زئير مكبوت لرجلٍ اعتاد الصبر لكنه الآن فقده.
اقترب أكثر بحدةٍ جعلتها تتراجع لا إراديًا، نظراته تصطدم بعينيها بقوةٍ جعلت قلبها يرتجف، ثم قال بصرامةٍ أوجعتها قبل أن تخيفها:
ـ كاميليا آه كانت خطيبتي، بس أنا فَشكلتها، عشان لا هي كانت مرتاحة ولا أنا، ولا بحبها، انتِ اللي قلبي اختارها،عشان كده اتجوزتك انتِ، أي أفكار تانية في دماغك… تشيليها.
كانت الكلمات تخرج من بين أسنانه كأنها شررٌ مشتعل، عينيه تزداد اشتعالًا كلما تكلم، حتى شعرت أن المسافة بينهما تضيق والهواء أصبح ثقيلًا، يتشبع بالغضب المكبوت.
ـ ولتاني مرة يا نور، متعليش صوتك، ولا تعاندي، وإحنا بنتكلم.
قالها بصوتٍ غليظٍ قاطعٍ، ثم استدار فجأة، وتوجّه إلى غرفة الثياب بخطواتٍ متسارعة، فتح الباب بعنفٍ، ثم أغلقه بقوةٍ جعلت صوت الارتطام يرتدّ صداه في أركان الغرفة، كأنه ختم النهاية بغضبٍ مكتومٍ لا يحتمل.
وقفت "نور" مكانها، تتنفس بصعوبةٍ، قلبها يدق بعشوائية، لا تعرف هل مما حدث، أم مما شعرت به وهي تراه في لحظة غضبه تلك.
تنهدت بعمقٍ وهي تضع يدها على صدرها، محاولةً استيعاب ما حدث، لكن المشهد ظلّ يتكرر في ذهنها مرارًا.
لم تكن تقصد أن ترفع صوتها عليه…
لكنها كانت غاضبة، مرتبكة، مشتعلة بمشاعر لم تفهمها هي نفسها.
هو قال إنه سيذهب لـ"كاميليا" ليُهدئها، وكأنها الأهم!
كلمة واحدة منه كانت كفيلة أن تشعل بداخلها نارًا لم تعرف لها سببًا.
نعم، تعرف أنه الولد الوحيد في العائلة، تعرف أن البنات الأربعة يعتبرونه الأخ والأب، لكنها لم تستطع كبح الغضب الذي اجتاحها لمجرد ذكر اسم "كاميليا" على لسانه.
هناك شيء بداخلها مشتعل، شيء لا تفسير له، غضبٌ يشتعل كلما نُطقت تلك الفتاة أمامها، شعورٌ حارقٌ يجعلها على وشك الانفجار.
كانت تحاول أن تقتنع أنها لا تبالي، أن "نوح" لا يهمها، أن وجوده في حياتها لا يصنع فارقًا.
لكن الحقيقة كانت تنخر في أعماقها بصمتٍ مؤلم.
حاولت الهروب من أفكارها، فاتجهت إلى المرحاض بخطواتٍ سريعةٍ، كأنها تهرب من نفسها، من عقلها، من صوت قلبها الذي يفضحها.
وقفت أمام المرآة، نظرت إلى وجهها المتوتر، إلى عينيها الحمراوين من الدموع المكبوتة، وهمست بخفوتٍ وكأنها تُقنع نفسها بما لا تؤمن به:
"نوح ما يهمّنيش… ما يهمّنيش خالص."
لكن قلبها الخافق بعنفٍ كان يُكذّبها في كل نبضة.
❈-❈-❈
كانت "كاميليا" قد خرجت من المرحاض بخطواتٍ بطيئةٍ مُتعبة، وشعرها المبلول يلتصق برقبتها البيضاء، ترتدي منامة حريرية ناعمة، بلونٍ قاتمٍ يُزيد ملامحها اشتعالًا.
الضوء الخافت في الغرفة جعل ظلّها يمتدّ على الحائط، كأنّه ظلّ امرأةٍ تحمل في داخلها عاصفةً مكتومة.
توجهت نحو الفراش، وجلست على حافته وهي تُمسك طرف الغطاء بين أصابعها بتوتر.
ذاكرتها لم ترحمها، فكل تفصيلة من اهتمام "نوح" بـ"نور" كانت تلسعها كالجمر.
كل لمسة، كل نظرة، كل ابتسامة… كانت تتكرر في عقلها بلا توقف.
اشتعل قلبها أكثر، وكأن النار التي كانت رمادًا قبل لحظات، عادت تتأجج وتلتهمها ببطء.
أغمضت عينيها بقوة، وكأنها تحاول أن تطرد تلك الصور من رأسها، أن تُخمد الحريق الذي يزداد اشتعالًا كلما حاولت السيطرة عليه.
لكنها لم تستطع.
الغيرة كانت تلتهمها من الداخل، غيرة لاذعة تُفقدها اتزانها.
كانت تشعر برغبةٍ عنيفةٍ، رغبةٍ مظلمةٍ في أن تُنهي وجود "نور" من حياتهم، أن تمحوها من الوجود، أن تُخرس تلك الضحكة التي تخترقها كالخنجر.
لكنها تعرف… تعرف تمامًا أن لو مسّت "نور" بأذى، "نوح" لن يسامحها أبدًا.
سيكرهها، وربما لن ينظر في وجهها ثانية.
لذلك ظلت تحبس أنفاسها، تُقاوم جنونها، تحاول أن تُخمد تلك النيران المشتعلة في صـ ـدرها.
كانت الغرفة غارقة في ظلالٍ دافئة، الستائر نصف مغلقة، وضوء الأباجورة الخافت يُلقي على وجهها وهجًا يُشبه لهبًا صغيرًا يرتجف مع أنفاسها المتوترة.
صمتٌ خانقٌ يُطبق المكان، لا يُسمع فيه سوى صوت دقات قلبها الذي يدق بسرعةٍ غير مألوفة.
لكن…
قطع سكون الغرفة صوت دقاتٍ قويةٍ على الباب.
تجمدت للحظة، ثم عقدت حاجبيها بضيقٍ حاد، زفرت بعصبية وهي تُلقي نظرة سريعة نحو الباب.
تعلم أنهم في الأسفل سمعوها تقول إنها لا تريد أحدًا، فمَن يجرؤ الآن على إزعاجها؟
هتفت بنبرةٍ مرتفعةٍ تحمل كل ما في صدرها من ضيقٍ وغضبٍ مكتوم:
ـ قولت مش عايزه حد معايا، سبوني لوحدي بقى!
ارتدت كلماتها في أرجاء الغرفة، لكن لم يأتِ الرد.
ثوانٍ فقط، وسُمِع صوت مقبض الباب وهو يُفتح ببطء.
شهقت "كاميليا" بخفة، استدارت بعصبية، على وشك أن تنفجر غضبًا من هذا التطفل…
لكنها توقفت فجأة.
كل الغضب تبخّر للحظة حين رأت "نوح" يقف عند الباب.
ضوء الممر تسلل خلفه، فصار ظله طويلاً يمتد على الأرض حتى قدميها، ملامحه نصف غارقة في الظل ونصفها الآخر مضاء، فبدا وكأنه مزيج من الغضب والهدوء، من الراجل الصارم الذي يعرف كيف يُربكها بنظرة واحدة.
دخل بخطواتٍ هادئةٍ لكنها واثقة، لا تحمل تردّدًا ولا خوفًا، وترك الباب خلفه مفتوحًا عن قصد.
عيناه تتأملانها بصمتٍ طويلٍ، ثم قال بصوتٍ يحمل مزيجًا بين المزاح والدفء والتهدئة، ذلك الصوت الذي يُذيب الحدة من أي موقفٍ مهما اشتعل:
ـ عايزني أمشي يا كاميليا؟؟
صوته كان واثقًا، لكن في نبرته سخرية خفيفة، كأنه يعلم أنها كانت تنتظره رغم كل ما قالته.
في تلك اللحظة، لم تكن "كاميليا" تعرف إن كانت تريد أن تصرخ فيه أم تركض نحوه…
لكن نظراتها التي التمعت رغمًا عنها، كانت كافية لتُفضح كل شيء.
هزّت رأسها ببطء وهي ما زالت واقفة أمامه، نظراتها مشوشة ما بين الدهشة والتساؤل، كأنها لا تُصدق أنه فعلاً يقف أمامها الآن، في غرفتها، بعد كل هذا الوقت.
صوتها خرج منخفضًا، مترددًا، لكنه يحمل في طيّاته نغمة وجعٍ خافت:
ـ غريبة يا نوح، أول مرة تيجي أوضتي من ساعة ما اتجوزت.
تجمد لوهلة وهو ينظر إليها، ثم تحرك بخطواتٍ بطيئةٍ نحوها، خطواته كانت ثقيلة لكنها مليئة بشيء من الحنان الصامت.
اقترب حتى صار قريبًا بما يكفي لأن تشعر بحرارة أنفاسه، ثم مدّ يده وجذب يـدهـا بين كفّيه برفقٍ يشبه دفء الأخ لا دفء العاشق، وقال بصوتٍ عميقٍ خافتٍ يحمل صدقًا لا يمكن إنكاره:
ـ حقك عليا، بس مينفعش برضو أجي أوضتك كتير، أنا بخاف على مشاعر نور.
كلماته كانت كسكينٍ حادٍ ناعـمٍ في آنٍ واحد، مزقها من الداخل دون أن يُظهر أثرًا.
سحبت يدها بسرعةٍ وهي تُشير إلى نفسها بحركةٍ فيها حيرة وعتب مكتوم، نظراتها تشبه طفلًا يشعر بأنه تُرك وحيدًا:
ـ ومشاعري أنا متهمكش؟؟
تنهّد، وعيناه ما زالتا تتأملان وجهها بصدقٍ مريحٍ، وقال بنغمةٍ دافئةٍ فيها حنان أخوي صريح:
ـ لا طبعًا تهميني، إنتِ ومشاعرك… وإنتِ عارفة ده كويس.
مش معناه أبدًا إني اتجوزت، إني مقفش جنبك، لا، أنا هنا… وقت ما تحتاجيني هتلاقيني،
هتلاقي اخوكي و ابوكي جنبك.
تجمدت للحظة.
كلمة "أخوكي " كانت كفيلة بأن تخمد النار التي تحاول السيطرة عليها، لكنها في الوقت نفسه، أشعلت شيئًا آخر في قلبها.
أغمضت عينيها سريعًا، تحاول أن تُسيطر على أنفاسها، على غضبها، على تلك الغصة التي علقت في حلقها.
هي لا تراه أخًا… لم تراه يومًا كذلك.
هو بالنسبة لها حبيبها، وجعها الجميل، قلبها الذي لم يعُد ملكها منذ زمن.
لكنها كبحت كل ما في داخلها، أخفته خلف ابتسامة باهتة وصمتٍ ثقيل.
حاولت أن تُذكّر نفسها أنه جاء خصيصًا لها، كما كان يفعل دائمًا عندما يشعر أنها ليست بخير.
يأتي، يُرضيها، يُلاطفها، يعاملها كما لو كانت شيئًا ثمينًا لا يحتمل الكسر.
راجل يعرف كيف يُداوي جرحها دون أن يُشير إليه.
وهي… كانت غارقةً في حبه حتى آخر نَفَس، رغم أنها تُخفيه تحت ستارٍ من الأخوّة الزائفة.
قطع شرودها صوته وهو يُمسك يـدهـا مرةً أخرى، بنعومةٍ تشبه النسمة، وقال بمزاحٍ رقيقٍ كأنه يحاول انتشالها من حزنها:
ـ إنتِ تعرفي لو خرجت من الأوضة من غير ما تضحكي، أنا هيتعمل مني بطاطس محمّرة من تيته حميدة.
ضحكت رغمًا عنها، وابتسمت وهي تبعد خصلة من شعرها المبلول لتضعها خلف أذنها بحركةٍ أنثويةٍ لا إرادية، وقالت بمزاحٍ خفيفٍ:
ـ حلو… عشان أعمل جنبهم كبدة إسكندراني.
رفع حاجبيه بدهشةٍ مصطنعةٍ وهو يهتف بدهشةٍ تمثيليةٍ خفيفةٍ ممزوجةٍ بمزاحٍ صادق:
ـ عايزة تتغدّي بيا؟
رفعت كتفيها بخفة، وابتسامة صغيرة مكرية ارتسمت على شفتيها، وقد نسيت تمامًا ما كانت تشعر به منذ دقائق، وقالت بخفة ظلٍ ومشاكسةٍ أقرب إلى الدلع:
ـ أتغدى بيك قبل ما تتعشى بيا.
عبس قليلًا، ثم هز رأسه في تمثيلٍ واضحٍ للجدية، وقال بصوتٍ مبحوحٍ أقرب للضحك وهو يُحدّث نفسه كمن يُقلّد صوت أحد الفنانين:
ـ أنا يا بنتي أتعشى بيكي؟ عيب يا سيد، متقولش كده، ده إحنا أهل.
وانفجرت "كاميليا" ضاحكةً، ضحكت من القلب هذه المرة،
ضحكت لأن صوته وهو يقلد "عبد الغفور البرعي" كان مضحكًا حد البكاء.
صافحته وهي ما تزال تضحك، لتجد نفسها تنسى الغضب، النيران، الغيرة، كل شيء.
أما هو، فظل ينظر إليها وهو يضحك على ضحكتها.
كانت “حميدة” واقفة أمام باب الغرفة بصمتٍ تام،
عيناها تتابع المشهد أمامها بشيءٍ من الدهشة والرضا في آنٍ واحد.
الضوء الخافت المنبعث من الأباجورة الصغيرة كان ينساب على وجهي “نوح” و”كاميليا” كخيطٍ دافئ من الحنين، بينما ضحكتها الرقيقة تتردد في المكان، لتلامس قلب الجدة وتعيد إليه شبابها للحظة.
وقفت “حميدة” وهي تضع يدها على صدرها، تشعر بالراحة لأول مرة منذ زمن،
فهي تعرف أن “كاميليا” لم تضحك هكذا منذ زمنٍ بعيد…
ولم ترَ تلك اللمعة في عينيها إلا وهي برفقة “نوح”.
منذ كانا طفلين وهي تلاحظ ذلك الخيط الخفي بينهما، خيط لا هو حبٌ كامل ولا هو أخوّة عادية… شيء بينهما لا يمكن تفسيره إلا بـ “الارتباط”.
لهذا السبب حين كبرا، رأت أن الحل الطبيعي هو أن تخطبهم لبعض،
علّ هذا الرابط يجد طريقه في الحلال،
لكن كل شيء انهار بسرعة…
كأن القدر أراد أن يقول لها إنهما لا يصلحان كعاشقين، بل كروحٍ واحدةٍ في جسدين مختلفين.
تنهدت وهي تراقب من بعيد كيف يضحك “نوح” بخفة، وكيف تجيبه “كاميليا” بحماس الطفلة،
كان الجو في الغرفة مفعمًا بدفءٍ خالص، يشبه دفء الشتاء الأول بعد البرد الطويل.
ظل يمزح معها، يحكيان عن الماضي، عن المواقف القديمة، عن تفاصيل طفولتهما التي لا يعرفها سواهما، حتى بدأت جفونها تثقل.
كانت تستند برأسها على الوسادة بينما نبرات صوته المطمئنة تنسحب داخلها كتهويدة أمّ.
ومع مرور اللحظات، توقف فجأة حين لاحظ أن أنفاسها أصبحت منتظمة…
نظراته اتجهت إليها بهدوء، وجدها غارقة في نومٍ هادئ، وملامحها أخيرًا خالية من التوتر والدموع.
ابتسم بخفة، تلك الابتسامة التي تجمع بين الحنان والارتياح، ثم مد يده وسحب الغطاء ليغطيها جيدًا، يضبطه عند كتفيها برفقٍ شديد كأنه يخاف أن يوقظها.
التفت نحو الباب بخطواتٍ بطيئة ليغادر، لكنه تجمّد فجأة حين لمح ظلًا واقفًا عند المدخل.
رفع بصره… ليجد جدته “حميدة” واقفة تتابع المشهد بعينيها الدافئتين.
ضحك بخفةٍ وهو يهمس باستغرابٍ لطيفٍ:
ـ بتعملي إيه عندك يا تيته؟؟
تقدّمت “حميدة” بخطواتٍ بطيئة نحو الغرفة،
الضوء تسلل على وجهها المليء بالتجاعيد الطيبة، تلك التجاعيد التي تحمل حكايات أعوامٍ من الحب والخبرة.
جلست على الأريكة المقابلة، وأشارت له أن يجلس بجانبها،
ثم نظرت إلى حفيدتها النائمة، ملامحها ارتخَت، ابتسامتها باقية على شفتيها الصغيرة، كأنها ما زالت تسمع صوته في حلمها.
تنهدت الجدة وقالت بصوتٍ خافتٍ مملوء بالعاطفة:
ـ قولتلك إن محدش بيعرف يهديها غيرك.
ابتسم “نوح” على حديثها، وأمسك يـد جدته بحنانٍ صادقٍ وهو يهمس بحبٍ عميقٍ واحترامٍ واضح:
ـ عشان أنا أخوها وسندها، أكيد محدش هيهديها غيري.
تنهّدت “حميدة” بصوتٍ مسموع، نظرتها بقيت معلّقة على ملامح حفيدتها، ثم التفتت إليه ببطء وقالت بهدوءٍ حذر:
ـ بس إنت عارف إن كاميليا بتحبك إنت و…..
لكنها لم تكمل.
كان “نوح” قد قاطعها قبل أن تُكمل الجملة، بصوتٍ هادئ لكنه حازم، نبرته تمزج بين العتاب والرجاء:
ـ كاميليا مبتحبنيش غير أخوها يا تيته، كاميليا كانت لوحدها بعد ما وعد سيبتها وسافرت، وأنا كنت جنبها لما كانت صغيرة ولسه جنبها لحد دلوقتي، كاميليا خدت الفكرة دي إنها بتحبني بسببك إنتي،وإنتي اللي شجعتِها على كده، وده مكنش يصح أبدًا.
أخفض بصره للحظة ثم أكمل بصوتٍ أكثر هدوءًا، وكأنه يخشى أن يُسمعها وهي نائمة:
ـ كاميليا بتحبني حب أخوي حقيقي… بس هي فاكرة إنه حب زي ما إنتِ فهمتيها.
صمت لبرهة، أخذ نفسًا عميقًا، ثم تابع بنبرةٍ أهدأ، أقرب للوصية:
ـ واجبك إنتِ بقى إنك تفهميها ده، تفتحي عيونها فعلاً، كاميليا لسه عندها حياة، ولسه الطريق قدامها طويل، ولسه هتقابل راجل يحبها بجد، وساعتها هتعرف لوحدها إن الحب اللي حبّته ليا مكنش حب، ده كان تعلّق، كان حبٍّ مزيج بحب أخوها بجد.
أنهى كلماته بهدوءٍ وهو ينظر مجددًا إلى ملامحها النائمة،
ثم رفع عينيه إلى جدته بابتسامةٍ هادئةٍ مليئة بالامتنان، نظر لها تلك النظرة حتي يشجعها حتي تفعل ما قاله
كانت “حميدة” ما تزال جالسة في مكانها بعد أن انتهى “نوح” من كلامه،
نظراتها تتنقّل بين حفيدها الذي بدا عليه التعب والهدوء في آنٍ واحد،
وبين حفيدتها “كاميليا” التي كانت تغط في نومٍ عميق،
وجهها الطفولي المستسلم للراحة لا يُظهر شيئًا مما يدور بداخلها من نار الغيرة والتعلّق.
تنفّست “حميدة” بعمقٍ وهي تشعر بثقلٍ في صدرها، كأن همًّا كبيرًا وُضع فوق قلبها.
فهي الآن فهمت تمامًا ما قصده “نوح”…
لكنها أيضًا تعرف حفيدتها جيدًا، تعرف عنادها، وغرورها، وحبها الذي لا ترى به سواه.
مدّت بصرها إليها مرّة أخرى، تتأمل ملامحها بقلقٍ خفي،
وعقلها يحدّثها بأن تلك المعركة لن تكون سهلة…
"كاميليا" لن تتقبل الحقيقة ببساطة، ستكابر، ستثور، وربما تبكي في الخفاء.
ومع ذلك، أقسمت “حميدة” في سرّها أنها ستحاول مهما كلّفها الأمر
أن تزرع في قلب حفيدتها الحقيقة، حتى لو جرحتها مؤقتًا.
ـ استاذنك أنا يا تيته، نور مستنّياني، ولازم أروح ومتأخرش عن كده، تصبحي على خير.
قالها “نوح” بصوته الهادئ وهو ينهض من مكانه،
لكن قبل أن يتمكّن من الوقوف تمامًا، امتدت يـد “حميدة” تُمسك بمعصمه برفقٍ يحمل ألف معنى.
رفع بصره إليها بحيرةٍ ظاهرة في عينيه،
بينما هي هتفت هذه المرّة بجديةٍ واضحة، صوتها فيه شيء من السلطة التي لا يجرؤ أحد على معارضتها:
ـ ابقي اعزم أسر وعمه عادل، وكمان اعزم أبو نور، واعزم صاحبك ده اللي حكتلي عنه… اسمه إيه؟
حاولت أن تسترجع الاسم، لكن ذاكرتها لم تسعفها.
بدت لحظة صمتٍ قصيرة، لا يُسمع فيها إلا أنفاسهما المتبادلة.
ثم قطع شرودها صوت “نوح” وهو يقول بلطفٍ:
ـ قصدك على إبراهيم الخليلي؟
هزّت رأسها بخفةٍ وهي تبتسم ابتسامة خفيفة، وكأنها استراحت بعد أن تذكّرت:
ـ آه هو ده، انت عارف إن أي واحد بيكسب جايزة حتى لو كانت بسيطة بنعزم الأقارب والأصدقاء بس،
وانت عندك صديقين أسر وإبراهيم، ومينفعش منعزمش عدلي وعادل،عشان هما خلاص بقوا قريبنا.
كان صوتها يحمل دفئ الأمّ التي ترتّب للعائلة الصغيرة كل تفصيلة بحبٍ حقيقي.
ابتسم “نوح” وهو يومئ برأسه بهدوءٍ مفعم بالاحترام والامتنان:
ـ حاضر يا حبيبتي، هكلم إبراهيم وأسر، زمانهم صاحيين،
وبكره الصبح أكلم عمو عدلي، حاجة تاني يا قمر؟
ضحكت “حميدة” بخفةٍ وهي تنظر إليه بعينٍ مليئة بالحنان،
نظرة تجمع بين الدعاء والفخر، ثم قالت بابتسامة رضاٍ حقيقية:
ـ لا يا حبيبي، سلامتك.
اقترب “نوح” منها وقبّلها فوق فروة رأسها، ثم أمسك يـدها وقبّلها هو الآخر بحنانٍ صادقٍ لا يُشبه سوى حُبّ الحفيد لجدته الأولى.
ـ يلا ستّ الكل، تصبحي على خير.
قالها بنبرةٍ ناعمةٍ ودافئة، بينما كانت “حميدة” تبتسم له وتربّت على يـده بخفّةٍ مشبعة بالعاطفة وهي تردّ:
ـ وانت من أهل الخير يا حبيبي.
غادر الغرفة بخطواتٍ هادئةٍ، وصوت الباب وهو يُغلق خلفه كان كأنما يُغلق فصلًا طويلًا من الذكريات القديمة.
وفي الممر، أخرج هاتفه فورًا،
واتصل على “أسر” و”إبراهيم”، يدعوهم على الغداء غدًا، بصوته المليء بالودّ والحميمية.
رحّبا الدعوة بسعادةٍ صافيةٍ، والابتسامة لم تفارق وجهه طوال المكالمة.
أما في الداخل، بقيت “حميدة” في مكانها، تنظر من بعيد إلى حفيدتها النائمة،
تتمتم بدعاءٍ صامت:
"يارب تهديها… وتخليها تشوف الحق زي ما هو، قبل ما قلبها يتكسر أكتر."
ثم أغلقت الضوء، وغادرت الغرفة على أطراف أصابعها،
تاركة وراءها هدوءًا دافئًا يشبه السلام بعد العاصفة.
❈-❈-❈
كانت "نور" ما تزال مستيقظة، جالسة على طرف السرير، ساقاها متشابكتان، ويدها تعبث بلا وعي في طرف الوسادة.
الضوء الخافت المنبعث من الأباجورة الصغيرة ينعكس على وجهها المرهق، وعيناها تتجهان كل دقيقة نحو الساعة الموضوعة على الكومود المجاور، وكأن عقرب الثواني يسخر منها عمداً، يتباطأ أكثر كلما ازداد قلقها.
مرت الدقائق ثقيلة…
الهدوء يملأ الغرفة، لكن داخلها كانت العاصفة لا تهدأ.
"هو كل ده في اوضتها ؟؟ "
فكرت بغيظٍ مكتوم، واشتعلت نار الغيرة في صدرها من جديد، نارٌ حارقة تسري في عروقها ببطءٍ مؤلم،كأنها تلتهم ما تبقى من صبرها.
حاولت أن تُقنع نفسها بالهدوء، أن تكبح تلك النيران التي توشك أن تفضحها، لكن عقلها لم يرحمها، بدأ يصوّر لها كل ما لا يُطاق، مشاهد متخيلة تتبدّل أمام عينيها كأنها شريط لا ينتهي،حتى وجدت قلبها يصرخ داخليًا من الألم، بينما وجهها ما يزال ثابتًا كأن شيئًا لم يحدث.
رفعت يدها إلى رأسها تمسك خصلات شعرها، تتنفس بسرعة غير منتظمة،ثم نهضت فجأة، كمن قرر مواجهة كل شيء.
لم تلتفت لنفسها، لم تدرك حتى ماذا ترتدي…
كانت قد نسيت تمامًا قميصها الحريري الأخضر، ذلك اللون الذي يشبه عينيها، ينساب على جسدها بخفةٍ ناعمة كالماء، يلتقط الضوء فيُبرز ملامحها، منحنياتها، وكتفيها العاريين.
كان عنقها مكشوفًا بالكامل، أبيضًا ناعمًا كأنه قطعة من الفجر، وشعرها المنسدل بحريّة يتطاير مع كل حركة تقوم بها، بعض الخصلات سقطت على عينيها فزادتها فتنةً وغموضًا، فبدت وكأنها لوحة خرجت من بين ضباب الغيرة لتسحر الناظر إليها.
اقتربت من الباب بخطواتٍ متوترة، قلبها ينبض بعنفٍ غير مبرر، وكل خلية في جسدها تستعد للانفجار في أية لحظة.
مدّت يدها نحو مقبض الباب، لكنها ما إن خرجت من الغرفة حتى سمعت صوته فقط فتجمّدت في مكانها.
كان "نوح" يقف في الردهة، ظهره نحوها، يمسك الهاتف على أذنه، وصوته منخفض لكنه واضح. عرفت من كلماته أنه يتحدث مع "أسر".
تراجعت ببطءٍ، خطواتها على الأرض أشبه بأنفاسٍ خافتة،
وكأنها تخشى أن تفضحها الأرض بصوت حركتها.
أغلقت الباب خلفها بحذرٍ شديد، حتى لا يُسمع أي صوت،
ثم وقفت للحظة، تسند ظهرها إلى الباب،عيناها تائهتان في الفراغ، وقلبها ينبض بشعورٍ مزدوج من الراحة والندم.
"كل ده في اوضة كاميليا اللعينة؟"
تساءلت في سرّها، لكنها عادت تلعن تفكيرها الغبي حين أدركت أنه كان يتحدث مع صديقه "أسر".
"لعنة الله علي عقلي " همست لنفسها بمرارة،
ثم زفرت أنفاسها محاولة استعادة هدوئها المفقود، وهمّت بالتحرك نحو الداخل.
لكنها لم تكد تخطو خطوة واحدة، حتى فُتح الباب فجأة أمامها، فارتبكت، وتراجعت بسرعةٍ للخلف، كمن ضُبط متلبسًا بشيءٍ لا تعرفه.
نظراته وقعت عليها بذهولٍ ودهشةٍ حقيقية، عينيه تجوّلت عليها للحظةٍ خاطفة قبل أن يشيح ببصره بسرعة،
بينما تساءل بصوتٍ متوترٍ، فيه حيرةٌ وشيءٌ من الشك:
ـ انتي كنتي خارجة؟؟
لم تعرف أن تتحدث حتى، لم تعرف إجابته، فهي ماذا تقول له؟
هل تعترف بأنها كانت تنوي الخروج فقط لأنها شعرت بالغيرة من كونه في غرفة “كاميليا”؟
بالطبع سيسخر منها، سيظنها مجنونة أو طفلة لا تعرف كيف تكبح مشاعرها…
عيناها تائهتان، وصـ ـدرها يعلو ويهبط باضطرابٍ واضح،
بينما عقلها يحاول أن يبحث عن كذبةٍ منطقية تنقذها من هذا الموقف، لكن نظراته…
نظراته الحادة الصارمة كانت كالسياط، تمنعها حتى من التفكير في الكذب.
كأنه يقرأ ما يدور في رأسها، كأنه يرى ما تخفيه داخلها من مشاعر وغيرة لا تنطفئ.
اقترب منها ببطءٍ شديد، كل خطوة منه كانت كأنها تدق في صدرها دقًّا، قريبة، ثقيلة، حارّة…
بينما هي، في كل مرة يقترب فيها، تتراجع خطوة،إلى أن اصطدم ظهرها بحافة الفراش خلفها، فجلست عليه دون وعي، أنفاسها تتسارع، وقلبها يدق بعنفٍ يخيفها أكثر مما يطمئنها.
لم يكن هناك سوى صوت أنفاسهما في الغرفة،هو ينظر إليها بعينيه الداكنتين الممتلئتين بالغضب والدهشة،وهي تجلس أمامه، ترتجف كعصفورةٍ صغيرةٍ حوصرت في قفصٍ من التوتر.
اقترب هو منها أكثر حتى جلس على طرف الفراش، ظلّ صوته منخفضًا لكنه حاد، يخترق صمت المكان حين قال:
ـ ردي عليا يا نور انتي كنتي خارجه؟؟
نظرت له، عيناها الواسعتان تلمعان بقلقٍ واضح، شفتيها ترتجفان من التوتر، لم تستطع أن تتهرّب من تلك النظرات الموجعة،فكأنها مقيدة بها.
ـ اه كنت خارجة…
خرجت الكلمة متقطعة من بين شفتيها،
بصوتٍ واهنٍ،لكنها كانت كافية لتُشعل شيئًا غريبًا في داخله.
شدّ وجهه الغضب،واشتعلت الغيرة في ملامحه كالنار التي ترفض أن تُطفأ.
عيناه هبطتا لا إراديًا على هيئتها، القميص القصير الحريري الذي يلتصق بجسدها بانسيابٍ مثير، كتفاها العاريان، وشعرها المتناثر على عنقها الناصع،كل شيء فيها كان يثير غيرته ويشعلها أكثر فأكثر.
وتعالى صوته قليلًا، نبرته حادة كالسهم:
ـ كنتي خارجه تعملي اي وانتى لابسه كده؟ انطقي؟؟
كأن كلماته صفعة على وجهها، ارتجفت “نور”، ليس من البرد، بل من المواجهة.
من صوته، من قربه، من نظراته التي اخترقت كل دفاعاتها.
ارتبكت،عيناه لا ترحمان، وهي تكاد تبكي من الندم والخوف والغيرة التي أكلت قلبها دون أن تدري.
ـ كـ… كنت بـ… بشوفك اتأخرت كده ليه وانت في أوضة كاميليا…
خرجت الجملة من فمها بصعوبة،كأنها اعترفت بجريمةٍ لا تُغتفر.
صوتها كان مبحوحًا، ضعيفًا،وكأن الكلمات كانت تتكسر على شفتيها من شدة الخجل.
سكت المكان للحظةٍ طويلة، صوت أنفاسهما فقط هو ما يُسمع، والمسافة بينهما صارت ضيقة، قلبها يكاد يُسمع دقاته،وعيناه لا تزالان معلقتين بها، بين الغضب… والذهول… وشيء آخر لم يُسمّاه بعد.
ارتجفت شفتيها وعينيها تلمع بالدموع، كان وجهها يصرخ بالخجل والارتباك، صوت أنفاسها المتقطعة يمتزج بخفقان قلبها، كأنها انكشفت أمامه تمامًا، بلا دفاعات ولا أقنعة.
هو ظل يحدّق فيها، ينظر إلى ملامحها التي يختلط فيها الخوف بالعِند، والدموع بالبريق، كأن كل ما فيها يستنجد به ولا يستطيع النطق.
اقترب منها بخطوات بطيئة لكنها واثقة، كأن شيئًا بداخله يجذبه إليها رغماً عنه، تلك الغيرة التي اشتعلت بداخله لم تعد مجرد شعور، بل أصبحت نارًا تدفعه نحوها دون تفكير.
وقف أمامها قريبًا جدًا حتى باتت تشعر بحرارة أنفاسه تلامس وجنتيها، ارتجفت أكثر وهي تخفض نظرها في خجل، لكن صمته كان أبلغ من أي كلمات، ففي عينيه كان هناك غضبٌ وعتابٌ وحبٌّ دفين لم يعترف به أحدهما بعد.
همس بصوتٍ خافتٍ لكنه مثقل بالمشاعر:
ـ انتي عارفة اني بحبك وانك اهم حاجه عندي في الدنيا.
كأن الزمن توقف للحظة، الهواء أصبح أثقل، والقلبان صار لهما إيقاع واحد.
كان قريبًا جدًا منها، قريبًا إلى الحد الذي يجعلها تشعر بارتجاف الأرض من تحتهما، لكن في عينيه لم يكن سوى شوقٍ عميقٍ مكتوم، وشيء يشبه العِشق الذي يُقال دون كلمات.
ابتعد خطوة واحدة فقط، كأنه يُصارع نفسه كي لا يُفلت ما تبقى من سيطرته، ثم أغلق عينيه وأخذ نفسًا طويلًا وكأنما يحاول أن يُطفئ ما اشتعل داخله.
ـ روحي نامي يا نور… قبل ما اعمل حاجه اندم عليها
قالها وهو قريب منها جداً حتي كادت شفتيه تلامس شفتيها، وحينما انتهي من كلماته تركها واقفةً مكانها، وقلبها مازال يصرخ باسمه في صمت، بينما هي لا تعرف إن كانت ترتجف من الخوف…
أم من تلك المشاعر التي اشتعلت بداخلهما فجأة ولم يستطيعا إخمادها.

